معه في ذكرى استشهاده، الإمام الكاظم(ع): كن الصوت ولا تكن الصدى

معه في ذكرى استشهاده، الإمام الكاظم(ع): كن الصوت ولا تكن الصدى

معه في ذكرى استشهاده، الإمام الكاظم(ع): كن الصوت ولا تكن الصدى

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

مرجعيّة المسلمين وثقتهم

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أئمة هذا البيت، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته وشهادته، في الخامس والعشرين من هذا الشهر ـ رجب ـ. وعندما ندرس هذا الإمام، فإننا نجد أنه ملأ الساحة الإسلامية في مرحلته علماً وفكراً وحركة وروحانية، كأبيه الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وقد ساهم ذلك في امتداده في الواقع الإسلامي، بحيث رجع الناس إليه في كل ما يحتاجونه من خصائص الرسالة الإسلامية، وفي كل ما يعيشونه من قضايا.

وقد ترك ذلك تأثيراً سلبياً على موقف الخلافة العباسية من الإمام الكاظم(ع)، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هارون الرشيد، الذي نُمي إليه أن الناس يراجعون الإمام الكاظم(ع) كما لو كان هو الخليفة، في حقوقهم الشرعية، وفي استفتاءاتهم الفقهية، وفي استشارته في القضايا السياسية، حتى إن الثائرين على الخلافة، كانوا يستهدونه في رأيه حول حركتهم. ولذلك، فكّر هارون الرشيد في أن يعتقل الإمام الكاظم(ع)، وأخذ ينقله من سجن إلى سجن، وقد ضُيّق عليه في أكثر هذه السجون، حتى استشهد في سجن "السندي بن شاهك" في بغداد، الذي دسّ إليه السم بأمر هارون الرشيد.

لقد كانت الخلافة العباسية الظالمة، تخشى من هذه الثقة الممتدة في الواقع الإسلامي بالإمام الكاظم(ع)، كالكثيرين من الطغاة الذين يخافون من القيادات الإسلامية التي تمتد في الوجدان الإسلامي، بحيث يعيش الناس الثقة بها والإخلاص لها والسير في قيادتها، بعيداً عن أي مطمع وعن أي خوف.

ونحن عندما نلتزم خط أهل البيت(ع)، في ما نعتقده من الالتزام بإمامتهم وولايتهم، فإننا نعتقد أنهم حجج الله على خلقه، وأنهم أمناء الله في خلقه، وأنهم الأدلاّء على الله. ولذلك، فإننا نبقى معهم، على الرغم من أنهم ارتفعوا إلى رحاب الله، لأنهم في كل ما قالوه وفعلوه، كانوا الأدلاّء على الله، والهداة للإسلام.

كاظـم الغيـظ

وقد لُقّب الإمام الكاظم(ع) بالكاظم لأنه كان الإمام الذي يحبس غيظه، فينفتح على من يغيظه ويسيء إليه، ويحاول أن يجتذبه بالخلق الرفيع، وبالصدر الواسع، وبالروح الطيبة. ويُذكر في سيرته، أن هناك شخصاً في المدينة من الفئة المضادة لأهل البيت(ع)، كان يسبّ الإمام ويشتمه، وكان يتحدث عنه بالسوء، حتى ضاق به أصحاب الإمام، وطلبوا من الإمام(ع) أن يأذن لهم في قتله، لأنه بلغ من الإساءة مبلغاً عظيماً، وكان(ع) ينهاهم عن ذلك. وفي يوم من الأيام، قصد الإمام هذا الشخص في مزرعة له، وعندما دخل الإمام إلى المزرعة، ناداه الشخص: "لا تطأ زرعنا"، من شدة حقده، فلم يكن لديه لياقة استقبال الإمام والترحيب به، ولكن الإمام(ع) تابع مسيرته، حتى وصل إليه وقال له: "كم غرمت في زرعك؟"، قال: مائة دينار، قال(ع): "وكم ترجو أن تصيب؟"، قال: لا أعلم الغيب. قال(ع): "إنما قلت لك كم ترجو فيه؟"، قال: مائتي دينار، فأخرج الإمام(ع) صرّة وأعطاه إياها وقال: "وهذا زرعك على حاله". وبدأ يحدّثه بكل صدر رحب وأخلاق عالية، فما كان من هذا الشخص إلا أن ودّع الإمام بأفضل وداع، ثم جاء إلى المسجد، وعندما دخله الإمام(ع)، فإذا بهذا الشخص ينادي: "ألله أعلم حيث يجعل رسالته"، وسأله أصحابه عمّا غيّره، فأخبرهم بأنه بدّل رأيه لما رآه من الإمام(ع)، وكأن الإمام(ع) يلتفت إلى أصحابه ويسألهم: هل إن طريقتي في اجتذاب هذا الشخص أفضل، أم طريقتكم التي كنتم تحاولون أن تواجهوه فيها بالعنف أو القتل!!

كانت هذه سيرة الإمام الكاظم(ع)، كما هي سيرة أهل البيت(ع)، بعد أن مدح الله جدّهم رسول الله(ص): {وإنك لعلى خلق عظيم}. وقد تحدث الله تعالى عن أهل الجنة: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}. وهذا هو معنى السير في خط الولاية لأهل البيت(ع)، بأن نسير بسيرتهم، وأن نتخلّق بأخلاقهم، لأنهم ينطلقون في سيرتهم من أصالة الإسلام، وفي أخلاقهم من أخلاق الإسلام.

مواعظه ووصايـاه

في هذا الموقف، نريد أن نستهدي الإمام الكاظم(ع) في بعض كلماته الوعظية والعملية، حتى نسترشد به في امتدادات الزمن، لأنه وإن غاب عنا بشخصه، ولكنه معنا بعلمه وبكل ثقافته.

كان(ع) يوصي أولاده ويقول لبعضهم: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها". كن مع الله في كل ما يرضيه، وابتعد عن كل ما يسخطه، لأنك عبد الله الذي تتمثل عبوديته في إخلاصه لله، أن تكون الإنسان الذي يطيع الله في ما أمرك به لتفعله، وفي ما نهاك عنه لتتركه. "وعليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك من التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته"، فعليك أن لا تعتبر أنك بلغت الدرجة العالية في طاعة الله، بل أن تعتبر أنك مهما فعلت، فأنت مقصّر، لماذا؟ لأن الله سرّ وجودك، فقد كنت عدماً فأوجدك، وهو سرّ كل تفاصيل حياتك: {فما بكم من نعمة فمن الله}، لذلك أنت بكلك من الله وفي نعمه، فكيف يمكن أن تعبده حقّ العبادة.

"وإياك والمزاح ـ لا تكن مزّاحاً، بحيث يغلب على شخصيتك المزاح الذي يجتذب ضحك الآخرين، وقد يصل إلى حدّ يثير سخريتهم بك ـ فإنه يذهب بنور إيمانك، ويستخفّ مروءتك. وإياك والضجر والكسل ـ إذا انطلقت في عمل أو علم، فعليك أن تبقي حيوية إرادتك وإقبالك على ما تعمله أو ما تتعلّمه، ولا تضجر ولا تكسل، لأنك إذا ضجرت أو كسلت، فإنك لن تحصل من عملك أو علمك على شيء. ولا تكسل، بل لتكن لك الحيوية التي تجعلك تتجدد كلما انطلقت في العمل والتعلّم ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة. ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ـ في كل ما عمله وقاله وتحرك به ـ فإن عمل حسناً استزاد الله ـ طلب من الله أن يوفقه للزيادة ـ وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه". أن تكون واعياً لنفسك، واعياً لكل فكر تنتجه في عقلك، ولكل عاطفة ينبض بها قلبك، ولكل حركة تتحرك بها، حتى ترصد نقاط الضعف والقوة في نفسك، لأن ذلك هو الذي يجعلك تتوازن في خط الاستقامة، أما إذا غفلت عن نفسك، فإن نقاط الضعف سوف تتجمّع في كل عناصر شخصيتك، وعند ذلك، قد تسلمك إلى السقوط الروحي والفكري والحركي في الحياة.

ويقول(ع): "لا تستكثروا كثير الخير ـ إذا عملت الخير فلا تقل إنني عملت الكثير، وليس من الضروري أن أعمل ـ ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع فيصير كثيراً ـ وهو ما ورد في سيرة النبي(ص)، عندما كان سائراً مع أصحابه في صحراء، وطلب منهم أن يجمعوا الحطب، وامتثلوا لأمر رسول الله، وبدأوا يجمعون ما تيسر لهم من العيدان الصغيرة، ووضعوا الحطب أمام النبي(ص) وهو كثير، فقال لهم: "هكذا تجتمع صغار الذنوب فتصير كبيرة" ـ وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله، واصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحلّ لكم، فإنّما ذلك عليكم".

وقد حدد الإمام الكاظم(ع) للناس ما ينبغي أن يتعلّموه: "وجدت علم الناس في أربع: أولها، أن تعرف ربك ـ لأن معرفة الله في مواقع عظمته ونعمته وقدرته، هي التي تجعلك تنفتح عليه وتقرب إليه ـ والثانية، أن تعرف ما صنع بك ـ من دقّة أجهزة في جسمك ـ والثالثة، أن تعرف ماذا أراد منك ـ ما هي مسؤولياتك التي حمّلك الله إياها ـ والرابعة، أن تعرف ما يُخرجك من دينك"، لأنك إذا كنت لا تعرف دينك، ولا تعرف ما يُخرجك منه، فقد يدخل عليك الناس ليخدعوك عن دينك، وليعلّموك ما هو خارج عن الدين بعنوان أنه من الدين.

ويقول(ع) في وصيته لبعض أولاده: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلّون فيها للذاتكم في غير محرّم".

وهناك كلام للإمام(ع) لأحد أصحابه الذي شكا من أن البعض يقول له: "يا زنديق"، كما بعض الناس الذين يتحدثون عن بعض العلماء والثقات بكلمات سلبية، فيتهمون بعضهم بالضلال وغيره مما يتحرك به الناس الذين لا تقوى لهم من خلال تعقيداتهم الذاتية، فقال(ع): "وما يضرّك أن يكون في يديك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس: لؤلؤة". وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول للإنسان: إن عليك أن تدرس الحقيقة في ما تحمله من فكر وخلق، وفي ما تمارسه من خير، لا تأخذ ثقتك بنفسك من الناس، أنت ادرس نفسك لتعرفها، فإذا عرفتها فلا تسقط إذا أطلق الناس عليك صفات السقوط، وإذا كنت تواجه نقاط ضعف، وأراد الناس أن يرفعوك بتزلّفاتهم، فعليك أن لا تثق بنفسك في غير موضع ثقة.

وفي ختام كلمات الإمام الكاظم(ع)، أنه قال لبعض أصحابه، وهو الفضل بن يونس: "أبلغ خيراً ـ إذا تحدثت مع الناس، فليكن حديثك في الخير ـ وقل خيراً ـ قل كلمة الخير التي تؤكد موقفك ـ ولا تكن إمّعة"، قال: وما الإمّعة؟ قال(ع): "أن تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس ـ أن تكون إنسان اللاموقف بحيث تأخذ موقفك من الآخرين، أو تكون الصدى للآخرين. كن الصوت ولا تكن الصدى. لتكن لك إرادتك واقتناعك وموقفك، سواء قال به الناس أو لم يقولوا. ادرس كل موقف من خلال عناصر الحق فيه، فإذا اقتنعت به اعتمدته ـ إن رسول الله قال: إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير".

هذه كلمات النور التي انطلقت من خلال الإمام الكاظم(ع)، وعلينا أن نستضيء بهذا النور وننفتح عليه، وأن نعمل به، لننطلق في خط رسول الله(ص) الذي هو رضى الله تعالى، وهو الخطّ الذي أطلقه رسول الله(ص): "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي". والسلام على الإمام الكاظم(ع)، يوم وُلد، ويوم استُشهد، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الحياة من موقع المسؤولية في ما حمّلكم الله تعالى من مسؤولياتكم الفردية والاجتماعية، بما يتصل بقضايا المسلمين في العالم كله، لأن رسول الله(ص) يقول: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم". والمسلمون الآن في محنة، من خلال أن المستكبرين والكافرين في العالم يواجهون الواقع الإسلامي كله لمصادرة ثرواته، وإسقاط أمنه، وإرباك كل أحواله. فعلى المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة الكفر كله، والاستكبار كله، والشرك كله، فماذا هناك:

فلسطين: التخطيط لانتفاضة جديدة

إسرائيل لا تزال تمارس إرهابها الوحشي في مصادرة الأراضي الفلسطينية، لاستخدامها في بناء سياج متصل بجدار الفصل حول كبرى مستوطنات الضفة الغربية، وربطها بالأحياء اليهودية في القدس الشرقية، وذلك في خطوة تستهدف فصل شمالي الضفة الغربية عن جنوبها، وتغيير التكوين السكاني للقدس، وذلك من خلال استغلال الانسحاب من غزة لتوسيع احتلالها الاستيطاني للضفة، من دون أن يرتفع صوت أمريكي أو أوروبي للاحتجاج على ذلك، وللضغط على إسرائيل، لأنهم لا يعملون على احترام الإنسان الفلسطيني في حقوقه الإنسانية في أرضه، بل يؤكدون الحق اليهودي في اغتصاب المزيد من الأرض واحتلالها، لأن الغرب لا يؤمن بحقوق الإنسان العربي أو المسلم، بل يرى الحق كله لليهود، ما يوحي بالظلم الغربي في حماية سياسة الاحتلال والاغتصاب ضد العرب والمسلمين.

ومن جانب آخر، فإن إسرائيل لا تزال ـ في خطتها الضاغطة على الشعب الفلسطيني ـ تسيطر على المعابر التي يدخل منها الفلسطينيون من خارج غزة، ولا تزال القيود مفروضة على المطار والمرفأ فيها، ليبقى أهالي غزة في حصار دائم في داخل بلدهم، من دون أن يكون لهم أية حرية للتنقّل في خارجه. وبالتالي، فإن الدولة الفلسطينية التي وعد بها الرئيس بوش، لا تزال مجرد وعد لا يملك الرئيس الأمريكي أية واقعية لتحقيقه، لأن إسرائيل المسيطرة على إدارته، لا تسمح لـه بذلك، مستغلةً عنوان إزالة "الإرهاب الفلسطيني" ـ حسب تعبيرها ـ كشرطٍ للمفاوضات ولتحريك خارطة الطريق.

إن أمريكا هي المشكلة في مصادرة الحق الفلسطيني، لأن إدارتها التي يحكمها اللوبي الصهيوني، والمحافظون الجدد، والمتعصّبون ضد العرب والمسلمين، يخططون وينفّذون لسيطرة إسرائيل على فلسطين كلها، فلا يبقى للفلسطينيين إلا الأراضي الممزقة المقطّعة الأوصال. وهذا ما ينبغي للفلسطينيين أن يعرفوه، ليخططوا لانتفاضة جديدة، للالتفاف على الخطة الصهيونية في عملية الاستيطان والاغتيال والاعتقال، وفي إلحاق أكثر أراضي الضفة ـ ومعها القدس ـ بالكيان الصهيوني رسمياً، بمباركة أمريكية.

إن المطلوب هو الدخول في مرحلة جديدة من مراحل الانتفاضة، لأن التطورات الأمنية والسياسية في فلسطين والمنطقة، تعمل على تصفية القضية الفلسطينية والعبث بالأوضاع في داخل فلسطين، لإثارة المزيد من الجدل والخلاف والنزاع، ليبتعد الجميع عن جوهر القضية وامتداداتها وأصالة المستقبل.

العراق: بين نارين!!

أما العراق، فإنه يكتوي بنارين: نار الموت الذي يزرع الحقد الأعمى في كل يوم، في تفجيرات تطاول المدنيين وتلاحقهم في الأسواق والشوارع والمواقع المدنية، حيث لا يمكن للاحتلال أن يختفي خلف دخان هذه النيران من خلال مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة، لأننا نزعم أنه يعمل لتأجيج نار الفتنة الداخلية، ليستفيد منها، ويعلن استمرار الحاجة لوجوده.

وعلى العراقيين الانتباه إلى خلفيات الاحتلال وامتداداته وخططه التي تعمل على تأكيد مصالحه الاستراتيجية بعيداً عن مصالح الشعب العراقي الذي لا يزال يعيش تحت تأثير الفوضى الأمنية وفقدان الخدمات الحيوية الضرورية، ومصادرة ثروته من خلال الشركات الأمريكية الاحتكارية التي تسرق أمواله من خلال مشاريع وهمية لا واقع لها، هذا إضافة إلى أجهزة المخابرات الصهيونية في تحالفها مع المخابرات المركزية الأمريكية للعبث بأوضاع العراق، وللتخطيط لإسقاط وحدته بمختلف الوسائل على الصعيد المذهبي والعرقي.

أما النار الأخرى التي يكتوي بها العراق، فهي نار الانقسامات السياسية الداخلية، التي تتحرك حول بعض العناوين في صيغة الدستور، ولا سيما في موضوع الفدرالية التي يكتنفها الغموض بالدرجة التي قد تتحوّل في بعض الظروف السياسية إلى التقسيم أو الانفصال، تحت عنوان حق تقرير المصير الذي طرحه الأكراد، وأرادوا إدخاله في الدستور لولا بعض الظروف.

إننا، في الوقت الذي نرى في تدخّل السفير الأمريكي في الشأن العراقي، حتى في كتابة الدستور، جريمة أخرى بحق الشعب العراقي تضاف إلى جريمته في الاحتلال، نريد للجميع أن يركّزوا على كيفية سحب البساط من تحت الاحتلال، من خلال الانفتاح على مستقبلهم الوحدوي الذي يتساوى فيه العراقيون في الحقوق والواجبات دون تمييز، وفي التكامل الوطني الذي يلتقي فيه الجميع على تقوية المواقع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأن تبقى للعراق هويته الإسلامية في وحدة المسلمين جميعاً التي تتواصل من خلالها مع المحيط العربي والإسلامي، والتعاون بين كل ساحات المنطقة، لتقف الشعوب كلها من أجل إسقاط الاحتلال الخفيّ والمعلَن الذي يخطط للسيطرة على مقدّراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية.

ونحن في الوقت الذي نرفض الانقسامات والتفجيرات التي تنطلق على أساس مذهبي، نحذّر من الخلافات التي انطلقت ويراد لها أن تنطلق داخل المذهب الواحد، وندعو الجميع إلى رفضها والتصدي لها.

لبنان: غياب البرامج الإصلاحية

أما لبنان، فإنه لا يزال يتخبّط تحت تأثير الإشاعات المثيرة التي يتداولها الناس، ولا سيما في التحليلات الإعلامية، انتظاراً لتقرير لجنة التحقيق، في عملية تخويف أمني، وخصوصاً بعد التفجيرات الأخيرة التي تستهدف المواقع الاقتصادية، وتهدد الأوضاع السياحية. هذا إضافة إلى الجدل حول التعيينات في حساب الحصص الطائفية والشخصية، وتبادل الاتهامات بين فريق وآخر، ما يوحي للشعب كله بأن الطريقة السياسية لا تزال تفرض نفسها بعيداً عن المبادئ التغييرية والإصلاحية، لأن المسألة التي تفرض نفسها هي أن "الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فإذا كان القائمون على أمور البلد قد أدمنوا الخضوع لمصالحهم الطائفية والذاتية، فكيف يمكن أن يحققوا التغيير والإصلاح؟!

إننا نتساءل: هل هناك حكم وحكومة تخطط للمستقبل الذي يُنقذ البلد من الإفلاس والفوضى والفلتان الأمني؟ وكيف يمكن أن نواجه الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، ولا يزال البعض منا ـ بوحي أمريكي أوروبي ـ يطالب بتأمين العدو ونزع سلاح المقاومة قبل تأمين لبنان من اختراقات العدو؟ وكيف يمكن تحرير البلد من الوصاية الجديدة التي تتحرك وراء الكواليس الخفية تحت أكثر من عنوان؟ وكيف يمكن للبلد أن يحقق المصالحة الوطنية من دون التخطيط لمصالحة البرامج الإصلاحية، واللقاءات الحوارية الموضوعية الصريحة في مستقبل البلد؟؟ إنها أسئلة بحاجة إلى أجوبة، فمن يجيب؟!

معه في ذكرى استشهاده، الإمام الكاظم(ع): كن الصوت ولا تكن الصدى

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

مرجعيّة المسلمين وثقتهم

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أئمة هذا البيت، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته وشهادته، في الخامس والعشرين من هذا الشهر ـ رجب ـ. وعندما ندرس هذا الإمام، فإننا نجد أنه ملأ الساحة الإسلامية في مرحلته علماً وفكراً وحركة وروحانية، كأبيه الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وقد ساهم ذلك في امتداده في الواقع الإسلامي، بحيث رجع الناس إليه في كل ما يحتاجونه من خصائص الرسالة الإسلامية، وفي كل ما يعيشونه من قضايا.

وقد ترك ذلك تأثيراً سلبياً على موقف الخلافة العباسية من الإمام الكاظم(ع)، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هارون الرشيد، الذي نُمي إليه أن الناس يراجعون الإمام الكاظم(ع) كما لو كان هو الخليفة، في حقوقهم الشرعية، وفي استفتاءاتهم الفقهية، وفي استشارته في القضايا السياسية، حتى إن الثائرين على الخلافة، كانوا يستهدونه في رأيه حول حركتهم. ولذلك، فكّر هارون الرشيد في أن يعتقل الإمام الكاظم(ع)، وأخذ ينقله من سجن إلى سجن، وقد ضُيّق عليه في أكثر هذه السجون، حتى استشهد في سجن "السندي بن شاهك" في بغداد، الذي دسّ إليه السم بأمر هارون الرشيد.

لقد كانت الخلافة العباسية الظالمة، تخشى من هذه الثقة الممتدة في الواقع الإسلامي بالإمام الكاظم(ع)، كالكثيرين من الطغاة الذين يخافون من القيادات الإسلامية التي تمتد في الوجدان الإسلامي، بحيث يعيش الناس الثقة بها والإخلاص لها والسير في قيادتها، بعيداً عن أي مطمع وعن أي خوف.

ونحن عندما نلتزم خط أهل البيت(ع)، في ما نعتقده من الالتزام بإمامتهم وولايتهم، فإننا نعتقد أنهم حجج الله على خلقه، وأنهم أمناء الله في خلقه، وأنهم الأدلاّء على الله. ولذلك، فإننا نبقى معهم، على الرغم من أنهم ارتفعوا إلى رحاب الله، لأنهم في كل ما قالوه وفعلوه، كانوا الأدلاّء على الله، والهداة للإسلام.

كاظـم الغيـظ

وقد لُقّب الإمام الكاظم(ع) بالكاظم لأنه كان الإمام الذي يحبس غيظه، فينفتح على من يغيظه ويسيء إليه، ويحاول أن يجتذبه بالخلق الرفيع، وبالصدر الواسع، وبالروح الطيبة. ويُذكر في سيرته، أن هناك شخصاً في المدينة من الفئة المضادة لأهل البيت(ع)، كان يسبّ الإمام ويشتمه، وكان يتحدث عنه بالسوء، حتى ضاق به أصحاب الإمام، وطلبوا من الإمام(ع) أن يأذن لهم في قتله، لأنه بلغ من الإساءة مبلغاً عظيماً، وكان(ع) ينهاهم عن ذلك. وفي يوم من الأيام، قصد الإمام هذا الشخص في مزرعة له، وعندما دخل الإمام إلى المزرعة، ناداه الشخص: "لا تطأ زرعنا"، من شدة حقده، فلم يكن لديه لياقة استقبال الإمام والترحيب به، ولكن الإمام(ع) تابع مسيرته، حتى وصل إليه وقال له: "كم غرمت في زرعك؟"، قال: مائة دينار، قال(ع): "وكم ترجو أن تصيب؟"، قال: لا أعلم الغيب. قال(ع): "إنما قلت لك كم ترجو فيه؟"، قال: مائتي دينار، فأخرج الإمام(ع) صرّة وأعطاه إياها وقال: "وهذا زرعك على حاله". وبدأ يحدّثه بكل صدر رحب وأخلاق عالية، فما كان من هذا الشخص إلا أن ودّع الإمام بأفضل وداع، ثم جاء إلى المسجد، وعندما دخله الإمام(ع)، فإذا بهذا الشخص ينادي: "ألله أعلم حيث يجعل رسالته"، وسأله أصحابه عمّا غيّره، فأخبرهم بأنه بدّل رأيه لما رآه من الإمام(ع)، وكأن الإمام(ع) يلتفت إلى أصحابه ويسألهم: هل إن طريقتي في اجتذاب هذا الشخص أفضل، أم طريقتكم التي كنتم تحاولون أن تواجهوه فيها بالعنف أو القتل!!

كانت هذه سيرة الإمام الكاظم(ع)، كما هي سيرة أهل البيت(ع)، بعد أن مدح الله جدّهم رسول الله(ص): {وإنك لعلى خلق عظيم}. وقد تحدث الله تعالى عن أهل الجنة: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}. وهذا هو معنى السير في خط الولاية لأهل البيت(ع)، بأن نسير بسيرتهم، وأن نتخلّق بأخلاقهم، لأنهم ينطلقون في سيرتهم من أصالة الإسلام، وفي أخلاقهم من أخلاق الإسلام.

مواعظه ووصايـاه

في هذا الموقف، نريد أن نستهدي الإمام الكاظم(ع) في بعض كلماته الوعظية والعملية، حتى نسترشد به في امتدادات الزمن، لأنه وإن غاب عنا بشخصه، ولكنه معنا بعلمه وبكل ثقافته.

كان(ع) يوصي أولاده ويقول لبعضهم: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها". كن مع الله في كل ما يرضيه، وابتعد عن كل ما يسخطه، لأنك عبد الله الذي تتمثل عبوديته في إخلاصه لله، أن تكون الإنسان الذي يطيع الله في ما أمرك به لتفعله، وفي ما نهاك عنه لتتركه. "وعليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك من التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته"، فعليك أن لا تعتبر أنك بلغت الدرجة العالية في طاعة الله، بل أن تعتبر أنك مهما فعلت، فأنت مقصّر، لماذا؟ لأن الله سرّ وجودك، فقد كنت عدماً فأوجدك، وهو سرّ كل تفاصيل حياتك: {فما بكم من نعمة فمن الله}، لذلك أنت بكلك من الله وفي نعمه، فكيف يمكن أن تعبده حقّ العبادة.

"وإياك والمزاح ـ لا تكن مزّاحاً، بحيث يغلب على شخصيتك المزاح الذي يجتذب ضحك الآخرين، وقد يصل إلى حدّ يثير سخريتهم بك ـ فإنه يذهب بنور إيمانك، ويستخفّ مروءتك. وإياك والضجر والكسل ـ إذا انطلقت في عمل أو علم، فعليك أن تبقي حيوية إرادتك وإقبالك على ما تعمله أو ما تتعلّمه، ولا تضجر ولا تكسل، لأنك إذا ضجرت أو كسلت، فإنك لن تحصل من عملك أو علمك على شيء. ولا تكسل، بل لتكن لك الحيوية التي تجعلك تتجدد كلما انطلقت في العمل والتعلّم ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة. ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ـ في كل ما عمله وقاله وتحرك به ـ فإن عمل حسناً استزاد الله ـ طلب من الله أن يوفقه للزيادة ـ وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه". أن تكون واعياً لنفسك، واعياً لكل فكر تنتجه في عقلك، ولكل عاطفة ينبض بها قلبك، ولكل حركة تتحرك بها، حتى ترصد نقاط الضعف والقوة في نفسك، لأن ذلك هو الذي يجعلك تتوازن في خط الاستقامة، أما إذا غفلت عن نفسك، فإن نقاط الضعف سوف تتجمّع في كل عناصر شخصيتك، وعند ذلك، قد تسلمك إلى السقوط الروحي والفكري والحركي في الحياة.

ويقول(ع): "لا تستكثروا كثير الخير ـ إذا عملت الخير فلا تقل إنني عملت الكثير، وليس من الضروري أن أعمل ـ ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع فيصير كثيراً ـ وهو ما ورد في سيرة النبي(ص)، عندما كان سائراً مع أصحابه في صحراء، وطلب منهم أن يجمعوا الحطب، وامتثلوا لأمر رسول الله، وبدأوا يجمعون ما تيسر لهم من العيدان الصغيرة، ووضعوا الحطب أمام النبي(ص) وهو كثير، فقال لهم: "هكذا تجتمع صغار الذنوب فتصير كبيرة" ـ وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله، واصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحلّ لكم، فإنّما ذلك عليكم".

وقد حدد الإمام الكاظم(ع) للناس ما ينبغي أن يتعلّموه: "وجدت علم الناس في أربع: أولها، أن تعرف ربك ـ لأن معرفة الله في مواقع عظمته ونعمته وقدرته، هي التي تجعلك تنفتح عليه وتقرب إليه ـ والثانية، أن تعرف ما صنع بك ـ من دقّة أجهزة في جسمك ـ والثالثة، أن تعرف ماذا أراد منك ـ ما هي مسؤولياتك التي حمّلك الله إياها ـ والرابعة، أن تعرف ما يُخرجك من دينك"، لأنك إذا كنت لا تعرف دينك، ولا تعرف ما يُخرجك منه، فقد يدخل عليك الناس ليخدعوك عن دينك، وليعلّموك ما هو خارج عن الدين بعنوان أنه من الدين.

ويقول(ع) في وصيته لبعض أولاده: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلّون فيها للذاتكم في غير محرّم".

وهناك كلام للإمام(ع) لأحد أصحابه الذي شكا من أن البعض يقول له: "يا زنديق"، كما بعض الناس الذين يتحدثون عن بعض العلماء والثقات بكلمات سلبية، فيتهمون بعضهم بالضلال وغيره مما يتحرك به الناس الذين لا تقوى لهم من خلال تعقيداتهم الذاتية، فقال(ع): "وما يضرّك أن يكون في يديك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس: لؤلؤة". وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول للإنسان: إن عليك أن تدرس الحقيقة في ما تحمله من فكر وخلق، وفي ما تمارسه من خير، لا تأخذ ثقتك بنفسك من الناس، أنت ادرس نفسك لتعرفها، فإذا عرفتها فلا تسقط إذا أطلق الناس عليك صفات السقوط، وإذا كنت تواجه نقاط ضعف، وأراد الناس أن يرفعوك بتزلّفاتهم، فعليك أن لا تثق بنفسك في غير موضع ثقة.

وفي ختام كلمات الإمام الكاظم(ع)، أنه قال لبعض أصحابه، وهو الفضل بن يونس: "أبلغ خيراً ـ إذا تحدثت مع الناس، فليكن حديثك في الخير ـ وقل خيراً ـ قل كلمة الخير التي تؤكد موقفك ـ ولا تكن إمّعة"، قال: وما الإمّعة؟ قال(ع): "أن تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس ـ أن تكون إنسان اللاموقف بحيث تأخذ موقفك من الآخرين، أو تكون الصدى للآخرين. كن الصوت ولا تكن الصدى. لتكن لك إرادتك واقتناعك وموقفك، سواء قال به الناس أو لم يقولوا. ادرس كل موقف من خلال عناصر الحق فيه، فإذا اقتنعت به اعتمدته ـ إن رسول الله قال: إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير".

هذه كلمات النور التي انطلقت من خلال الإمام الكاظم(ع)، وعلينا أن نستضيء بهذا النور وننفتح عليه، وأن نعمل به، لننطلق في خط رسول الله(ص) الذي هو رضى الله تعالى، وهو الخطّ الذي أطلقه رسول الله(ص): "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي". والسلام على الإمام الكاظم(ع)، يوم وُلد، ويوم استُشهد، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الحياة من موقع المسؤولية في ما حمّلكم الله تعالى من مسؤولياتكم الفردية والاجتماعية، بما يتصل بقضايا المسلمين في العالم كله، لأن رسول الله(ص) يقول: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم". والمسلمون الآن في محنة، من خلال أن المستكبرين والكافرين في العالم يواجهون الواقع الإسلامي كله لمصادرة ثرواته، وإسقاط أمنه، وإرباك كل أحواله. فعلى المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة الكفر كله، والاستكبار كله، والشرك كله، فماذا هناك:

فلسطين: التخطيط لانتفاضة جديدة

إسرائيل لا تزال تمارس إرهابها الوحشي في مصادرة الأراضي الفلسطينية، لاستخدامها في بناء سياج متصل بجدار الفصل حول كبرى مستوطنات الضفة الغربية، وربطها بالأحياء اليهودية في القدس الشرقية، وذلك في خطوة تستهدف فصل شمالي الضفة الغربية عن جنوبها، وتغيير التكوين السكاني للقدس، وذلك من خلال استغلال الانسحاب من غزة لتوسيع احتلالها الاستيطاني للضفة، من دون أن يرتفع صوت أمريكي أو أوروبي للاحتجاج على ذلك، وللضغط على إسرائيل، لأنهم لا يعملون على احترام الإنسان الفلسطيني في حقوقه الإنسانية في أرضه، بل يؤكدون الحق اليهودي في اغتصاب المزيد من الأرض واحتلالها، لأن الغرب لا يؤمن بحقوق الإنسان العربي أو المسلم، بل يرى الحق كله لليهود، ما يوحي بالظلم الغربي في حماية سياسة الاحتلال والاغتصاب ضد العرب والمسلمين.

ومن جانب آخر، فإن إسرائيل لا تزال ـ في خطتها الضاغطة على الشعب الفلسطيني ـ تسيطر على المعابر التي يدخل منها الفلسطينيون من خارج غزة، ولا تزال القيود مفروضة على المطار والمرفأ فيها، ليبقى أهالي غزة في حصار دائم في داخل بلدهم، من دون أن يكون لهم أية حرية للتنقّل في خارجه. وبالتالي، فإن الدولة الفلسطينية التي وعد بها الرئيس بوش، لا تزال مجرد وعد لا يملك الرئيس الأمريكي أية واقعية لتحقيقه، لأن إسرائيل المسيطرة على إدارته، لا تسمح لـه بذلك، مستغلةً عنوان إزالة "الإرهاب الفلسطيني" ـ حسب تعبيرها ـ كشرطٍ للمفاوضات ولتحريك خارطة الطريق.

إن أمريكا هي المشكلة في مصادرة الحق الفلسطيني، لأن إدارتها التي يحكمها اللوبي الصهيوني، والمحافظون الجدد، والمتعصّبون ضد العرب والمسلمين، يخططون وينفّذون لسيطرة إسرائيل على فلسطين كلها، فلا يبقى للفلسطينيين إلا الأراضي الممزقة المقطّعة الأوصال. وهذا ما ينبغي للفلسطينيين أن يعرفوه، ليخططوا لانتفاضة جديدة، للالتفاف على الخطة الصهيونية في عملية الاستيطان والاغتيال والاعتقال، وفي إلحاق أكثر أراضي الضفة ـ ومعها القدس ـ بالكيان الصهيوني رسمياً، بمباركة أمريكية.

إن المطلوب هو الدخول في مرحلة جديدة من مراحل الانتفاضة، لأن التطورات الأمنية والسياسية في فلسطين والمنطقة، تعمل على تصفية القضية الفلسطينية والعبث بالأوضاع في داخل فلسطين، لإثارة المزيد من الجدل والخلاف والنزاع، ليبتعد الجميع عن جوهر القضية وامتداداتها وأصالة المستقبل.

العراق: بين نارين!!

أما العراق، فإنه يكتوي بنارين: نار الموت الذي يزرع الحقد الأعمى في كل يوم، في تفجيرات تطاول المدنيين وتلاحقهم في الأسواق والشوارع والمواقع المدنية، حيث لا يمكن للاحتلال أن يختفي خلف دخان هذه النيران من خلال مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة، لأننا نزعم أنه يعمل لتأجيج نار الفتنة الداخلية، ليستفيد منها، ويعلن استمرار الحاجة لوجوده.

وعلى العراقيين الانتباه إلى خلفيات الاحتلال وامتداداته وخططه التي تعمل على تأكيد مصالحه الاستراتيجية بعيداً عن مصالح الشعب العراقي الذي لا يزال يعيش تحت تأثير الفوضى الأمنية وفقدان الخدمات الحيوية الضرورية، ومصادرة ثروته من خلال الشركات الأمريكية الاحتكارية التي تسرق أمواله من خلال مشاريع وهمية لا واقع لها، هذا إضافة إلى أجهزة المخابرات الصهيونية في تحالفها مع المخابرات المركزية الأمريكية للعبث بأوضاع العراق، وللتخطيط لإسقاط وحدته بمختلف الوسائل على الصعيد المذهبي والعرقي.

أما النار الأخرى التي يكتوي بها العراق، فهي نار الانقسامات السياسية الداخلية، التي تتحرك حول بعض العناوين في صيغة الدستور، ولا سيما في موضوع الفدرالية التي يكتنفها الغموض بالدرجة التي قد تتحوّل في بعض الظروف السياسية إلى التقسيم أو الانفصال، تحت عنوان حق تقرير المصير الذي طرحه الأكراد، وأرادوا إدخاله في الدستور لولا بعض الظروف.

إننا، في الوقت الذي نرى في تدخّل السفير الأمريكي في الشأن العراقي، حتى في كتابة الدستور، جريمة أخرى بحق الشعب العراقي تضاف إلى جريمته في الاحتلال، نريد للجميع أن يركّزوا على كيفية سحب البساط من تحت الاحتلال، من خلال الانفتاح على مستقبلهم الوحدوي الذي يتساوى فيه العراقيون في الحقوق والواجبات دون تمييز، وفي التكامل الوطني الذي يلتقي فيه الجميع على تقوية المواقع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأن تبقى للعراق هويته الإسلامية في وحدة المسلمين جميعاً التي تتواصل من خلالها مع المحيط العربي والإسلامي، والتعاون بين كل ساحات المنطقة، لتقف الشعوب كلها من أجل إسقاط الاحتلال الخفيّ والمعلَن الذي يخطط للسيطرة على مقدّراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية.

ونحن في الوقت الذي نرفض الانقسامات والتفجيرات التي تنطلق على أساس مذهبي، نحذّر من الخلافات التي انطلقت ويراد لها أن تنطلق داخل المذهب الواحد، وندعو الجميع إلى رفضها والتصدي لها.

لبنان: غياب البرامج الإصلاحية

أما لبنان، فإنه لا يزال يتخبّط تحت تأثير الإشاعات المثيرة التي يتداولها الناس، ولا سيما في التحليلات الإعلامية، انتظاراً لتقرير لجنة التحقيق، في عملية تخويف أمني، وخصوصاً بعد التفجيرات الأخيرة التي تستهدف المواقع الاقتصادية، وتهدد الأوضاع السياحية. هذا إضافة إلى الجدل حول التعيينات في حساب الحصص الطائفية والشخصية، وتبادل الاتهامات بين فريق وآخر، ما يوحي للشعب كله بأن الطريقة السياسية لا تزال تفرض نفسها بعيداً عن المبادئ التغييرية والإصلاحية، لأن المسألة التي تفرض نفسها هي أن "الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فإذا كان القائمون على أمور البلد قد أدمنوا الخضوع لمصالحهم الطائفية والذاتية، فكيف يمكن أن يحققوا التغيير والإصلاح؟!

إننا نتساءل: هل هناك حكم وحكومة تخطط للمستقبل الذي يُنقذ البلد من الإفلاس والفوضى والفلتان الأمني؟ وكيف يمكن أن نواجه الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، ولا يزال البعض منا ـ بوحي أمريكي أوروبي ـ يطالب بتأمين العدو ونزع سلاح المقاومة قبل تأمين لبنان من اختراقات العدو؟ وكيف يمكن تحرير البلد من الوصاية الجديدة التي تتحرك وراء الكواليس الخفية تحت أكثر من عنوان؟ وكيف يمكن للبلد أن يحقق المصالحة الوطنية من دون التخطيط لمصالحة البرامج الإصلاحية، واللقاءات الحوارية الموضوعية الصريحة في مستقبل البلد؟؟ إنها أسئلة بحاجة إلى أجوبة، فمن يجيب؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية