لأنّ الله دعا إلى اجتناب الظنّ ونهى عن التجسّس: لا تجسّسوا لحساب الظالمين والمستكبرين

لأنّ الله دعا إلى اجتناب الظنّ ونهى عن التجسّس: لا تجسّسوا لحساب الظالمين والمستكبرين

لأنّ الله دعا إلى اجتناب الظنّ ونهى عن التجسّس: لا تجسّسوا لحساب الظالمين والمستكبرين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

اجتناب الظنّ:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيُّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظنّ إثم ولا تجسَّسوا}. يؤكِّد الله تعالى في هذا النداء مسألةً تتصل بطبيعة حركة الإنسان مع الإنسان الآخر، سواء في ما يفكر فيه تجاهه، أو في ما يظنُّه ويتوهّمه من بعض الأمور فيه، لأن الناس ـ بشكل عام ـ ربما يحكمون على بعضهم البعض نتيجة بعض الهواجس أو بعض الظنون أو بعض الأوهام، أو بعض الظواهر التي تحتمل أكثر من احتمال، بحيث يصدرون أحكاماً سلبية تجاه البعض الآخر، كما نلاحظه في داخل الحياة الزوجية، حيث يتّهم الزوج زوجته، أو تتّهم الزوجة زوجها بالسوء، نتيجة بعض الأوضاع التي لا تمثِّل حجّةً أو برهاناً، ولكن المسألة تتصل بما يظنه الإنسان من خلال بعض الظواهر أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى الواقع الاجتماعي في ما يحكم الناس على بعضهم البعض.

والله تعالى يقول: {اجتنبوا كثيراً من الظنّ ـ والظنّ هو عبارة عن الاحتمالات التي ليس من حجّةٍ أو دليلٍ عليها، بحيث لو طولب بالدليل لقال إنني أشك أو أحتمل، فإذا كنت كذلك فكيف تحكم؟ فالله تعالى يقول: إن كثيراً مما تحملونه من انطباعات ضدَّ الآخرين هي انطباعات غير واقعية أو غير صحيحة، لذلك اجتنبوا إصدار الأحكام من خلال هذه الانطباعات، لأن {الظن لا يُغني من الحق شيئاً}، فالاحتمالات التي تنطلق من الهواجس لا تمثِّل الحقيقة، لأنّك إذا أردت أن تؤكّد الحقيقة في كل الأمور، فلا بد أن ترتكز على أساس اليقين ـ إن بعض الظن إثم}.

ثم يؤكد الله تعالى نقطة ثانية فيقول: {ولا تجسَّسوا}، والتجسُّس هو أن يحاول الإنسان أن يبحث عمّا يخفيه الآخر، أو أن يستهتر بما يعتبره الآخر من خصوصياته الذاتية التي لا يحبُّ لأحد أن يطّلع عليها، لأننا نعرف أن لكلِّ إنسان خصوصيات، ففي الحياة العائلية، قد تحدث بعض المشاكل والتعقيدات بين الزوج وزوجته، أو بين الأب وأولاده، وربّما تكون في قضايا سرّيّة للإنسان في بعض أوضاعه التجارية وعلاقاته الاجتماعية... فلكلٍّ منّا خصوصياته التي لا يحبّ للآخرين أن يطّلعوا عليها. فالله تعالى أراد لنا أن نحترم خصوصيات بعضنا البعض، لأن الإطلاع عليها قد يخلق بعض المشاكل، أو يعطّل بعض المشاريع التي ينتجها.

وهذا أمر لو رجع كل إنسان فيه إلى نفسه، لرأى أنه يرفض أن يتجسَّس عليه أحد، فلا إشكال أن لكل واحد منكم أسراراً وأوضاعاً يخفيها عن الآخر، فهل يقبل أحدكم أن يتجسَّس شخص ما على بيته أو ديونه أو حساباته التجارية، أو على أخطائه وكلنا نخطئ؟! يقيناً أن كل إنسان لو رجع إلى نفسه لما رضي أن يقتحم أحدٌ عليه عيوبه وأسراره، وقد ورد في الحديث الجامع بين هذين النقطتين عن رسول الله (ص): «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ـ لأنه ينطلق من الهواجس النفسية والانفعالات والاحتمالات التي لا ترتكز على أساس ـ ولا تجسسوا»، لا تحاولوا أن تنقّبوا عن خصوصيات الناس الآخرين أو أن تنفتحوا بأحاسيسكم ومشاعركم على خفاياهم.

لا تتبعوا عثرات المسلمين:

وعنه (ص) أنه قال: «إني لم أُؤمَر أن أُنقّب على قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم»، وكأنه (ص) يقول: إنّي آخذ الناس بظواهرهم من خلال أقوالهم وأفعالهم، فلا أمرني ربي أن أنقّب في قلوب الناس أو أفتش عما يخفونه في داخلهم. وعنه (ص) يقول: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه ـ كان إسلامه مجرد شهادة باللسان من دون أن تنفذ شهادته إلى عقله ليتحوّل الإسلام إلى جزء من عقله وشعوره والتزاماته ـ لا تتّبعوا عثرات المسلمين ـ لا تعملوا على متابعة أخطاء المسلمين لتبحثوا عنها ولتتجسسوا عليها بما تملكونه من وسائل ـ فإنه من تتبَّع عثرات المسلمين تتبَّع الله عثرته، ومن تتبَّع الله عثرته يفضحه». فأنت عندما تتجسَّس على أخطاء الناس وأسرارهم وعيوبهم حتى تستغلَّ كل ما تتعرّف عليه من ذلك كله، لتهدِّدهم وتفضحهم بها، لتحقيق بعض النتائج السلبية التي تتصل بالناس في كل أمورهم، فأنت مكشوف على الله، وهو {الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، فالله يطّلع عليك في كل خفاياك، سواء كانت داخلية في داخل كيانك، أو خارجية في ما تخفيه عن الناس لما تفعله بنفسك، فالله قد يعاقبك في الدنيا، وقد يثأر لهذا المؤمن الذي تتبَّعت عثراته وأخطاءه، بأن يفضحك بالوسائل التي بيده سبحانه.

وهناك حديث عن النبي (ص): «لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبَّع عثرات أخيه ـ والمؤمنون أخوة ـ تتَّبع الله عثراته، ومن تتبَّع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته». وعنه (ص) أنه قال: «لا تسألوا الفاجرة من فَجَر بكِ، فكما هان عليها الفجور يهون عليها أن ترمي البريء المسلم»، فلو ثبت الزنى على امرأة، فلا تسألها من الذي زنى بك، فهي ليست ثقة، فكما عصت الله وأقدمت على الزنى، فإنها قد تتَّهم بريئاً.

حرمة التجسس:

ورد في "كنز العمّال" أنَّ عمر بن الخطاب كان يتجوّل يوماً في المدينة، فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه وقال: «يا عدوّ الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية»، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث، فقد قال: {ولا تجسَّسوا} وقد تجسَّست عليّ، وقال تعالى: {وأْتوا البيوت من أبوابها} وقد تسوّرت عليّ ودخلت عليّ بغير إذن، وقال تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها}، فقال عمر: «فهل عندك من خير إن عفوت عنك»، قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. هذه القصة تعطينا فكرة في ذاك المجتمع، وهي أن المجتمع كان يملك من الحرية أن يجابه الخليفة بأخطائه، فلا يشعر الحاكم بأن هذه المجابهة يستحقُّ عليها صاحبها السجن.

وهذا الأمر يتَّصل بالجانب الشخصي، ولكن التجسس أصبح يمثل أجهزة دولية تمدُّ شباكها إلى كلِّ أنحاء العالم، فنحن نلاحظ أن المخابرات المركزية الأمريكية تمتدُّ إلى كل بلاد العالم، وفي كل بلد تجد موظفين لهذه الأجهزة، وقد يكون هؤلاء الموظفون ملوكاً أو رؤساء أحزاب أو شخصيات اجتماعية، فهم يوظّفون أغلب حكّام العالم حتى يكلِّفوهم القيام ببعض الأمور التي تخدم هذه الدولة أو تلك، ونحن نعرف أن المخابرات المركزية الأمريكية توظّف الكثير من المسلمين حتى يتجسَّسوا على مجتمعاتهم، على المواقع الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية... والمخابرات التي تمثل خط الشر هي الأجهزة التي تنفذ إلى شعوب العالم لتعبث بأمنها وسياستها وتصادر اقتصادها، وهو ما تسعى إليه المخابرات الأمريكية والموساد الإٍسرائيلي وغيرهما، وهناك مخابرات مشروعة، وهي التي يُراد من خلالها حماية المجتمعات ومواجهة مخابرات الشر، فهي تعتبر في طاعة الله لا في معصيته، وهي تحتاج إلى أن يكون المشرفون عليها من الشخصيات المؤمنة الصالحة التي تعمل من أجل حفظ أوضاع الناس ومصالحهم وقضاياهم.

ويُنقل في هذا المجال أن رسول الله (ص) كان يحاول أن يدفع بجماعة إلى أن يواجهوا تجسُّس الآخرين وتخريب أوضاعهم في حروبهم، ويُنقل عن الإمام عليّ (ع) قوله: «بعثني رسول الله (ص)، أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ»، فإن بها ظعينة ـ امرأة راكبة ـ معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: هلمّي الكتاب، فقالت: ما عندي من كتاب، فقلت: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثياب ـ وهم مكلَّفون بمهمة من رسول الله (ص)، وفي رواية في سنن أبي داوود: قال علي: «والذي يُحلف به لأقتلنّك أو لتخرجنَّ الكتاب» ـ فأخرجته من عقاصها ـ من شعرها ـ فأتينا به النبي (ص)، فإذا هو من «حاطب بن أبي بلتعة» ـ شخص من الصحابة ـ إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله (ص)، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، فإني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ـ فهو من التوابع وليس قرشياً ـ وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكّة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتَّخذ فيهم يداً يحمون قرابتي بها، والله يا رسول الله ما كان بي من كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله: "صَدَقَكم". وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع): «كان رسول الله (ص) إذا بعث جيشاً، فاتّهَمَ أميراً، بعث معه من ثقاته من يتجسَّس له خبره».

ونفهم من هذا أنَّ الأصل هو حرمة التجسّس، وأفظع ذلك أن يتجسس الإنسان لحساب الظالمين أو المستكبرين تحت أيِّ اعتبار، لأننا إذا درسنا أكثر ما يحصل في عالمنا العربي والإسلامي من حروب وفتن، فإننا نجد أن المخابرات الاستكبارية هي التي خطَّطت لذلك، وأول من يتحمّل مسؤولية ذلك هو الجاسوس الذي فتح البلد بأسرارها وقضاياها للمستكبرين... أما عندما يكون التجسس مصلحة للإسلام وأهله، فإنه يجوز، ولكن من خلال قيادة مؤمنة صالحة تقية تعرف حدود الله في ما يأمر به وينهى عنه.

 الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتّقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون}، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. إن علينا أن نحافظ على وحدتنا الإسلامية، لأنَّ العالم المستكبر وحليفه العالم الكافر يعملان على تمزيق صفوف المسلمين وتشتيت أوضاعهم. إننا نواجه في هذه المرحلة من حياتنا في العالم الإسلامي كله، وفي عالم المستضعفين، حملات المستكبرين العالميين الذين دخلوا إلى بلادنا وعبثوا بأمننا وصادروا اقتصادنا، وعلينا أن نواجه ذلك من موقع واحد، لأن الله يريد للمسلمين العزَّة، ولا عزة إلا بالوحدة والموقف القوي الذي ننفتح فيه على التحديات الكبرى التي تواجهنا في كل مكان، فتعالوا لنعرف ماذا هناك مما يُدبّر لنا من المستكبرين:

وحشيّة الجيش الأمريكي:

كان العالم في هذا الأسبوع يتابع الرئيس الأمريكي، في استعراضه الخطابي الذي يؤكد فيه موقعه الإمبراطوري العالمي في الدفاع عن حربه اللاشرعية التي ابتعدت عن الشرعية الدولية للقانون الدولي، لأنها لم تخضع لقرار من مجلس الأمن الدولي الذي يملك ـ حسب الأمين العام للأمم المتحدة ـ قرار الحرب والسلم في العالم...

وقد حاول الرئيس "بوش" الدفاع عن شرعيَّته من دون حجة، بل كان ينتقل من كذبة إلى كذبة في تبريراته السياسية التي قفز فيها من أسلحة الدمار الشامل التي لم يستطع تأكيد وجودها في العراق، إلى إسقاط النظام الطاغي الذي كان حليفاً وربيباً لأمريكا، إلى التنفيس عن عقدة أبيه في مفاعيل طاغية هذا النظام...

ثم هو يتحدث بأنه "يعمل لعالمٍ أكثر سلماً"، في الوقت الذي يعرف الجميع أنه جعله أكثر حرباً وخراباً ودماراً، وبأن العراق ـ حسب كلامه ـ هو بمثابة "النموذج لباقي الدول العربية"، ولا ندري عن أيِّ نموذجٍ يتحدَّث، ونحن نتابع في كل يوم صور ومشاهد القتل الوحشي لهذا الشعب المستضعف الذي تقصفه الطائرات والدبَّابات والصواريخ الأمريكية، وهو يصرخ: هل هذه هي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي وعدنا بها؟؟ وما معنى هذا القصف العشوائي الذي يسقط فيه الأطفال والشيوخ والنساء والشباب من المدنيين، وقد بلغت بعض الإحصاءات حوالي 37 ألف قتيل منذ أن شنَّت أمريكا حربها على العراق، وما زالت الأعداد الدامية تتوالى، بالإضافة إلى قصف المدنيين بدم بارد بالطائرات عندما يتجمّعون لمشاهدة دبابة مقصوفة محترقة، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى بمن فيهم الصحفيون؟؟

إنَّ هذه الأعمال الإجرامية تدلُّ على وحشية الجيش الأمريكي في عشوائيته، بالإضافة إلى التعذيب الدامي واللاأخلاقي الذي يمارسه في سجن أبي غريب وأمثاله... ويتساءل الناس: هل هذا هو النموذج؟!

بوش: أفضل من يجند للقاعدة:

ثم إن العراقيين يطالبون بالأمن والخدمات الحيوية الضرورية والإعمار، وبناء الدولة على أساس قويّ يحملها للمستقبل، ولم يتحقق شيء من ذلك... وأصبح الجيش الأمريكي _ وحلفاؤه _ معنياً بالدفاع عن جنوده بدلاً من الدفاع عن العراقيين الذين يواجهون عمليات الاغتيالات المتنوّعة من خلال الجماعات التي تنصب حواجز الاصطياد للناس على أساس مذهبي أو حزبي أو نحو ذلك، من دون أن تجد أيّ ردع من قوّات الحكومة المدعومة مما يُسمّى بقوات التحالف؟!

وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدَّث عن الإرهاب، فإننا نلاحظ أنه هو الذي حرّك أوضاعه، كما قال السفير البريطاني في إيطاليا، الذي وصف الرئيس الأمريكي بأنه "أفضل من يجنّد للقاعدة"... هذا إضافةً إلى أنه يخلط بين المقاومة والإرهاب، كما فعل في الحديث عن الانتفاضة التحريرية في فلسطين...

ثم إنه يشير إلى ما يسمّيه "الإبادة الجماعية" في إقليم دارفور السوداني، من دون أن يشير إلى الإبادة الحقيقية الوحشية التي لا يزال الجيش الصهيوني يحرّكها ضد الشعب الفلسطيني في كلِّ يوم بمختلف الأسلحة الأمريكية المتطوّرة، وتحت غطاءٍ من الرئيس الأمريكي نفسه الذي يعتبر هذه الإبادة "دفاعاً عن النفس" ضدَّ ما يسمّيه الإرهاب، من دون اعتبارٍ لمسألة التحرير التي يتشدّق بها دائماً في مواعظه للعالم...

وقد تحدَّث عن أطفال القدس، ولم يتحدث عن أطفال غزة والضفة الغربية الذين يسقطون في كل يوم برصاص إسرائيل، وعن أطفال المدارس الذين لا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم... إن مشكلة هذا الرئيس أنه يقف على منبر الأمم المتحدة كإسرائيلي لا كأمريكي...

وإذا كان يتحدث عن المستوطنات والجدار الفاصل، فإنه يمنع مجلس الأمن من الضغط على إسرائيل وإدانتها، بل كل ضغطه على الفلسطينيين في ندائه للعالم أن يقاطع "عرفات"، وأن يعتبر رجال الانتفاضة "إرهابيين"، في الوقت الذي تجري الدماء الفلسطينية في كلِّ أنحاء فلسطين من دون احتجاج أمريكي أو أوروبي أو عربي، ومن دون ضغطٍ من اللجنة الرباعية الدولية، حتى إذا قام المجاهدون بأيّ ردِّ فعلٍ للدفاع عن أرضهم وشعبهم، انطلقت الإدانات والاحتجاجات من كل جانب، لأن الدم الفلسطيني لا قيمة له عند هؤلاء أمام الدم الإسرائيلي الذي يملك كل القيمة الإنسانية عندهم...

الخطة الأمريكية: إذلال العراقيين:

إننا نقدِّر للشعب الفلسطيني المجاهد هذا الصمود البطولي، ونريد لـه أن يبقي المأزق الإسرائيلي في تصاعد واستمرار، لأن ذلك هو السبيل للتحرير.

أما العراق الذي نتطلَّع إلى مستقبله الذي يصنعه شعبه في حركة الحرية والتحرر من الاحتلال، فإننا نتابع المآسي والآلام التي تضغط عليه بفعل حركة الجيش الأمريكي وحلفائه، من خلال القصف العشوائي الوحشي المجنون الذي لا يزال يتابعه في أكثر من منطقة، حتى المناطق التي أعلنت وقف إطلاق النار كمدينة الصدر، لأن الخطَّة الأمريكية هي إذلال العراقيين ودفعهم إلى الاستسلام الذي يحطّم إنسانيتهم، ويصادر كرامتهم...

ومن جانب آخر، فقد استنكرنا ـ ولا نزال ـ أعمال الخطف والذبح والاغتيالات العشوائية، ونرى في ذلك عملاً غير مبرَّر بالنسبة إلى الأشخاص الأبرياء، ولا سيّما أن وضع اللافتة الإسلامية في عناوين هذه الأعمال يسيء إلى صورة الإسلام، مما يستغلُّه أعداؤه في تشويه صورته النقيّة.

لبنان: البناء على أساس المواطنية:

أما لبنان، فإنَّه يمرُّ بأقسى مرحلة سياسية في الداخل، في السجالات العنيفة الدائرة بين المعارضة والموالاة، بعيداً عن التعقّل في الشكل والمضمون، وعن الواقعية في الوسائل...

إننا نقول لهم: إنَّ الدولة هي أكبر من الجميع، لأنها تتَّصل بالشعب كله، ولا سيما من خلال الأزمات الخانقة على المستوى الاقتصادي الذي يفترس أوضاع الناس المأساوية وخصوصاً في موسم المدارس، وعلى المستوى التربوي والسياسي من خلال غول الهدر والفساد...

أيها الناس: إن لبنان هو الوطن الذي نريد أن نركّزه على أساس المواطنية التي تساوي بين المواطنين بعيداً عن الطائفية والشخصانية، وتؤكد للعاملين فيه على جميع المستويات اللقاء على أساس القيم الروحية والأخلاقية، ورحابة الفكر، وسعة الصدر، والحوار الموضوعي الهادئ، لأن الصراخ في الخطابات والتصريحات قد يصمّ الآذان ولكنَّه لا ينفتح على العقل...

إنَّ لديكم ـ أيُّها اللبنانيون ـ وطناً جميلاً رائعاً فلا تضيّعوه، وإن لديكم إنساناً مثقَّفاً منفتحاً على الإبداع فلا تقتلوه روحاً وفكراً... تعالوا إلى الحوار في ساحة البناء، لا إلى ساحة الهدم والدمار.

لأنّ الله دعا إلى اجتناب الظنّ ونهى عن التجسّس: لا تجسّسوا لحساب الظالمين والمستكبرين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

اجتناب الظنّ:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيُّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظنّ إثم ولا تجسَّسوا}. يؤكِّد الله تعالى في هذا النداء مسألةً تتصل بطبيعة حركة الإنسان مع الإنسان الآخر، سواء في ما يفكر فيه تجاهه، أو في ما يظنُّه ويتوهّمه من بعض الأمور فيه، لأن الناس ـ بشكل عام ـ ربما يحكمون على بعضهم البعض نتيجة بعض الهواجس أو بعض الظنون أو بعض الأوهام، أو بعض الظواهر التي تحتمل أكثر من احتمال، بحيث يصدرون أحكاماً سلبية تجاه البعض الآخر، كما نلاحظه في داخل الحياة الزوجية، حيث يتّهم الزوج زوجته، أو تتّهم الزوجة زوجها بالسوء، نتيجة بعض الأوضاع التي لا تمثِّل حجّةً أو برهاناً، ولكن المسألة تتصل بما يظنه الإنسان من خلال بعض الظواهر أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى الواقع الاجتماعي في ما يحكم الناس على بعضهم البعض.

والله تعالى يقول: {اجتنبوا كثيراً من الظنّ ـ والظنّ هو عبارة عن الاحتمالات التي ليس من حجّةٍ أو دليلٍ عليها، بحيث لو طولب بالدليل لقال إنني أشك أو أحتمل، فإذا كنت كذلك فكيف تحكم؟ فالله تعالى يقول: إن كثيراً مما تحملونه من انطباعات ضدَّ الآخرين هي انطباعات غير واقعية أو غير صحيحة، لذلك اجتنبوا إصدار الأحكام من خلال هذه الانطباعات، لأن {الظن لا يُغني من الحق شيئاً}، فالاحتمالات التي تنطلق من الهواجس لا تمثِّل الحقيقة، لأنّك إذا أردت أن تؤكّد الحقيقة في كل الأمور، فلا بد أن ترتكز على أساس اليقين ـ إن بعض الظن إثم}.

ثم يؤكد الله تعالى نقطة ثانية فيقول: {ولا تجسَّسوا}، والتجسُّس هو أن يحاول الإنسان أن يبحث عمّا يخفيه الآخر، أو أن يستهتر بما يعتبره الآخر من خصوصياته الذاتية التي لا يحبُّ لأحد أن يطّلع عليها، لأننا نعرف أن لكلِّ إنسان خصوصيات، ففي الحياة العائلية، قد تحدث بعض المشاكل والتعقيدات بين الزوج وزوجته، أو بين الأب وأولاده، وربّما تكون في قضايا سرّيّة للإنسان في بعض أوضاعه التجارية وعلاقاته الاجتماعية... فلكلٍّ منّا خصوصياته التي لا يحبّ للآخرين أن يطّلعوا عليها. فالله تعالى أراد لنا أن نحترم خصوصيات بعضنا البعض، لأن الإطلاع عليها قد يخلق بعض المشاكل، أو يعطّل بعض المشاريع التي ينتجها.

وهذا أمر لو رجع كل إنسان فيه إلى نفسه، لرأى أنه يرفض أن يتجسَّس عليه أحد، فلا إشكال أن لكل واحد منكم أسراراً وأوضاعاً يخفيها عن الآخر، فهل يقبل أحدكم أن يتجسَّس شخص ما على بيته أو ديونه أو حساباته التجارية، أو على أخطائه وكلنا نخطئ؟! يقيناً أن كل إنسان لو رجع إلى نفسه لما رضي أن يقتحم أحدٌ عليه عيوبه وأسراره، وقد ورد في الحديث الجامع بين هذين النقطتين عن رسول الله (ص): «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ـ لأنه ينطلق من الهواجس النفسية والانفعالات والاحتمالات التي لا ترتكز على أساس ـ ولا تجسسوا»، لا تحاولوا أن تنقّبوا عن خصوصيات الناس الآخرين أو أن تنفتحوا بأحاسيسكم ومشاعركم على خفاياهم.

لا تتبعوا عثرات المسلمين:

وعنه (ص) أنه قال: «إني لم أُؤمَر أن أُنقّب على قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم»، وكأنه (ص) يقول: إنّي آخذ الناس بظواهرهم من خلال أقوالهم وأفعالهم، فلا أمرني ربي أن أنقّب في قلوب الناس أو أفتش عما يخفونه في داخلهم. وعنه (ص) يقول: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه ـ كان إسلامه مجرد شهادة باللسان من دون أن تنفذ شهادته إلى عقله ليتحوّل الإسلام إلى جزء من عقله وشعوره والتزاماته ـ لا تتّبعوا عثرات المسلمين ـ لا تعملوا على متابعة أخطاء المسلمين لتبحثوا عنها ولتتجسسوا عليها بما تملكونه من وسائل ـ فإنه من تتبَّع عثرات المسلمين تتبَّع الله عثرته، ومن تتبَّع الله عثرته يفضحه». فأنت عندما تتجسَّس على أخطاء الناس وأسرارهم وعيوبهم حتى تستغلَّ كل ما تتعرّف عليه من ذلك كله، لتهدِّدهم وتفضحهم بها، لتحقيق بعض النتائج السلبية التي تتصل بالناس في كل أمورهم، فأنت مكشوف على الله، وهو {الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، فالله يطّلع عليك في كل خفاياك، سواء كانت داخلية في داخل كيانك، أو خارجية في ما تخفيه عن الناس لما تفعله بنفسك، فالله قد يعاقبك في الدنيا، وقد يثأر لهذا المؤمن الذي تتبَّعت عثراته وأخطاءه، بأن يفضحك بالوسائل التي بيده سبحانه.

وهناك حديث عن النبي (ص): «لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبَّع عثرات أخيه ـ والمؤمنون أخوة ـ تتَّبع الله عثراته، ومن تتبَّع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته». وعنه (ص) أنه قال: «لا تسألوا الفاجرة من فَجَر بكِ، فكما هان عليها الفجور يهون عليها أن ترمي البريء المسلم»، فلو ثبت الزنى على امرأة، فلا تسألها من الذي زنى بك، فهي ليست ثقة، فكما عصت الله وأقدمت على الزنى، فإنها قد تتَّهم بريئاً.

حرمة التجسس:

ورد في "كنز العمّال" أنَّ عمر بن الخطاب كان يتجوّل يوماً في المدينة، فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه وقال: «يا عدوّ الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية»، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث، فقد قال: {ولا تجسَّسوا} وقد تجسَّست عليّ، وقال تعالى: {وأْتوا البيوت من أبوابها} وقد تسوّرت عليّ ودخلت عليّ بغير إذن، وقال تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها}، فقال عمر: «فهل عندك من خير إن عفوت عنك»، قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. هذه القصة تعطينا فكرة في ذاك المجتمع، وهي أن المجتمع كان يملك من الحرية أن يجابه الخليفة بأخطائه، فلا يشعر الحاكم بأن هذه المجابهة يستحقُّ عليها صاحبها السجن.

وهذا الأمر يتَّصل بالجانب الشخصي، ولكن التجسس أصبح يمثل أجهزة دولية تمدُّ شباكها إلى كلِّ أنحاء العالم، فنحن نلاحظ أن المخابرات المركزية الأمريكية تمتدُّ إلى كل بلاد العالم، وفي كل بلد تجد موظفين لهذه الأجهزة، وقد يكون هؤلاء الموظفون ملوكاً أو رؤساء أحزاب أو شخصيات اجتماعية، فهم يوظّفون أغلب حكّام العالم حتى يكلِّفوهم القيام ببعض الأمور التي تخدم هذه الدولة أو تلك، ونحن نعرف أن المخابرات المركزية الأمريكية توظّف الكثير من المسلمين حتى يتجسَّسوا على مجتمعاتهم، على المواقع الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية... والمخابرات التي تمثل خط الشر هي الأجهزة التي تنفذ إلى شعوب العالم لتعبث بأمنها وسياستها وتصادر اقتصادها، وهو ما تسعى إليه المخابرات الأمريكية والموساد الإٍسرائيلي وغيرهما، وهناك مخابرات مشروعة، وهي التي يُراد من خلالها حماية المجتمعات ومواجهة مخابرات الشر، فهي تعتبر في طاعة الله لا في معصيته، وهي تحتاج إلى أن يكون المشرفون عليها من الشخصيات المؤمنة الصالحة التي تعمل من أجل حفظ أوضاع الناس ومصالحهم وقضاياهم.

ويُنقل في هذا المجال أن رسول الله (ص) كان يحاول أن يدفع بجماعة إلى أن يواجهوا تجسُّس الآخرين وتخريب أوضاعهم في حروبهم، ويُنقل عن الإمام عليّ (ع) قوله: «بعثني رسول الله (ص)، أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ»، فإن بها ظعينة ـ امرأة راكبة ـ معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: هلمّي الكتاب، فقالت: ما عندي من كتاب، فقلت: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثياب ـ وهم مكلَّفون بمهمة من رسول الله (ص)، وفي رواية في سنن أبي داوود: قال علي: «والذي يُحلف به لأقتلنّك أو لتخرجنَّ الكتاب» ـ فأخرجته من عقاصها ـ من شعرها ـ فأتينا به النبي (ص)، فإذا هو من «حاطب بن أبي بلتعة» ـ شخص من الصحابة ـ إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله (ص)، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، فإني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ـ فهو من التوابع وليس قرشياً ـ وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكّة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتَّخذ فيهم يداً يحمون قرابتي بها، والله يا رسول الله ما كان بي من كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله: "صَدَقَكم". وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع): «كان رسول الله (ص) إذا بعث جيشاً، فاتّهَمَ أميراً، بعث معه من ثقاته من يتجسَّس له خبره».

ونفهم من هذا أنَّ الأصل هو حرمة التجسّس، وأفظع ذلك أن يتجسس الإنسان لحساب الظالمين أو المستكبرين تحت أيِّ اعتبار، لأننا إذا درسنا أكثر ما يحصل في عالمنا العربي والإسلامي من حروب وفتن، فإننا نجد أن المخابرات الاستكبارية هي التي خطَّطت لذلك، وأول من يتحمّل مسؤولية ذلك هو الجاسوس الذي فتح البلد بأسرارها وقضاياها للمستكبرين... أما عندما يكون التجسس مصلحة للإسلام وأهله، فإنه يجوز، ولكن من خلال قيادة مؤمنة صالحة تقية تعرف حدود الله في ما يأمر به وينهى عنه.

 الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتّقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون}، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. إن علينا أن نحافظ على وحدتنا الإسلامية، لأنَّ العالم المستكبر وحليفه العالم الكافر يعملان على تمزيق صفوف المسلمين وتشتيت أوضاعهم. إننا نواجه في هذه المرحلة من حياتنا في العالم الإسلامي كله، وفي عالم المستضعفين، حملات المستكبرين العالميين الذين دخلوا إلى بلادنا وعبثوا بأمننا وصادروا اقتصادنا، وعلينا أن نواجه ذلك من موقع واحد، لأن الله يريد للمسلمين العزَّة، ولا عزة إلا بالوحدة والموقف القوي الذي ننفتح فيه على التحديات الكبرى التي تواجهنا في كل مكان، فتعالوا لنعرف ماذا هناك مما يُدبّر لنا من المستكبرين:

وحشيّة الجيش الأمريكي:

كان العالم في هذا الأسبوع يتابع الرئيس الأمريكي، في استعراضه الخطابي الذي يؤكد فيه موقعه الإمبراطوري العالمي في الدفاع عن حربه اللاشرعية التي ابتعدت عن الشرعية الدولية للقانون الدولي، لأنها لم تخضع لقرار من مجلس الأمن الدولي الذي يملك ـ حسب الأمين العام للأمم المتحدة ـ قرار الحرب والسلم في العالم...

وقد حاول الرئيس "بوش" الدفاع عن شرعيَّته من دون حجة، بل كان ينتقل من كذبة إلى كذبة في تبريراته السياسية التي قفز فيها من أسلحة الدمار الشامل التي لم يستطع تأكيد وجودها في العراق، إلى إسقاط النظام الطاغي الذي كان حليفاً وربيباً لأمريكا، إلى التنفيس عن عقدة أبيه في مفاعيل طاغية هذا النظام...

ثم هو يتحدث بأنه "يعمل لعالمٍ أكثر سلماً"، في الوقت الذي يعرف الجميع أنه جعله أكثر حرباً وخراباً ودماراً، وبأن العراق ـ حسب كلامه ـ هو بمثابة "النموذج لباقي الدول العربية"، ولا ندري عن أيِّ نموذجٍ يتحدَّث، ونحن نتابع في كل يوم صور ومشاهد القتل الوحشي لهذا الشعب المستضعف الذي تقصفه الطائرات والدبَّابات والصواريخ الأمريكية، وهو يصرخ: هل هذه هي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي وعدنا بها؟؟ وما معنى هذا القصف العشوائي الذي يسقط فيه الأطفال والشيوخ والنساء والشباب من المدنيين، وقد بلغت بعض الإحصاءات حوالي 37 ألف قتيل منذ أن شنَّت أمريكا حربها على العراق، وما زالت الأعداد الدامية تتوالى، بالإضافة إلى قصف المدنيين بدم بارد بالطائرات عندما يتجمّعون لمشاهدة دبابة مقصوفة محترقة، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى بمن فيهم الصحفيون؟؟

إنَّ هذه الأعمال الإجرامية تدلُّ على وحشية الجيش الأمريكي في عشوائيته، بالإضافة إلى التعذيب الدامي واللاأخلاقي الذي يمارسه في سجن أبي غريب وأمثاله... ويتساءل الناس: هل هذا هو النموذج؟!

بوش: أفضل من يجند للقاعدة:

ثم إن العراقيين يطالبون بالأمن والخدمات الحيوية الضرورية والإعمار، وبناء الدولة على أساس قويّ يحملها للمستقبل، ولم يتحقق شيء من ذلك... وأصبح الجيش الأمريكي _ وحلفاؤه _ معنياً بالدفاع عن جنوده بدلاً من الدفاع عن العراقيين الذين يواجهون عمليات الاغتيالات المتنوّعة من خلال الجماعات التي تنصب حواجز الاصطياد للناس على أساس مذهبي أو حزبي أو نحو ذلك، من دون أن تجد أيّ ردع من قوّات الحكومة المدعومة مما يُسمّى بقوات التحالف؟!

وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدَّث عن الإرهاب، فإننا نلاحظ أنه هو الذي حرّك أوضاعه، كما قال السفير البريطاني في إيطاليا، الذي وصف الرئيس الأمريكي بأنه "أفضل من يجنّد للقاعدة"... هذا إضافةً إلى أنه يخلط بين المقاومة والإرهاب، كما فعل في الحديث عن الانتفاضة التحريرية في فلسطين...

ثم إنه يشير إلى ما يسمّيه "الإبادة الجماعية" في إقليم دارفور السوداني، من دون أن يشير إلى الإبادة الحقيقية الوحشية التي لا يزال الجيش الصهيوني يحرّكها ضد الشعب الفلسطيني في كلِّ يوم بمختلف الأسلحة الأمريكية المتطوّرة، وتحت غطاءٍ من الرئيس الأمريكي نفسه الذي يعتبر هذه الإبادة "دفاعاً عن النفس" ضدَّ ما يسمّيه الإرهاب، من دون اعتبارٍ لمسألة التحرير التي يتشدّق بها دائماً في مواعظه للعالم...

وقد تحدَّث عن أطفال القدس، ولم يتحدث عن أطفال غزة والضفة الغربية الذين يسقطون في كل يوم برصاص إسرائيل، وعن أطفال المدارس الذين لا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم... إن مشكلة هذا الرئيس أنه يقف على منبر الأمم المتحدة كإسرائيلي لا كأمريكي...

وإذا كان يتحدث عن المستوطنات والجدار الفاصل، فإنه يمنع مجلس الأمن من الضغط على إسرائيل وإدانتها، بل كل ضغطه على الفلسطينيين في ندائه للعالم أن يقاطع "عرفات"، وأن يعتبر رجال الانتفاضة "إرهابيين"، في الوقت الذي تجري الدماء الفلسطينية في كلِّ أنحاء فلسطين من دون احتجاج أمريكي أو أوروبي أو عربي، ومن دون ضغطٍ من اللجنة الرباعية الدولية، حتى إذا قام المجاهدون بأيّ ردِّ فعلٍ للدفاع عن أرضهم وشعبهم، انطلقت الإدانات والاحتجاجات من كل جانب، لأن الدم الفلسطيني لا قيمة له عند هؤلاء أمام الدم الإسرائيلي الذي يملك كل القيمة الإنسانية عندهم...

الخطة الأمريكية: إذلال العراقيين:

إننا نقدِّر للشعب الفلسطيني المجاهد هذا الصمود البطولي، ونريد لـه أن يبقي المأزق الإسرائيلي في تصاعد واستمرار، لأن ذلك هو السبيل للتحرير.

أما العراق الذي نتطلَّع إلى مستقبله الذي يصنعه شعبه في حركة الحرية والتحرر من الاحتلال، فإننا نتابع المآسي والآلام التي تضغط عليه بفعل حركة الجيش الأمريكي وحلفائه، من خلال القصف العشوائي الوحشي المجنون الذي لا يزال يتابعه في أكثر من منطقة، حتى المناطق التي أعلنت وقف إطلاق النار كمدينة الصدر، لأن الخطَّة الأمريكية هي إذلال العراقيين ودفعهم إلى الاستسلام الذي يحطّم إنسانيتهم، ويصادر كرامتهم...

ومن جانب آخر، فقد استنكرنا ـ ولا نزال ـ أعمال الخطف والذبح والاغتيالات العشوائية، ونرى في ذلك عملاً غير مبرَّر بالنسبة إلى الأشخاص الأبرياء، ولا سيّما أن وضع اللافتة الإسلامية في عناوين هذه الأعمال يسيء إلى صورة الإسلام، مما يستغلُّه أعداؤه في تشويه صورته النقيّة.

لبنان: البناء على أساس المواطنية:

أما لبنان، فإنَّه يمرُّ بأقسى مرحلة سياسية في الداخل، في السجالات العنيفة الدائرة بين المعارضة والموالاة، بعيداً عن التعقّل في الشكل والمضمون، وعن الواقعية في الوسائل...

إننا نقول لهم: إنَّ الدولة هي أكبر من الجميع، لأنها تتَّصل بالشعب كله، ولا سيما من خلال الأزمات الخانقة على المستوى الاقتصادي الذي يفترس أوضاع الناس المأساوية وخصوصاً في موسم المدارس، وعلى المستوى التربوي والسياسي من خلال غول الهدر والفساد...

أيها الناس: إن لبنان هو الوطن الذي نريد أن نركّزه على أساس المواطنية التي تساوي بين المواطنين بعيداً عن الطائفية والشخصانية، وتؤكد للعاملين فيه على جميع المستويات اللقاء على أساس القيم الروحية والأخلاقية، ورحابة الفكر، وسعة الصدر، والحوار الموضوعي الهادئ، لأن الصراخ في الخطابات والتصريحات قد يصمّ الآذان ولكنَّه لا ينفتح على العقل...

إنَّ لديكم ـ أيُّها اللبنانيون ـ وطناً جميلاً رائعاً فلا تضيّعوه، وإن لديكم إنساناً مثقَّفاً منفتحاً على الإبداع فلا تقتلوه روحاً وفكراً... تعالوا إلى الحوار في ساحة البناء، لا إلى ساحة الهدم والدمار.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية