ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
في هذا الشهر الكريم، شهر شعبان الذي بدأ بالأمس، نلتقي بمناسبات عزيزة علينا، تبعث في نفوسنا مشاعر الفرح الروحي، ففي الثالث من شعبان الذي يصادف يوم غد، كانت ولادة الإمام الحسين(ع)، وفي اليوم الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس(ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين(ع)، هذه المناسبات عندما نتذكرها، فإننا نتذكر هذه النماذج الإنسانية الروحية المقدسة التي أعطت الإسلام كل حياتها حتى كانت قرباناً لله سبحانه وتعالى، في حركة الجهاد والمعرفة والوعي، وقد أرادوا أن يرتفعوا بالإنسان المسلم إلى الدرجة العالية التي يحلّق فيها لينطلق إلى مواقع القرب من الله، وليتحرك من خلالها ليملأ الحياة بالقيم الروحية والأخلاقية، وليغني الإنسانية بكل ما يرتفع بالإنسان ليصنع الحضارة على خط الإسلام، الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن حالة التخلف إلى حالة التقدم، ومن حالة الخرافة إلى حالة الحقيقة.
الحسنان(ع) في حضانة رسول الله(ص)
عندما نلتقي بالإمام الحسين(ع) في ذكرى مولده، فإننا نتصور تلك اللحظات التي عاشها علي(ع) وفاطمة(ع) عندما استقبلا هذا الوليد بعد أن استقبلا قبل سنة أخاه الحسن، فاكتملت الصورة بالحسن والحسين (عليهما السلام) اللذين أعدّهما الله في كل ما يختزنانه من آفاق الروح والمعرفة والاستقامة والدعوة في مستقبل حياتهما ليكونا سيدي شباب أهل الجنة، ولينطلقا في خط الإمامة، وليعيشا طفولتهما معاً في حضانة رسول الله.
فقد كان رسول الله(ص) الحاضن لهما، وقد ملأ كل حياته بهما بعد أن فقد ولده الوحيد إبراهيم، فكان يلاعبهما ويحنو عليهما ويضمهما إليه، حتى كانت طفولتهما كطفولة أبيهما بين يدي رسول الله، فقد كان علي(ع) في حضانة رسول الله بعد أن اختاره الرسول(ص) من أبيه أبي طالب تخفيفاً عنه، كان يضمه، ويمضغ الشيء ثم يلقمه إياه، كان يعطيه في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكان علي(ع) يتّبعه اتّباع الفصيل إثر أمه.
وهكذا كان الحسنان(ع) في طفولتهما الأولى في حضانة رسول الله، وكانا على درجة عالية من الوعي، بحيث كانا يستمعان في المسجد إلى جدهما وهو يخطب، ويروى أنّ علياً(ع) كان يأتي من المسجد إلى بيته، فتحدّثه السيدة الزهراء(ع) بما حدّث به رسول الله في المسجد، وعندما يسألها، هل كنت معنا؟ تقول(ع): لا، ولكن هذا ابني ـ وتشير إلى الحسن ـ جاء يحدثني بما سمع من جده رسول الله، وكان لا يزال في طفولته الأولى.
وكذلك الإمام الحسين(ع)، الذي عاش في حضانة جده وفي حضانة أبيه وأمه، وأية حضانة في التاريخ كله أعظم من هذه الحضانة الروحية والعاطفية والأخلاقية والسلوكية.
الخروج إلى آفاق الرسالة
وهكذا كانت نشأة الإمام الحسين(ع)، فكان للإسلام بكله، كما كان أبوه علي(ع) الذي أنزل الله فيه ليلة الهجرة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}. وكذلك كان الإمام الحسين(ع)، فقد باع نفسه لله تعالى، وناجى ربه عندما تلقّى دم ولده الرضيع قائلاً: "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله"، فما دام الله يراني وأنا أتألم فلا مشكلة لي، لأنني أضحي في سبيله. وقد قال الشاعر على لسانه عندما كان في حالة الاحتضار والجراحات تملأ جسمه، والدماء تنـزف من كل مكان في جسده:
تركت الخلق طرّاً في هواك وأيتمت العيال لكي أراكَ
فلو قطّعتني بالحب إربـاً لما مال الفؤاد إلى سواك
كان الإمام الحسين(ع) في أشدّ الساعات ألماً وقد فقد أولاده وأخوته وأصحابه، وعاش آلام هذا الوضع المأساوي للنساء والأطفال في خيمه، وعاش معه آلام الأمة كلها عندما عبّر عن مشكلتها مع الذين يسيطرون عليها، "اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً".
وهكذا كان الحق كل همه: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر"، "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
كان الحسين(ع) ـ وهو وحيد ـ يتلقى كل السهام وكل الحجارة وحده وليس معه أحد، ولكنه وهو في هذا الوضع، كان يتطلّع إلى الأمّة كلّها، كيف تتخلص من ظلم الظالمين، ومن استكبار المستكبرين، ومن انحراف المنحرفين، لم تكن ذاته همه، ولكن كانت الأمة هي كل همه(ع).
وهذا هو ـ أيها الأحبة ـ ما نستمدّه من الحسين(ع)، نستمدّ منه هذا الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين، هذا الخروج من الذات إلى آفاق الرسالة، هذا ما يبقى لنا من الحسين(ع)، ولذلك نحن نعيش في كربلاء الفرح الروحي بالحسين، كما نعيش في مولده في المدينة الفرح الروحي، لأن الحسين أكبر من الألم، وأكبر من الدموع، وأكبر من كل الجراحات، وكان يعيش مع الله، ومن عاش مع الله فلا يشعر بذاته من قريب أو بعيد وإن كانت ذاته في القمة العالية مما تشتمل عليه من كل الفضائل.
العبّاس(ع): التزوّد من معين الحسين(ع)
أمّا العباس(ع)، أبو الفضل، فقد تربى في حضن علي(ع) وفي حضن الحسين(ع). والناس يذكرون العبّاس(ع) بوسامته وشجاعته، وبطولته وتضحياته، ولكنّه(ع)، وكما ورد في سيرته، كان يعيش المعرفة بالله والمعرفة بالإسلام، فكان العلم يملأ عقله وقلبه، وكانت روحانيته تجعله يعيش حياته كلها من أجل الإسلام، فكان العباس رسالياً من أعلى الرساليين في التاريخ.
كان يرافق الحسين(ع) ليتزوّد من علمه وينهل من أخلاقه، ليرتفع معه إلى عالم القيم، وليعيش معه في عبادته لله وفي إخلاصه وروحانيته له، كان مع الحسين(ع) يعيش في يوم عرفة ليبكي وينشج وكان معه يدعو ربه، وكانت روحانية الحسين وروحانية جو عرفة، تملأنّ روحه وكل كيانه، ولذلك كان الحسين(ع) يعظّمه ويحترمه، لا من أجل الأخوّة فحسب، ولكن من أجل الفضائل الكبيرة التي كان العباس يتمتع بها.
ولعلنا نعرف قيمة هذه الروح التي ذابت في الإسلام والمسلمين وفي الحسين، عندما نستمع إلى ما روي عنه(ع) عندما قطعت يمينه في المعركة، ونحن نعرف قيمة اليد اليمنى للمقاتل، لأن المقاتل يمسك السيف بيمينه، ولذلك نجد أنّ العباس لم يبك، ولم يشعر بالجزع أو بالضعف، وإنما أراد أن يسمع العسكر كله هناك، أنه لا يزال يحمل الرسالة، وأنه يقاتل من أجلها، كما قاتل أبوه من قبل في يوم بدر وفي يوم أُحد وفي يوم الأحزاب وفي يوم حنين وفي يوم خيبر، فقال لهم:
والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادق اليقين
لم يقل إني أحامي عن أخي، لأن القضية لم تكن في جهاده قضية نصرة أخٍ، ولكنها قضية نصرة القيادة؛ القيادة الإسلامية الحقّة المتمثّلة في إمامة الإمام الحسين(ع). وهكذا كان العباس الإنسان الرسالي، البطل في علمه، والبطل في روحانيته، والبطل في ذوبانه في الإسلام، والبطل في جهاده وتضحياته.
ولذلك، فإننا عندما نتذكر العباس في يوم مولده، نتذكر كل هذه القيم التي تجمّعت في هذا الإنسان الذي نزوره مع الإمام الصادق، فتقول: "السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسن وللحسين... فنعم الأخ المواسي".
زين العابدين(ع): قمة الصبر والعطاء
ونحن عندما نتذكّر زين العابدين(ع)، فإننا نتذكر هذا الإمام العظيم الذي عاش في كربلاء مع أبيه الحسين(ع)، وكان في قمة الصبر أمام تلك الآلام، ثم انطلق ليقف في الكوفة موقفاً قوياً ضد ابن زياد، وليقف في الشام موقفاً قوياً ضد يزيد.
ولذلك فإننا ننكر على كل الذين يقرأون العزاء وهم يصوّرون الإمام زين العابدين بصورة الضعف: "أُقادُ ذليلاً في دمشق كأنني من الروم عبد غاب عنه نصير". إن الإمام لم يكن كذلك. الإمام كان قوياً بالله وقوياً في مواجهة الظالمين، صحيح أنه أُسر من كربلاء إلى الشام، ولكنه كان قوياً في موقع الأسر، ولم يكن ضعيفاً، لم يضعفه الأسر، لأن قوته كانت من الله، مما يعيش في داخل ذاته من ذلك.
ثم انطلق الإمام زين العابدين(ع) في العالم الإسلامي ليجسّد كل الرسالة في كل نشاطه، فحرّكها في دعائه. ولذلك كانت أدعيته(ع) هي الأدعية الثقافية التي إذا قرأتها شعرت بأنك تقرأ الإسلام في قيمه، وفي أخلاقه، وفي فلسفته، وتقرأ الإسلام في كل الواقع الذي يتحرك في العلاقات الإنسانية الاجتماعية، تقرأ في دعائه الإسلام في خطوط العقيدة وفي خطوط القيم والمناهج، وما إلى ذلك، مما يغني الإنسان ويرتفع به إلى قمة الروح، وكان الإمام زين العابدين(ع) المعلم الذي تثقّف على يديه أغلب علماء المسلمين في تلك المرحلة من حياته ومن عمره، وكان العابد الذي يعيش مع الله سبحانه وتعالى، وكان النموذج الأكمل للعفو وللأخلاق العظيمة التي كان يواجه بها أعداءه كما يواجه بها أصدقاءه.
كان الإمام زين العابدين(ع) يمثِّل النموذج الذي تجتمع فيه شخصية علي والحسن والحسين(ع) وكانت شخصيته تنفتح على جده رسول الله(ص) في كل أخلاقه وروحه وفي كل جهاده وكل القيم.
ونحن نتذكره وهو يقول لذلك الإنسان الذي رآه وهو يبكي في سجوده خاشعاً لله: كيف تبكي وتخضع وتخشع وجدّك رسول الله وجدّك علي وجدتك الزهراء وأبوك الحسين وعمك الحسن؟ فقال(ع): دع عنك ذكر أبي وجدي وأمي، دع عنك ذلك، "خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً".
النسب لا يقرب الإنسان من الله، حتى لو كان الإنسان في أعلى درجة النسب، ولكن {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، قال رسول الله: "ليس بين الله وبين أحدٍ نسبٌ ولا أمرٌ يؤتيه به خيراً، أو يصرف عنه شراً إلا العمل... ولو عصيت لهويت"، وقال علي(ع): "إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعُدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته". وقال علي بن الحسين(ع) وهو يحدّثنا عن العصبية: ـ القومية والإقليمية والحزبية والطائفية والسياسية والشخصانية ـ إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن أن يعين قومه على الظلم".
أيها الأحبة، هؤلاء أئمتنا وقادتنا وأبطالنا، علينا أن نقتدي بهم، لأن الولاية لأهل البيت(ع) ليست مجرد دمعة نسكبها، وليست مجرد خفقة قلب، إنها الاتّباع والسير في خطِّ أهل البيت(ع)، كما قال علي(ع): "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد". تلك هي المسألة، أن تكون موالياً هو أن تكون متّبعاً وأن تتحرك في خطه المستقيم.
على هذا الأساس، نحتفل بذكرى مولد الحسين(ع) ومولد العباس(ع) ومولد علي زين العابدين(ع). وهكذا ننفتح على كل أهل البيت، نحبهم ونحترمهم ونعظّمهم ونقدسهم، لأنهم أطاعوا الله وذابوا فيه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله، وسيروا في الخط المستقيم الذي أراد الله للناس أن يهتدوا إليه وأن يتحركوا فيه، ليبلغوا الهدف الكبير والغاية العظيمة، وهي محبة الله والحصول على رضاه.
واجهوا المواقف كما واجهها رسول الله، وكما واجهها الأئمة من أهل البيت(ع)، بالجهاد والتضحية والمواجهة لأعداء الله، والإصلاح في أمة الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واجهوا ذلك كله وتحملوا مسؤوليته، لا يكن أحدنا حيادياً بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، بل نكون كما أراد علي(ع) في وصيته الأخيرة: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".
ونحن نعيش في عالم الظالمين والمستكبرين الذين يعملون على استعباد عباد الله باسم الحرية، وعلى نهب ثرواتهم باسم الخطة الاقتصادية وما إلى ذلك. تعالوا لنواجه الموقف الذي تعيشه أمتنا في هذه المرحلة الحاضرة التي هي من أشد المراحل صعوبةً في التاريخ الإسلامي، ما الذي تواجهه المنطقة في الواقع الأمريكي ـ الإسرائيلي؟
فلسطين: إبادة متحركة
في فلسطين، يتابع العالم ـ في كل يوم ـ إحصاءات القتلى والجرحى من المدنيين حتى الأطفال، والتدمير للبيوت، والاجتياح للمخيمات، والاعتقال العشوائي للناس تحت اتهامات كاذبة، بما يمثّل خطة متحركة للإبادة والتشريد على الطريقة النازية..
هذا إلى جانب لعبة سياسية إعلامية في تضخيم خطة الانسحاب من غزة، والحديث عن الخطر الداخلي الناشىء عنها في مقابل تجميد أية انسحابات من الضفة الغربية والقدس، بما يؤكد الانسحاب من خارطة الطريق.. ومن الطريف أن البيت الأبيض يصرّح ـ بالنيابة عن شارون ـ أنه لا يزال ملتزماً بها، من باب حفظ ماء الوجه الأمريكي أمام اللجنة الرباعية الدولية التي لا تمثل أيّ موقع جدّي للحل حاضراً ومستقبلاً، لأن أمريكا التي تقودها تعمل على تمييع كل قراراتها وتصريحاتها تقطيعاً للوقت، وضحكاً على ذقون المسؤولين العرب الذين يلهثون وراء كلمة خادعة هنا والانحناء تحت وطأة ضغط سياسي هناك.
فشل أمريكي ذريع في العراق
أما في العراق، فإن العالم يتابع أحداثه الدموية التي يسقط فيها ـ في كل يوم ـ أعداد من القتلى بالمئات وأغلبهم من المدنيين، بفعل الطريقة الأمريكية في إدارة شؤونه الأمنية من خلال قوات الاحتلال التي تلاحق الناس بحجة ملاحقة من تسمّيهم الإرهابيين، على أساس المعلومات المخابراتية الأمريكية المقدَّمة للجيش الأمريكي مما لا يستند ـ غالباً ـ على أساس دقيق، تماماً كما هي المعلومات الاستخباراتية الكاذبة التي خاضت بها أمريكا الحرب في العراق...
لقد فشلت واشنطن فشلاً ذريعاً في العراق، وهذا ما اعترف به وزير خارجيتها الذي قال: "إن الثورة المسلّحة تستعر في العراق، إنها مرحلة صعبة"، ولم تحاول أن تدرس السبب في ذلك، تماماً كما هي الخطة الإسرائيلية، بل بقيت تعتبر المسألة مسألة الحرب على الإرهاب التي فشلت في إدارتها في العالم بسبب احتلالها للعراق، الذي صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنه احتلال "غير شرعي ومخالف لقانون الأمم المتحدة وللشرعية الدولية"، آملاً أن لا يشهد العالم حرباً جديدة، كما استبعد إمكان إجراء انتخابات في العراق في موعدها المقرر...
ولكن أمريكا وحلفاءها أصرّوا على الخطأ، ولا سيما في هذه المرحلة التي يخوض فيها أكثر من رئيس أو حزب انتخابات رئاسية أو نيابية، ولا يزال هؤلاء يتحدثون عن الشرعية الدولية في حربهم السياسية والإعلامية على أكثر من دولة عربية وإسلامية، وأكثر من منظمة جهادية، في الوقت الذي يعارضون أيّ حديث ضدهم وضد إسرائيل في التمرد على الشرعية الدولية، لأن ما يجوز لهم ولها لا يجوز للعالم الثالث الذي تعتبر قرارات الأمم المتحدة الخاضعة لهم سيفاً مسلّطاً على الشعوب المستضعفة...
وهذا ما نلاحظه في القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في العلاقات اللبنانية ـ السورية، مما يتصل بالجانب القانوني الذي يحكم الأوضاع في البلدين، تحت تأثير الضغط الأمريكي، لترتيب بعض الأمور بما يتصل بالعراق وبإسرائيل، من دون اعتبار للأوضاع الحيوية التي تتصل بالبلدين.
ومن جانب آخر، فإننا في الوقت الذي نسجّل تحفظاً على الموقف الفرنسي المؤيد للموقف الأمريكي في مجلس الأمن، نعلن تقديرنا لحديث الرئيس الفرنسي من أن أمريكا "فتحت أبواب جهنم في العراق"، وأنها "عاجزة عن إغلاقها"، وأن الوضع "خطير لا يتحسّن".. وإننا نتمنى أن يقف الاتحاد الأوروبي مع هذا الموقف الذي يضع الأمور في نصابها الطبيعي من الناحيتين السياسية والأمنية، ما قد يمنع المغامرة المستقبلية بحرب أخرى..
نحذِّر العراقيين من اللغة المتعصبة
وهناك مسألة أخرى خطيرة تتمثّل في البيانات ـ التي تحمل لغة طائفية تكفيرية ـ المنسوبة إلى "الزرقاوي" وجماعته، مما يحرّك أوضاع القتل المنظَّم في نطاق بعض المواقع العراقية المذهبية في العراق كله، تحت عنوان أنهم أعداء لفريق مذهبي آخر...
إننا نحذّر العراقيين من هذه اللغة المتعصّبة التي تحاول أن تحرّك أكثر من مناخ من مناخات الفتنة، وتفسح في المجال للمحتل للاستفادة من ذلك وإطالة أمد احتلاله للعراق، ولا سيما أن المخابرات المركزية الأمريكية بدأت تتحدث عن احتمال قيام حرب أهلية في العراق تفرض على أمريكا معالجتها من خلال قواتها...
إن على علماء المسلمين أن يدينوا هذه البيانات، بصرف النظر عن الجهة التي أصدرتها، وأن يؤكدوا الوحدة الإسلامية التي يقف معها المسلمون في العراق وخارجه صفاً واحداً أمام قوات الاحتلال المعادية للإسلام والمسلمين، وأن يواجهوا هذا المنطق بالرد الإسلامي الموضوعي وبالوسائل العلمية العاقلة الواعية.
وفي مجال آخر، فإننا نلاحظ وضعاً دولياً تقوده أمريكا في مسألة السودان، التي نريد لها أن تُحلّ حلاً إسلامياً إنسانياً يحفظ للسودان وحدته وقوته وسلامته، وللمستضعفين في "دارفور" إنسانيتهم وحياتهم في نطاق السودان الموحَّد، بعيداً عن الأطماع والتعقيدات الصادرة من أمريكا ومن الاتحاد الأوروبي...
ندعو الأوروبيين للتحرر من الضغط الأمريكي
كما نلاحظ حركة الضغط الأمريكي والأوروبي على إيران التي أكدت موقفها الشرعي من تحريم صنع السلاح النووي، لأنها تعمل لتحريك مشروعها في الأغراض السلمية، ومع ذلك، فإنهم يثيرون التشكيك في المنطق الإيراني ويهددون بعرض الموضوع على مجلس الأمن من أجل فرض عقوبات دولية على إيران، في الوقت الذي يدعمون كل مشاريع السلاح النووي الإسرائيلي وغيره من أنواع الأسلحة، بالتنسيق مع الخبرة الأمريكية..
إننا ـ أمام ذلك ـ ندعو الاتحاد الأوروبي إلى التحرر من الضغط الأمريكي، ليثبت استقلاله السياسي في علاقاته بالدول العربية والإسلامية.
لبنان: المشكلة في التدخل الخارجي
أما لبنان، فلا يزال يعيش الجدل الذي قد يدور تحت عناوين سياسية داخلية وخارجية، ولكننا نلاحظ أن السفير الأمريكي يحاول أن يثير الموضوع على أساس طائفي كما لو كانت القضية قضية مسيحية ـ إسلامية، في تساؤله عن دور الكنسية المارونية ووضع المجتمع المسيحي، تماماً كما لو كان المسيحيون في خطر، ما قد يحوّل المسألة السياسية إلى مسألة طائفية، مما قد يملك اللبنانيون الحرية في اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي من هذا الموضوع وذاك، ثم الحديث عن دور الطائفة الإسلامية وعلاقة لبنان بجيرانه، مما يقع في نطاق مسؤولية اللبنانيين لا الأمريكيين...
إننا نقول للبنانيين: إن مشكلة لبنان في تعقيداته السياسية واهتزازاته الأمنية هي مشكلة التدخّل الخارجي الضاغط إقليمياً ودولياً، ولا سيما في الخطوط الأمريكية، فهل يستسلم اللبنانيون للعبث الأمريكي، أو أنهم يعيشون حرية قرارهم في قضايا المصير؟ |