القيمة الإسلامية الكبرى: الصدق في الكلمة والموقف والوعد

القيمة الإسلامية الكبرى: الصدق في الكلمة والموقف والوعد

القيمة الإسلامية الكبرى: الصدق في الكلمة والموقف والوعد

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الصدق من أسس الإيمان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. يؤكد الله سبحانه في هذه الآية الكريمة، أن من أسس الإيمان الصدق؛ الصدق في الكلمة، بأن تكون كلمتك مطابقة للحقيقة، فلا تتكلم بكلمة كاذبة لا تلتقي بالحق في الواقع، لأن الكلمة تعبّر عمّا في نفسك وعمّا تعتقده وتتحرك فيه في حياة الناس، فإذا كنت كاذباً في الكلمة، فأنت تغشّ الناس وتزوّر تصوّراتهم، وتجعلهم يعيشون فكرة غير واقعية.

ثم هناك الصدق في الموقف، بحيث إنك عندما تعطي وعداً مثلاً، فلا بد أن تصدق في وعدك، لأنك إذا لم تصدق في وعدك، فإنك تبتعد بالناس عن كل ما يفرضه الوعد؛ وعدت إنساناً أن تأتي إليه في وقت معيّن، فعندما تتأخر أو لا تأتي، فإنك تعطّل وقته في انتظاره لك، وإذا وعدت إنساناً بأن تعطيه شيئاً أو تقضي له حاجة أو تحقق له هدفاً، فإذا لم يصدق وعدك في ذلك، فإنك تسيء إلى الواقع الذي تمثله هذه الأمور، وترهق روحه، وتجعله يعيش بعض المشاعر السلبية تجاه ما لم تصدق فيه من وعدك، مما كان يعقد عليه الآمال أو يخطط له.

وهناك مسألة أخطر من ذلك، وهي أنك عندما تكون شخصية مسؤولة في المجتمع، بحيث تتصل قضايا المجتمع بما تقرره أو بما تخطط له، لأنك في الموقع القيادي، سواء كان الموقع القيادي دينياً يتصل بحياة الناس في المسؤوليات الدينية، أو كان موقعاً سياسياً يتصل بأوضاع الناس في الحياة السياسية، أو موقعاً أمنياً يتصل بحياة الناس الأمنية، أو الاقتصادية، فإنك عندما تطلق الوعد أو البرنامج، فإن الناس ينجذبون إلى ما تحدثت به، ويعقدون آمالهم عليه، ويرون أن هناك مستقبلاً تصنعه وعودك وخططك وبرامجك في ما تخطط له وتبرمج له، فإذا لم تصدق في وعدك وعهدك وبرنامجك، فإنك بذلك تدمّر آمال الناس، وتقودهم إلى اليأس، وتدفعهم إلى الإحساس بالإحباط، وذلك هو الذي يشارك في الكثير من السلبيات على مستوى حياة الناس.

من نماذج المنافقين

وهذا ما نلاحظه في الكثيرين ممّن يملكون المواقع القيادية، أياً كان حجم ذلك الموقع، فينجذب الناس إليهم من خلال وعودهم، ولكنهم لا يفون بالتزاماتهم. وهذا السلوك يمثل مقتاً عند الله، لأنه تعالى لا يريد لك أن تكذب في كلمتك أو في وعدك وعهدك، أو في مواقفك تجاه الناس، وقد ورد أن من علامات المنافق أنه "إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

ويحدِّثنا الله تعالى عن فريق من الناس في زمان رسول الله(ص)، كانوا يعلنون للنبي(ص) الطاعة لما يأمر به أو ينهى عنه، ولكنهم عندما يخرجون من مجلسه، يبيّتون موقفاً غير الموقف الذي أكّدوه، وكلاماً غير الكلام الذي عاهدوا عليه، يقول تعالى: {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ـ تشاوروا وتآمروا وخططوا وابتعدوا عمّا أعطوه للنبي(ص) من عهد في الالتزام بالطاعة ـ والله يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلاً}.

ويحدثنا تعالى عن المنافقين في عهد رسول الله(ص)، وقد أربكوا المجتمع في ذلك العهد، وخططوا للتحالف مع اليهود، فهم يعلنون الإيمان عندما يأتون إلى الرسول ولكنهم يبطنون الكفر، قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون}.

ويحدثنا سبحانه عن بعض النماذج التي نلتقي بها في الوسط السياسي والاجتماعي، وربما الديني، في الخطوط المنحرفة: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ـ يتحدث بالإصلاح والتغيير، وبكل المواقف والمواقع التي تجعل من الأمة في أعلى الدرجات ـ ويُشهد الله على ما في قلبه ـ أنه صادق ومخلص وأن فعله مطابق لقوله ـ وهو ألدّ الخصام ـ وهو الشخص الذي يعيش الخصومة الشديدة للحق وللناس ـ وإذا تولّى ـ حمله الناس على أكتافهم وهتفوا له وجعلوه القائد الذي يسيرون وراءه ويمنحونه كل تأييدهم بكل الأساليب، كما نفعل كثيراً، وخصوصاً في أوقات الانتخابات النيابية والرئاسية، وحتى في الجمعيات والمنظمات ـ سعى في الأرض ليفسد فيها ـ ليفسد السياسة والأمن والاقتصاد وأخلاق الناس وقيمهم ـ ويهلك الحرث ـ من خلال خططه الزراعية التي تمنع الأرض من أن تنتج، وتعطّل على الناس أعمالهم الزراعية ـ والنسل ـ عندما يثير الفتن وينتج الحروب ـ والله لا يحب الفساد* وإذا قيل له اتق الله ـ يا فلان لقد كنت تحدثنا عن الإصلاح وتشهد الله على ما في قلبك، فاتق الله ـ أخذته العزة بالإثم ـ أنا الذي أعظ الناس لا أنتم، وهذه مسألة يتحدث بها كثيرون من الرموز الدينية والسياسية والاجتماعية المنحرفة، لأنه يعتبر نفسه فوق الموعظة ـ فحسبه جهنم ولبئس المهاد}.

هذه هي القيمة الإسلامية؛ أن تكون الصادق في كلمتك وإيمانك ووعودك وعهودك، والصادق في كل ما تتحرك به في مواقعك المسؤولة والقيادية، والله تعالى يحدثنا عن الرسول(ص)، بأنه {جاء بالصدق وصدّق به}. أن يكون الصدق كل عقلك وقلبك وكلمتك وحياتك، لأن الإنسان الذي ينفتح على الصدق ينفتح على الحق، وعندما ينفتح على الحق فإنه يلتقي بالله: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}. إن علينا أن نعيش في أجواء هذه الآيات الكريمة، حتى يرى الله أننا الصادقون، والله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، في كل مواقع الصدق.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في عباده وبلاده ـ كما قال عليّ(ع) ـ "فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"، "وعليكم صلاح ذات بينكم، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام". إن الله تعالى ورسوله(ص) وأولياءه من أئمة أهل البيت(ع)، يدعوننا إلى أن نأخذ بالعدل ونقف ضد الظلم، وأن نأخذ بأسباب الحق ونرفض الباطل كله، وأن نساعد المستضعفين ونقف ضد المستكبرين، وأن نتحمّل مسؤولياتنا أمام كلّ ما يواجه أمّتنا من محاولات المستكبرين لمصادرة أمننا واقتصادنا وسياستنا وكل ما يتصل بنا، أن لا نعيش اللامبالاة تجاه قضايانا الحيوية، وأن نأخذ بأسباب الوحدة، وأن يعيش كل مسلم الاهتمام بأمور المسلمين، ولا سيّما أنّنا نعيش في هذه الظروف الصعبة الكثير من المشاكل التي تتحدى كل وجودنا وأوضاعنا في كل من المستوى الإسلامي والعربي والوطني، ولذلك لا بد لنا أن نعرف ماذا هناك، لنعالج ذلك كله بالخطة والبرنامج القويّ المدروس والإرادة الحرة.

مؤتمر صنعاء: استجابة للدّعوات الأمريكية

منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقدة في صنعاء (على مستوى وزراء الخارجية) تتحدث عن "الاعتدال الإسلامي المستنير"، وترويج "الخطاب الإسلامي المعتدل"، إضافة إلى "تعزيز الديمقراطية" في الدول الإسلامية، مروراً بالحديث عن التحديات التي تواجهها الأمة في فلسطين والعراق وغيرهما.

إننا نلاحظ في مثل هذه اللغة استجابةً للدعوات الأمريكية الاستكبارية التي تتضمن ابتزازاً للمسلمين في الابتعاد عن المنطق الذي يقف ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، في الوقت الذي ترفع إسرائيل خطابها التهديدي للفلسطينيين المتمثّل في احتقار السلطة الفلسطينية، كما تجلّى في اجتماع شارون ـ عباس، الذي تحدث فيه شارون بطريقة استعلائية، ثم في الاستمرار في عملية الاغتيالات والاعتقالات والحصار الذي يحجز الشعب الفلسطيني في كل مواقعه، ويمنعه من التحرك بحرية، الأمر الذي يفرض على المسلمين جميعاً أن يواجهوا هذا الواقع بموقف متشدد رادع، تشعر فيه إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ بأن سلوكها التهديدي الاستيطاني التدميري سوف يكلّفها الكثير من مصالحها.

ثم إن الحديث عن سلطة الشعب وعن حرياته لا ينبغي أن يبقى مجرد قرارات إنشائية، بل لا بد من أن يتمثّل في إلغاء قوانين الطوارئ وسيطرة المخابرات، والانفتاح على حاجات الشعب العامة، بعيداً عن الخطط الأمريكية في استغلال عنوان "الحرب ضد الإرهاب" لملاحقة كل الأحرار الذين يطالبون بتحرير البلاد من حالة الخضوع لأمريكا، التي تعمل على إسقاط مصالح الأمة لحساب المصالح الأمريكية.

إن المشكلة تكمن في أن منظمة المؤتمر الإسلامي قد تحررت من اعتبار القضية الفلسطينية قضية إسلامية شاملة، لتعود مجرد قضية إقليمية تخص الفلسطينيين وحدهم، من دون أن يتحمّل المسلمون مسؤوليتهم عنها. ولعل من اللافت أن أمريكا ـ بوش تدرس منح إسرائيل مليار دولار كمساعدة مالية بعد الانسحاب من غزّة بهدف "تنمية صحراء النقب ومنطقة الجليل"، بينما لم تقدّم دول المنظمة أية مساعدة للفلسطينيين لتنمية مواردهم ومواقعهم التي دمّرها اليهود، في الوقت الذي يملكون الثروات البترولية الهائلة التي هي ثروة الأمة كلها.

الاحتلال الأمريكي: الغرق في الرمال العراقية

أما العراق، فلا يزال يخضع للاحتلال الأمريكي الذي يتحدث معه "بوش" عن إقامة طويلة فيه من دون تحديد جدول زمني، بزعمه أن بقاء الاحتلال يمثّل حماية لأمريكا، تماماً كما كان حديثه في بداية الحرب بأن حرب العراق هي من أجل "إبعاد الخطر عن بلاده بفعل أسلحة الدمار الشامل"، وهي الكذبة الكبرى التي بررت الحرب على العراق، في الوقت الذي كان يعرف أنّ العراق لا يمتلك هذه الأسلحة، وأن نظامه لا يشكّل خطراً على أمريكا، بل كان خطراً على شعبه.

إن مشكلة العالم مع الرئيس الأمريكي أنه يكذب في سياسته على العالم وعلى الرأي العام الأمريكي الذي بدأ يكتشف أخيراً من خلال أعداد القتلى والجرحى من الجنود الأمريكيين، أن أمريكا قد غرقت في الرمال العراقية المتحركة، في الوقت الذي لم تستطع هذه الإدارة الأمريكية أن تحقق للعراق أمناً، بل إن الشعب العراقي يغرق في بحر من الدماء، ويتحرك في ساحة واسعة من الفوضى الأمنية، إضافة إلى أن الخدمات الحياتية لم تتحقق له، وأن إعمار العراق لم يبدأ، وأن الديمقراطية لا تزال تحت تأثير الضغط الأمريكي بالرغم من مرور سنة على تسلّم العراقيين للسلطة شكلياً!!

إن أمريكا خلقت للعراقيين أكثر من مشكلة أمنية واقتصادية وحياتية بعد سقوط النظام الطاغي، الذي كان في جذوره التاريخية صنيعة أمريكية فُرضت على الشعب العراقي، وهذا هو الذي يدفعنا ويفرض على العرب والمسلمين والأحرار في العالم رفع الصوت عالياً بزوال الاحتلال، ليتسلّم العراقيون، بمساعدة الأمم المتحدة، مصيرهم بأنفسهم.

ومن جانب آخر، فإننا نتابع الحديث الأمريكي السلبي عن الانتخابات الإيرانية، التي انطلق فيها الشعب الإيراني ليؤكد إرادته في اختيار رئاسته بكل حرية وقوة، بعيداً عن أية ضغوط خارجية. ولكن أمريكا التي تتحدث دائماً عن الديمقراطية، ليست مستعدة لقبول الاستفتاء الشعبي الحرّ إذا لم يكن في مصلحة سياستها الاستكبارية، ولا سيما إذا كان الشعب يرفض خضوعه لها، كما في إيران.

لبنان: دعم المقاومة ومحاسبة المفسدين

وفي لبنان، تتحرك الاعتداءات الإسرائيلية في الجو والبرّ بين وقت وآخر، وهذا ما يؤكد أن إسرائيل لا تزال خطراً على لبنان في ألاعيبها المتحركة في التسلل عبر الحدود من جهة، وفي الاختراقات الجوية من جهة أخرى. وقد أثبتت المقاومة الإسلامية أنها في مستوى التصدي والممانعة للعدو، وأنها هي القوّة الرادعة لعدوانه، في الخطة المدروسة التي تكتفي بردّ العدوان من دون ابتعاد عن دراسة الأوضاع الداخلية والخارجية على المستوى السياسي، وهذا ما ينبغي أن يعرفه النادي السياسي المعقَّد من المقاومة إذا كان مخلصاً للحرية والسيادة والاستقلال.

ومن ناحية أخرى، فإن على المجلس النيابي الجديد الذي تتنوّع تكتلاته في خطوطها السياسية التفصيلية، أن يخلص لعناوين الإصلاح والتغيير التي استهلكها الكثيرون في شعاراتهم الانتخابية، ليدخل البلد عصر المؤسسة، ويخرج من كهوف الأشخاص، سواء على المستوى الرسمي أو السياسي، لتكون المؤسسة هي عنوانه لا الشخص مهما كَبُر حجمه، ولتتحدد علاقات لبنان الخارجية على المستوى الإقليمي أو الدولي، فلا يستبدل وصاية بوصاية، وليكون القرار لبنانياً لا أمريكياً ولا أوروبياً من خلال الضغوط التي قد تُظهر مظهر النصائح والوصايا الوديّة.

إن التحدي كبير لكل الذين يملكون القرار في لبنان، من أجل إنتاج لبنان الذي يعرف كيف يحاسب المفسدين والهادرين والمنحرفين، والذين باعوا بلادهم للشيطان القريب والبعيد.

القيمة الإسلامية الكبرى: الصدق في الكلمة والموقف والوعد

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الصدق من أسس الإيمان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. يؤكد الله سبحانه في هذه الآية الكريمة، أن من أسس الإيمان الصدق؛ الصدق في الكلمة، بأن تكون كلمتك مطابقة للحقيقة، فلا تتكلم بكلمة كاذبة لا تلتقي بالحق في الواقع، لأن الكلمة تعبّر عمّا في نفسك وعمّا تعتقده وتتحرك فيه في حياة الناس، فإذا كنت كاذباً في الكلمة، فأنت تغشّ الناس وتزوّر تصوّراتهم، وتجعلهم يعيشون فكرة غير واقعية.

ثم هناك الصدق في الموقف، بحيث إنك عندما تعطي وعداً مثلاً، فلا بد أن تصدق في وعدك، لأنك إذا لم تصدق في وعدك، فإنك تبتعد بالناس عن كل ما يفرضه الوعد؛ وعدت إنساناً أن تأتي إليه في وقت معيّن، فعندما تتأخر أو لا تأتي، فإنك تعطّل وقته في انتظاره لك، وإذا وعدت إنساناً بأن تعطيه شيئاً أو تقضي له حاجة أو تحقق له هدفاً، فإذا لم يصدق وعدك في ذلك، فإنك تسيء إلى الواقع الذي تمثله هذه الأمور، وترهق روحه، وتجعله يعيش بعض المشاعر السلبية تجاه ما لم تصدق فيه من وعدك، مما كان يعقد عليه الآمال أو يخطط له.

وهناك مسألة أخطر من ذلك، وهي أنك عندما تكون شخصية مسؤولة في المجتمع، بحيث تتصل قضايا المجتمع بما تقرره أو بما تخطط له، لأنك في الموقع القيادي، سواء كان الموقع القيادي دينياً يتصل بحياة الناس في المسؤوليات الدينية، أو كان موقعاً سياسياً يتصل بأوضاع الناس في الحياة السياسية، أو موقعاً أمنياً يتصل بحياة الناس الأمنية، أو الاقتصادية، فإنك عندما تطلق الوعد أو البرنامج، فإن الناس ينجذبون إلى ما تحدثت به، ويعقدون آمالهم عليه، ويرون أن هناك مستقبلاً تصنعه وعودك وخططك وبرامجك في ما تخطط له وتبرمج له، فإذا لم تصدق في وعدك وعهدك وبرنامجك، فإنك بذلك تدمّر آمال الناس، وتقودهم إلى اليأس، وتدفعهم إلى الإحساس بالإحباط، وذلك هو الذي يشارك في الكثير من السلبيات على مستوى حياة الناس.

من نماذج المنافقين

وهذا ما نلاحظه في الكثيرين ممّن يملكون المواقع القيادية، أياً كان حجم ذلك الموقع، فينجذب الناس إليهم من خلال وعودهم، ولكنهم لا يفون بالتزاماتهم. وهذا السلوك يمثل مقتاً عند الله، لأنه تعالى لا يريد لك أن تكذب في كلمتك أو في وعدك وعهدك، أو في مواقفك تجاه الناس، وقد ورد أن من علامات المنافق أنه "إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

ويحدِّثنا الله تعالى عن فريق من الناس في زمان رسول الله(ص)، كانوا يعلنون للنبي(ص) الطاعة لما يأمر به أو ينهى عنه، ولكنهم عندما يخرجون من مجلسه، يبيّتون موقفاً غير الموقف الذي أكّدوه، وكلاماً غير الكلام الذي عاهدوا عليه، يقول تعالى: {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ـ تشاوروا وتآمروا وخططوا وابتعدوا عمّا أعطوه للنبي(ص) من عهد في الالتزام بالطاعة ـ والله يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلاً}.

ويحدثنا تعالى عن المنافقين في عهد رسول الله(ص)، وقد أربكوا المجتمع في ذلك العهد، وخططوا للتحالف مع اليهود، فهم يعلنون الإيمان عندما يأتون إلى الرسول ولكنهم يبطنون الكفر، قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون}.

ويحدثنا سبحانه عن بعض النماذج التي نلتقي بها في الوسط السياسي والاجتماعي، وربما الديني، في الخطوط المنحرفة: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ـ يتحدث بالإصلاح والتغيير، وبكل المواقف والمواقع التي تجعل من الأمة في أعلى الدرجات ـ ويُشهد الله على ما في قلبه ـ أنه صادق ومخلص وأن فعله مطابق لقوله ـ وهو ألدّ الخصام ـ وهو الشخص الذي يعيش الخصومة الشديدة للحق وللناس ـ وإذا تولّى ـ حمله الناس على أكتافهم وهتفوا له وجعلوه القائد الذي يسيرون وراءه ويمنحونه كل تأييدهم بكل الأساليب، كما نفعل كثيراً، وخصوصاً في أوقات الانتخابات النيابية والرئاسية، وحتى في الجمعيات والمنظمات ـ سعى في الأرض ليفسد فيها ـ ليفسد السياسة والأمن والاقتصاد وأخلاق الناس وقيمهم ـ ويهلك الحرث ـ من خلال خططه الزراعية التي تمنع الأرض من أن تنتج، وتعطّل على الناس أعمالهم الزراعية ـ والنسل ـ عندما يثير الفتن وينتج الحروب ـ والله لا يحب الفساد* وإذا قيل له اتق الله ـ يا فلان لقد كنت تحدثنا عن الإصلاح وتشهد الله على ما في قلبك، فاتق الله ـ أخذته العزة بالإثم ـ أنا الذي أعظ الناس لا أنتم، وهذه مسألة يتحدث بها كثيرون من الرموز الدينية والسياسية والاجتماعية المنحرفة، لأنه يعتبر نفسه فوق الموعظة ـ فحسبه جهنم ولبئس المهاد}.

هذه هي القيمة الإسلامية؛ أن تكون الصادق في كلمتك وإيمانك ووعودك وعهودك، والصادق في كل ما تتحرك به في مواقعك المسؤولة والقيادية، والله تعالى يحدثنا عن الرسول(ص)، بأنه {جاء بالصدق وصدّق به}. أن يكون الصدق كل عقلك وقلبك وكلمتك وحياتك، لأن الإنسان الذي ينفتح على الصدق ينفتح على الحق، وعندما ينفتح على الحق فإنه يلتقي بالله: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}. إن علينا أن نعيش في أجواء هذه الآيات الكريمة، حتى يرى الله أننا الصادقون، والله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، في كل مواقع الصدق.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في عباده وبلاده ـ كما قال عليّ(ع) ـ "فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"، "وعليكم صلاح ذات بينكم، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام". إن الله تعالى ورسوله(ص) وأولياءه من أئمة أهل البيت(ع)، يدعوننا إلى أن نأخذ بالعدل ونقف ضد الظلم، وأن نأخذ بأسباب الحق ونرفض الباطل كله، وأن نساعد المستضعفين ونقف ضد المستكبرين، وأن نتحمّل مسؤولياتنا أمام كلّ ما يواجه أمّتنا من محاولات المستكبرين لمصادرة أمننا واقتصادنا وسياستنا وكل ما يتصل بنا، أن لا نعيش اللامبالاة تجاه قضايانا الحيوية، وأن نأخذ بأسباب الوحدة، وأن يعيش كل مسلم الاهتمام بأمور المسلمين، ولا سيّما أنّنا نعيش في هذه الظروف الصعبة الكثير من المشاكل التي تتحدى كل وجودنا وأوضاعنا في كل من المستوى الإسلامي والعربي والوطني، ولذلك لا بد لنا أن نعرف ماذا هناك، لنعالج ذلك كله بالخطة والبرنامج القويّ المدروس والإرادة الحرة.

مؤتمر صنعاء: استجابة للدّعوات الأمريكية

منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقدة في صنعاء (على مستوى وزراء الخارجية) تتحدث عن "الاعتدال الإسلامي المستنير"، وترويج "الخطاب الإسلامي المعتدل"، إضافة إلى "تعزيز الديمقراطية" في الدول الإسلامية، مروراً بالحديث عن التحديات التي تواجهها الأمة في فلسطين والعراق وغيرهما.

إننا نلاحظ في مثل هذه اللغة استجابةً للدعوات الأمريكية الاستكبارية التي تتضمن ابتزازاً للمسلمين في الابتعاد عن المنطق الذي يقف ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، في الوقت الذي ترفع إسرائيل خطابها التهديدي للفلسطينيين المتمثّل في احتقار السلطة الفلسطينية، كما تجلّى في اجتماع شارون ـ عباس، الذي تحدث فيه شارون بطريقة استعلائية، ثم في الاستمرار في عملية الاغتيالات والاعتقالات والحصار الذي يحجز الشعب الفلسطيني في كل مواقعه، ويمنعه من التحرك بحرية، الأمر الذي يفرض على المسلمين جميعاً أن يواجهوا هذا الواقع بموقف متشدد رادع، تشعر فيه إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ بأن سلوكها التهديدي الاستيطاني التدميري سوف يكلّفها الكثير من مصالحها.

ثم إن الحديث عن سلطة الشعب وعن حرياته لا ينبغي أن يبقى مجرد قرارات إنشائية، بل لا بد من أن يتمثّل في إلغاء قوانين الطوارئ وسيطرة المخابرات، والانفتاح على حاجات الشعب العامة، بعيداً عن الخطط الأمريكية في استغلال عنوان "الحرب ضد الإرهاب" لملاحقة كل الأحرار الذين يطالبون بتحرير البلاد من حالة الخضوع لأمريكا، التي تعمل على إسقاط مصالح الأمة لحساب المصالح الأمريكية.

إن المشكلة تكمن في أن منظمة المؤتمر الإسلامي قد تحررت من اعتبار القضية الفلسطينية قضية إسلامية شاملة، لتعود مجرد قضية إقليمية تخص الفلسطينيين وحدهم، من دون أن يتحمّل المسلمون مسؤوليتهم عنها. ولعل من اللافت أن أمريكا ـ بوش تدرس منح إسرائيل مليار دولار كمساعدة مالية بعد الانسحاب من غزّة بهدف "تنمية صحراء النقب ومنطقة الجليل"، بينما لم تقدّم دول المنظمة أية مساعدة للفلسطينيين لتنمية مواردهم ومواقعهم التي دمّرها اليهود، في الوقت الذي يملكون الثروات البترولية الهائلة التي هي ثروة الأمة كلها.

الاحتلال الأمريكي: الغرق في الرمال العراقية

أما العراق، فلا يزال يخضع للاحتلال الأمريكي الذي يتحدث معه "بوش" عن إقامة طويلة فيه من دون تحديد جدول زمني، بزعمه أن بقاء الاحتلال يمثّل حماية لأمريكا، تماماً كما كان حديثه في بداية الحرب بأن حرب العراق هي من أجل "إبعاد الخطر عن بلاده بفعل أسلحة الدمار الشامل"، وهي الكذبة الكبرى التي بررت الحرب على العراق، في الوقت الذي كان يعرف أنّ العراق لا يمتلك هذه الأسلحة، وأن نظامه لا يشكّل خطراً على أمريكا، بل كان خطراً على شعبه.

إن مشكلة العالم مع الرئيس الأمريكي أنه يكذب في سياسته على العالم وعلى الرأي العام الأمريكي الذي بدأ يكتشف أخيراً من خلال أعداد القتلى والجرحى من الجنود الأمريكيين، أن أمريكا قد غرقت في الرمال العراقية المتحركة، في الوقت الذي لم تستطع هذه الإدارة الأمريكية أن تحقق للعراق أمناً، بل إن الشعب العراقي يغرق في بحر من الدماء، ويتحرك في ساحة واسعة من الفوضى الأمنية، إضافة إلى أن الخدمات الحياتية لم تتحقق له، وأن إعمار العراق لم يبدأ، وأن الديمقراطية لا تزال تحت تأثير الضغط الأمريكي بالرغم من مرور سنة على تسلّم العراقيين للسلطة شكلياً!!

إن أمريكا خلقت للعراقيين أكثر من مشكلة أمنية واقتصادية وحياتية بعد سقوط النظام الطاغي، الذي كان في جذوره التاريخية صنيعة أمريكية فُرضت على الشعب العراقي، وهذا هو الذي يدفعنا ويفرض على العرب والمسلمين والأحرار في العالم رفع الصوت عالياً بزوال الاحتلال، ليتسلّم العراقيون، بمساعدة الأمم المتحدة، مصيرهم بأنفسهم.

ومن جانب آخر، فإننا نتابع الحديث الأمريكي السلبي عن الانتخابات الإيرانية، التي انطلق فيها الشعب الإيراني ليؤكد إرادته في اختيار رئاسته بكل حرية وقوة، بعيداً عن أية ضغوط خارجية. ولكن أمريكا التي تتحدث دائماً عن الديمقراطية، ليست مستعدة لقبول الاستفتاء الشعبي الحرّ إذا لم يكن في مصلحة سياستها الاستكبارية، ولا سيما إذا كان الشعب يرفض خضوعه لها، كما في إيران.

لبنان: دعم المقاومة ومحاسبة المفسدين

وفي لبنان، تتحرك الاعتداءات الإسرائيلية في الجو والبرّ بين وقت وآخر، وهذا ما يؤكد أن إسرائيل لا تزال خطراً على لبنان في ألاعيبها المتحركة في التسلل عبر الحدود من جهة، وفي الاختراقات الجوية من جهة أخرى. وقد أثبتت المقاومة الإسلامية أنها في مستوى التصدي والممانعة للعدو، وأنها هي القوّة الرادعة لعدوانه، في الخطة المدروسة التي تكتفي بردّ العدوان من دون ابتعاد عن دراسة الأوضاع الداخلية والخارجية على المستوى السياسي، وهذا ما ينبغي أن يعرفه النادي السياسي المعقَّد من المقاومة إذا كان مخلصاً للحرية والسيادة والاستقلال.

ومن ناحية أخرى، فإن على المجلس النيابي الجديد الذي تتنوّع تكتلاته في خطوطها السياسية التفصيلية، أن يخلص لعناوين الإصلاح والتغيير التي استهلكها الكثيرون في شعاراتهم الانتخابية، ليدخل البلد عصر المؤسسة، ويخرج من كهوف الأشخاص، سواء على المستوى الرسمي أو السياسي، لتكون المؤسسة هي عنوانه لا الشخص مهما كَبُر حجمه، ولتتحدد علاقات لبنان الخارجية على المستوى الإقليمي أو الدولي، فلا يستبدل وصاية بوصاية، وليكون القرار لبنانياً لا أمريكياً ولا أوروبياً من خلال الضغوط التي قد تُظهر مظهر النصائح والوصايا الوديّة.

إن التحدي كبير لكل الذين يملكون القرار في لبنان، من أجل إنتاج لبنان الذي يعرف كيف يحاسب المفسدين والهادرين والمنحرفين، والذين باعوا بلادهم للشيطان القريب والبعيد.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية