ملاحقة الانحراف والغلوّ
وكان(ع) يلاحق كل الانحرافات التي تحدث في المجتمع، من خلال الناس الذين يتحركون على أساس الغلوّ في الدين، سواء كان الغلو في العقيدة بأهل البيت(ع)، في جوانب أخرى من الناحية العقيدية الفكرية، كما في مسألة الجبر والتفويض، وكان (ع) يتصدّى لذلك بكلِّ قوة، وكان يحذّر أصحابه من هؤلاء الذين يغالون بغير حق ليشوّهوا صورة الإسلام عقيدةً وشريعةً وحركةً في الحياة.
وهذا هو الدور الذي أُعدّ للإمامة؛ فالإمام لا يأتي بشريعة جديدة أو بعقيدة جديدة، فقد أكمل الله تعالى لرسوله(ص) وللمسلمين الدين: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، فليس هناك بعد النبي(ص) أية زيادة في الدين، ولكنَّ الأئمة(ع) كانوا يراقبون حركة هذا الدين في الواقع، وينفون عنه تحريف المحرّفين، وغلو الغالين، ويعملون على أساس الخط المستقيم الذي يطلبون من الناس السير عليه، وهذا ما كان يقوم به الإمام الهادي(ع).
الموقع المتميِّـز
وكان الإمام الهادي(ع) يملك موقعاً كبيراً متقدّماً في الواقع الإسلامي، حتى لدى رموز السلطة التي كانت تكيد له وتضطهده، لكن هؤلاء كانوا لا يملكون إلاّ أن يخضعوا له، لما يتميّز به من هيبة ووقار. كان(ع) إذا حضر إلى أي مجتمع من مجتمعات هؤلاء من رموز السلطة، قاموا بطريقة لا شعورية إجلالاً له، وكان بعضهم قد قال: لماذا نقوم لهذا الرجل، فهو ليس بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسننا ولا بأعلمنا، والله لا ترجّلنا له. ولكن الإمام(ع) أقبل عليهم بعد أن تفوّه هذا الإنسان بكلمته، فلما بصروا به، ترجّل له الناس كلهم، وقال هؤلاء: "والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا له".
ونقرأ في سيرته(ع)، أنه لما مرض الخليفة العباسي المتوكل، وكان من أشد الناس عداوةً لأهل البيت(ع)، وللإمام الهادي بالذات، نذرت أمه أنه إذا عافاه الله، فإنها سوف تمنح الإمام الهادي عشرة آلاف دينار، فعندما شُفي، أرسلت ذلك إليه، لأنها لم تجد شخصاً في المجتمع آنذاك تتقرّب إلى الله بالنذر إليه غير الإمام الهادي(ع)، وعندما دفع الخليفة عندما دفع بعض الناس ليهجموا على بيت الإمام، وجد هذه الصرة التي فيها المال وهي مختومة بختم أمه، فأرسل إلى أمه: "ما هذا"، فذكرت له ما نذرت به.
رصد المفاهيم الخاطئة
وكان(ع) يرصد الفهم الخاطئ للأشياء في المجتمع، فقد كان بعض الناس، كما نحن الآن، عندما يصاب أحدنا ببلاء أو بأية مشكلة في يوم من الأيام، فإنه يتحدث عن شؤم هذا اليوم، ويحمّله مسؤولية ما أصابه من بلاء، ولا سيما إذا فقد فيه شخصاً يعزّه. وهذه الفكرة يرفضها الإسلام، لأن لا دخل لليوم في ما يصيب الإنسان، فاليوم هو عبارة عن هذه الساعات كالساعات الأخرى، فليس هناك من مشكلة في تكوين اليوم، إنه جزء من هذا الزمن الممتد.
وقد حصلت قصة مع أحد أصحاب الإمام الهادي(ع)، وهو الحسن بن مسعود، يقول: "دخلت على أبي الحسن علي بن محمد وقد نُكبت إصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمةٍ، فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أشأمك، فقال لي الإمام(ع): "يا حسن، وأنت تغشانا ـ وأنت تزورنا ومن أصحابنا ـ ترمي بذنبك من لا ذنب له"، فقال الحسن: فثاب إليّ عقلي، وتبيّنت خطأي، فقلت: يا مولاي أستغفر الله، فقال(ع): "يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ ـ فما تواجهونه هو نتيجة الأعمال {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} ـ فقال له الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يابن رسول الله، فقال(ع): "ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن، أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال، عاجلاً وآجلاً"، فقلت: بلى يا مولاي، قال(ع): "لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله".
هذا الموقف من الإمام(ع) في توعية هذا الإنسان، يريد من خلاله أن يخرجنا من الخرافة، وكثير من الأشياء التي اعتدناها ليس لها واقع، فمثلاً، قد يبتلى كثير من الناس ببعض الابتلاءات، فيلجأون إلى من "يكتب الكتب" و"يفتح المندل"، فيقال لهم إن عندكم "قرينة"، والناس تدفع أموالها... هذا كله خرافة، ولا واقع له، فالله تعالى عندما خلق الكون كله، جعل لكل شيء سبباً، فالمطر له سبب، والزلازل لها سبب، والزرع له سبب: {قد جعل الله لكل شيء قدراً}. لذلك، لا بد لنا من أن نملك وعينا وفكرنا، وأن لا نخضع لهؤلاء الذين لا يملكون علم ذلك، بل قد يحدثوننا بأشياء لا واقع لها.
وفي بعض كلمات الإمام الهادي(ع) يقول: "من اتقى الله يُتقى ـ فالذي يتقي الله، يُلقي الله هيبته في نفوس الناس الآخرين، فيهابونه ويخافونه ـ ومن أطاع الله يُطاع ـ فالله يجعله في الموقف الذي يخضع الناس له نتيجة طاعته لله ـ ومن أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق هو فقمنٌ أن يحلّ به سخط المخلوقين"، فرضى الله هو فوق كل رضى، فإذا رضي الله عنك وهو الذي يملك أمر الدنيا والآخرة، فما قيمة أن يغضب منك فلان أو يسخط عليك آخر، وكما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريـرةٌ وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خـراب
ويقول(ع): "إن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً".
لا بدّ لنا من أن نلتزم خط الولاية في أهل البيت(ع)، لأنهم حجج الله على خلقه، ولأنهم يهدوننا إلى الصراط المستقيم، والسلام على الإمام الهادي(ع) يوم وُلد، ويوم توفي، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المواقف التي تحيط بكم وتتحداكم بكل مسؤولية، لتكونوا في خط الوحدة أمام الذين يريدون أن يثيروا الفتنة فيما بينكم، ويفرقوكم ويمزقوا كل تجمعاتكم، فإن الله {يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}. علينا أن نكون الواعين لكل الواقع الذي نعيشه، حتى نعرف كيف نواجه المستكبرين من أعداء الله، بالموقف القوي الذي نحصل فيه على النصرة في كل مواقعنا، فماذا هناك؟:
لا واقعية للدولة الفلسطينية
إسرائيل التي تستعدُّ للانسحاب من مستوطنات غزة، تطلق كل إعلامها وحركتها السياسية في العالم، ولا سيما الغربي منه، للترويج لما تسمّيه خطة سلام تزعم فيها الالتزام بالمسألة الفلسطينية، لتلميع صورتها لدى الرأي العام الدولي، في الوقت الذي تهدد الشعب الفلسطيني بالإمساك بشكل أقوى وأقسى بالضفة الغربية، التي تعتبرها جزءاً من "إسرائيل التوراتية"، والتي سينتقل إليها المستوطنون من غزة في مشروع استيطاني جديد يخطط لتجمّع سكاني كبير قد يمتد لاستقطاب يهود العالم.
وإذا كانت اللجنة الرباعية الدولية، التي أطلقت مشروع خارطة الطريق، تتحدث بخجل عن تطبيقه، فإنها لم تضع لـه أية آلية واقعية، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية بشخص رئيسها بوش، قد وافقت على شروط شارون التي تصادر الخطة كلها، إضافةً إلى لاءاته ضد عودة اللاجئين، والعودة إلى قرار الانسحاب من أراضي الـ67، وضد هدم المستوطنات والجدار العنصري الفاصل، وتأكيد ضمّ أيّ أرض في القدس وغيرها بما يرتبط بأمن إسرائيل. فكيف نواجه المستقبل؟ وهل بقيت واقعية للدولة الفلسطينية؟ إننا نوجّه هذا السؤال إلى السلطة الفلسطينية التي لا تملك من الأمر شيئاً، وليس لديها إلا الحديث عن تطبيق القانون في الداخل، وإيقاف الانتفاضة، وربما التخطيط لنزع سلاحها!!
إننا نعتقد أن من حق الفلسطينيين في غزة وغيرها الحصول على الأمن الداخلي في حياتهم الخاصة، لأن ذلك هو شرط البقاء في موقع القوة والاستقرار والوحدة، ولكن لا بد من دراسة دقيقة لأن لا يكون الانسحاب من غزّة على حساب استكمال عملية التحرير حتى بعد الانسحاب منها، وأن لا تضيع القضية دولياً وعربياً بالاحتفال بالانسحاب من غزة التي أثقلت الكيان الصهيوني طيلة سنيّ الاحتلال بجهادها التحريري.
إننا ندعو الشعب الفلسطيني إلى أن يثبت للعالم بأنه يملك القدرة على تحرير أرضه، كما يملك الخطة لتأكيد وحدته الحضارية في كل موقع من مواقع التحرير، وأن بإمكانه إدارة الاختلافات السياسية والحركية، بالتفاهم والحوار الموضوعي الذي يلتقي عليه الجميع، لأن المرحلة من أصعب المراحل التي تمر بها القضية على صعيد الداخل والخارج من جميع الجهات.
إن على جميع الفلسطينيين أن يفكروا بأن انسحاب العدو من غزة، لا يبتعد عن خطته في تطويقها من أكثر من جهة، على مستوى المعابر وغيرها، لأنه يمثل الاحتلال الغادر الذي يرفض الاستقلال للشعب الفلسطيني الذي يتميّز بأكثر من قاعدة حضارية منفتحة على صناعة المستقبل الكبير.
العراق: الحل في إعطاء دور للأمم المتحدة
ومن جانب آخر، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق، لا يزال يفرض نفسه على الشعب العراقي في جميع قضاياه، ويتدخّل في كل مفاصل حياته، حتى على مستوى الدستور، حيث يعلن السفير الأمريكي ضغوطه في قانون هنا أو هناك، مما لا يملك القائمون على الأمور هناك مخالفته، هذا إضافةً إلى اللعبة الخفيّة التي يديرها في إثارة الخلافات المذهبية والطائفية.
ولا تزال المجازر الوحشية التي تطاول الأبرياء من مدنيين ورجال شرطة وأطفال، مستمرة، تحت عناوين المقاومة أو التعصّب المذهبي. إضافةً إلى الجدل الدائر حول دور الإسلام في الدستور، وقضية الفدرالية الغامضة التي قد تتحوّل إلى انفصال كردي، وتقسيم داخلي على أساس طائفي مذهبي قد يفقد فيه العراق وحدته. وإننا إذ نسجّل الحذر من ذلك كله، نؤكد أن الحل لانسحاب المحتل، يتمثل في إعطاء الدور الأساسي للأمم المتحدة في إدارة الوضع العراقي إلى جانب السلطة العراقية، وبعيداً عن ضغوط الاحتلال، باعتبار أن الأمم المتحدة لا تمثل قاعدة احتلال مثيرة للتعقيدات السلبية.
إننا ندعو الشعب العراقي إلى دراسة المرحلة بوعي ودقة، وندعو القائمين على الأمر، إلى مواكبة حاجات الشعب، والحفاظ على ثروته في ظلّ حديث الإعلام ـ بما فيه الإعلام الأمريكي ـ عن أن الشركات الأمريكية أخذت مليارات الدولارات لحساب مشاريع وهمية لا واقع لها، في الوقت الذي نعرف أن الناس لا تزال تعاني من نقصان الخدمات الضرورية، ولا سيما الماء والكهرباء، في أشد الأوقات صعوبة وهو وقت الصيف الحار المحرق.
وعلى صعيد آخر، فإن المشروع الإيراني النووي السلمي، لا يزال مثيراً للجدل من قِبَل الدول الأوروبية التي تقود الموضوع بإشراف أمريكي، من خلال إثارة عدم الثقة بإيران التي تؤكّد رفضها لأيّ مشروع نووي عسكري، ولا سيما أنها من الدول الموقِّعة على حظر إنتاج الأسلحة الذرية، ولكن المسألة هي أن أمريكا وحلفاءها لا يريدون لإيران أن تملك القوة التي تستطيع من خلالها حل مشاكلها الاقتصادية المستقبلية، أو الدفاع عن نفسها أمام الأسلحة الذرية في إسرائيل، وأمام امتلاك الهند وباكستان لهذه الأسلحة التي منحتها أمريكا الشرعية تحت حجج لا تقنع أحداً، بل إننا نؤكد ـ من خلال خوف الشعوب ـ تحريم إنتاج الأسلحة الذرية في العالم كله، بما في ذلك الدول الكبرى التي تمثل تهديداً سياسياً واقتصادياً وأمنياً لدول العالم الثالث، من خلال ما تملكه من القوة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.
لبنان: المشكلة في العدو الصهيوني
أما لبنان، فإنه في مرحلة انتظار لما يمكن أن تقوم به الحكومة المتعددة الأبعاد، والمتنوّعة الاتجاهات السياسية، والمختلفة الخلفيات السياسية في نظرتها إلى المشاكل الأمنية والاقتصادية والإدارية التي عاشها البلد، مما أُلقيت فيه كل السلبيات على موقع معيّن، كما لو كان كل الذين أخطأوا أو أساءوا ملائكة أطهاراً، من دون أية دراسة دقيقة للتفاصيل القضائية والإدارية.
إن المرحلة بحاجة إلى فتح كل الملفات في تقويم الأوضاع المعقّدة التي امتدت إلى الحاضر من الناحية الاقتصادية، ولا سيما المديونية، أو من الناحية السياسية، ولا سيما العلاقات بالعدو الإسرائيلي أو التدخّلات الدولية، لأن مسألة الحرية والسيادة والاستقلال، تخضع لقرار سيادي وطني لا يقع تحت الضغوط الخارجية التي تتحرك بطرق خفيّة لفرض خططها، ولكن بعنوان النصائح والوصايا، وعنوان الصداقة من دون تدخّل؟!