لتكن حياتنا كلّها في خطّ رضى الله والحصول على الجنّة

لتكن حياتنا كلّها في خطّ رضى الله والحصول على الجنّة

لتكن حياتنا كلّها في خطّ رضى الله والحصول على الجنّة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد مخاطباً المؤمنين: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين* الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.

في هذه الآيات الكريمة، يدعو الله تعالى المؤمنين إلى المسارعة والمبادرة ما دامت الفرصة مفتوحةً أمامهم في هذا العمر الذي يتحركون فيه، المسارعة للحصول على مغفرة الله ورضوانه ومحبته، والحصول على مغفرة الله يؤدي إلى الجنة التي أعدّها للمتقين، للذين يخافونه ويريدون الحصول على رضاه.

من صفات المتقين: المسارعة إلى المغفرة

وقد ذكر الله تعالى عدَّة صفات للمتقين في الحياة العامة، ونلاحظ أنه تعالى لم يذكر الصلاة أو الصوم أو الحج، ولكنه تحدث عن بعض الأمور التي تتصل بالدور الاجتماعي في حياة الإنسان المؤمن، للتدليل على أن المسألة الاجتماعية في حركة الإنسان المسلم هي من المسائل التي لا بد للمتقين أن يأخذوا بها، وهي التي ترفع درجتهم عند الله بعد الفرائض التي فرضها الله عليهم في عبادتهم له، لأنّ الله يريد للإنسان المؤمن الذي يُدخله جنته، أن يكون عنصراً إنسانياً منفتحاً واسع الأفق والصدر، وأن يتحسّس آلام الناس في ما أعطاه الله من مال، فيعطي من ماله لمن يحتاج لهذا المال في حال السعة، وحتى في حال الضيق، أن يعيش المؤمن روح العطاء، أن لا يكون الإنسان البخيل، لأن البخيل يرتد بخله على نفسه: {ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه}.

فالله تعالى يقول للناس: {وسارعوا ـ قبل أن ترحلوا عن الحياة الدنيا، لأن الإنسان ما دام في هذه الحياة، فإن باب الجنة مفتوح له من خلال العمل الذي يقوم به، والمبادرات التي يبادر بها. سارعوا أيها المؤمنون الخاطئون ـ إلى مغفرة من ربكم ـ إلى التوبة، إلى الرجوع إلى الله، إلى البعد عن المعصية، لتحصلوا على المغفرة في الدنيا قبل أن يطويكم الموت ـ وجنّة ـ سارعوا إلى الجنة، ومَن منكم من لا يريد الجنة؟ إنكم تجهدون كل عمركم في سبيل أن تحصلوا على بيت تجمعون المال من أجل شرائه، أو لكي تحصلوا على أرض تعيشون فيها، أو على ما تريدونه من غذاء، ما رأيكم في الجنة التي فيها ما تشتهي أنفسكم، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ عرضها السموات والأرض ـ فلماذا لا تجهدون أنفسكم ليكون لكم مكان في الجنة، لتحصلوا على موقع تعيشون فيه مع أهلكم وذريّاتكم: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، سارعوا إلى الجنة، لأنكم عندما تفارقون هذه الدنيا من دون أن تسارعوا أو تبادروا إليها، فإنكم لن تحصلوا عليها فيما بعد الموت ـ أُعدّت للمتقين} أعدَّها الله بكل نعيمها وكل ما فيها من كرامات ولذات للمتقين.

كظم الغيظ

 الذين ينفقون ـ مما رزقهم الله، من مال الله على الفقراء والمساكين والأيتام وكل الذين يعيشون الحرمان في الحياة ـ في السراء والضراء ـ في حال السعة والضيق ـ والكاظمين الغيظ ـ ومن صفات المتقين أنهم إذا غضبوا واغتاظوا فإنهم لا يقومون بردة فعل ضد من يغضبهم، بل يدرسون الحالة التي هم فيها والنتائج السلبية لتفجير الغيظ، ولا سيما في الحالات التي تثور فيها العصبيات، سواء كانت عصبيات دينية أو سياسية أو اجتماعية، كما يعيشه الناس في هذه المرحلة، في هذا البلد وفي غيره من بلاد المسلمين، كالعراق وغيره، هؤلاء الناس الذين تتحرك عصبياتهم ويتفجّر غيظهم، وتلتهب انفعالاتهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويسبّ بعضهم بعضاً، ويتعصّب بعضهم على بعض، بما يؤدي إلى أن تسقط البلاد والعباد. إن الذين يطالبون بمغفرة الله يكظمون غيظهم، يدرسون أنهم إذا فجّروا غيظهم وحرَّكوا غضبهم قد تحدث فتنة، وإذا أطلقوا عصبياتهم فسوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. هؤلاء الذين ينفتحون على قضايا الأمة، ويكظمون غيظهم، ولا يتحوّل هذا الغيظ إلى عقدة، بل يعفون عمّن أساء إليهم، وينطلقون في حالة السمو إلى أن يحسنوا إلى من أساء إليهم ـ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}.

وقد وردت أحاديث عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، في مسألة كظم الغيظ استيحاءً من هذه الآية الكريمة، فنقرأ عن الإمام محمد الباقر(ع): "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشى الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة"، بحيث يقدم إلى يوم القيامة وهو آمن من غضب الله. وعن رسول الله(ص): "من كظم غيظاً ملأ الله جوفه إيماناً". وعنه(ص): "ما تجرّع عبد جرعةً أفضل عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله". وعن الإمام عليّ(ع): "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت، أم حين أقدر عليه فيقال لي: لو عفوت". وعنه(ع): "من خاف الله لم يشفِ غيظه"، لأن الغيظ قد يقوده إلى الانتقام الذي قد لا يكون عدلاً. وعن الإمام زين العابدين(ع): "ما تجرّعت جرعةً أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي صاحبها". وعن النبي(ص): "مِن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم، وجرعة مصيبة تردّها بصبر".

أما الذين يشفون غيظهم بمعصية الله، كمن يغتاظ من زوجته وأولاده، فيبادر إلى الضرب والطرد مما لا يجوز له، أو غير ذلك، فيقول الإمام عليّ(ع): "من طلب شفا غيظ بغير حق أذاقه الله هواناً بحق"، لأنه ابتعد عن الحق فاستحقَّ هوان الله. وعن النبي(ص): "إن لجهنم باباً لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى"، وعن عليّ(ع): "إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب، ولها يرضى ويسخط، أنه لا ينفع عبداً وإن أجهد نفسه وأخلص فعله، أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال: أن يشرك بالله في ما افترض الله عليه من عبادته، أو  يشفي غيظه بهلاك نفس...".

عدم الإصرار على الذنب

والصفة الثالثة للمتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشة ـ وهو كل ما تجاوز الحد ـ أو ظلموا أنفسهم ـ بالانحراف عن طاعة الله عزّ وجلّ ـ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ـ بادروا إلى الاستغفار ـ ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ـ وجائزة هؤلاء عظيمة لا تُباع بشيء ـ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".

هذه هي الأخلاق الإسلامية القرآنية التي يريدنا الله تعالى أن نرتفع من خلالها إلى مواقع رضاه، لنجاهد أنفسنا، ونتطلع في كل لحظة من لحظات حياتنا، وكل كلمة نقولها، وكل عمل نعمله، كل موقف نقفه، نتطلّع إلى الجنة، لأن مسألة الجنة ليست مسألة بسيطة ولا تأتي مجاناً: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، وقد ورد في بعض الأحاديث: "ما رأيت كالجنة نام طالبها". لذلك علينا أن نستعد للقاء الله، بأن نكون من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والمحسنين لهم، والمنفتحين على الاستغفار وطلب رضى الله والإنفاق على الناس، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا هذه المرحلة الصعبة في وطننا هذا، وفي ما حولنا من أوطان المنطقة العربية والإسلامية، وفي ما يبتعد عنا من بلاد المستضعفين، واجهوا ذلك كله بكل مسؤولية، من أجل أن نكون قوةً تردع الآخرين عن الاعتداء علينا، ومن أجل أن نكون وحدة نجابه بها كل التحديات التي توجَّه إلينا، ومن أجل أن نكون أمة كما أرادها الله تعالى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لتكون الأمة القائدة التي تدعو إلى الله ورسوله وإلى الخير، لأن الله أراد للأمة الإسلامية أن تكون الأمة القائدة التي تفتح العالم كله على الإسلام. ونحن نواجه في هذه المرحلة الكثير من السلبيات في أوضاع الأمة والأفراد، فتعالوا لنرى ماذا هناك:

قمة الجزائر: بيانات إنشائية

كانت في الجزائر قمة عربية، كالقمم السابقة التي تستعيد بياناتها الإنشائية، وقراراتها الاستهلاكية المتكررة التي لم يكلّف فيها القادة العرب أنفسهم وضع الآليات لها، أو اتخاذ المواقف الحاسمة الجريئة من أجل تحقيقها... وقد حاول البعض من المؤتمرين الدعوة إلى التطبيع مع العدوّ، ليضيف هذا التنازل إلى قمم التنازلات التي رفضها العدو الذي يطلب الاستسلام الكامل بدون قيد أو شرط، بحيث يخضعون لشروطه ومطالبه تحت تأثير الضغط الأمريكي الهائل الذي يفرض عليهم الاعتراف بالكيان الصهيوني بشروطه المذلّة، والتنكّر لكل قراراتهم، ومنها قرارات قمة بيروت التي استعادوا جثتها في هذا المؤتمر، لأن أمريكا وإسرائيل أجهزتا عليها منذ ولادتها...

وقد أعلن وزير خارجية العدو أن هناك "عشر دول عربية تقف في الصف لتعترف بإسرائيل" بعد هذا المؤتمر، على الرغم من إعلان العدوّ أنه ليس مستعداً للانسحاب من الجولان أو من القدس أو من المستوطنات والجدار الفاصل بعد الانسحاب من غزة، وقيامه بتدمير ثلاثة آلاف بيت في منطقة الحدود المصرية ـ الفلسطينية، وتطويق القدس بالمستوطنات، ومصادرة أراضيها بواسطة شراء أراضي الكنيسة الأرثوذكسية، ما يساهم في تهويدها، الأمر الذي يعطي الصورة الواضحة لشعار الديمقراطية الأمريكية في التعامل مع الشعب الفلسطيني في محاصرته في أرضه وطرده منها...

بعض العرب يدافع عن العدوّ

ومن الملفت أن بعض الزعماء العرب في اجتماعه في واشنطن مع قادة يهود، تحدث إليهم أنه حذّر شارون من "عمليات لحزب الله وسوريا، لتشجيعه لشن حملات عليهما وعلى إيران"، بدلاً من أن يحذّر العرب والمسلمين من احتمالات العدوان الشاروني على هذه المواقع وغيرها. ولكن المشكلة، هي أن بعض العرب يدافع عن العدو أكثر مما يدافع عن أهله، وخصوصاً في عمليات الهروب إلى الأمام، في اتهام إيران ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ في بعض الاحتجاجات الموجَّهة إليها بما يتعلق بالمجازر في العراق، لأن ذلك هو ثمن القرب من أمريكا التي لا زالت توحي إلى العرب وإلى أكثر من دولة، بأن الطريق إليها يمر بإسرائيل...

إننا نحذّر الجميع أن ينتبهوا إلى طبيعة السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية، من خلال الإدارة التي يقودها المحافظون الجدد العنصريون الذين يملكون السيطرة على مواقع الإعلام ومراكز الدراسات، إضافة إلى الفريق اليهودي في أمريكا، ولا سيما بعد التحالف الأمريكي ـ الأوروبي المتحرك للضغط على روسيا والدول الأخرى في تعقيد علاقاتها مع العرب والمسلمين، وخصوصاً في الضغط على إيران في مشروعها النووي السلمي، لأنهم لا يريدون لها أن تملك الخبرة العلمية في هذا الاتجاه، حذراً من المستقبل في عملية صنع القوة.

وإذا واجهنا المسألة العراقية التي لا تزال تتخبَّط في الدوّامة الأمريكية، فإننا نريد للعراقيين ـ من خلال حكومتهم المرتقبة ودستورهم المؤمَّل ـ أن يخططوا لعراق حرّ سيّد مستقل، يعمل لإخراج المحتل، والعمل على أن يقود مصيره بنفسه في تحرير الأرض والإنسان في صناعة المستقبل الكبير، ورفض القواعد العسكرية الأمريكية التي تريد أن تحوّل العراق إلى جسر تعبر عليه أمريكا للعدوان على المنطقة، بحجة نشر الديمقراطية ومكافحة ما تسمّيه الإرهاب، لخدمة مصالحها لا مصالح الشعوب...

لبنان: حذار من الانسياق وراء مخططات أمريكا

وفي هذا الاتجاه، نحذّر اللبنانيين من الخطة الأمريكية التي تعمل على أن تجعل من لبنان القاعدة السياسية ـ وربما الأمنية ـ في المنطقة للضغط على سوريا، لمواجهة المقاومة التي ينفتح سلاحها للدفاع عن لبنان كله، وللتخطيط لتوطين الفلسطينيين بطريقة غير مباشرة، للوصول إلى الصلح مع إسرائيل بالشروط الإسرائيلية... إننا نطلق صرخة الحذر من الطريقة الأمريكية في متابعة نشر الفوضى في هذا البلد، وتوجيه بعض القوى السياسية لتنفيذ خططها في ما تريده من لبنان لمصلحتها لا لمصلحة اللبنانيين.

وإذا كان البعض يتحدث عن التقاء مصالحنا مع مصالح أمريكا، ما يفرض علينا التعاون معها في ذلك، فإننا نقول لهم: إن مصالحها تختلف كلياً عن مصالحنا، لأنها تريد أن تلعب بلبنان كورقة تحركها ضد أكثر من موقع في المنطقة، وتفرض عليه الوصاية الجديدة كبديل عمّا يتحدث عنه البعض كوصاية قديمة. إن هذا التوتر النفسي والإعلامي قد يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، الذين لا بد لهم من الأخذ بأسباب الحذر، ليحدّقوا جيداً بالواقع كله، ولا يستغرقوا في جانب واحد من الصورة.

وفي هذا الجوّ، فإننا لا نزال نراقب الصراع السياسي الذي يتحرك في أكثر من خطاب انفعالي يثير التوتر من جهة، ويطلق الاتهامات غير المسؤولة من جهة أخرى، ولا سيما بعد الدخول الأمريكي على الخط الداخلي، الذي يحاول التأكيد من خلال ممثله، أن الشعب اللبناني يطالب بتدخّله ويؤيده ويدافع عنه بفعل بعض الجهات التي قد توحي له بذلك، أو تتفاعل معه في تأكيداته.

ثم إننا نلاحظ كيف يتغيّر الخطاب من عنوان إلى عنوان آخر، وكيف يتحدث فريق بطريقة قد تختلف عن حديث فريقه في الموقع نفسه، ما يجعل الشعب في حيرة من خلال هذا التغيّر في مفردات الخطاب، من دون أن يتغيّر الواقع. والسؤال: لماذا لم تُحكم الخطة منذ البداية، ليعرف الناس ما هو خط السير بين الأمس واليوم، فيعملوا على تركيز مواقفهم، ولا سيما أن الذين يصطادون في الماء العكر ممن لا يريدون بالبلد خيراً، بدأوا يلجأون إلى التفجيرات المشبوهة هنا وهناك، ويثيرون الإشاعات التي تثير الخوف، وتجمّد الأسواق، وتهزُّ الاقتصاد، وتدفع إلى الهجرة، ما جعل الناس يواجهون المستقبل بحالة من الرعب ويتساءلون هنا وهناك: هل عادت الحرب الأهلية؟ وهل بدأت الخطط الدولية والإقليمية لتفترس الأمن، فلا يأمنون على تحريك أمورهم وترتيب أوضاعهم؟

إننا نؤكد ـ وبحسب المعطيات المتوفرة بين أيدينا ـ أنه ليست هناك أية فرص داخلية أو خارجية لأية حرب، فقد أصبحت الحرب خلفنا ولم تعد أمامنا، ولكننا في الوقت نفسه، نطلق الصيحة للجميع أن لا يصنعوا أرضية جديدة للمشكلة.

العمل على تحصين الوحدة

ونحبّ أن نتوجه إلى الشباب الذين هم جيل المستقبل، أن يدرسوا جيداً ـ بعقلانية وموضوعية ـ كيف يصنعون المستقبل، لأنهم أصحاب المصلحة فيه، وأن لا يخضعوا لأمراء الحرب الذين صنعوا المأساة وأغرقوا البلد في المشاكل، وعملوا على بعثرة طاقاته بالهدر والفساد، وأن يأخذوا بأسباب الحوار، ويبتعدوا عن إثارة الفتنة المذهبية والطائفية والمناطقية، وخصوصاً شباب الجامعات من مسلمين ومسيحيين، وسنّة وشيعة ودروز، فإن لكل فريق الحق في الانتماء السياسي، ولكن حذار من تحويله إلى حقدٍ وعداوةٍ وبغضاءٍ بفعل العصبية.

إنّ الرياح تهب على البلد من كل مكان بالعواصف الهائجة المدمِّرة، فاعملوا على أن تحصّنوا بلدكم من كل ذلك، وتحفظوه من مطامع الآخرين، وتنفتحوا على الواقعية التي لا تبتعد عن المبادئ، وتطردوا كل الذين يثيرون الفتنة لعوامل شخصية أو طائفية أو مذهبية.

أيها الشباب... أيها اللبنانيون... أيها المسؤولون: الوحدة الوحدة، الحوار الحوار، العقل العقل، التقوى في الكلمة والموقف والحركة والسياسة والانتماء، وليكن كل مواطن خفيراً في بيته وسوقه وناديه وجامعته وشارعه، لنسقط كل الذين يريدون الشر بالبلد.   

لتكن حياتنا كلّها في خطّ رضى الله والحصول على الجنّة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد مخاطباً المؤمنين: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين* الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.

في هذه الآيات الكريمة، يدعو الله تعالى المؤمنين إلى المسارعة والمبادرة ما دامت الفرصة مفتوحةً أمامهم في هذا العمر الذي يتحركون فيه، المسارعة للحصول على مغفرة الله ورضوانه ومحبته، والحصول على مغفرة الله يؤدي إلى الجنة التي أعدّها للمتقين، للذين يخافونه ويريدون الحصول على رضاه.

من صفات المتقين: المسارعة إلى المغفرة

وقد ذكر الله تعالى عدَّة صفات للمتقين في الحياة العامة، ونلاحظ أنه تعالى لم يذكر الصلاة أو الصوم أو الحج، ولكنه تحدث عن بعض الأمور التي تتصل بالدور الاجتماعي في حياة الإنسان المؤمن، للتدليل على أن المسألة الاجتماعية في حركة الإنسان المسلم هي من المسائل التي لا بد للمتقين أن يأخذوا بها، وهي التي ترفع درجتهم عند الله بعد الفرائض التي فرضها الله عليهم في عبادتهم له، لأنّ الله يريد للإنسان المؤمن الذي يُدخله جنته، أن يكون عنصراً إنسانياً منفتحاً واسع الأفق والصدر، وأن يتحسّس آلام الناس في ما أعطاه الله من مال، فيعطي من ماله لمن يحتاج لهذا المال في حال السعة، وحتى في حال الضيق، أن يعيش المؤمن روح العطاء، أن لا يكون الإنسان البخيل، لأن البخيل يرتد بخله على نفسه: {ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه}.

فالله تعالى يقول للناس: {وسارعوا ـ قبل أن ترحلوا عن الحياة الدنيا، لأن الإنسان ما دام في هذه الحياة، فإن باب الجنة مفتوح له من خلال العمل الذي يقوم به، والمبادرات التي يبادر بها. سارعوا أيها المؤمنون الخاطئون ـ إلى مغفرة من ربكم ـ إلى التوبة، إلى الرجوع إلى الله، إلى البعد عن المعصية، لتحصلوا على المغفرة في الدنيا قبل أن يطويكم الموت ـ وجنّة ـ سارعوا إلى الجنة، ومَن منكم من لا يريد الجنة؟ إنكم تجهدون كل عمركم في سبيل أن تحصلوا على بيت تجمعون المال من أجل شرائه، أو لكي تحصلوا على أرض تعيشون فيها، أو على ما تريدونه من غذاء، ما رأيكم في الجنة التي فيها ما تشتهي أنفسكم، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ عرضها السموات والأرض ـ فلماذا لا تجهدون أنفسكم ليكون لكم مكان في الجنة، لتحصلوا على موقع تعيشون فيه مع أهلكم وذريّاتكم: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، سارعوا إلى الجنة، لأنكم عندما تفارقون هذه الدنيا من دون أن تسارعوا أو تبادروا إليها، فإنكم لن تحصلوا عليها فيما بعد الموت ـ أُعدّت للمتقين} أعدَّها الله بكل نعيمها وكل ما فيها من كرامات ولذات للمتقين.

كظم الغيظ

 الذين ينفقون ـ مما رزقهم الله، من مال الله على الفقراء والمساكين والأيتام وكل الذين يعيشون الحرمان في الحياة ـ في السراء والضراء ـ في حال السعة والضيق ـ والكاظمين الغيظ ـ ومن صفات المتقين أنهم إذا غضبوا واغتاظوا فإنهم لا يقومون بردة فعل ضد من يغضبهم، بل يدرسون الحالة التي هم فيها والنتائج السلبية لتفجير الغيظ، ولا سيما في الحالات التي تثور فيها العصبيات، سواء كانت عصبيات دينية أو سياسية أو اجتماعية، كما يعيشه الناس في هذه المرحلة، في هذا البلد وفي غيره من بلاد المسلمين، كالعراق وغيره، هؤلاء الناس الذين تتحرك عصبياتهم ويتفجّر غيظهم، وتلتهب انفعالاتهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويسبّ بعضهم بعضاً، ويتعصّب بعضهم على بعض، بما يؤدي إلى أن تسقط البلاد والعباد. إن الذين يطالبون بمغفرة الله يكظمون غيظهم، يدرسون أنهم إذا فجّروا غيظهم وحرَّكوا غضبهم قد تحدث فتنة، وإذا أطلقوا عصبياتهم فسوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. هؤلاء الذين ينفتحون على قضايا الأمة، ويكظمون غيظهم، ولا يتحوّل هذا الغيظ إلى عقدة، بل يعفون عمّن أساء إليهم، وينطلقون في حالة السمو إلى أن يحسنوا إلى من أساء إليهم ـ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}.

وقد وردت أحاديث عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، في مسألة كظم الغيظ استيحاءً من هذه الآية الكريمة، فنقرأ عن الإمام محمد الباقر(ع): "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشى الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة"، بحيث يقدم إلى يوم القيامة وهو آمن من غضب الله. وعن رسول الله(ص): "من كظم غيظاً ملأ الله جوفه إيماناً". وعنه(ص): "ما تجرّع عبد جرعةً أفضل عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله". وعن الإمام عليّ(ع): "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت، أم حين أقدر عليه فيقال لي: لو عفوت". وعنه(ع): "من خاف الله لم يشفِ غيظه"، لأن الغيظ قد يقوده إلى الانتقام الذي قد لا يكون عدلاً. وعن الإمام زين العابدين(ع): "ما تجرّعت جرعةً أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي صاحبها". وعن النبي(ص): "مِن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم، وجرعة مصيبة تردّها بصبر".

أما الذين يشفون غيظهم بمعصية الله، كمن يغتاظ من زوجته وأولاده، فيبادر إلى الضرب والطرد مما لا يجوز له، أو غير ذلك، فيقول الإمام عليّ(ع): "من طلب شفا غيظ بغير حق أذاقه الله هواناً بحق"، لأنه ابتعد عن الحق فاستحقَّ هوان الله. وعن النبي(ص): "إن لجهنم باباً لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى"، وعن عليّ(ع): "إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب، ولها يرضى ويسخط، أنه لا ينفع عبداً وإن أجهد نفسه وأخلص فعله، أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال: أن يشرك بالله في ما افترض الله عليه من عبادته، أو  يشفي غيظه بهلاك نفس...".

عدم الإصرار على الذنب

والصفة الثالثة للمتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشة ـ وهو كل ما تجاوز الحد ـ أو ظلموا أنفسهم ـ بالانحراف عن طاعة الله عزّ وجلّ ـ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ـ بادروا إلى الاستغفار ـ ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ـ وجائزة هؤلاء عظيمة لا تُباع بشيء ـ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".

هذه هي الأخلاق الإسلامية القرآنية التي يريدنا الله تعالى أن نرتفع من خلالها إلى مواقع رضاه، لنجاهد أنفسنا، ونتطلع في كل لحظة من لحظات حياتنا، وكل كلمة نقولها، وكل عمل نعمله، كل موقف نقفه، نتطلّع إلى الجنة، لأن مسألة الجنة ليست مسألة بسيطة ولا تأتي مجاناً: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، وقد ورد في بعض الأحاديث: "ما رأيت كالجنة نام طالبها". لذلك علينا أن نستعد للقاء الله، بأن نكون من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والمحسنين لهم، والمنفتحين على الاستغفار وطلب رضى الله والإنفاق على الناس، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا هذه المرحلة الصعبة في وطننا هذا، وفي ما حولنا من أوطان المنطقة العربية والإسلامية، وفي ما يبتعد عنا من بلاد المستضعفين، واجهوا ذلك كله بكل مسؤولية، من أجل أن نكون قوةً تردع الآخرين عن الاعتداء علينا، ومن أجل أن نكون وحدة نجابه بها كل التحديات التي توجَّه إلينا، ومن أجل أن نكون أمة كما أرادها الله تعالى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لتكون الأمة القائدة التي تدعو إلى الله ورسوله وإلى الخير، لأن الله أراد للأمة الإسلامية أن تكون الأمة القائدة التي تفتح العالم كله على الإسلام. ونحن نواجه في هذه المرحلة الكثير من السلبيات في أوضاع الأمة والأفراد، فتعالوا لنرى ماذا هناك:

قمة الجزائر: بيانات إنشائية

كانت في الجزائر قمة عربية، كالقمم السابقة التي تستعيد بياناتها الإنشائية، وقراراتها الاستهلاكية المتكررة التي لم يكلّف فيها القادة العرب أنفسهم وضع الآليات لها، أو اتخاذ المواقف الحاسمة الجريئة من أجل تحقيقها... وقد حاول البعض من المؤتمرين الدعوة إلى التطبيع مع العدوّ، ليضيف هذا التنازل إلى قمم التنازلات التي رفضها العدو الذي يطلب الاستسلام الكامل بدون قيد أو شرط، بحيث يخضعون لشروطه ومطالبه تحت تأثير الضغط الأمريكي الهائل الذي يفرض عليهم الاعتراف بالكيان الصهيوني بشروطه المذلّة، والتنكّر لكل قراراتهم، ومنها قرارات قمة بيروت التي استعادوا جثتها في هذا المؤتمر، لأن أمريكا وإسرائيل أجهزتا عليها منذ ولادتها...

وقد أعلن وزير خارجية العدو أن هناك "عشر دول عربية تقف في الصف لتعترف بإسرائيل" بعد هذا المؤتمر، على الرغم من إعلان العدوّ أنه ليس مستعداً للانسحاب من الجولان أو من القدس أو من المستوطنات والجدار الفاصل بعد الانسحاب من غزة، وقيامه بتدمير ثلاثة آلاف بيت في منطقة الحدود المصرية ـ الفلسطينية، وتطويق القدس بالمستوطنات، ومصادرة أراضيها بواسطة شراء أراضي الكنيسة الأرثوذكسية، ما يساهم في تهويدها، الأمر الذي يعطي الصورة الواضحة لشعار الديمقراطية الأمريكية في التعامل مع الشعب الفلسطيني في محاصرته في أرضه وطرده منها...

بعض العرب يدافع عن العدوّ

ومن الملفت أن بعض الزعماء العرب في اجتماعه في واشنطن مع قادة يهود، تحدث إليهم أنه حذّر شارون من "عمليات لحزب الله وسوريا، لتشجيعه لشن حملات عليهما وعلى إيران"، بدلاً من أن يحذّر العرب والمسلمين من احتمالات العدوان الشاروني على هذه المواقع وغيرها. ولكن المشكلة، هي أن بعض العرب يدافع عن العدو أكثر مما يدافع عن أهله، وخصوصاً في عمليات الهروب إلى الأمام، في اتهام إيران ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ في بعض الاحتجاجات الموجَّهة إليها بما يتعلق بالمجازر في العراق، لأن ذلك هو ثمن القرب من أمريكا التي لا زالت توحي إلى العرب وإلى أكثر من دولة، بأن الطريق إليها يمر بإسرائيل...

إننا نحذّر الجميع أن ينتبهوا إلى طبيعة السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية، من خلال الإدارة التي يقودها المحافظون الجدد العنصريون الذين يملكون السيطرة على مواقع الإعلام ومراكز الدراسات، إضافة إلى الفريق اليهودي في أمريكا، ولا سيما بعد التحالف الأمريكي ـ الأوروبي المتحرك للضغط على روسيا والدول الأخرى في تعقيد علاقاتها مع العرب والمسلمين، وخصوصاً في الضغط على إيران في مشروعها النووي السلمي، لأنهم لا يريدون لها أن تملك الخبرة العلمية في هذا الاتجاه، حذراً من المستقبل في عملية صنع القوة.

وإذا واجهنا المسألة العراقية التي لا تزال تتخبَّط في الدوّامة الأمريكية، فإننا نريد للعراقيين ـ من خلال حكومتهم المرتقبة ودستورهم المؤمَّل ـ أن يخططوا لعراق حرّ سيّد مستقل، يعمل لإخراج المحتل، والعمل على أن يقود مصيره بنفسه في تحرير الأرض والإنسان في صناعة المستقبل الكبير، ورفض القواعد العسكرية الأمريكية التي تريد أن تحوّل العراق إلى جسر تعبر عليه أمريكا للعدوان على المنطقة، بحجة نشر الديمقراطية ومكافحة ما تسمّيه الإرهاب، لخدمة مصالحها لا مصالح الشعوب...

لبنان: حذار من الانسياق وراء مخططات أمريكا

وفي هذا الاتجاه، نحذّر اللبنانيين من الخطة الأمريكية التي تعمل على أن تجعل من لبنان القاعدة السياسية ـ وربما الأمنية ـ في المنطقة للضغط على سوريا، لمواجهة المقاومة التي ينفتح سلاحها للدفاع عن لبنان كله، وللتخطيط لتوطين الفلسطينيين بطريقة غير مباشرة، للوصول إلى الصلح مع إسرائيل بالشروط الإسرائيلية... إننا نطلق صرخة الحذر من الطريقة الأمريكية في متابعة نشر الفوضى في هذا البلد، وتوجيه بعض القوى السياسية لتنفيذ خططها في ما تريده من لبنان لمصلحتها لا لمصلحة اللبنانيين.

وإذا كان البعض يتحدث عن التقاء مصالحنا مع مصالح أمريكا، ما يفرض علينا التعاون معها في ذلك، فإننا نقول لهم: إن مصالحها تختلف كلياً عن مصالحنا، لأنها تريد أن تلعب بلبنان كورقة تحركها ضد أكثر من موقع في المنطقة، وتفرض عليه الوصاية الجديدة كبديل عمّا يتحدث عنه البعض كوصاية قديمة. إن هذا التوتر النفسي والإعلامي قد يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، الذين لا بد لهم من الأخذ بأسباب الحذر، ليحدّقوا جيداً بالواقع كله، ولا يستغرقوا في جانب واحد من الصورة.

وفي هذا الجوّ، فإننا لا نزال نراقب الصراع السياسي الذي يتحرك في أكثر من خطاب انفعالي يثير التوتر من جهة، ويطلق الاتهامات غير المسؤولة من جهة أخرى، ولا سيما بعد الدخول الأمريكي على الخط الداخلي، الذي يحاول التأكيد من خلال ممثله، أن الشعب اللبناني يطالب بتدخّله ويؤيده ويدافع عنه بفعل بعض الجهات التي قد توحي له بذلك، أو تتفاعل معه في تأكيداته.

ثم إننا نلاحظ كيف يتغيّر الخطاب من عنوان إلى عنوان آخر، وكيف يتحدث فريق بطريقة قد تختلف عن حديث فريقه في الموقع نفسه، ما يجعل الشعب في حيرة من خلال هذا التغيّر في مفردات الخطاب، من دون أن يتغيّر الواقع. والسؤال: لماذا لم تُحكم الخطة منذ البداية، ليعرف الناس ما هو خط السير بين الأمس واليوم، فيعملوا على تركيز مواقفهم، ولا سيما أن الذين يصطادون في الماء العكر ممن لا يريدون بالبلد خيراً، بدأوا يلجأون إلى التفجيرات المشبوهة هنا وهناك، ويثيرون الإشاعات التي تثير الخوف، وتجمّد الأسواق، وتهزُّ الاقتصاد، وتدفع إلى الهجرة، ما جعل الناس يواجهون المستقبل بحالة من الرعب ويتساءلون هنا وهناك: هل عادت الحرب الأهلية؟ وهل بدأت الخطط الدولية والإقليمية لتفترس الأمن، فلا يأمنون على تحريك أمورهم وترتيب أوضاعهم؟

إننا نؤكد ـ وبحسب المعطيات المتوفرة بين أيدينا ـ أنه ليست هناك أية فرص داخلية أو خارجية لأية حرب، فقد أصبحت الحرب خلفنا ولم تعد أمامنا، ولكننا في الوقت نفسه، نطلق الصيحة للجميع أن لا يصنعوا أرضية جديدة للمشكلة.

العمل على تحصين الوحدة

ونحبّ أن نتوجه إلى الشباب الذين هم جيل المستقبل، أن يدرسوا جيداً ـ بعقلانية وموضوعية ـ كيف يصنعون المستقبل، لأنهم أصحاب المصلحة فيه، وأن لا يخضعوا لأمراء الحرب الذين صنعوا المأساة وأغرقوا البلد في المشاكل، وعملوا على بعثرة طاقاته بالهدر والفساد، وأن يأخذوا بأسباب الحوار، ويبتعدوا عن إثارة الفتنة المذهبية والطائفية والمناطقية، وخصوصاً شباب الجامعات من مسلمين ومسيحيين، وسنّة وشيعة ودروز، فإن لكل فريق الحق في الانتماء السياسي، ولكن حذار من تحويله إلى حقدٍ وعداوةٍ وبغضاءٍ بفعل العصبية.

إنّ الرياح تهب على البلد من كل مكان بالعواصف الهائجة المدمِّرة، فاعملوا على أن تحصّنوا بلدكم من كل ذلك، وتحفظوه من مطامع الآخرين، وتنفتحوا على الواقعية التي لا تبتعد عن المبادئ، وتطردوا كل الذين يثيرون الفتنة لعوامل شخصية أو طائفية أو مذهبية.

أيها الشباب... أيها اللبنانيون... أيها المسؤولون: الوحدة الوحدة، الحوار الحوار، العقل العقل، التقوى في الكلمة والموقف والحركة والسياسة والانتماء، وليكن كل مواطن خفيراً في بيته وسوقه وناديه وجامعته وشارعه، لنسقط كل الذين يريدون الشر بالبلد.   

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية