ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
نلتقي في هذا الأسبوع، أي من الخامس والعشرين من شهر رجب حتى يوم السابع والعشرين منه، بعدة مناسبات إسلامية مميّزة. ففي السابع والعشرين من شهر رجب تتجمّع مناسبات ثلاث: المناسبة الأولى ـ حسب الرواية المشهورة عند المسلمين من علماء الشيعة ـ أنه هو يوم المبعث النبوي الشريف، يوم ولادة الإسلام الذي بعث الله تعالى فيه نبيّه (ص) مبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وليعلّم الناس الكتاب والحكمة ليزكّيهم...
الإسراء تجسيد لعالم الآخرة:
كما يمثِّل هذا اليوم ـ كما ورد في بعض الروايات ـ اليوم الذي أسرى الله فيه بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ليريه آياته في الكون، ومن ثمَّ انطلق الرسول (ص) بقدرة الله في هذه الليلة ـ ليلة الإسراء والمعراج ـ ليعرج إلى السماء، ليرى ذلك العالم الذي جسّد الله له فيه عالم الآخرة في الجنة والنار، وارتفع به إلى الآفاق العليا.
وفي هذه المناسبات، ننفتح على أكثر من إيحاء إسلامي، ففي يوم المبعث، نرجع إلى ذلك التاريخ وتلك المرحلة التي كان رسول الله (ص) فيها فرداً عندما نزل عليه الوحي: {إقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم}. كان (ص) وحده، وقد حمّله الله الرسالة: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}، وامتدَّ الله به في مسؤوليّته إلى العالمين: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}، وبذلك كانت مسؤولية الرسول (ص) في رسالته مسؤولية تتسع للعالم كله، فالرسالة تدعو إلى أسلمة العالم، تدعو الأبيض والأسود، العرب والعجم، على أساس الدعوة بالطرق الإنسانية الحضارية: {إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، ولم يرسل الله رسوله داعياً إلى الإسلام لإخضاعهم إلى فكره وثقافته وإيمانه بالقوة، بل إنه دعاهم من أجل أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم على الحق في الإسلام.
ولذلك، جاء في قول الله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي}، فالرشد واضح، والغيّ واضح، ولا بد للناس أن يختاروا بينهما ليختاروا مصيرهم في الدنيا والآخرة. فالإنسان الذي يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت، يصير إلى رضوان الله ونعيمه، أما الإنسان الذي يكفر بالله ويؤمن بالطاغوت، فإنه يصير إلى غضب الله وناره في الجحيم. وقد خاطب الله تعالى رسوله عندما واجه كل التحديات من المشركين: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، {إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمسيطر}، وانطلق الإسلام بالكلمة الطيّبة والأسلوب الطيب والقلب المفتوح على الناس كلهم بالمحبة والرحمة.
وحدة الرسالات:
وأراد الله تعالى لنبيّه (ص) أن يعيش مواقع الرسالات الأولى، حتى يؤكد (ص) من خلال وحي الله وحدة الرسالات في القاعدة التي ترتكز عليها، وهي الإسلام لله في كل شيء، كما تحدث به إبراهيم (ع) مما أوحى الله به: {إذ قال له ربه أسلم ـ قف أمام الله وأسلم له كل أمورك، ليس لك أمام الله كلمة ولا موقف ولا رأي ـ قال أسلمت لربّ العالمين}. وهكذا ابتدأ خط الإسلام الذي يعني أن تتبع الرسالة التي أرسلها الله، فالإسلام في زمن إبراهيم هو اتّباع رسالة إبراهيم، والإسلام في زمن موسى هو أتباع رسالة موسى، والإسلام في زمن عيسى هو اتباع رسالة عيسى، ولعل قيمة الإسلام هو أنه جمع خلاصة الرسالات، فالإيمان الإسلامي هو أن تؤمن بالله ورسله وكتبه وملائكته: {لا نفرّق بين أحد من رسله}، وهذا هو الذي يؤكد شمولية الإسلام وانفتاحه.
فالله تعالى أراد لنبيّه (ص) أن يذهب إلى المسجد الأقصى الذي كان محراب العبادة لكثير من الأنبياء، وفي بعض الروايات التي تحملها كتب السيرة، أن الله بقدرته جمع له الرسل كلهم وصلّى بهم رسول الله (ص)، باعتبار أن النبي (ص) يمثل خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات، فأراد الله أن يجمع الرسل في كل الرسالات ليقول لهم: هذا محمد الذي يجمع كل العناصر الحيّة لرسالاتكم، فهو خاتم النبيين وخاتم الرسل.
وأراد الله تعالى من خلال الإسراء والمعراج أن يري النبي (ص) من آياته ما يتثقف به بما يتجاوز عالم مكة التي كان يقيم فيها، لأنه تعالى أراد له أن يوسّع ثقافته في ما أعطاه من هذه المعرفة بشكل حسي، وعرج به أيضاً إلى السماء من خلال ما أراد الله له أن يجمع آياته في الأرض، وأن يرتفع به في آياته في السماء بشكل حسي، لأن ما أجمع عليه العلماء، أن العروج لم يكن بالروح فحسب، ولكنه معراج بالجسد والروح معاً.
ولادة الإسلام:
وفي هذه الذكرى؛ ذكرى ولادة الإسلام في يوم المبعث وذكرى الإسراء والمعراج، نشعر كيف واجه النبي (ص) العالم كله فرداً، ودعاهم إلى التوحيد: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، من أجل أن يحطم خط الشرك، لأن خط الشرك ليس ديناً من أجل أن يتعايش الإسلام معه، فالإسلام لم يتسامح مع المشركين إنما تسامح مع أهل الكتاب ودعاهم إلى الكلمة السواء، ودعا إلى الحوار معهم بالتي هي أحسن، بينما تحدث عن المشركين بأنهم نجس وأخرجهم من مكة، لأن الشرك ليس عقيدة دينية، بل هو عبادة لإله من حجر أو تمر لا يضر ولا ينفع، تصنعه أنت ثم تصلي له، عالم الشرك هو عالم سخافة وتخلّف، بينما عالم الدين النصراني أو اليهودي مختلف تماماً، فقد يختلف اليهود في فهم دينهم وهم مذاهب، وقد يختلف النصارى في دينهم، فهناك مذاهب نصرانية، ولكن أساس النصرانية هي رسالة السيد المسيح (ع) والإنجيل، وأساس اليهودية هي رسالة النبي موسى (ع) والتوراة، هناك أساس ديني منطلق من الله وإن اختلف الناس في فهمه، بينما الشرك يمثل الخرافة والتخلّف في الإنسان. لذلك، أراد الإسلام أن يحرر العقل الإنساني من هذا التحجّر، ولذا لم يركّز الإسلام على شيء كما ركّز على التوحيد، والإسلام دين الفطرة، لأن كل إنسان يعيش التوحيد في فطرته وأصل وجوده.
وعلى ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نستحضر القوة الروحية التي انطلق بها النبي (ص) في مواجهة العالم كله، وتحمّل ما تحمّل حتى قال: «ما أُوذي نبي مثلما أوذيت»، وقد تحرك معه الصحابة الطيّبون وأهل البيت (ع)، وفي مقدمتهم الإمام عليّ (ع) الذي ربّاه رسول الله (ص)، وهو الوحيد من بين الصحابة الأولين الذي لم يسجد لصنم قطّ، وهو الذي قال: «لم يسبقني للصلاة إلا رسول الله». والإسلام وصل إلينا من خلال دعوة الدعاة وجهاد المجاهدين، ومن خلال كل هذه الأجيال التي تتابعت، وقد وصل إلينا كأمانة حمّلنا الله إيَّاها، وعلينا أن نتحمّل مسؤولية الإسلام، كما ربّانا آباؤنا وأمهاتنا على الإسلام وغرسوه في نفوسنا، وجعلونا نتعبّد لله ونخلص له، علينا أن نربّي أولادنا على الإسلام، ولا سيّما عندما نجد التحديات الكبرى للكفر التي تحاول أن تبعد المسلمين عن دينهم.
وقد خاطب الله تعالى النبي (ع): {وأْمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}. لذلك، علينا أن ننفتح بالإسلام على العالم ونصبر على التحديات ونواجهها، ولا نأخذ بأسباب الفرقة والتمزّق: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. على هذا الأساس، لا بد أن نتَّخذ من هذه الذكرى القاعدة والأساس لأن نستعيد إسلامنا في كل ما يواجهنا من الواقع، لأننا إذا عرفنا أن الله تعالى بعث رسوله كافة للناس بشيراً ونذيراً، فعلينا أن نحمل الإسلام في عقولنا وقلوبنا للعالم كافة.
ولذلك فإننا نقول لكل الذين يغتربون في أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا وكل العالم، أن يكونوا الصورة المشرقة للإسلام والمسلمين، وهذا حديث الإمام الصادق (ع): «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع فإن ذلك داعية». علينا أن نحيي هذه الذكريات بالعمل لا بالاحتفالات، حتى ننقل الإسلام من جيل إلى جيل ونقوّي مواقعه، لأن الآخرين يعملون على إضعاف الإسلام وإسقاطه وبعثرة واقع المسلمين وهزيمتهم نفسياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، فعندما ندرس كل العالم، وندرس حجم القتلى، فأية منطقة يكثر فيها الضحايا ـ من العسكريين والمدنيين ـ غير المنطقة الإسلامية؟ إننا نلاحظ أنه ما من بلد إسلامي إلا ويعيش الاهتزاز الأمني، في العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان، حتى وصلنا إلى أن يقتل المسلمون بعضهم بعضاً.
لذلك، علينا أن نتحمّل مسؤولية الإسلام، ونحن نقرأ في شهر رمضان: «اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك»، أن يكون كل واحد منا داعية إلى الإسلام، وأن يكون كل واحد منا مشروع قائد.
الإمام الكاظم (ع): قمة روحية علمية:
والمناسبة الثالثة، هي ذكرى وفاة الإمام الكاظم (ع)، الذي ملأ العالم الإسلامي في تلك المرحلة علماً وزهداً واعتراضاً على الظالمين هناك، وقد كسب الإمام ثقة الناس به، وحظي باحترامهم، ما جعل هارون الرشيد ـ الخليفة العباسي ـ يخشى منه على حكمه، لأنه عرف أن المسلمين يسألون الإمام ويسترشدونه ويرسلون إليه زكاة أموالهم وحقوقهم، ولذلك قرر أن يسجن الإمام وينقله من سجن إلى سجن وضيّق عليه، وكان (ع) يقول في سجنه: «اللهم إنني كنت أطلب منك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت، فلك الحمد».
لقد كان الإمام الكاظم (ع) قمَّةً روحية علمية، وكان منفتحاً على الناس، وكان العلماء يقصدونه ليأخذوا منه الخبرة والعلم ويقتدون به في كل أمورهم، حتى استُشهد مسموماً في أشدِّ السجون وحشيةً وظلاماً على يد هارون الرشيد الذي كان الشخص الذي لا يتحمّل أن يعارضه أحد، وخصوصاً أنه كان يعرف عظمة أهل هذا البيت، وأكتفي بقصة تدلِّل كيف كان هارون الرشيد يعيش الخوف والهول من ثقة الناس بالإمام الكاظم وأهل البيت (عليهم السلام): يُنقل عن المأمون العباسي ـ ابن الرشيد ـ وكان متعاطفاً مع أهل البيت (ع)، ولذلك أراد للإمام الرضا (ع) أن يكون وليّ عهده، يروى أنه سأل بعضهم المأمون: من الذي علّمك التشيّع؟ قال: أبي هارون الرشيد، فقد كنت جالساً عند أبي حتى قالوا له إن موسى بن جعفر في الباب، فقال للحجّاب: أدخلوه، حتى دخل بدابته إلى ما يقرب من الديوان، ثم قام هارون وأجلسه في مكانه وبدأ يتحدث معه باحترام فوق العادة، إلى درجة أنه يوحي بالخضوع له، ثم خرج وخرج معه مودّعاً له بكل إكرام وتقدير، فسألت أبي: من هذا؟ قال: هذا موسى بن جعفر، وهو من هو في علمه وتقواه وزهده، ولو علم الناس من فضله ما نعرفه لما تركونا في موقع الخلافة.. فقال: يا أبتاه، فلماذا لا تتنازل له؟ قال: يا بني الملك عقيم، لو نازعتني الذي أنا فيه لأخذت الذي فيه عيناك. فالقضية قضية ملك وهو الذي جعل المأمون يدخل في حرب مع أخيه محمد الأمين حتى قتله.
فأهل البيت (ع) كانوا محل ثقة الناس بمستوى القداسة، ولذلك كان أغلب الخلفاء يلاحقونهم بمختلف الوسائل القاسية، وعندما نقف أمام ذكرى وفاة الإمام موسى بن جعفر (ع) ـ وهو الذي يُلقّب بباب الحوائج ـ فإننا نلتزم ولاية أهل البيت (ع)، لأنهم يمثلِّون الخطِّ الإسلامي الأصيل الذي يمتدُّ من رسول الله (ص) في كل إشراقة علمه (ص)، وكما قال ذلك الشاعر:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في خطِّ ولايتهم، وأن يجعلهم الشفعاء لنا يوم القيامة.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتّقوا الله وواجهوا المرحلة التي نمرُّ بها بكل صدق وإخلاص ووحدة وقوة، لأنَّ المستكبرين قد وحّدوا كل صفوفهم من أجل القضاء على المستضعفين، ولا سّيما المسلمين منهم، لأن الله تعالى {يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}. ولا تزال التحديات تحيط بنا من كل جانب، فتعالوا نعرف ماذا هناك:
أميركا صانعة القلق والإرهاب:
في ذكرى 11 أيلول يتابع العالم النتائج المدمِّرة التي قامت بها الإدارة الأمريكية كردِّ فعل للحدث تحت عنوان "الحرب ضد الإرهاب"، لاستعادة عنفوانها، وتحريك الحروب الاستباقية لحماية أمنها ـ ولو على سبيل الاحتمال ـ هذه الحروب التي بدأت بالحرب في أفغانستان والحرب على العراق، ما أدّى إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين في الغالب، بفعل القصف العشوائي، وإرباك العالم العربي والإسلامي بالعبث بأوضاعه السياسية والأمنية بالطريقة التي لم يعد هناك أيّ استقرار في أية منطقة فيه، والعمل بمنطق يمنع الجميع من الدخول في حوار حول مفهوم الإرهاب في الشّعار المطروح: "إما معنا أو مع الإرهاب"!!
لقد كانت أحداث 11 أيلول ناشئة من السياسة الأمريكية ضد الشعوب، ولا سيما الشعب الفلسطيني، ومن خطّتها الاستراتيجية للسيطرة الشاملة على الشرق الأوسط، تحت عنوان ملاحقة أسلحة الدمار الشامل، لتمنع أية دولة إسلامية من الأخذ بالخبرة النووية حتى للأغراض السلمية، كما في ضغوطها على إيران، وكما في اتهاماتها غير الواقعية لأكثر من دولة كسوريا، ولكنها في الوقت نفسه، تبرر لإسرائيل امتلاكها للسلاح النووي بحجة الدفاع عن نفسها...
إن أمريكا توزّع القلق في العالم لخلق ظروف حربها لخدمة مصالحها الاستراتيجية في السيطرة عليه، وهذا ما عبّر عنه حديث الرئيس الأمريكي عمّا أسماه "محور الشر"، في حديثه عن إيران، وقد أعلن في الإعلام الأمريكي أن عقيدة الحرب الاستباقية ـ التي تبنّتها إدارة "بوش" ـ يمكن استخدامها في التعامل مع أهداف جديدة محتملة، وهو ما تخطِّط له إدارة الرئيس الأمريكي ـ في حال إعادة انتخابه ـ بتوسيع دائرة ما يسمّونه "محور الشر"، وإظهار شراسة عسكرية في التعامل مع دول هذا المحور الذي قد يشمل سوريا...
إننا نلاحظ من خلال دراسة الدمار الذي ألحقه الرئيس بوش في المنطقة، والإرباك في السياسة الدولية في تحالفه الاستراتيجي مع إسرائيل، أن محور الشر يتلخّص في أمريكا وإسرائيل، لأنهما تهدّدان أمن العالم وتصادران حرياته، وتقتلان أكثر من شعب.. وهذا ما نلاحظه في تجربتهما في الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين التي حصدت أكثر من عشرة آلاف، وفي الحرب الأمريكية ضد العراقيين التي حصدت عشرات الألوف من المدنيين حتى الآن.. فأين يكون الشر إذا لم يكن هذا الواقع الذي يوحي بالامتداد إلى أكثر من عقد شراً؟؟ إن أمريكا وإسرائيل هما الخطر على العالم في حركتهما الإرهابية، وليست إيران وسوريا على مستوى النتائج الواقعية.
فلسطين: المجازر تتوالى:
وفي فلسطين، تتوالى المجازر في أكثر من موقع، وآخرها مجزرة غزة، حيث قصف جيش العدوّ بالصواريخ الثقيلة مخيماً كشفياً ـ حسب معلومات الانتفاضة ـ زاعماً أنه موقع للتدريبات العسكرية، فقتل وجرح العشرات، تحت مباركة أمريكية، وصمت عربي، وفي مناخ فلسطيني داخلي يتحرك في مفردات سياسية وأمنية تمثِّل الإرباك السلطوي الذي يبتعد عن الهدف الاستراتيجي وهو التحرير.. وإلى جانب ذلك، يقوم العدوّ بتوسيع منطقة الجدار العنصري في القدس، ويخطط لذلك في منطقة أخرى، بحيث يصادر الأرض الفلسطينية، ويشرّد أهلها، بالإضافة إلى تدمير منازلهم، من دون أيّ استنكار من قِبَل اللجنة الرباعية الدولية بقيادة أمريكا!!
إن مشكلة فلسطين والعالم العربي هي في هذا التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل، في الخطة المتكاملة المتداخلة في استخدام مجلس الأمن الذي تخضع أكثريته لهذا الموقع العدواني، ولعل آخر هذا النشاط هو القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي حول لبنان وسوريا، لأن هذا القرار يوفِّر لإسرائيل مناخات سياسية وأمنية واسعة لتصعّد من اعتداءاتها وضغوطها على لبنان وسوريا، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المسألة التي يتحدث عنها القرار هي مسألة داخلية وليست دولية، ولكن يبدو أن ما يجوز لأمريكا في مجلس الأمن لا يجوز لغيرها؟!
العراق: مجازر أميركية متنقلة:
أما العراق، فإنَّ الصورة البارزة فيه هي المجازر الأمريكية المتنقّلة، التي تقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب أكثر مما تقتل من المقاتلين الذين يدافعون عن وطنهم ضد الاحتلال الذي يعلن عن البقاء لمدة قد تتجاوز العشر سنوات.. ولذلك، فإن أمريكا تعمل ـ بوسائلها الخاصة ـ لإطالة أمد احتلالها بحجة مساعدة الحكومة العراقية في الحفاظ على الأمن، ولعل المشكلة أن الوضع في العراق يرتبط في مفاعيله الأمريكية بالوضع الداخلي في الانتخابات الرئاسية هناك، ما يزيد الأمر شراسةً، والواقع سوءاً..
من هنا، فإننا نحذّر أحبَّاءنا العراقيين من الدخول في فتنة صغيرة هنا وهناك، ما يعقّد الأمور ويخدم المحتلّ، ولا سيّما ما نسمعه في الإعلام عن بعض المشاكل الداخلية في النجف الأشرف الذي نريد من جميع الفئات أن يحافظوا على الهدوء الذي تنعم به، وعلى الحلّ الذي لا بد أن يستمر.. كما نريد للعراق كله أن يواجه الموقف بوحدة وطنية شاملة تتواصل وتتكامل وتتحرك من أجل صناعة المستقبل، وتتعاون في مواجهة الذين يشوّهون صورة العراق بالخطف العشوائي وبالاغتيالات للشخصيات الفاعلة التي تمثِّل ثروة البلد العلمية والسياسية، ولا سيّما من الفئات المعارضة للنظام الطاغي، تحت عناوين فئوية قد تسيء للوحدة.
الدخول في حوار وطني:
أما لبنان، فإنَّ من حق كلِّ لبناني أن يعبّر عن رأيه حول مشروع هنا أو مشروع هناك، مما يتعلّق بالمسألة السياسية والاقتصادية والأمنية، في الواقع الداخلي والخارجي، ولكن ليس من حق أحد أن يسيء إلى الوحدة الوطنية فيه، ويشحن النفوس بالحقد السياسي والعنف النفسي، في الوقت الذي يواجه البلد التحديات الخارجية من خلال التهديدات الإسرائيلية التي تلوّح بالصلح مع العدو، من خلال أكثر من ضغط أمريكي أو إسرائيلي، على قياس قرار مجلس الأمن الذي يحاول أن يُدخل لبنان في أكثر من حرب تتصل بعلاقته بسوريا، أو بمسألة توطين الفلسطينيين، أو بالاهتزاز السياسي الداخلي الذي قد يغامر البعض من أطيافه ـ بفعل القراءة الخاطئة للواقع ـ لتحويله إلى اهتزاز أمني..
لقد أصبح التمديد من الماضي، ولا واقعية للحديث عن استقالة أو تراجع عنه ـ سواء كان خطأً أو صواباً ـ ولذلك فلا بد من الدخول في حوار وطني عقلاني جدّي يدرس مفاصل المرحلة وامتدادات المشكلة، وعلى الجميع أن يتذكّروا أن السلبية المطلقة التي جرّبها فريق ـ في الماضي ـ ضد فريق لم تحقق شيئاً، وعاد الجميع إلى التلاقي سالمين..
ولهذا، فإنَّ المقاطعة والسلبية والتراشق بالاتهام قد يرتاح له فريق من المعارضة أو الموالاة، ولكن المسألة أن لبنان لن يرتاح له، ونخشى أن يتحوّل العبث السياسي إلى حالة يسقط فيها الهيكل على رؤوس الجميع، وفي هذا الجو لن يستفيد البلد من حديث يحمّل فيه بعضٌ المسؤولية لبعض آخر "بعد خراب البصرة"، كما يقولون. |