صدق الرسول وأمانة المسؤولية
نلتقي في هذه الأيام بذكرى مولد النبي محمد(ص)، هذا النبي الذي أرسله الله تعالى على فترة من الرسل، ليخرج الإنسانية كلها من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحديد/9). هذا النبي الذي عاش طفولته يتيماً، وكان فقيراً من أفقر الناس، وكفله عمه أبو طالب، وتعهده الله تعالى برعايته، حيث وكّل به عظيماً من أعظم ملائكته، يلقي إليه في كل يوم علماً، حتى إذا اكتمل نموّه العقلي والروحي والأخلاقي، وانفتح في كلّ ذاته على الله تعالى في تأملاته في غار حراء، وفي ابتهالاته لله تعالى، أرسله رسولاً يملك قمة العقل وقمة الروح وقمة الأخلاق، وكان(ص) في مجتمعه يتميّز بالصدق والأمانة، حتى غلبت عليه هاتان الصّفتان، فكان إذا شاهده الناس قادماً إليهم قالوا: «جاء الصادق الأمين»، لأنه كان(ص) يملك أعلى درجات الصدق، وأقوى مواقع الأمانة.
ومن الطبيعي أن كلّ إنسان يراد له أن يتحمّل مسؤولية الأمّة كلّها في خطّ الرسالة، أن يكون الصادق في كلمته وتبليغه، والأمين على مسؤوليته ودوره ورسالته. وهكذا، صدع رسول الله(ص) بالرسالة، وواجه الشرك كله والمشركين كلهم، وعاش مع المستضعفين يستقبلهم بكل رحابة صدر وبكل حنان وعاطفة، اتباعاً لقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف/28)، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر/88).
وكان رسول الله(ص) في مكة ينتقل من جماعة إلى جماعة، ممن كانوا يقصدون مكة للتجارة أو الحج أو الثقافة أو غير ذلك، داعياً ومبلّغاً، وهاجر إلى المدينة وواجهه المشركون بالحروب المتنوّعة، حتى نصره الله تعالى عليهم، ونزلت هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر/1-2-3)لقد أراد النبي(ص) ـ بأمر من الله تعالى ـ أن يضيء عقول الناس حتى لا تنفتح إلا على العقل، وقلوبهم حتى لا تنفتح إلا على المحبة، وحركتهم حتى لا تنفتح إلا على الرحمة؛ أراد أن يصنع أمة جديدة تؤمن بالإسلام كله، وتستهدي القرآن كله، وترى في النبي(ص) القدوة كل القدوة، فقد خاطب الله تعالى الناس بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب/21).
الرحمة الرسالية الإنسانية
واستطاع النبي(ص) أن يرتفع بالأمة لتتوحّد، وتنتصر، وتقوى في مواجهة الشرك كله، وذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} (الفتح/29)، فقد أراد للأمة أن تكون القوية ضد الذين يتحدَّونها من الكافرين والمشركين، وأراد لأفرادها أن يرحم بعضهم بعضاً. وهكذا استطاع المسلمون أن ينتصروا من خلال هذا التراحم في ما بينهم، وهذه القوة ضدّ الكافرين، كما أراد الله لهذه الأمة المتراحمة أن تكون الأمة التي تتواصى بالحق عندما يواجهها الآخرون بالباطل ضد الحق، وأن يوصي كل واحدٍ منهم الآخر بالثبات على الحق وبالدفاع عنه والدعوة إليه، وأراد للأمة أن تتواصى بالصبر، لأن اتّباع الحق في مواجهة التحديات، قد يكلّف الناس الكثير من الجهد والمشقة والتعب، كما أراد لها التواصي بالمرحمة؛ أن تكون الرحمة هي طابع الأمة، لأنّ الرحمة هي العنوان الكبير للإسلام ولحركة الرسول(ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء/107)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران/159).
أن نعيش الرحمة في كل مواقعنا، وأن لا يحمل المؤمن على المؤمن حقداً أو بغضاء أو عداوة، فرسول الله(ص) أراد للمؤمنين في توادّهم وتراحمهم أن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وأراد الله تعالى ورسوله لنا أن نعمل على أساس توحيد الأمة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران/103).
إن الإسلام يريد منا أن نحافظ على وحدة الأمة الإسلامية، ولا سيما في مرحلة التحديات الكبرى؛ قد نختلف سنّةً وشيعةً، وقد نختلف شيعةً في داخل المذهب وسنّةً في داخل المذهب، ولكن الله تعالى أمرنا بأن لا يسبّ بعضنا بعضاً، أو يلعن بعضنا بعضاً، بل أن نردّ كل خلاف بيننا إلى الله والرسول، وقد جاء في آخر خطبة للنبي(ص) في حجة الوداع في مِنى: «لا ترجعوا بعدي ضلالاً، يلعن بعضكم بعضاً ـ أو يكفّر بعضكم بعضاً ـ ويضرب بعضكم أعناق بعض».
الوحدة في هدي القرآن
لذلك، علينا أمام ما نعيشه من اختلافات مذهبية أو قومية أو اختلافات طارئة هنا وهناك، أن ننطلق جميعاً لنعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لنستهدي بهدي قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعبدونِ} (الأنبياء/92)، وأن لا نسمح للذين يكيدون للإسلام والمسلمين أن يثيروا الفتنة بين المسلمين، بل نقول للمسلمين جميعاً: إن علينا أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، وما اتفقنا عليه من أصول العقيدة، ومن خطوط الشريعة، ومن حركة المفاهيم كثير وعظيم، أما ما اختلفنا فيه، فعلينا أن نرجعه إلى الله والرسول، أن لا نستعمل لغة السبّ واللعن، فالله أدّبنا في قرآنه أن لا نسب الذين يدعون من دون الله، فقال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (الأنعام/108)، وهذا ما نتعلّمه أيضاً من مدرسة الإمام عليّ(ع) ـ رائد الوحدة الإسلامية ورائد الإسلام ـ عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، فوقف خطيباً، وقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».
ولقد وصلنا إلى العصر الذي قال فيه رسول الله(ص) مخاطباً المسلمين: «ستتداعى عليكم الأمم تداعي الأكلة على قصعتها»، لذلك علينا أن نتمسّك بالوحدة، لأنّ الوحدة الإسلامية هي خيار الإسلام كله وخيار المسلمين كلهم، فلا نعطي أي اهتمام أو مبالاة لكل الذين يصنعون الفتنة، هؤلاء الذين يكفّرون المسلمين ويستحلّون دماءهم، ويضلّلونهم ويعلّمونهم أن يسبّ بعضهم بعضاً وأن يلعن بعضهم مقدّسات بعض، لتثور الفتنة هنا والحرب هناك وتسفك الدماء. إن الكافرين والمستكبرين في العالم يعملون على أساس تمزيق الواقع الإسلامي، ليستولوا على مقدّرات المسلمين السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، فلنكن صفاً واحداً كما أحبّنا تعالى أن نكون: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف/4).
كونوا دعاةً للوحدة الإسلامية، وحاولوا أن تأخذوا بأسباب الحوار في ما اختلفتم فيه لتكونوا قوة في العالم. إن المسلمين في العالم يبلغون أكثر من مليار شخص، وهم يملكون الكثير من الثروات في باطن أرضهم وظاهرها، ويستطيعون أن يكونوا قوة كبرى في العالم، ولكن لماذا يعيش المسلمون الضعف هنا وهناك؟ لماذا تتقاذفهم الدول الكبرى وتسيطر على كل مقدّراتهم، وتنفذ إلى كل أوضاعهم، وتحتل كل بلدانهم احتلالاً ظاهراً وباطناً؟ لأنهم متفرقون ومتنازعون، ولا يشعرون بمسؤوليتهم تجاه إسلامهم وتجاه بعضهم بعضاً، وقد قال رسول الله(ص): «من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».
في ذكرى مولد رسول الله(ص)، نطلق الصوت عالياً للمسلمين جميعاً، أن يأخذوا بأسباب الوحدة، وأن نكون الأمة التي تحفظ الإسلام لتنقله إلى الأجيال القادمة، لأننا مؤتمنون على الإسلام بأمانة الله ورسوله، وعلينا أن نعمل على أن ننقل الإسلام إلى الأجيال القادمة، من أولادنا ونسائنا وشبابنا، وإلى كل الشعوب الأخرى، لأنه أمانة الله ورسوله في كل جيل، وعلينا أن نحفظ هذه الأمانة.
لقد قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ـ لا من خلال أنسابكم ولا من خلال أموالكم ـ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران/110). هذا هو نداء المولد، إن المولد ليس مجرد حفلة نصفِّق فيها ونهتف، المولد هو أن نبدأ الرسالة كما بدأها رسول الله(ص)، وأن نجاهد في سبيلها كما جاهد رسول الله(ص)، وأن نعمل على أن ننفتح على العالم كله بالإسلام، من أجل أن يكون العالم إسلاماً متجسّداً متحركاً، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة/105).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وواجهوا المرحلة الصعبة التي هي من أخطر المراحل التي تمر على أمتنا، واجهوها بالوحدة والصبر والتراحم فيما بينكم، والتواصل فيما بينكم، كما قال عليّ(ع): "وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتقاطع والتدابر". لا بد لنا في موقعنا هذا وفي مرحلتنا هذه من أن نعمل على أن نصون الأمة من كل الذين يريدون إسقاطها وإضعافها، لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى، لأننا إذا تفرقنا وتنازعنا، فإن ذلك سوف يؤدي إلى الفشل.
ونحن لا نزال نواجه الاستكبار العالمي بكل خططه التي يريد من خلالها أن يضعفنا ويقوّي أعداءنا، وهذا ما لا بد لنا أن نفكر فيه لنكشف كل خفاياه، فماذا هناك:
الخطاب الإمبراطوري للرئيس بوش
لا يزال الرئيس الأمريكي يمارس خطابه الإمبراطوري للشعوب، فهو ينفي تدخّله في الشؤون اللبنانية من خلال ممثليه ومخابراته وعملائه في ما يجب على اللبنانيين أن يتحركوا به في تعليماته السياسية، ويعتبر ذلك وسيلةً أمريكية للتعامل مع الشعوب كي تتمتع بصوت حرّ، ولكن السؤال: هل استشار هذا الرئيس الشعب اللبناني في طريقة إدارة المسألة السياسية في لبنان، وإصدار تعليماته المخابراتية في وصايته الجديدة التي يُراد ـ بطريقة خفيّة ـ استبدالها وحلولها محل الوصاية السابقة؟!
كذلك فإننا نتساءل عن طريقته في الضغط على سوريا من أجل تنفيذ تعليماته الأمنية في الموقف من احتلاله للعراق، من أجل الحفاظ على مصالحه على حساب مصالح سوريا الوطنية والقومية، أو في الحفاظ على سلامة السيطرة الإسرائيلية في احتلالها لفلسطين والجولان، وقمع فصائل الانتفاضة حتى على مستوى إبقاء مكاتبها السياسية، لأن أمن إسرائيل هو الاستراتيجية الأمريكية التي يسقط أمامها كل أمن فلسطيني أو عربي. والسؤال: مَن الذي أعطاه هذه الصلاحية؟!
وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدَّث عن الضغط الدولي الذي يفرض الشرعية الدولية على الشعوب، فإن أمريكا أولاً ليست الدولة التي تحترم هذه الشرعية، ولذلك كان احتلالها للعراق من دون إقرار منها، وثانياً أنه ضغط على مجلس الأمن ليجمّد كل قراراته ضد إسرائيل، وليمنعه من إدانتها على جرائمها، مهدداً بحقه في النقض (الفيتو)... وثالثاً: إن أمريكا تتحرك في العالم لتمارس الضغوط على أكثر من دولة كبرى أو صغرى، لإخضاعها لقراراتها المنسجمة مع مصالحها ومصالح إسرائيل، مستغلةً الأوضاع المعقّدة في علاقاتها مع العالم، ولعلّ من اللافت أن مندوبها الجديد في الأمم المتحدة يرى أن من الضروري إلغاء منظّمة الأمم المتحدة، لأنها لا تخضع دائماً للاستراتيجية الأمريكية في السيطرة على العالم.
ملهاة خريطة الطريق
ثم نتساءل من جديد: ما هي شرعية أمريكا لتفرض على الفلسطينيين الخضوع للأوضاع الواقعية التي تفرضها إسرائيل عليهم، كالمستوطنات الكبرى في الضفة الغربية، أو منع اللاجئين من حق العودة، أو حق اليهود في العالم من الهجرة إلى فلسطين، خلافاً لخارطة الطريق التي تحوّلت إلى ملهاة سياسية تلعب بها مع أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، في عملية تخدير للواقع السياسي والأمني ريثما تستكمل إسرائيل خططها الاستيطانية والأمنية، لينتهي الأمر إلى الحديث عن لا واقعية الدولة الفلسطينية الممزّقة الأوصال بفعل الأوضاع الجديدة؟!
وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدَّث عن المفاوضات النهائية، فإن الشروط التي وضعها مع حليفه شارون لتفكيك الفصائل الجهادية الفلسطينية، لا تملك أية واقعية سياسية فلسطينية، بل إنها تقود إلى تدمير الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا يفرض على إسرائيل تفكيك المنظمات اليهودية المتطرفة التي تهدد الأمن الإسرائيلي والفلسطيني معاً، لأن ما يجوز لليهود عنده لا يجوز للعرب والمسلمين؟!
إنّ الرئيس الأمريكي يتحدَّث عن اعتبار حزب الله منظمة إرهابيةً، زاعماً أنه قتل في الماضي بعض الأمريكيين، والسؤال: كم قتل الأمريكيون من الشعوب، كالشعب العراقي والأفغاني، وكم قتلوا من الشعب اللبناني في مجزرة بئر العبد التي كانت خطة مخابراتية أمريكية باعتراف الإعلام الأمريكي ومراكز دراساته؟ إن أمريكا تجد أن من حق جنودها أن يقوموا بجرائم حرب في العالم، من دون أن يكون للمؤسسة الدولية أي حق في محاكمتهم بما يُحاكم به مجرمو الحرب؟!
إنّنا نحذّر الشعب الفلسطيني ـ سلطةً وشعباً وانتفاضةً ـ من خطط الإدارة الأمريكية، في ترتيب الأوضاع بالطريقة التي تخدع فيها الفلسطينيين، من أجل المزيد من خضوع الواقع الفلسطيني كله لحساب الخطط الإسرائيلية التي تعمل على إغراق قضايا التحرير والاستقلال الكبرى في القضايا الجزئية التي تدخل الفلسطينيين في المتاهات الدولية التي يضيع فيها الجميع... كما نحذّر اللبنانيين من كل المخططات التي يرسمها المندوبون الأمريكيون في خلط الأوراق السياسية والأمنية.
العراق: نذير الحرب الأهلية
أما العراق، فإنه لا يزال يتخبَّط في متاهات الوضع الحكومي الذي يخضع للمحاصصة الفئوية الحزبية والطائفية والعرقية، بعيداً عن المصلحة العامة للشعب العراقي الذي دخل الانتخابات ليحصل على حكومة تنقذه من عذاباته الأمنية، ومن الفوضى المعيشية في أوضاع خدماته الحياتية، ومن الفقر الاقتصادي الذي يشمل أكثر مواقعه ويتحدَّى أكثر مفاصله، إضافةً إلى المجازر المذهبية المتعصبة من قِبَل التكفيريين الذين يقتلون الشباب والنساء والأطفال على أساس انتمائهم المذهبي، وهذا ما تحدث عنه الإعلام في بلدة المدائن التي حصد فيها هؤلاء ما يقارب الستين ضحية، الذين رماهم المجرمون في النهر بعد أن قطعوا رؤوس الأكثر منهم بحسب تصريح رئيس الجمهورية العراقية...
إننا نخشى جرّاء استمرار هذه المجازر أن يتحوّل الواقع إلى ردود فعل تنذر بحرب أهلية طائفية، لأن القائمين بهذه الأعمال يخضعون في الخطط الخفية لأكثر من خط مخابراتي إسرائيلي وأمريكي في شكل غير مباشر. ولذلك فإننا نرفع الصوت عالياً للشعب العراقي كله ـ من السنّة والشيعة والأكراد والتركمان ـ أن يقفوا صفاً واحداً، ويرتفعوا إلى مستوى مواجهة الكارثة الكبرى، ليكون كلِّ مواطن خفيراً، وليواجه العقلاء من علماء الدين والسياسيين والمثقفين الموقف بمسؤولية وطنية وإسلامية وقومية، قبل أن ينقلب السحر على الساحر... ونحن في الوقت نفسه، نحمّل الاحتلال كلَّ المسؤولية في ما يحدث في هذه المرحلة في العراق.
المسؤولية الإسلامية المسيحية المشتركة
ومن جانب آخر، فإن العالم قد شهد انتخاب بابا جديد خلفاً للبابا الراحل، ليقود الكاثوليك في المسار الجديد... ونحن ـ كمسلمين ـ نجد أن مسؤوليته ومسؤولياتنا تأكيد الاستمرار في الحوار الإسلامي ـ المسيحي، بل في حوار الأديان والحضارات الذي هو الأساس في السلام الإنساني القائم على العدل، من خلال مواجهة الإلحاد كله والاستكبار كله لمصلحة الأديان والمستضعفين...
إننا نؤكد الانفتاح لا الانغلاق، والتواصل لا التقاطع، والمسؤولية في قضايا العالم لا اللامبالاة، لأن الدين رحمة ومحبة وتحرّك قيمي من أجل الإنسان كله، والسلام كله.
لبنان: ترتيب الأوضاع الداخلية
أما لبنان، الذي انطلق فيه الدّخان الأبيض برعاية خارجية واضحة يعرفها الجميع في كل الحركة الإقليمية والدولية، التي عملت للوصول إلى هذا الواقع المتوازن، فإننا نريد لهذا التطوّر أن يوحي للبنانيين بشيء من التعقل والتوازن والتخطيط للّقاء الحواري الذي يؤسس للوحدة الوطنية، بعيداً عن سياسة الغالب والمغلوب المرتكزة على الكيدية الطائفية التي تثير الحساسيات بين الطوائف بما يجلب العداوة والبغضاء، ولا سيما في اللعبة الانتخابية التي تحاول أن تثير الأحقاد، وتقتل المحبة، وتحرّك الفتنة..
أيها اللبنانيون: إن العالم من حولكم يضج بالأحداث، ويحفل بالمتغيّرات، فاعملوا على ترتيب أوضاعكم الداخلية، وقلّعوا شوككم بأظافركم، وانطلقوا في حواركم الداخلي بوحي من أنفسكم قبل أن يأتي مَن يرسم لكم المستقبل على هدى مشروعه، ومن خلال خطته التي ينزل فيها الوحي السياسي في أكثر من محطة، وعبر أكثر من رسول، وهذا ما لاحظناه في التطور الأخير الذي لم يتحرك لبنانياً، بل تحرك إقليمياً ودولياً من خلال خطة متعددة المواقع...