يقول تعالى في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌبِالْعِبَادِ}(البقرة:207).
ذلك هو عليّ(ع)؛ هذا الإنسان الذي باع نفسه لله، فلم يكن لنفسه من نفسه شيء. عاش مع الله في طفولته عندما عاش مع رسول الله(ص)، الذي احتضنه ورباه كما يربي الأب ولده، وهو القائل في ذلك: «وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه». ويقول(ع) أيضاً: «ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالإقتداء به». وكان(ع) يرى نور الوحي والرّسالة، ويشمّ ريح النبوّة، وعندما سأل رسول الله(ص) عن ذلك، قال: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنك لست بنبي».
وانفتح(ع) على الإسلام، عندما بعث الله تعالى رسوله به، وكان في العاشرة من عمره، ولكن عقله كان عقل الكبار، ولذلك عندما دعاه رسول الله إلى الإسلام، فكّر بهذا الدّين الجديد واقتنع به، فاستجاب لرسول الله(ص) ودخل في الإسلام، وفي ذلك قوله (ع): «أللهم إني أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلاّ رسول الله(ص) بالصلاة». وكان يخرج معه إلى المسجد، ومعهما أم المؤمنين خديجة، وكانا يصلّيان وراء النبي(ص)، حتى حانت من أبي طالب التفاتة، فرأى علياً إلى جانب رسول الله وخديجة وراءهما، فقال لولده جعفر: «يا بنيّ، صلْ جناح ابن عمك».
وعاش عليٌّ(ع) كلّ رسول الله(ص)، فكان عقله امتداداً لعقل رسول الله، وكان قلبه نابضاً بما ينبض به قلب رسول الله، وكانت ثقافته ثقافة القرآن، حيث كان عليّ(ع) يستمع إلى كل آية تنـزل، فيحدّثه رسول الله عن كلِّ آفاق الآية، وعن كل حركتها في الحياة، وعن كل القانون الذي تركّزه، وكان علمه علم رسول الله، وقد قال(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب». وهكذا رأينا رسول الله(ص) يؤكد ذلك فيقول: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخلها من الباب».
علي(ع): بطل الإسلام الأوّل:
كان عليّ(ع) بطل الإسلام الأوَّل، فكان فارس "بدر"، وتتحدث السيرة، أن علياّ(ع) قتل النصف من المشركين، وقتل المسلمون النصف الآخر. وعندما انطلق عليّ(ع) في جهاده في "بدر"، انطلق الصوت الملائكي: «لا فتى إلاّ عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار»، لأن عليّاً(ع) كان يمثل قمة الفتوّة في تلك المرحلة، وهي فتوة الروح والعقل والإسلام، وفتوّة الدفاع عن الحق، لأنّه(ع) كان في الحرب رسالياً ولم يكن عسكرياً. وعليّ(ع) يحدّث أنه كان يقاتل في الجبهة وقلبه مشغول برسول الله، فكان يترك الجبهة ويأتي إلى رسول الله ليطمئن عليه... وهكذا عندما انطلقت "أحد"، وانتصر المسلمون في بدايتها، ثم لحقت بهم الهزيمة في النهاية، لأنهم لم يأخذوا بوصية رسول الله في المرابطة، كان(ع) هو الذي تولّى الدفاع عن رسول الله عندما كُسرت رباعيته وجُرحت جبهته.
وخاض عليّ(ع) حروب رسول الله، وفي مقدّمتها حرب "الأحزاب"؛ هذه الحرب التي اهتزَّ فيها المسلمون، لأن قريش جاءت بكل أحلافها لتقضي على الإسلام في مهده: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}(الأحزاب/10-12). ولكن الله كفى المؤمنين القتال بعليّ(ع)، عندما جاء عمرو بن عبد ودّ العامريّ وهو يتحدّى المسلمين، ورسول الله(ص) يقول: «من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة»، ولم يقم إلا عليٌّ في المرات الثلاث، وعندما برز إليه، قال رسول الله(ص): «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»، وعندما صرعه عليّ(ع)، قال(ص): «ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين».
وكان عليّ(ع) فارس خيبر، الذي تحدى فيه مرحب المسلمين، وأرسل رسول الله شخصاً، فرجع يجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه، وأرسل شخصاً آخر، فرجع يجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه، لأن الحصن اليهودي كان محكماً، فقال رسول الله(ص): «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرَّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه». وكان عليّ يعاني من رمدٍ في عينيه، فجاء إلى رسول الله(ص) ، الذي أخذ من بصاقه ومسح به عيني عليّ. ويُنقل عن عليّ(ع) أنه قال، إنني صرت أبصر بهما أكثر ممّا كنت أبصر بهما من قبل.
وانطلق عليّ(ع) فصرع مرحباً ودخل الحصن، وكان يقول: «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، بل بقوة ربانية». كان إيمانه وانفتاحه على ربه وإخلاصه للإسلام والمسلمين، هو الذي أعطاه تلك القوة. ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي ـ شارح نهج البلاغة ـ وهو يتحدث عن موقف عليّ في اقتلاعه الباب:
يا قالع الباب الذي عن هزّه عجزت أكف أربعون وأربع
ولاية علي(ع):
كان عليّ(ع) فارس الإسلام؛ أعطى الإسلام كل حياته في حربه، كما أعطاه كل حياته في سلمه، لأنه كان يعلّم المسلمين ويمنحهم الرأي والمشورة. وكان النبي(ص) يعرّف المسلمين معنى عليّ(ع)، ليعرفوا أن عليّاً وحده هو الإنسان الذي يمكن أن يحمل مسؤولية الإسلام كلّه بعد رسول الله، كان (ص) يقول: «عليّ مع الحق، والحق مع عليّ، يدور معه حيثما دار»، وكان(ص) يقول: «يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبي بعدي». وكانت قمة الموقف من رسول الله، بعد أن نزلت عليه آية البلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة/67)، بلّغ ما أنزل إليك من ربك في ولاية عليّ، لأن الأجل حان، وعليك أن لا تترك هذه الدنيا إلا وقد نصَّبت عليّاً خليفةً على المسلمين، فوقف رسول الله، ورفع يد عليّ حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار».
وقد آخى رسول الله(ص) بين المهاجرين والأنصار، وقال لعليّ: «أنت أخي في الدنيا والآخرة». ودارت الدوائر بعد رسول الله، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه الذي جعله الله له، فكيف كان موقفه؟ إنَّ علياً يرتفع حيث يتضع الناس، ويسمو حيث يسقطون، لم يكن عليّ يفكر في عليّ، ولكنه كان يفكر في الإسلام، وكان يفكر في الله ورسوله. ونقرأ في نهج البلاغة وهو يقول: «فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ـ ويقصد أبا بكر ـ فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه".
هم الذين أبعدوا عليّاً عن حقه، ولكنه أعطاهم كل النصح وكل المشورة، وحفظ عليهم حياتهم، وقام بمسؤوليته في الواقع الإسلامي خير قيام، لأن علياً لم يكن يفكر ذاتياً، بل كان يفكر رسالياً؛ كان يفكر في أن لا تقع الفتنة بين المسلمين، وأن لا يضعفوا أمام الكافرين والمشركين، ولذلك قال كلمته الخالدة: «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصة».
وهذا هو _ أيها الأحبة _ درس علي(ع)؛ درسٌ لكل الناس من شيعته ومن غير شيعته، الذين يثيرون بين وقت وآخر الفتن الطائفية والمذهبية بالطريقة التي يتحرك فيها المسلمون ليكفّروا بعضهم بعضاً، وليتقاتلوا ويتنازعوا، فيفشلوا وتذهب ريحهم. إنَّ علياً(ع) يقول لجميع الذين يتحدثون بالوسائل السلبية، ويمتهنون السب واللعن لمن يقدّسهم الآخرون، إن علياً يقول لهم: إنني دافعت عن الإسلام، ورفضت الفتنة في الواقع الإسلامي، رغم أنني صاحب الحق. وقد سمع أهل العراق يسبون أهل الشام، وكان(ع) سائراً لقتال أهل الشام عندما تمردوا على الشرعية، فقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابّين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».
الإمام الزّاهد:
هذا هو عليّ(ع) في الأفق الرحب لعقله وفكره وحياته، وعلينا أن نفهم علياً وندرسه ونرتفع إلى أفقه الواسع، لأن علياً(ع) كان يخاطب أصحابه ـ ونحن من أصحابه ـ ويقول: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، إلا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد». ولكن القوم زرعوا الألغام والأشواك في طريقه، وعندما استلم الخلافة وأراد أن يرتفع بالواقع الإسلامي ليطبّق منهجه الذي لا منهج مثله، انطلق الناكثون والقاسطون والمارقون، وهو يقول: «كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها»، ثم يقول: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز». وقال لابن عباس، وقد رآه يُصلح نعله، «ما قيمة هذه النعل؟»، قال ابن عباس: لا قيمة لها، فقال(ع): «والله، لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً».
كان عليّ حقاً كله، وكان مع الحق كله، حتى قال: «ما ترك لي الحق من صديق». هل تريدون أن تكونوا مع عليّ؟ إن علياً ليس مجرد دمعة، وليس مجرد خفقة قلب أو نبضة شعور، إن علياً هو الحق، فهل تكونون مع الحق لتكونوا مع عليّ... الحق في العقيدة والشريعة والسياسة، وفي كل ما تأخذون به في أوضاعكم الفردية والاجتماعية؟! إن النبي(ص) يقول: «عليّ مع الحق والحق مع عليّ»، ليس هناك مسافة بين عليّ وبين الحق، فمن يعمل الباطل، من يكذب على الناس ويغشهم ويخونهم ويظلمهم في بيته وأمته، لا علاقة له بعليّ، لأن لا علاقة له بالحق.
لذلك، عندما نقف مع ذكرى مولده، فإننا نريد أن نولد بولادته، أن يولد عقلنا من خلال عقله، أن تولد روحنا من خلال روحه، وأن تولد أخلاقنا من خلال أخلاقه. إن علياً ثروة للإسلام كله، فعلينا أن لا نضيِّع هذه الثروة، وعلينا أن نكون معه، فكراً وسلوكاً وقيمةً؛ أن نتوحّد بعليّ، ونرفض كل أولئك الذين يريدون أن يفتنوا بين أهل عليّ وشيعته باسم عليّ.
رفض الغلوّ في علي:
لقد بلغ عليّ من العظمة أن هناك أناساً غلوا فيه وصعدوا به إلى موقع الربوبية، ورفضهم عليّ رفضاً كاملاً، لأن علياً كان يتواضع لله: «فكيف بي وأنا عبدك الحقير المسكين المستكين»،. كان يتواضع لله ويسجد على التراب، حتى سمّاه رسول الله "أبا تراب". وهناك الآن بعض الناس في إيران والعراق ولبنان، بدأوا يتحرّكون ببعض ألوان الغلوّ، حتى إن بعضهم غلا بشكل غير معقول، فهناك من يتحدث أن الزهراء أفضل من رسول الله وأفضل من عليّ، لأنهم يروون رواية ضعيفة لا قيمة لها: «... لولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما». إنّ عظمة فاطمة أنها تربت عند رسول الله، وعظمتها أنها عاشت مع عليّ في حضن رسول الله، وعظمة عليّ أنه تلميذ رسول الله.
لذلك، إنّ رسول الله(ص) هو القمة، هو الأستاذ، هو الرسول، وقيمة عليّ وفاطمة أنهما تلمّذا عليه، وأخذا خلقهما من خلقه، وعقلهما من عقله. إن عليكم أن تبتعدوا عن كل هؤلاء الذين وصلوا إلى درجة الغلوّ. إن موالاتنا لأهل البيت(ع) هي أن نوالي الإسلام ونطيع الله ورسوله، وأن نعمل على أساس الإسلام كله، وذكرى مولد عليّ(ع) هي أن نخلص للإسلام، وأن نحفظه من كل الذين يكيدون له ويُضعفونه، ومن كل الذين يتحدّونه في الداخل والخارج.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالوحدة، فإننا بالوحدة نقوى ونواجه الذين يريدون أن يسقطوا الواقع الإسلامي كله، في اقتصاده وسياسته وأمنه وحرياته. لنكن صفاً واحداً، ولا سيما أننا نعيش في عالم إسلامي ينطلق فيه المستكبرون من أجل أن يُضعفوه ويسقطوه ويعبثوا به ويمزّقوه، ويحوّلوا كل أهله إلى مزق متناثرة، فتعالوا نعرف ماذا هناك، حتى نتحرك في مواجهة كل التحديات الكبرى.
القضية الفلسطينية: سقوط العنوان الإسلامي:
في المشهد الفلسطيني ذكرى وحدث: أما الذكرى، فهي مناسبة مرور 36 عاماً على إحراق المسجد الأقصى من قِبَل الصهاينة الذين يخططون لبناء الهيكل على أنقاضه، أو لشراكة اليهود فيه، من خلال إيجاد بعض الظروف الملائمة لذلك، وعلى هامش ذلك الحريق، تأسست "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي تضم دول المسلمين التي تداعت حينها لنصرة المسجد، ولكنها لم تمارس أي ضغط من أيّ جانب على الدولة الصهيونية وعلى السياسة الأمريكية لتأكيد موقع المسجد كقاعدة إسلامية ترتبط بالمسلمين جميعاً من جميع النواحي، بل إن التطورات السياسية، جعلت بعض هذه الدول تصالح العدوّ وتعترف به واقعياً، ما يوحي بأن الضعف السياسي بدأ يُسقط كل مواقفها القوية الضاغطة، لخضوعها للضغط الأمريكي على أنظمتها لحساب إسرائيل.
وإلى جانب هذه المنظمة، تأسست "لجنة القدس" بهدف حماية القدس من التهويد والإلحاق بالدولة العبرية، ولكنها وُلدت ميتةً أمام خطة التهويد التي تعمل على ابتلاع القدس كلها، وتهدد المسجد الأقصى بالاجتياحات اليهودية بين وقت وآخر، من دون أن تتحرّك هذه اللّجنة حتى على المستوى الإعلامي!!
إن المشكلة هي سقوط العنوان الإسلامي للقضية الفلسطينية على مستوى دول المسلمين التي بدأت تلهث وراء الوعود الأمريكية ـ الإسرائيلية، التي تعمل على تجويف القضية من الداخل، وتصادر حركة الشعوب في احتجاجاتها على العدوّ، بالعنف المتأتي من قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات، التي أريد لها أن تتحرّك لقمع الشعوب ومصادرة حرّياتها، لا لمواجهة العدوّ في أخطاره الاحتلالية السياسية.
مشروع شارون: مصادرة الشعب الفلسطيني:
أما الحدث، فهو انسحاب العدو من غزة الذي هلّل لـه الغرب واعتبره تضحية كبرى من إسرائيل، تماماً كما لو كانت الأرض الفلسطينية أرضاً يهودية تصدّق بها شارون على الشعب الفلسطيني، لا أرضاً مغتصبة احتلها اليهود بدعم من الغرب الأمريكي والأوروبي، وبما يتناقض مع القانون الدولي. حتى إننا نتابع تصريحات المسؤولين الغربيين، فلا نرى إلا التباكي على المستوطنين الذين اغتصبوا أرض فلسطين، في مفردات الإعلام الذي يحوّل المجرم إلى ضحية، بينما ينسى كلّ دماء الضحية ومآسيها، من ممارسات المجرم المتمثّل بإسرائيل، ومعها كلّ الدول التي ساعدتها في جريمتها.
إن هذا الانسحاب يمثل توسعة للسجن الذي أحاط بغزَّة، لأن إسرائيل تضرب طوقاً على المعابر والمطار والمرفأ وعلى ما يحيط بغزة، ما يمنع الشعب الفلسطيني من أن يمارس حريته في الحركة، إلا بالمستوى الذي يمارسها السجين في داخل السجن، ولا سيما أن شارون يبشّر العالم بأنه سوف يقوم بتوسيع الاستيطان في الضفة، ويكمل الجدار العنصري الذي يخنق الأرض الفلسطينية وشعبها، ويرفض الانسحاب من الكتل الاستيطانية الكبرى، ويمنع عودة اللاجئين وعودة القدس إلى أهلها، الأمر الذي يعني أنَّ مشروع خارطة الطَّريق تحوّل إلى جثة سياسية تبحث اللّجنة الرباعية الدولية في تهيئة الظروف لدفنها، لأن الشروط الإسرائيلية التي وقّع عليها الرئيس بوش، لا تسمح بدولة فلسطينية قابلة للحياة، لأنها مجرد كيان مقطّع الأوصال، لا يسمح للفلسطينيين بالتواصل والتكامل.
إنَّ مشروع شارون هو مصادرة الشعب الفلسطيني وقتله اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وباستغلال الضعف العربي الخاضع للضغوط الأمريكية، لفرض الأمر الواقع، والاستفادة من الأنظمة البوليسية التي تقمع شعوبها لمصلحة الصلح مع العدو سراً وعلانية.
إننا نؤكِّد أن الانسحاب من غزة لم يحصل إلا تحت ضغط المقاومة ـ الانتفاضة ووحدة الشعب الفلسطيني، ولذلك، فإننا ندعو الجميع إلى التخطيط للمستقبل لتركيز وحدة الموقف، وتحريك الانتفاضة نحو ساحة الضفة الغربية، وعنوانها القدس، لتوسيع المأزق للعدو ومحاصرة أمنه، لأن من الصعب جداً أن ينسحب العدو بالسياسة التقليدية، ولا سيّما أن احتلاله للضفة الغربية والقدس يمثِّل جذر العقيدة اليهودية الصهيونية التوراتية، الأمر الذي يدخل في تكوين الوجدان اليهودي من جهة، وذهنية المحافظين الجدد من جهة أخرى.
إنَّ المطلوب هو الوحدة في التنوّع، التي يتوزَّع فيها الجميع الأدوار في تنسيقٍ بين السّلطة والفصائل، إذا كان القائمون على السلطة جادّين في البقاء على الاستراتيجية في الدولة الفلسطينية، التي تضم إلى جانب غزَّة، الضفة والقدس كعاصمةٍ لفلسطين، ليتكامل الجميع في الوصول إلى الهدف الأقصى في حماية المسجد الأقصى، الذي هو رمزُ فلسطين كلِّها.
العراق: موطن المجازر المتنقّلة:
أما العراق، فقد أُريد لـه أن يكون مشهداً دموياً مستمراً أمام المنطقة كلها، ليُهدر دمه في كل الاتجاهات، ولتنتهك فيه الحرمات، وتستباح فيه الأنفس لحساب الاحتلال، الذي يسعى إلى مصادرة العراق، والذي يسرق، من خلال شركاته وعملائه ومسؤوليه، ثروته بأكثر من مشروع وهمي ولعبة اقتصادية، هذا إضافةً إلى الجماعات التكفيرية التي تدمن قتل المدنيين من المسلمين، ولا تفرّق بين شيخ وعجوز وطفل وموقع مدني وآخر غير مدني، حتى أضحى العراق موطن المجازر اليومية المتنقّلة، ولن تكون مجزرة بغداد الأخيرة هي آخر المطاف، لأن الذين يمتصون دماء الأبرياء، لا يزالون في حالة ظمأ حاقد محرق لهذا الشراب.
لقد ذكرت إحدى الصحف البريطانية أن مشرحة بغداد استقبلت خلال شهر تموز الفائت 1100 جثة، كما أن المستشفيات استقبلت آلاف الجرحى، وهو الرقم الذي يتكرر تقريباً كل شهر، وليس هناك في العالم من يصرخ في وجه الاحتلال ليقول لـه: إنك المسؤول عن كل أنهار الدماء هذه.
الفدرالية: تمزيق للعراق:
إننا في الوقت الذي يستعدُّ العراقيون لكتابة الدستور، نريد لهم أن يبقى هذا البلد الإسلامي إسلامياً في دستوره وعنوانه، لأن ذلك هو الذي يصل حاضر العراق بماضيه كقاعدة تاريخية للعالم الإسلامي كلّه، وكمنطلق لمستقبل الإسلام. كما نريده منفتحاً على وحدته التاريخية، التي إذا أُريد لها أن تمنح بعض التوازن في ممارسة كل منطقة لأوضاعها وحقوقها، فإن عليها أن تأخذ باللامركزية الإدارية مع بعض التوسعة في هذا المشروع، لأننا نخشى من أن تؤدي الفدرالية التي يتحدث بعض الداعين إليها عن تقرير المصير بالانفصال المستقبلي، إلى تمزيق العراق إلى دويلات عرقية وطائفية لا تملك أيّة قوة في أي موقع من مواقعها.
كما نريد للعراقيين، ولا سيما السنّة والشيعة، أن يلجأوا إلى الحوار الإسلامي الموضوعي العقلاني، ليجدوا أساس الوحدة التي تحفظ للجميع حقوقهم، بعيداً عن حركة اللعبة الدولية التي تدير الصراع لمصالحها لا لمصالح الشعب العراقي، وندعو الجميع إلى الدفاع عن بعضهم البعض، لأنه لن يربح أحد من كلِّ هذه المجازر التي قد تلبس لبوساً طائفياً، إلا الاحتلال وربيبته الصهيونية.
لبنان: بين دوّامة الخارج وفوضى الداخل:
أما لبنان، فلا يزال الخط الدولي يشغله في دوّامة القرار 1559 والقرار 1614، لإرباك الواقع الداخلي، وخلق بعض الأوضاع الجدلية التي تبتعد بالقائمين عليه عن دراسة القضايا الحيوية المرتبطة بالمشاكل المعيشية، ولا سيما في استقبال السنة الدراسية القادمة التي تفترس الآباء والأمّهات في أقساط المدارس وتكاليفها، ما يعجز الأكثرون عن تغطيتها، وخصوصاً مع البطالة التي تجتاح البلد كله، هذا إلى جانب عودة المشاكل على مستوى حصص الشخصيات والطوائف في مسألة التعيينات، ولا سيّما الأمنية التي يتوقف عليها أمن البلد، الّذي هو في حاجة إلى تعيين رؤساء الأجهزة الذين يديرون المسألة الأمنية، للخروج من واقع الفراغ الأمني الذي يهدد الواقع كله من شياطين الداخل والخارج، هذا إضافةً إلى الأجهزة القضائية التي نريدها أن تتحرك بنـزاهة وشفافية في كل الملفات السابقة واللاحقة.