لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً

لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً

لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الحرية تأكيد لإنسانية الإنسان

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع): "أيها الناس، إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار"، "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"،  "لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك الله حراً".

يريد الإمام عليّ(ع) من خلال هذه الكلمات، أن يؤكد عنصر الحرية في الإنسان، بحيث لا يستعبد الإنسان نفسه؛ لا يستعبد فكره لفكر آخر، ولا يستعبد موقفه وحياته لشخص آخر أو لجهة أخرى.

 أن تملك حريتك، بأن يكون فكرك منطلقاً من حركة عقلك في ما تقبله وفي ما ترفضه، وأن يكون موقفك من خلال اقتناعك بأنه الموقف الحق، وهكذا أن تكون إرادتك منطلقة من التزامك بأن ما تريده هو الصلاح في دنياك وفي آخرتك، فلا تسقط أمام أطماعك.

وهذه المسألة هي التي تؤكد للإنسان إنسانيته، لأنك عندما تخضع لغيرك، فإن معنى ذلك أنك لا تعيش ذاتك، فهو الذي يريد وأنت تخضع، وهو الذي يفرض عليك موقفك أو انتماءك وأنت تخشع له، إن معنى ذلك أنك لا تعيش إنسانيتك في ما خلقها الله وفي ما أرادها سبحانه وتعالى.

وعلى ضوء هذا، فلا بد للإنسان الذي يحترم نفسه وحريته، أن يدرس كل شيء يتصل بحياته ومصيره، وكل شيء يتصل بعبادته لربِّه. إن كلمة التوحيد تعني خطين: خطاً في العبودية وخطاً في الحرية، فأنت عندما تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فكأنك تقول إن الله وحده هو السيد والإله وأنا العبد له، فأنا عبد لله وحده وسيد أمام الكون كله، ولذلك فإن أيّ إنسان يخضع لأيّ إنسان في كل أوضاعه الفكرية والحياتية، فإنه يستعبد نفسه لهذا الإنسان، والتوحيد هو أن تكون عبداً لله وحده، ليس هناك إله في كل الكون إلا الله تعالى، فهو تعالى الإله والسيد، وأنا أمثل سيادة إنسانيتي أمام كل الذين يفرضون أنفسهم على الناس، ولا أخضع إلا لسيادة الله.

ولذلك فإن مسألة الحرية هي مسألة تتصل بمسألة التوحيد، ومسألة الحرية هي مسألة تنطلق من الصبر، فقد يفرض عليك الآخرون أن تخضع لهم وأن تسقط أمامهم، لأنك إذا لم تخضع لهم فسوف تعاني بعض الآلام، وإذا لم تسقط فسوف تعاني بعض المشاكل، ولذلك فإنك قد تُسقط حريتك أمام الآخرين حتى لا تتألم، ولكنّ الحرية تقول لك: إن عليك أن تصبر على الآلام عندما يُراد لك أن تستعبدك حاجاتك أو آلامك.. إصبِرْ و تحمّل، وكن حراً، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع) عندما أرادوا منه في كربلاء أن يخضع ليزيد وابن زياد، وأن ينزل على حكم يزيد ، فقال(ع): "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العيد"، إني أملك حرية قراري ورفضي لكل ما يمثله يزيد وابن زياد، حرية أن أبقى مع الحق وأبتعد عن الباطل، حرية أن أواجه مسؤوليتي من أجل صلاح الناس وتغيير الواقع الفاسد والحاكم الجائر. وقال(ع): "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون". وهكذا نجد أن الإمام الحسين(ع) في تأكيده مسألة الحرية خاطب جيش يزيد عندما حاول أن يهجم على مخيماته، فقال(ع): "يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون"، فلا يستعبدكم يزيد، ولا تستعبدنّكم أطماعكم التي يلوّح بها ابن زياد لكم.

الحرية تساوي العزّة

وعندما ندرس العزّة في القرآن الكريم، نجد أنها تساوي الحرية، فمعنى أن تكون عزيزاً أن لا تسقط أمام الذين يريدون إذلالك وإسقاطك. وفي رواية عن الإمام عليّ(ع) يقول: "الحرّ حرّ وإن مسّه الضر، والعبد عبد وإن ساعده القدر". فمسألة الحرية هي أن تكون إرادتك حرة وموقفك حراً، فأنت حرّ وإن عشت تحت تأثير الضرر والألم والمشاكل، وأنت عبد حتى لو كنت تملك الفرص الكبيرة ما دمت لا تملك إرادتك وتخضع لمن يفرض إرادته عليك.

ويقول الإمام الصادق(ع): "إن الحرّ حرّ على جميع أحواله ـ لن يكون الحر الذي يعيش إرادة الحرية في داخل ذاته وانفتاح إنسانيته وفي أصالته الإنسانية، في أية حالة من حالاته عبداً، بل يبقى حراً حتى لو كان في داخل الزنزانة، ما دام يرفض إرادة المحتل والظالم وكل ما يفرض عليه ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب ـ أطبقت عليه المصائب ـ لم تكسره، وإن أُسر وقُهر واستُبدل باليسر عسراً ـ ويمثل الإمام الصادق(ع) في مسألة الإنسان الحر بالنبي يوسف(ع) ـ كما كان يوسف الصدّيق الأمين(ع)، لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم يضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله... وكذلك الصبر يُعقب خيراً، فوطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

وهكذا نؤكد مسألة الحرية في كل ما نعيشه، ولا سيما في هذه الظروف، أن تكون حريتنا من داخل ذاتنا، كما قال الإمام عليّ(ع): "من ترك الشهوات كان حراً"، ويقول(ع): "ليس من باع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها".

الإسلام يريدنا أحراراً

إن الإسلام يريد منا أن نكون الأحرار، وأن نطلق الفكر على أساس أن ننفتح على قضايا الحق والباطل، أن لا نبيع فكرنا للآخرين، وأن يبقى كلٌ منّا الإنسان المفكر الذي يختار فكره، والذي لا يقبل أن يفكر الآخرون له. شاوروا الآخرين، ولينطلق الحوار ليؤكد الفكر الصحيح، ولكن لا تكونوا ممن يخضعون لما يريده الآخرون، لا تقبلوا أحداً يقول لكم نحن نفكر لكم، قولوا لهم فكّروا معنا ونحن نفكر معكم، لا تقبلوا من يقول لكم امشوا معنا في حالة إغماض العقل والفكر، لأن الله تعالى سوف يوقفنا غداً ويحاسبنا على كل فكر التزمناه، وعلى كل موقف وقفناه، ولن يقبل الله تعالى منا أن نقول إن الآخرين طلبوا منا أن نفعل كذا.

علينا أن نكون أحراراً أمام المستكبرين والظالمين والمنحرفين، إن الله تعالى خلق لنا عقلاً وجعله حجّةً علينا، وأعطانا إرادةً، وقال لنا ركّزوا إرادتكم أمام كل التحديات، فإن هناك واقعاً يريد الآخرون من خلاله أن يستعبدونا، من خلال حاجاتنا وأوضاعنا وما يفرضونه علينا. فلنكن أحراراً، أن تنطلق حريتنا من الداخل لتتحرك باتجاه المواقف والتحديات كلها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالإرادة الحرّة، وبالوحدة فيما بينكم، لأن الله تعالى يريد لنا أن نعتصم بحبل الله جميعاً وأن لا نتفرّق، حتى نستطيع أن نؤكد حريتنا وعزتنا وكرامتنا أمام الذين يريدون أن يسقطوا ذلك كله، ولا نزال نعيش التحديات الكبرى في العالمين العربي والإسلامي، وعلينا أن نواجه ذلك كله بالوعي لكل ما يتحرك في حياتنا، فماذا هناك:

مخطط صهيوني أمريكي لإسقاط المنطقة

في العالم الإسلامي ـ وفي داخله العالم العربي ـ لا تزال الغالبية الساحقة من شعوبنا تعيش تحت خط الفقر، في الوقت الذي يعيش أكثر القائمين على الأنظمة أو المتحركين في دائرة امتيازاتهم في أعلى درجات الترف والغنى، على مستوى المليارات التي وُضعت في خزائن ومصارف الدول الكبرى لتستثمرها في مشاريعها الاحتكارية التي تضغط من خلالها على الشعوب الفقيرة الباحثة عن فرص الاستدانة التي تفرض الشروط المذلّة على تلك الشعوب.

وفي العالم الإسلامي ـ وفي داخله العالم العربي ـ يسيطر الاحتلال الوحشي على أكثر من بلد، وفي مقدمته فلسطين التي صادر اليهود أكثر أراضيها بطريقة رسمية، وما تزال الأجزاء المتبقية منها في قبضة الاحتلال الذي يحاول تمزيقها ومصادرتها من أجل أن لا تتحوّل إلى دولة قوية منتجة فاعلة قادرة على الحياة، ولا سيما التخطيط لتهويد القدس وتشريد أهلها من المسلمين والمسيحيين، وتحويل المسجد الأقصى إلى موقع يهودي بمختلف الوسائل، وذلك في خطة صهيونية لإقناع العالم بالشرعية التاريخية لليهود في فلسطين كوطن قومي على صعيد الأسطورة التي خضع الغرب لها، ولم يُسمح لـه بمناقشتها علمياً، تحت تأثير اعتبار ذلك لوناً من "معاداة السامية"!!

إننا نواجه مخططاً صهيونياً لإسقاط كل العناوين العربية والإسلامية في فلسطين، ولإنجاح الخطة اليهودية في مواجهة حركة التحرير الشعبي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، واعتبارها "عملاً إرهابياً"، ولعل الخطورة في هذه القضية، أن الغرب الأمريكي والأوروبي تحوّل إلى فريق يحارب تطلّع الفلسطينيين للاستقلال، ويمنع عنهم حقهم في تقرير المصير، ويتنكّر لحقوق الإنسان، عندما يعتبر فصائل الانتفاضة منظمات إرهابية...

وإذا كان هذا الغرب يطرح بعض الحلول كخارطة الطريق، فإنه يقدّمها بطريقة سلحفاتية نفاقية خادعة، تمارس الضغط على الفلسطينيين في خضوعهم للشروط الصهيونية، في اعتبار المسألة أمنية لا سياسية، ولذلك فلم يتقدّم الغرب السياسي خطوة واحدة نحو فرض الانسحاب على العدو.

ومن جانب آخر، فإن هناك أكثر من مشكلة داخلية فلسطينية في الفوضى الأمنية مما لا يزال يربك الواقع الفلسطيني، مع بعض الأوضاع المعقّدة في علاقة السلطة بالفصائل المجاهدة، ودخول أكثر من فريق دولي وعربي على خط المشاكل العالقة هناك، الأمر الذي يدفعنا إلى توجيه النداء إلى الشعب الفلسطيني أن يكونوا الواعين لخطورة المرحلة على جميع المستويات، وأن يقلّعوا أشواكهم المزروعة في ساحاتهم بأيديهم، وذلك في ظلِّ صمت عربي مهين، وسكون إسلامي مخيف، وتآمر دولي خطير.

العراق: فشل خطة الاحتلال

أما في العراق، فإنّ الدماء لا تزال تسيل أنهاراً من خلال جنود الاحتلال من جهة، وإرهاب التكفيريين من جهة أخرى، وفوضى المسألة السياسية التي تتحرك في عملية إثارة طائفية في حصص التمثيل على صعيد سياسي أو قانوني في عملية صياغة الدستور، وخطة فدرالية قد تتحوّل إلى لون من ألوان الانفصال العرقي، كما في المسألة الكردية.

إن الاحتلال الأمريكي بدأ يقض مضاجع الرأي العام الأمريكي الذي بدأ يطالب ـ ومن داخل الكونغرس ـ بتحديد جدول زمني للانسحاب، بفعل الخسائر الأمريكية لجنودها بين قتلى وجرحى، إضافة إلى الفشل السياسي للإدارة الأمريكية التي زعمت أنها تقدّم العراق كنموذج حضاري ديمقراطي، فتحوّل إلى نموذج للفوضى الأمنية المدمِّرة للشعب كله...

وهذا ما نريد للشعب العراقي الجريح أن يدركه، ليبقى في وحدته الداخلية، وفي وعيه لخطورة الاحتلال على حاضره ومستقبله، ولينطلق الصوت واحداً في المطالبة بخروجه من العراق، ليقرر العراقيون مصيرهم بأنفسهم، لأنهم قد بلغوا سنّ الرشد وليسوا بحاجة إلى من يدير لهم أمورهم، وليعلموا أن تماسكهم الداخلي لا يشكّل ضمانة للعراقيين فقط، بل للمنطقة العربية والإسلامية كلها، ليثبتوا أن الاحتلال لن ينجح في خطته الاستراتيجية للسيطرة على المنطقة باحتلاله السياسي والعسكري والاقتصادي.

لبنان: الخارج يخطط للمستقبل

أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الدول الخارجية تخطط لمستقبله بعد انتهاء الانتخابات، لتفرض عليه إدارة مجلسه النيابي الجديد وحكومته المقبلة، ولتستكمل تنفيذ القرار 1559 في نزع سلاح المقاومة والمخيمات، تحت تأثير الضغط بربط المساعدات الدولية وغيرها بذلك، الأمر الذي قد يحوّل البلد إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي بشّر بها الرئيس الأمريكي الذي تحدث في مشروعه للمنطقة عن "الفوضى البنّاءة" التي تحوّلت في أكثر من موقع إلى فوضى هدّامة.

وهذا ما نلاحظه في الملاحقة اليومية لسوريا في اتهامات لا تستند إلى وقائع حقيقية ميدانية، بل إلى تقارير صحفية لا تملك الكثير من التوثيق، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الضغط على هذا البلد العربي الذي أربك خطتها في انسحابه من لبنان.

إننا نطالب الذين انطلقت تحالفاتهم تحت عناوين وطنية أو عربية في المسألة السياسية، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في حماية بلدهم، وفي منع أية وصاية دولية جديدة، وفي الإخلاص لالتزاماتهم حيال الشعب اللبناني، وفي تحويل مواقعهم البرلمانية إلى مراكز لدراسة البرامج التي تحل مشكلة الاقتصاد في المديونية وفي توفير الخدمات الحياتية، وفي التخطيط للمشاريع التي يشعر فيها اللبناني بالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي يمنعه من الهجرة، وأخيراً، أن يفكروا ـ من خلال ذلك ـ بدراسة الآليات الواقعية التي تحوّل العناوين الكبرى في بياناتهم الانتخابية إلى واقع لبناء المستقبل.

لبنان: الخارج يخطط للمستقبل

أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الدول الخارجية تخطط لمستقبله بعد انتهاء الانتخابات، لتفرض عليه إدارة مجلسه النيابي الجديد وحكومته المقبلة، ولتستكمل تنفيذ القرار 1559 في نزع سلاح المقاومة والمخيمات، تحت تأثير الضغط بربط المساعدات الدولية وغيرها بذلك، الأمر الذي قد يحوّل البلد إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي بشّر بها الرئيس الأمريكي الذي تحدث في مشروعه للمنطقة عن "الفوضى البنّاءة" التي تحوّلت في أكثر من موقع إلى فوضى هدّامة.

وهذا ما نلاحظه في الملاحقة اليومية لسوريا في اتهامات لا تستند إلى وقائع حقيقية ميدانية، بل إلى تقارير صحفية لا تملك الكثير من التوثيق، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الضغط على هذا البلد العربي الذي أربك خطتها في انسحابه من لبنان.

إننا نطالب الذين انطلقت تحالفاتهم تحت عناوين وطنية أو عربية في المسألة السياسية، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في حماية بلدهم، وفي منع أية وصاية دولية جديدة، وفي الإخلاص لالتزاماتهم حيال الشعب اللبناني، وفي تحويل مواقعهم البرلمانية إلى مراكز لدراسة البرامج التي تحل مشكلة الاقتصاد في المديونية وفي توفير الخدمات الحياتية، وفي التخطيط للمشاريع التي يشعر فيها اللبناني بالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي يمنعه من الهجرة، وأخيراً، أن يفكروا ـ من خلال ذلك ـ بدراسة الآليات الواقعية التي تحوّل العناوين الكبرى في بياناتهم الانتخابية إلى واقع لبناء المستقبل.

لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الحرية تأكيد لإنسانية الإنسان

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع): "أيها الناس، إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار"، "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"،  "لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك الله حراً".

يريد الإمام عليّ(ع) من خلال هذه الكلمات، أن يؤكد عنصر الحرية في الإنسان، بحيث لا يستعبد الإنسان نفسه؛ لا يستعبد فكره لفكر آخر، ولا يستعبد موقفه وحياته لشخص آخر أو لجهة أخرى.

 أن تملك حريتك، بأن يكون فكرك منطلقاً من حركة عقلك في ما تقبله وفي ما ترفضه، وأن يكون موقفك من خلال اقتناعك بأنه الموقف الحق، وهكذا أن تكون إرادتك منطلقة من التزامك بأن ما تريده هو الصلاح في دنياك وفي آخرتك، فلا تسقط أمام أطماعك.

وهذه المسألة هي التي تؤكد للإنسان إنسانيته، لأنك عندما تخضع لغيرك، فإن معنى ذلك أنك لا تعيش ذاتك، فهو الذي يريد وأنت تخضع، وهو الذي يفرض عليك موقفك أو انتماءك وأنت تخشع له، إن معنى ذلك أنك لا تعيش إنسانيتك في ما خلقها الله وفي ما أرادها سبحانه وتعالى.

وعلى ضوء هذا، فلا بد للإنسان الذي يحترم نفسه وحريته، أن يدرس كل شيء يتصل بحياته ومصيره، وكل شيء يتصل بعبادته لربِّه. إن كلمة التوحيد تعني خطين: خطاً في العبودية وخطاً في الحرية، فأنت عندما تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فكأنك تقول إن الله وحده هو السيد والإله وأنا العبد له، فأنا عبد لله وحده وسيد أمام الكون كله، ولذلك فإن أيّ إنسان يخضع لأيّ إنسان في كل أوضاعه الفكرية والحياتية، فإنه يستعبد نفسه لهذا الإنسان، والتوحيد هو أن تكون عبداً لله وحده، ليس هناك إله في كل الكون إلا الله تعالى، فهو تعالى الإله والسيد، وأنا أمثل سيادة إنسانيتي أمام كل الذين يفرضون أنفسهم على الناس، ولا أخضع إلا لسيادة الله.

ولذلك فإن مسألة الحرية هي مسألة تتصل بمسألة التوحيد، ومسألة الحرية هي مسألة تنطلق من الصبر، فقد يفرض عليك الآخرون أن تخضع لهم وأن تسقط أمامهم، لأنك إذا لم تخضع لهم فسوف تعاني بعض الآلام، وإذا لم تسقط فسوف تعاني بعض المشاكل، ولذلك فإنك قد تُسقط حريتك أمام الآخرين حتى لا تتألم، ولكنّ الحرية تقول لك: إن عليك أن تصبر على الآلام عندما يُراد لك أن تستعبدك حاجاتك أو آلامك.. إصبِرْ و تحمّل، وكن حراً، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع) عندما أرادوا منه في كربلاء أن يخضع ليزيد وابن زياد، وأن ينزل على حكم يزيد ، فقال(ع): "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العيد"، إني أملك حرية قراري ورفضي لكل ما يمثله يزيد وابن زياد، حرية أن أبقى مع الحق وأبتعد عن الباطل، حرية أن أواجه مسؤوليتي من أجل صلاح الناس وتغيير الواقع الفاسد والحاكم الجائر. وقال(ع): "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون". وهكذا نجد أن الإمام الحسين(ع) في تأكيده مسألة الحرية خاطب جيش يزيد عندما حاول أن يهجم على مخيماته، فقال(ع): "يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون"، فلا يستعبدكم يزيد، ولا تستعبدنّكم أطماعكم التي يلوّح بها ابن زياد لكم.

الحرية تساوي العزّة

وعندما ندرس العزّة في القرآن الكريم، نجد أنها تساوي الحرية، فمعنى أن تكون عزيزاً أن لا تسقط أمام الذين يريدون إذلالك وإسقاطك. وفي رواية عن الإمام عليّ(ع) يقول: "الحرّ حرّ وإن مسّه الضر، والعبد عبد وإن ساعده القدر". فمسألة الحرية هي أن تكون إرادتك حرة وموقفك حراً، فأنت حرّ وإن عشت تحت تأثير الضرر والألم والمشاكل، وأنت عبد حتى لو كنت تملك الفرص الكبيرة ما دمت لا تملك إرادتك وتخضع لمن يفرض إرادته عليك.

ويقول الإمام الصادق(ع): "إن الحرّ حرّ على جميع أحواله ـ لن يكون الحر الذي يعيش إرادة الحرية في داخل ذاته وانفتاح إنسانيته وفي أصالته الإنسانية، في أية حالة من حالاته عبداً، بل يبقى حراً حتى لو كان في داخل الزنزانة، ما دام يرفض إرادة المحتل والظالم وكل ما يفرض عليه ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب ـ أطبقت عليه المصائب ـ لم تكسره، وإن أُسر وقُهر واستُبدل باليسر عسراً ـ ويمثل الإمام الصادق(ع) في مسألة الإنسان الحر بالنبي يوسف(ع) ـ كما كان يوسف الصدّيق الأمين(ع)، لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم يضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله... وكذلك الصبر يُعقب خيراً، فوطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

وهكذا نؤكد مسألة الحرية في كل ما نعيشه، ولا سيما في هذه الظروف، أن تكون حريتنا من داخل ذاتنا، كما قال الإمام عليّ(ع): "من ترك الشهوات كان حراً"، ويقول(ع): "ليس من باع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها".

الإسلام يريدنا أحراراً

إن الإسلام يريد منا أن نكون الأحرار، وأن نطلق الفكر على أساس أن ننفتح على قضايا الحق والباطل، أن لا نبيع فكرنا للآخرين، وأن يبقى كلٌ منّا الإنسان المفكر الذي يختار فكره، والذي لا يقبل أن يفكر الآخرون له. شاوروا الآخرين، ولينطلق الحوار ليؤكد الفكر الصحيح، ولكن لا تكونوا ممن يخضعون لما يريده الآخرون، لا تقبلوا أحداً يقول لكم نحن نفكر لكم، قولوا لهم فكّروا معنا ونحن نفكر معكم، لا تقبلوا من يقول لكم امشوا معنا في حالة إغماض العقل والفكر، لأن الله تعالى سوف يوقفنا غداً ويحاسبنا على كل فكر التزمناه، وعلى كل موقف وقفناه، ولن يقبل الله تعالى منا أن نقول إن الآخرين طلبوا منا أن نفعل كذا.

علينا أن نكون أحراراً أمام المستكبرين والظالمين والمنحرفين، إن الله تعالى خلق لنا عقلاً وجعله حجّةً علينا، وأعطانا إرادةً، وقال لنا ركّزوا إرادتكم أمام كل التحديات، فإن هناك واقعاً يريد الآخرون من خلاله أن يستعبدونا، من خلال حاجاتنا وأوضاعنا وما يفرضونه علينا. فلنكن أحراراً، أن تنطلق حريتنا من الداخل لتتحرك باتجاه المواقف والتحديات كلها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالإرادة الحرّة، وبالوحدة فيما بينكم، لأن الله تعالى يريد لنا أن نعتصم بحبل الله جميعاً وأن لا نتفرّق، حتى نستطيع أن نؤكد حريتنا وعزتنا وكرامتنا أمام الذين يريدون أن يسقطوا ذلك كله، ولا نزال نعيش التحديات الكبرى في العالمين العربي والإسلامي، وعلينا أن نواجه ذلك كله بالوعي لكل ما يتحرك في حياتنا، فماذا هناك:

مخطط صهيوني أمريكي لإسقاط المنطقة

في العالم الإسلامي ـ وفي داخله العالم العربي ـ لا تزال الغالبية الساحقة من شعوبنا تعيش تحت خط الفقر، في الوقت الذي يعيش أكثر القائمين على الأنظمة أو المتحركين في دائرة امتيازاتهم في أعلى درجات الترف والغنى، على مستوى المليارات التي وُضعت في خزائن ومصارف الدول الكبرى لتستثمرها في مشاريعها الاحتكارية التي تضغط من خلالها على الشعوب الفقيرة الباحثة عن فرص الاستدانة التي تفرض الشروط المذلّة على تلك الشعوب.

وفي العالم الإسلامي ـ وفي داخله العالم العربي ـ يسيطر الاحتلال الوحشي على أكثر من بلد، وفي مقدمته فلسطين التي صادر اليهود أكثر أراضيها بطريقة رسمية، وما تزال الأجزاء المتبقية منها في قبضة الاحتلال الذي يحاول تمزيقها ومصادرتها من أجل أن لا تتحوّل إلى دولة قوية منتجة فاعلة قادرة على الحياة، ولا سيما التخطيط لتهويد القدس وتشريد أهلها من المسلمين والمسيحيين، وتحويل المسجد الأقصى إلى موقع يهودي بمختلف الوسائل، وذلك في خطة صهيونية لإقناع العالم بالشرعية التاريخية لليهود في فلسطين كوطن قومي على صعيد الأسطورة التي خضع الغرب لها، ولم يُسمح لـه بمناقشتها علمياً، تحت تأثير اعتبار ذلك لوناً من "معاداة السامية"!!

إننا نواجه مخططاً صهيونياً لإسقاط كل العناوين العربية والإسلامية في فلسطين، ولإنجاح الخطة اليهودية في مواجهة حركة التحرير الشعبي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، واعتبارها "عملاً إرهابياً"، ولعل الخطورة في هذه القضية، أن الغرب الأمريكي والأوروبي تحوّل إلى فريق يحارب تطلّع الفلسطينيين للاستقلال، ويمنع عنهم حقهم في تقرير المصير، ويتنكّر لحقوق الإنسان، عندما يعتبر فصائل الانتفاضة منظمات إرهابية...

وإذا كان هذا الغرب يطرح بعض الحلول كخارطة الطريق، فإنه يقدّمها بطريقة سلحفاتية نفاقية خادعة، تمارس الضغط على الفلسطينيين في خضوعهم للشروط الصهيونية، في اعتبار المسألة أمنية لا سياسية، ولذلك فلم يتقدّم الغرب السياسي خطوة واحدة نحو فرض الانسحاب على العدو.

ومن جانب آخر، فإن هناك أكثر من مشكلة داخلية فلسطينية في الفوضى الأمنية مما لا يزال يربك الواقع الفلسطيني، مع بعض الأوضاع المعقّدة في علاقة السلطة بالفصائل المجاهدة، ودخول أكثر من فريق دولي وعربي على خط المشاكل العالقة هناك، الأمر الذي يدفعنا إلى توجيه النداء إلى الشعب الفلسطيني أن يكونوا الواعين لخطورة المرحلة على جميع المستويات، وأن يقلّعوا أشواكهم المزروعة في ساحاتهم بأيديهم، وذلك في ظلِّ صمت عربي مهين، وسكون إسلامي مخيف، وتآمر دولي خطير.

العراق: فشل خطة الاحتلال

أما في العراق، فإنّ الدماء لا تزال تسيل أنهاراً من خلال جنود الاحتلال من جهة، وإرهاب التكفيريين من جهة أخرى، وفوضى المسألة السياسية التي تتحرك في عملية إثارة طائفية في حصص التمثيل على صعيد سياسي أو قانوني في عملية صياغة الدستور، وخطة فدرالية قد تتحوّل إلى لون من ألوان الانفصال العرقي، كما في المسألة الكردية.

إن الاحتلال الأمريكي بدأ يقض مضاجع الرأي العام الأمريكي الذي بدأ يطالب ـ ومن داخل الكونغرس ـ بتحديد جدول زمني للانسحاب، بفعل الخسائر الأمريكية لجنودها بين قتلى وجرحى، إضافة إلى الفشل السياسي للإدارة الأمريكية التي زعمت أنها تقدّم العراق كنموذج حضاري ديمقراطي، فتحوّل إلى نموذج للفوضى الأمنية المدمِّرة للشعب كله...

وهذا ما نريد للشعب العراقي الجريح أن يدركه، ليبقى في وحدته الداخلية، وفي وعيه لخطورة الاحتلال على حاضره ومستقبله، ولينطلق الصوت واحداً في المطالبة بخروجه من العراق، ليقرر العراقيون مصيرهم بأنفسهم، لأنهم قد بلغوا سنّ الرشد وليسوا بحاجة إلى من يدير لهم أمورهم، وليعلموا أن تماسكهم الداخلي لا يشكّل ضمانة للعراقيين فقط، بل للمنطقة العربية والإسلامية كلها، ليثبتوا أن الاحتلال لن ينجح في خطته الاستراتيجية للسيطرة على المنطقة باحتلاله السياسي والعسكري والاقتصادي.

لبنان: الخارج يخطط للمستقبل

أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الدول الخارجية تخطط لمستقبله بعد انتهاء الانتخابات، لتفرض عليه إدارة مجلسه النيابي الجديد وحكومته المقبلة، ولتستكمل تنفيذ القرار 1559 في نزع سلاح المقاومة والمخيمات، تحت تأثير الضغط بربط المساعدات الدولية وغيرها بذلك، الأمر الذي قد يحوّل البلد إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي بشّر بها الرئيس الأمريكي الذي تحدث في مشروعه للمنطقة عن "الفوضى البنّاءة" التي تحوّلت في أكثر من موقع إلى فوضى هدّامة.

وهذا ما نلاحظه في الملاحقة اليومية لسوريا في اتهامات لا تستند إلى وقائع حقيقية ميدانية، بل إلى تقارير صحفية لا تملك الكثير من التوثيق، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الضغط على هذا البلد العربي الذي أربك خطتها في انسحابه من لبنان.

إننا نطالب الذين انطلقت تحالفاتهم تحت عناوين وطنية أو عربية في المسألة السياسية، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في حماية بلدهم، وفي منع أية وصاية دولية جديدة، وفي الإخلاص لالتزاماتهم حيال الشعب اللبناني، وفي تحويل مواقعهم البرلمانية إلى مراكز لدراسة البرامج التي تحل مشكلة الاقتصاد في المديونية وفي توفير الخدمات الحياتية، وفي التخطيط للمشاريع التي يشعر فيها اللبناني بالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي يمنعه من الهجرة، وأخيراً، أن يفكروا ـ من خلال ذلك ـ بدراسة الآليات الواقعية التي تحوّل العناوين الكبرى في بياناتهم الانتخابية إلى واقع لبناء المستقبل.

لبنان: الخارج يخطط للمستقبل

أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الدول الخارجية تخطط لمستقبله بعد انتهاء الانتخابات، لتفرض عليه إدارة مجلسه النيابي الجديد وحكومته المقبلة، ولتستكمل تنفيذ القرار 1559 في نزع سلاح المقاومة والمخيمات، تحت تأثير الضغط بربط المساعدات الدولية وغيرها بذلك، الأمر الذي قد يحوّل البلد إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي بشّر بها الرئيس الأمريكي الذي تحدث في مشروعه للمنطقة عن "الفوضى البنّاءة" التي تحوّلت في أكثر من موقع إلى فوضى هدّامة.

وهذا ما نلاحظه في الملاحقة اليومية لسوريا في اتهامات لا تستند إلى وقائع حقيقية ميدانية، بل إلى تقارير صحفية لا تملك الكثير من التوثيق، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الضغط على هذا البلد العربي الذي أربك خطتها في انسحابه من لبنان.

إننا نطالب الذين انطلقت تحالفاتهم تحت عناوين وطنية أو عربية في المسألة السياسية، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في حماية بلدهم، وفي منع أية وصاية دولية جديدة، وفي الإخلاص لالتزاماتهم حيال الشعب اللبناني، وفي تحويل مواقعهم البرلمانية إلى مراكز لدراسة البرامج التي تحل مشكلة الاقتصاد في المديونية وفي توفير الخدمات الحياتية، وفي التخطيط للمشاريع التي يشعر فيها اللبناني بالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي يمنعه من الهجرة، وأخيراً، أن يفكروا ـ من خلال ذلك ـ بدراسة الآليات الواقعية التي تحوّل العناوين الكبرى في بياناتهم الانتخابية إلى واقع لبناء المستقبل.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية