الإمام الحسين (ع): صورة الداعية والمرشد

الإمام الحسين (ع): صورة الداعية والمرشد

الإمام الحسين (ع): صورة الداعية والمرشد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الصبر على الحق:

ونبقى مع الإمام الحسين (ع) في الوجه الآخر للصورة، لأننا في المجالس الحسينية نحدّق في الإمام (ع) في صورة المأساة، ولنحاول أن نراه في صورة الإمام الداعية الواعظ المرشد الذي يحدِّد للناس المسار الصحيح ومسيرتهم الرشيدة، لأن القليل من الناس من يعرفون الحسين (ع) في كلماته الإرشادية والوعظية. ومن كلماته (ع)، ما نقله الإمام الباقر (ع) عن أبيه قال: «لمّا حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره ثمّ قال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي _ الحسين بن علي _ حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه (ع) أوصاه به: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مراً»، وفي كلمة أخرى له، قال فيها: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق، واصبر عما تحب في ما يدعوك إليه الهوى».

يريد الإمام (ع) في هاتين الكلمتين، أن يؤكد على موقف الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في حياته الذاتية الفردية مع نفسه، أو في موقفه مع ربه، أو في موقفه مع كل الناس، فالقضية لا تختصر بما يعيشه الإنسان من مشاعر اللذة أو الألم، بحيث يُقبل على ما يلتذّ به، ويتجنّب ما يؤلمه، بل أن يعمل على أن يكون موقفه هو الموقف الذي يحقّق له الثبات والاستقرار والنجاح في المستقبل، باعتبار أنَّ بدايات اللذّة قد تغري الإنسان، ولكن نهايتها قد تكون مكلفة ومتعبة ومميتة، فربما يحس الإنسان بلذة شيءٍ فيأخذ به، ولكن ما إن تتفاعل عناصر هذه اللذة في موقعها، حتى تخلق له ما يفقده حلاوتها، ويفقده الكثير من ذاتيته، وهناك مثل يقول: «رب أكلة منعت أكلات»، وهناك مثل آخر يقول: «السمّ في الدسم».

لهذا، لا بد للإنسان من أن يفحص كلَّ ما يأكله، وكل ما يعمله، لأن العناصر السلبية قد تكون خفية، بحيث لا يشعر الإنسان بها. وهكذا حدّثنا الإمام الحسين (ع) عندما شبَّه إقدام الناس على الدنيا واستغراقهم في ملذاتها على حساب مبادئهم بالعسل، لأن الإنسان عندما يضع العسل على لسانه، فإن لسانه يبقى يتحرك ما دام العسل موجوداً عليه، وإذا ما استهلك، فإنه يفقد الإحساس بأي شيء. وبذلك يقول (ع): «الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم _ أي إن بعض الناس يتعلقون بالدين ما دام منسجماً مع أطماعهم ولذَّاتهم، ولكن عندما يخضعون للتجربة التي يقفون من خلالها بين الحق والباطل، بين الدين والدنيا، كما وقف الحرّ بين الجنة والنار _ فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون _ فإنهم يسقطون، لذلك يقول الإمام (ع): «اصبر على الحق»، قد يكون الحق صعباً، لكن نتائجه على مستوى الدنيا والآخرة قد تكون عظيمة جداً.

وفي الحديث الآخر: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق»، فالحق يترتّب عليه مسؤوليات كبيرة قد تفرض على الإنسان الخسارة المادية في الدنيا، ولكن النتائج سوف تكون لصالحه عندما يواجه الربح الكبير في رضوان الله. «واصبر عمّا تحبّ في ما يدعوك إليه الهوى». فهوى النفس ربّما يدعو الإنسان إلى معصية الله، فيحصل على اللذة والشهوة، ولكن النتائج لا شك سوف تكون ألماً وشقاءً.

فالإمام الحسين (ع) كانت رسالته إلى النّاس أن يكونوا مع الحقّ حتى لو كان الحقُّ مراً، والحق كلمةٌ تتحرَّك في جميع الاتّجاهات، فالحقّ في العقيدة هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، والحق في الشريعة هو ما شرَّعه الله ورسوله، والحق في السياسة هو ما تحرك من أجل العدل، والحق في المجتمع هو ما تحرك في أداء حقوق المجتمع في علاقاته، وفي الوحدة وفي المحبة... وهكذا يجب على الإنسان أن يجعل كل حياته تتحرك على أساس الحق لا على أساس الباطل.

الصبر عن المعصية:

في كلمةٍ أخرى له (ع) عندما جاءه رجل وقال له: «أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية _ عندما تتهيَّأ ظروف المعصية أندفع إليها، سواء كان ذلك في القضايا الجنسية أو في القضايا المالية أو في القضايا الاجتماعية أو ما إلى ذلك _ فعظني بموعظة، فقال (ع): إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت، والرابع إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت».

كأنه يقول له إنك تأكل رزق الله، وتعيش في سلطانه، وأنت بعين الله في كل مكان، والله هو الذي يملك حياتك وموتك، والله هو الذي يملك عقابك ومثوبتك، فكيف تعصي الله؟! وقد وعظه بطريقةٍ عرّفه من خلالها ما هو عمق المعصية، إذ كيف يعصي الله الذي هو سر وجوده في البداية، وسر وجوده في النهاية، وسر كل حياته؟!.

المعروف دوماً:

وقال رجلٌ: «إنَّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع»، أي إنّ على الإنسان أن يؤدي المعروف إلى من يستحقّه، أما الشخص الذي لا يستحقّه، فلا ينبغي فعل المعروف معه لأنه يضيّعه، فأجابه الحسين (ع): «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر»، وذلك أنك عندما تعيش الأخلاق التي تؤمن بها، وهي تمثِّل القيم التي تحكم حياتك، فإنّ عليك أن تكون في أخلاقيتك وقيمك كالمطر، ينـزل على الأرض الجدباء والخصبة، وكذلك فإنَّ المعروف ينـزل على الإنسان الذي يعصي الله ويكفر به، وينـزل على الإنسان الذي يطيع الله ويؤمن به. فكن كالنبع، كن كالشمس، كن كالمطر، حتى تندفع الأخلاقية والخير من نفسك للناس كافة، تماماً كما ينطلق الينبوع. ليكن الخير نبعاً في قلبك، ولا تحسب حساب الربح والخسارة في هذا المجال، وهذه قمَّة الإنسانية التي يؤكِّدها الإسلام في تربية الإنسان.

ثم يتحدَّث الإمام (ع) عن خطِّ الضلال والانحراف عن الله سبحانه وتعالى، والذي يستهوي الناس ويجعلهم يرغبون في سلوكه نتيجة اللحظة التي يحس فيها الإنسان بالشهوة وباللذة، ويحدق بالأرباح العاجلة، فيقول (ع): «اتقوا هذه الأهواء» أهواء النفس وشهواتها التي تنحرف عن خط الله.

فالله لم يحرِّم علينا أن نشبع شهوات أنفسنا، ولكنه سبحانه وتعالى حدّد الشهوة الحرام والشهوة الحلال، ولم يحرّم علينا أن نأخذ بأسباب اللذة في الحياة، ولكنه سبحانه جعل لذة حلال ولذة حرام، فالقضية هي أن نختار ما أحلّه الله سبحانه وتعالى، أما الأخذ بالحرام في اللذة، في الشهوة، أو في الخط والعلاقة والموقف، فهذه نتائجها سيئة على الإنسان، لأنّ «جماعها الضلالة وميعادها النار».

التوازن في الحركة:

ثم يتحدث الإمام (ع) عن ظاهرة موجودة عند الناس، بحيث يسيء المرء وبعدها يعتذر، فالإمام (ع) يقول في ما يروى عنه: «إيَّاك وما تعتذر منه _ أي لا تقدم على الأشياء التي تجعلك تعتذر من الناس الذين أسأت إليهم، وفِّر على نفسك الاعتذار، لأنّ الاعتذار ذلّ _ فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر». وهذه مسألة تربوية مهمَّة، تجعل الإنسان يدرس كلَّ ما يريد أن يقوله، أو أن يعمله؛ في بيته، في مجتمعه، وفي كلِّ مجالات عمله، فإذا شعر أنه سوف يقف موقف الاعتذار، فعليه أن يجنِّب نفسه ذلك.

ثم يبيّن الإمام (ع) كيف يتصرف العاقل مع الآخرين، بقوله: «العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه _ أي لا تحدث من يغلب عليه ظنك بأنه سوف يكذِّبك، لأنه لا فائدة من ذلك، باعتبار أنه لا يصدّقك حتى لو كنت ما تتحدث به هو الحق _ ولا يسأل من يخاف منعه _ أي تسأل من تشعر أنه سوف يمنعك ولا يقضي لك حاجتك، _ ولا تثق بمن يُخاف غدره...»، فمن كان خُلُقُه الغدر، أو يغلب على الظن أنه يغدر بمن يثق به، فلتكن علاقتك به علاقة الحذر، فلا تعطي الثقة كاملةً لأيَّ شخص مهما كانت الظروف.

وفي هذا الخصوص، سمعنا من أئمتنا(ع) في ما عرفوه من رسول الله(ص)، أن الإنسان لا يعطي الثقة بلا حساب، وقد تحدَّثنا في هذا المجال كثيراً في ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): «لا تثق بأخيك كل الثقة _ أي الثقة العمياء به (ما عدا المعصوم) _ فإن صرعة الاسترسال لا تستقال».

هذه كلمة للإمام عليّ، وما أروعه في كلماته في التربية الاجتماعية وفهمه للمجتمع وهو يقول: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما». اجعل نفسك دائماً في خط التوازن في الحب وفي البغض، في العداوة وفي الصداقة.

وفي الحديث أنه جاء الإمام الحسين (ع) شخصٌ من الذين شغلهم الجدل حباً بالجدل، وليس لطلب الحقيقة أو لأجل حلّ مشكلة، فهو يناقش ويجادل بهدف الغلبة، فقال للحسين بن علي (ع): اجلس حتى نتناظر في الدين. قال (ع): «يا هذا، أنا بصير بديني، مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، ما لي وللمماراة، إن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بك العجز والجهل». ثم ينطلق الإمام (ع) من حديثه مع هذا الرجل إلى بيان القواعد في الجدل، «المراء _ الجدل _ لا يخلو من أربعة، إما أن تتمارى أنت وصاحبك في ما تعلمان، فقد تركتما بذلك النصيحة، وطلبتما الفضيحة، وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه، فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإما تعلمه أنت _ والآخر جاهله _ فظلمت صاحبك بطلبه عثراته، أو يعلمه صاحبك _ وأنت تجهله _ فتركت حرمته ولم تنـزله منـزلته، وهذا كله محال، فمن أنصف وقبل الحق وترك المماراة، فقد أوثق إيمانه وأحسن صحبة دينه وصان عقله». هذا هو الخط الحسيني الإسلامي في قصة الجدل.

أيها الأحبة، إن الحسين (ع) هو إمام الإسلام الذي لا بد أن ننفتح على كل خطوط إمامته، فلا نستغرق في حسين المأساة أو حسين الثورة، ولكن علينا أن نعيش الحسين كما نعيش أباه وأخاه وأولاده، ممّن حملوا لنا رسالة جدهم (ص) التي هي رسالة الله.

هذا هو معنى الإمامة، وهذا هو معنى الولاية، وهذا هو معنى الالتزام بأهل البيت (ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لنتطهَّر بطهارتهم ولنـزيل عنّا رجس الجهل والمعصية.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم 

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا الموقف في خطِّ التقوى في ما تأخذون به وفي ما تتركونه، وفي خط الواقع في ما تتحركون فيه أو ما تجمّدونه من حركة، ولنقف موقف الرفض لأعداء الأمة في كلِّ خطواتهم، ولننفتح كل الانفتاح للأصدقاء في كل ما نتحرك فيه معهم. ونحن نعيش في هذه الأيام أكثر من كربلاء في العالم كله، حيث ينطلق المستكبرون ليصادروا كل قضايا المستضعفين. إن على الأمة الإسلامية أن تتحمل مسؤولياتها في الحفاظ على قوتها وعلى ثرواتها، وعلى مواقفها السياسية والاقتصادية والأمنية، لأن الله لا يريد للإنسان أن يكون حيادياً بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، بل لا بد أن يكون عوناً للمظلوم وخصماً للظالم، فتعالوا لنرى ماذا هناك في ما مرَّ علينا في هذه الأيام.

الاحتلال مسؤول عن مجازر كربلاء والكاظمية

عاشوراء الجديدة في كربلاء والكاظمية هي امتداد لعاشوراء التاريخ، في وحشية الجريمة، وفي هدف الفتنة، وفي إسقاط القِيَم الروحية، وفي دعم الظالمين. أما المؤمنون الطيبون المخلصون المنفتحون على الإسلام في الخط الإسلامي الأصيل الذي يمثله أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً... فهم يسقطون قتلى وجرحى بالمئات من دون ذنب اقترفوه، تماماً كما هم الشهداء في كربلاء.

لقد حاول الاحتلال التبرؤ من المسؤولية عن هذه المجازر الوحشية، ليحمّلها لجماعات متطرّفة إرهابية متعصبة، ولكنّه مهما حاول التنصّل من هذه القضية بأسلوبه التبريري، فإنه يتحمّل كامل المسؤولية، لأنَّ مناخ الاحتلال هو الذي جعل العراق ساحةً مفتوحةً لكلِّ التعقيدات والمصطادين في الماء العكِر، ثم السؤال: إذا كان جنوده لم يقوموا بهذه الجريمة، فماذا عن عملاء المخابرات الأمريكية؟ وماذا عن الموساد الإسرائيلي الذي أدخله الاحتلال مع كل الفعاليات الصهيونية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليعمل للسيطرة على العراق، على أساس الحلف الاستراتيجي بين أمريكا والصهاينة... خاصة وأن الاحتلال الأمريكي للعراق قدّم هدية كبيرة للدولة العبرية، بفعل ما يمثله العراق من قوة مستقبلية بثرواته وشعبه وإمكاناته العلمية الإبداعية وأسواقه الاستهلاكية ومصانعه ومزارعه الإنتاجية، ما يمكن أن يشكّل خطراً على هذه الدولة المجرمة، الأمر الذي جعل من إثارة الفتنة ونشر الفوضى مدخلاً لإضعاف الشعب العراقي وتدمير بنيته التحتية، لإطالة أمد الاحتلال الأمريكي له بحجَّة الدفاع عن أمنه الداخلي واستكمال المهمة الأمريكية في التخطيط لمصالحه في داخله وعبره في المنطقة؟!

نحيّي وعي الشعب العراقي

إننا مع عمق المأساة التي تفجَّرت دماءً ودموعاً وحزناً وآلاماً على كل الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، نحيّي الشعب العراقي الواعي على تجاوز المصيبة والارتفاع فوق مستوى الفتنة والالتفاف حول الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية. لقد انتصر العراقيون على الفتنة، وفوّتوا الفرصة على الاحتلال وحلفائه وعلى كل الحاقدين والمصطادين في الماء العكِر...

ونريد للجميع في هذه المرحلة المزيد من الوعي والحذر والدراسة الدقيقة للمخططات الأمريكية في مشاريعها الجديدة القديمة للنفاذ إلى المنطقة كلها عبر العراق والسيطرة عليها، ونطلب من علماء المسلمين في العراق وفي المنطقة كلها، عدم الاكتفاء بالشجب والاستنكار والدعوة إلى الوحدة في الخطب والتصريحات، بل العمل على تثقيف المسلمين بالوحدة كقاعدة إسلامية ترتبط بالمصير الإسلامي كله، وبسلامة الوطن كله... ولا بدّ من البحث عن الآليات العملية لتحقيق الهدف، ورصد كل الذين يعيشون خلفيات التعصب الأعمى والتطرف الجاهل الذي يجعل حركتهم تصبُّ في خانة تحقيق هدف الاستكبار بوسائلهم المتنوعة...

باكستان: حملة توعية لمواجهة الإرهاب

وإذا كنا نتحدث عن المجزرة الجديدة في كربلاء والكاظمية، فإننا لا بد أن نتحدث عن مجزرة "كويتا" الجديدة في باكستان، التي حصدت في يوم العاشر من محرم الحرام ما يقارب الخمسين ضحية وأكثر من مئة جريح، وعن مجزرة أخرى في محافظة "البنجاب" راح ضحيتها ستة من المسلمين في اليوم نفسه.

إننا في الوقت الذي نستنكر هذه الجريمة البشعة المروّعة، نحمّل المسؤولية للسلطات الباكستانية التي لم توفّر الأمن لمواطنيها من المسلمين الشيعة في احتفالاتهم الدينية، بالرغم من أن السنوات العشر الماضية كانت مسرحاً دامياً شهد سقوط ألفي ضحية ومئات الجرحى، من دون أن تقوم السلطات الباكستانية بأية حملة أمنية في مستوى الحدث الكبير. وقد نقل لنا الثقاة أن المجرمين يسرحون ويمرحون، بينما نجد أنها تودع في السجن المخلصين الوحدويّين، وفي طليعتهم العلامة السيد ساجد علي النقوي الذي لا يزال معتقلاً منذ أربعة أشهر.

إننا ندعو علماء المسلمين في باكستان أن يواجهوا هذا الوضع الدامي الذي يسهّل لأمريكا سيطرتها على الواقع الإسلامي في هذا البلد المسلم الطيب، وأن ينفذوا إلى داخل هذا الشعب بالتوعية الإسلامية والتثقيف الوحدوي والإبلاغ للجميع أن العصبية لن تفيد مسلماً سنياً ولا مسلماً شيعياً، وأن الوقوف على قاعدة الاعتصام بحبل الله، وهو الإسلام والقرآن والسنة الشريفة والحوار حول ما اختلفنا فيه، هو الذي يمنح الإسلام والمسلمين القوة في مواجهة الكفر كله والاستكبار كله، وندعو الحكومة الباكستانية إلى أن تتحمل مسؤوليتها تجاه شعبها في الحفاظ على أمنه واستقراره، والضرب بيد من حديد على كلِّ المجرمين، لأن الإرهاب في الداخل قد يهدم الوطن أكثر من الإرهاب في الخارج.

فلسطين: صمود يصنع مشاكل للعدو

أما فلسطين، فإنها لا تزال تنتقل من مجزرة إلى مجزرة ومن حصار إلى حصار، ومن جدار إلى جدار، ومن اعتقال إلى اعتقال، ومن لعبة سياسية أمنية يلوِّح بها الصهاينة من انسحاب من المستوطنات في غزة بأساليب إعلامية ملتوية وخادعة، إلى لعبة أخرى في توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وممارسة ضغوط أمريكية على الشعب الفلسطيني، فضلاً عمّا تعيشه من تعقيدات في الوضع السياسي الداخلي، وما تمارسه الأنظمة العربية من ضغوط من خلال الخطة الأمريكية في منع المساعدات عن المجاهدين وعن أيتام الشهداء وفقراء الناس، بحجة الامتناع عن دعم الإرهاب، وهذا ما نلاحظه في الخطط التي ترسمها وتنفذها أكثر من دولة عربية في محاصرة أو إلغاء الجمعيات الخيرية الأهلية التي تساعد الفقراء والأيتام في فلسطين وغيرها، حتى أصبح المحسنون من الأغنياء خائفين من مصادرة أموالهم إذا قاموا بالمساعدة، تماماً كما صادرت إسرائيل أموال الفلسطينيين في المصارف بحجَّة مساعدتهم للإرهاب.

إننا نقدّر الصمود الفلسطيني الذي استطاع أن يصنع أكثر من مشكلة أمنية واقتصادية وسياسية للعدو الصهيوني ولأمريكا المستكبرة... وسوف يبقى الشعب ويبقى صموده ويحيا الشهداء في موسم الحرية.

أما العرب، فإنهم يجتمعون من دون أية نتيجة على إصلاح الواقع العربي، ويختلفون حول مشروع الإصلاح الأمريكي الذي يريد إفساد كل مصالح الشعوب لحساب مصالح أمريكا... ويتحدث بعضهم عن الخضوع لأمريكا حتى لا نضطرّ للّهاث وراءها لنطلب منها غداً ما نرفضه اليوم. إنها العبودية العمياء التي لا تملك أن تريد أو لا تريد، إنها الجامعة العربية التي نخشى أن تتحول إلى جامعة للتمزقات والخلافات العربية.

لبنان: إصلاح في الأدراج

أما لبنان، فإنه لا يزال يعيش السجالات السياسية والخدماتية التي لا تنتهي إلى نتيجة، ويواجه التسويات بين المسؤولين التي قد تتمُّ على حساب الناس... والجدال يستمر نيابياً ووزارياً، والاقتصاد يتراجع، والمديونية تكبر، والجوع يفتك بالفقراء، والخدمات تنتظر توزيع الحصص على هذه الجهة أو تلك، لتكون النتائج تصغير المشاريع، لأن ميزانياتها قد توزعها الهدر والفساد.

ويحدّثونك عن الإصلاح الذي يبقى في الأدراج، وعن المؤسّسات الرقابية التي تخضع للرقابة من قبل أكلة الجبنة، حتى لا تمسكهم متلبسين بالتخمة من كل ما في مائدة الوطن من أطايب وملذات.

هل يستمر الانخفاض في درجات الحرارة في لبنان ليستمر شتاء العواصف، أم ترتفع هذه الدرجات في مناخ ربيعي لنعيش الربيع؟!! متى يأتي ربيع لبنان؟!

الإمام الحسين (ع): صورة الداعية والمرشد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الصبر على الحق:

ونبقى مع الإمام الحسين (ع) في الوجه الآخر للصورة، لأننا في المجالس الحسينية نحدّق في الإمام (ع) في صورة المأساة، ولنحاول أن نراه في صورة الإمام الداعية الواعظ المرشد الذي يحدِّد للناس المسار الصحيح ومسيرتهم الرشيدة، لأن القليل من الناس من يعرفون الحسين (ع) في كلماته الإرشادية والوعظية. ومن كلماته (ع)، ما نقله الإمام الباقر (ع) عن أبيه قال: «لمّا حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره ثمّ قال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي _ الحسين بن علي _ حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه (ع) أوصاه به: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مراً»، وفي كلمة أخرى له، قال فيها: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق، واصبر عما تحب في ما يدعوك إليه الهوى».

يريد الإمام (ع) في هاتين الكلمتين، أن يؤكد على موقف الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في حياته الذاتية الفردية مع نفسه، أو في موقفه مع ربه، أو في موقفه مع كل الناس، فالقضية لا تختصر بما يعيشه الإنسان من مشاعر اللذة أو الألم، بحيث يُقبل على ما يلتذّ به، ويتجنّب ما يؤلمه، بل أن يعمل على أن يكون موقفه هو الموقف الذي يحقّق له الثبات والاستقرار والنجاح في المستقبل، باعتبار أنَّ بدايات اللذّة قد تغري الإنسان، ولكن نهايتها قد تكون مكلفة ومتعبة ومميتة، فربما يحس الإنسان بلذة شيءٍ فيأخذ به، ولكن ما إن تتفاعل عناصر هذه اللذة في موقعها، حتى تخلق له ما يفقده حلاوتها، ويفقده الكثير من ذاتيته، وهناك مثل يقول: «رب أكلة منعت أكلات»، وهناك مثل آخر يقول: «السمّ في الدسم».

لهذا، لا بد للإنسان من أن يفحص كلَّ ما يأكله، وكل ما يعمله، لأن العناصر السلبية قد تكون خفية، بحيث لا يشعر الإنسان بها. وهكذا حدّثنا الإمام الحسين (ع) عندما شبَّه إقدام الناس على الدنيا واستغراقهم في ملذاتها على حساب مبادئهم بالعسل، لأن الإنسان عندما يضع العسل على لسانه، فإن لسانه يبقى يتحرك ما دام العسل موجوداً عليه، وإذا ما استهلك، فإنه يفقد الإحساس بأي شيء. وبذلك يقول (ع): «الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم _ أي إن بعض الناس يتعلقون بالدين ما دام منسجماً مع أطماعهم ولذَّاتهم، ولكن عندما يخضعون للتجربة التي يقفون من خلالها بين الحق والباطل، بين الدين والدنيا، كما وقف الحرّ بين الجنة والنار _ فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون _ فإنهم يسقطون، لذلك يقول الإمام (ع): «اصبر على الحق»، قد يكون الحق صعباً، لكن نتائجه على مستوى الدنيا والآخرة قد تكون عظيمة جداً.

وفي الحديث الآخر: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق»، فالحق يترتّب عليه مسؤوليات كبيرة قد تفرض على الإنسان الخسارة المادية في الدنيا، ولكن النتائج سوف تكون لصالحه عندما يواجه الربح الكبير في رضوان الله. «واصبر عمّا تحبّ في ما يدعوك إليه الهوى». فهوى النفس ربّما يدعو الإنسان إلى معصية الله، فيحصل على اللذة والشهوة، ولكن النتائج لا شك سوف تكون ألماً وشقاءً.

فالإمام الحسين (ع) كانت رسالته إلى النّاس أن يكونوا مع الحقّ حتى لو كان الحقُّ مراً، والحق كلمةٌ تتحرَّك في جميع الاتّجاهات، فالحقّ في العقيدة هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، والحق في الشريعة هو ما شرَّعه الله ورسوله، والحق في السياسة هو ما تحرك من أجل العدل، والحق في المجتمع هو ما تحرك في أداء حقوق المجتمع في علاقاته، وفي الوحدة وفي المحبة... وهكذا يجب على الإنسان أن يجعل كل حياته تتحرك على أساس الحق لا على أساس الباطل.

الصبر عن المعصية:

في كلمةٍ أخرى له (ع) عندما جاءه رجل وقال له: «أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية _ عندما تتهيَّأ ظروف المعصية أندفع إليها، سواء كان ذلك في القضايا الجنسية أو في القضايا المالية أو في القضايا الاجتماعية أو ما إلى ذلك _ فعظني بموعظة، فقال (ع): إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت، والرابع إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت».

كأنه يقول له إنك تأكل رزق الله، وتعيش في سلطانه، وأنت بعين الله في كل مكان، والله هو الذي يملك حياتك وموتك، والله هو الذي يملك عقابك ومثوبتك، فكيف تعصي الله؟! وقد وعظه بطريقةٍ عرّفه من خلالها ما هو عمق المعصية، إذ كيف يعصي الله الذي هو سر وجوده في البداية، وسر وجوده في النهاية، وسر كل حياته؟!.

المعروف دوماً:

وقال رجلٌ: «إنَّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع»، أي إنّ على الإنسان أن يؤدي المعروف إلى من يستحقّه، أما الشخص الذي لا يستحقّه، فلا ينبغي فعل المعروف معه لأنه يضيّعه، فأجابه الحسين (ع): «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر»، وذلك أنك عندما تعيش الأخلاق التي تؤمن بها، وهي تمثِّل القيم التي تحكم حياتك، فإنّ عليك أن تكون في أخلاقيتك وقيمك كالمطر، ينـزل على الأرض الجدباء والخصبة، وكذلك فإنَّ المعروف ينـزل على الإنسان الذي يعصي الله ويكفر به، وينـزل على الإنسان الذي يطيع الله ويؤمن به. فكن كالنبع، كن كالشمس، كن كالمطر، حتى تندفع الأخلاقية والخير من نفسك للناس كافة، تماماً كما ينطلق الينبوع. ليكن الخير نبعاً في قلبك، ولا تحسب حساب الربح والخسارة في هذا المجال، وهذه قمَّة الإنسانية التي يؤكِّدها الإسلام في تربية الإنسان.

ثم يتحدَّث الإمام (ع) عن خطِّ الضلال والانحراف عن الله سبحانه وتعالى، والذي يستهوي الناس ويجعلهم يرغبون في سلوكه نتيجة اللحظة التي يحس فيها الإنسان بالشهوة وباللذة، ويحدق بالأرباح العاجلة، فيقول (ع): «اتقوا هذه الأهواء» أهواء النفس وشهواتها التي تنحرف عن خط الله.

فالله لم يحرِّم علينا أن نشبع شهوات أنفسنا، ولكنه سبحانه وتعالى حدّد الشهوة الحرام والشهوة الحلال، ولم يحرّم علينا أن نأخذ بأسباب اللذة في الحياة، ولكنه سبحانه جعل لذة حلال ولذة حرام، فالقضية هي أن نختار ما أحلّه الله سبحانه وتعالى، أما الأخذ بالحرام في اللذة، في الشهوة، أو في الخط والعلاقة والموقف، فهذه نتائجها سيئة على الإنسان، لأنّ «جماعها الضلالة وميعادها النار».

التوازن في الحركة:

ثم يتحدث الإمام (ع) عن ظاهرة موجودة عند الناس، بحيث يسيء المرء وبعدها يعتذر، فالإمام (ع) يقول في ما يروى عنه: «إيَّاك وما تعتذر منه _ أي لا تقدم على الأشياء التي تجعلك تعتذر من الناس الذين أسأت إليهم، وفِّر على نفسك الاعتذار، لأنّ الاعتذار ذلّ _ فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر». وهذه مسألة تربوية مهمَّة، تجعل الإنسان يدرس كلَّ ما يريد أن يقوله، أو أن يعمله؛ في بيته، في مجتمعه، وفي كلِّ مجالات عمله، فإذا شعر أنه سوف يقف موقف الاعتذار، فعليه أن يجنِّب نفسه ذلك.

ثم يبيّن الإمام (ع) كيف يتصرف العاقل مع الآخرين، بقوله: «العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه _ أي لا تحدث من يغلب عليه ظنك بأنه سوف يكذِّبك، لأنه لا فائدة من ذلك، باعتبار أنه لا يصدّقك حتى لو كنت ما تتحدث به هو الحق _ ولا يسأل من يخاف منعه _ أي تسأل من تشعر أنه سوف يمنعك ولا يقضي لك حاجتك، _ ولا تثق بمن يُخاف غدره...»، فمن كان خُلُقُه الغدر، أو يغلب على الظن أنه يغدر بمن يثق به، فلتكن علاقتك به علاقة الحذر، فلا تعطي الثقة كاملةً لأيَّ شخص مهما كانت الظروف.

وفي هذا الخصوص، سمعنا من أئمتنا(ع) في ما عرفوه من رسول الله(ص)، أن الإنسان لا يعطي الثقة بلا حساب، وقد تحدَّثنا في هذا المجال كثيراً في ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): «لا تثق بأخيك كل الثقة _ أي الثقة العمياء به (ما عدا المعصوم) _ فإن صرعة الاسترسال لا تستقال».

هذه كلمة للإمام عليّ، وما أروعه في كلماته في التربية الاجتماعية وفهمه للمجتمع وهو يقول: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما». اجعل نفسك دائماً في خط التوازن في الحب وفي البغض، في العداوة وفي الصداقة.

وفي الحديث أنه جاء الإمام الحسين (ع) شخصٌ من الذين شغلهم الجدل حباً بالجدل، وليس لطلب الحقيقة أو لأجل حلّ مشكلة، فهو يناقش ويجادل بهدف الغلبة، فقال للحسين بن علي (ع): اجلس حتى نتناظر في الدين. قال (ع): «يا هذا، أنا بصير بديني، مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، ما لي وللمماراة، إن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بك العجز والجهل». ثم ينطلق الإمام (ع) من حديثه مع هذا الرجل إلى بيان القواعد في الجدل، «المراء _ الجدل _ لا يخلو من أربعة، إما أن تتمارى أنت وصاحبك في ما تعلمان، فقد تركتما بذلك النصيحة، وطلبتما الفضيحة، وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه، فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإما تعلمه أنت _ والآخر جاهله _ فظلمت صاحبك بطلبه عثراته، أو يعلمه صاحبك _ وأنت تجهله _ فتركت حرمته ولم تنـزله منـزلته، وهذا كله محال، فمن أنصف وقبل الحق وترك المماراة، فقد أوثق إيمانه وأحسن صحبة دينه وصان عقله». هذا هو الخط الحسيني الإسلامي في قصة الجدل.

أيها الأحبة، إن الحسين (ع) هو إمام الإسلام الذي لا بد أن ننفتح على كل خطوط إمامته، فلا نستغرق في حسين المأساة أو حسين الثورة، ولكن علينا أن نعيش الحسين كما نعيش أباه وأخاه وأولاده، ممّن حملوا لنا رسالة جدهم (ص) التي هي رسالة الله.

هذا هو معنى الإمامة، وهذا هو معنى الولاية، وهذا هو معنى الالتزام بأهل البيت (ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لنتطهَّر بطهارتهم ولنـزيل عنّا رجس الجهل والمعصية.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم 

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا الموقف في خطِّ التقوى في ما تأخذون به وفي ما تتركونه، وفي خط الواقع في ما تتحركون فيه أو ما تجمّدونه من حركة، ولنقف موقف الرفض لأعداء الأمة في كلِّ خطواتهم، ولننفتح كل الانفتاح للأصدقاء في كل ما نتحرك فيه معهم. ونحن نعيش في هذه الأيام أكثر من كربلاء في العالم كله، حيث ينطلق المستكبرون ليصادروا كل قضايا المستضعفين. إن على الأمة الإسلامية أن تتحمل مسؤولياتها في الحفاظ على قوتها وعلى ثرواتها، وعلى مواقفها السياسية والاقتصادية والأمنية، لأن الله لا يريد للإنسان أن يكون حيادياً بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، بل لا بد أن يكون عوناً للمظلوم وخصماً للظالم، فتعالوا لنرى ماذا هناك في ما مرَّ علينا في هذه الأيام.

الاحتلال مسؤول عن مجازر كربلاء والكاظمية

عاشوراء الجديدة في كربلاء والكاظمية هي امتداد لعاشوراء التاريخ، في وحشية الجريمة، وفي هدف الفتنة، وفي إسقاط القِيَم الروحية، وفي دعم الظالمين. أما المؤمنون الطيبون المخلصون المنفتحون على الإسلام في الخط الإسلامي الأصيل الذي يمثله أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً... فهم يسقطون قتلى وجرحى بالمئات من دون ذنب اقترفوه، تماماً كما هم الشهداء في كربلاء.

لقد حاول الاحتلال التبرؤ من المسؤولية عن هذه المجازر الوحشية، ليحمّلها لجماعات متطرّفة إرهابية متعصبة، ولكنّه مهما حاول التنصّل من هذه القضية بأسلوبه التبريري، فإنه يتحمّل كامل المسؤولية، لأنَّ مناخ الاحتلال هو الذي جعل العراق ساحةً مفتوحةً لكلِّ التعقيدات والمصطادين في الماء العكِر، ثم السؤال: إذا كان جنوده لم يقوموا بهذه الجريمة، فماذا عن عملاء المخابرات الأمريكية؟ وماذا عن الموساد الإسرائيلي الذي أدخله الاحتلال مع كل الفعاليات الصهيونية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليعمل للسيطرة على العراق، على أساس الحلف الاستراتيجي بين أمريكا والصهاينة... خاصة وأن الاحتلال الأمريكي للعراق قدّم هدية كبيرة للدولة العبرية، بفعل ما يمثله العراق من قوة مستقبلية بثرواته وشعبه وإمكاناته العلمية الإبداعية وأسواقه الاستهلاكية ومصانعه ومزارعه الإنتاجية، ما يمكن أن يشكّل خطراً على هذه الدولة المجرمة، الأمر الذي جعل من إثارة الفتنة ونشر الفوضى مدخلاً لإضعاف الشعب العراقي وتدمير بنيته التحتية، لإطالة أمد الاحتلال الأمريكي له بحجَّة الدفاع عن أمنه الداخلي واستكمال المهمة الأمريكية في التخطيط لمصالحه في داخله وعبره في المنطقة؟!

نحيّي وعي الشعب العراقي

إننا مع عمق المأساة التي تفجَّرت دماءً ودموعاً وحزناً وآلاماً على كل الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، نحيّي الشعب العراقي الواعي على تجاوز المصيبة والارتفاع فوق مستوى الفتنة والالتفاف حول الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية. لقد انتصر العراقيون على الفتنة، وفوّتوا الفرصة على الاحتلال وحلفائه وعلى كل الحاقدين والمصطادين في الماء العكِر...

ونريد للجميع في هذه المرحلة المزيد من الوعي والحذر والدراسة الدقيقة للمخططات الأمريكية في مشاريعها الجديدة القديمة للنفاذ إلى المنطقة كلها عبر العراق والسيطرة عليها، ونطلب من علماء المسلمين في العراق وفي المنطقة كلها، عدم الاكتفاء بالشجب والاستنكار والدعوة إلى الوحدة في الخطب والتصريحات، بل العمل على تثقيف المسلمين بالوحدة كقاعدة إسلامية ترتبط بالمصير الإسلامي كله، وبسلامة الوطن كله... ولا بدّ من البحث عن الآليات العملية لتحقيق الهدف، ورصد كل الذين يعيشون خلفيات التعصب الأعمى والتطرف الجاهل الذي يجعل حركتهم تصبُّ في خانة تحقيق هدف الاستكبار بوسائلهم المتنوعة...

باكستان: حملة توعية لمواجهة الإرهاب

وإذا كنا نتحدث عن المجزرة الجديدة في كربلاء والكاظمية، فإننا لا بد أن نتحدث عن مجزرة "كويتا" الجديدة في باكستان، التي حصدت في يوم العاشر من محرم الحرام ما يقارب الخمسين ضحية وأكثر من مئة جريح، وعن مجزرة أخرى في محافظة "البنجاب" راح ضحيتها ستة من المسلمين في اليوم نفسه.

إننا في الوقت الذي نستنكر هذه الجريمة البشعة المروّعة، نحمّل المسؤولية للسلطات الباكستانية التي لم توفّر الأمن لمواطنيها من المسلمين الشيعة في احتفالاتهم الدينية، بالرغم من أن السنوات العشر الماضية كانت مسرحاً دامياً شهد سقوط ألفي ضحية ومئات الجرحى، من دون أن تقوم السلطات الباكستانية بأية حملة أمنية في مستوى الحدث الكبير. وقد نقل لنا الثقاة أن المجرمين يسرحون ويمرحون، بينما نجد أنها تودع في السجن المخلصين الوحدويّين، وفي طليعتهم العلامة السيد ساجد علي النقوي الذي لا يزال معتقلاً منذ أربعة أشهر.

إننا ندعو علماء المسلمين في باكستان أن يواجهوا هذا الوضع الدامي الذي يسهّل لأمريكا سيطرتها على الواقع الإسلامي في هذا البلد المسلم الطيب، وأن ينفذوا إلى داخل هذا الشعب بالتوعية الإسلامية والتثقيف الوحدوي والإبلاغ للجميع أن العصبية لن تفيد مسلماً سنياً ولا مسلماً شيعياً، وأن الوقوف على قاعدة الاعتصام بحبل الله، وهو الإسلام والقرآن والسنة الشريفة والحوار حول ما اختلفنا فيه، هو الذي يمنح الإسلام والمسلمين القوة في مواجهة الكفر كله والاستكبار كله، وندعو الحكومة الباكستانية إلى أن تتحمل مسؤوليتها تجاه شعبها في الحفاظ على أمنه واستقراره، والضرب بيد من حديد على كلِّ المجرمين، لأن الإرهاب في الداخل قد يهدم الوطن أكثر من الإرهاب في الخارج.

فلسطين: صمود يصنع مشاكل للعدو

أما فلسطين، فإنها لا تزال تنتقل من مجزرة إلى مجزرة ومن حصار إلى حصار، ومن جدار إلى جدار، ومن اعتقال إلى اعتقال، ومن لعبة سياسية أمنية يلوِّح بها الصهاينة من انسحاب من المستوطنات في غزة بأساليب إعلامية ملتوية وخادعة، إلى لعبة أخرى في توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وممارسة ضغوط أمريكية على الشعب الفلسطيني، فضلاً عمّا تعيشه من تعقيدات في الوضع السياسي الداخلي، وما تمارسه الأنظمة العربية من ضغوط من خلال الخطة الأمريكية في منع المساعدات عن المجاهدين وعن أيتام الشهداء وفقراء الناس، بحجة الامتناع عن دعم الإرهاب، وهذا ما نلاحظه في الخطط التي ترسمها وتنفذها أكثر من دولة عربية في محاصرة أو إلغاء الجمعيات الخيرية الأهلية التي تساعد الفقراء والأيتام في فلسطين وغيرها، حتى أصبح المحسنون من الأغنياء خائفين من مصادرة أموالهم إذا قاموا بالمساعدة، تماماً كما صادرت إسرائيل أموال الفلسطينيين في المصارف بحجَّة مساعدتهم للإرهاب.

إننا نقدّر الصمود الفلسطيني الذي استطاع أن يصنع أكثر من مشكلة أمنية واقتصادية وسياسية للعدو الصهيوني ولأمريكا المستكبرة... وسوف يبقى الشعب ويبقى صموده ويحيا الشهداء في موسم الحرية.

أما العرب، فإنهم يجتمعون من دون أية نتيجة على إصلاح الواقع العربي، ويختلفون حول مشروع الإصلاح الأمريكي الذي يريد إفساد كل مصالح الشعوب لحساب مصالح أمريكا... ويتحدث بعضهم عن الخضوع لأمريكا حتى لا نضطرّ للّهاث وراءها لنطلب منها غداً ما نرفضه اليوم. إنها العبودية العمياء التي لا تملك أن تريد أو لا تريد، إنها الجامعة العربية التي نخشى أن تتحول إلى جامعة للتمزقات والخلافات العربية.

لبنان: إصلاح في الأدراج

أما لبنان، فإنه لا يزال يعيش السجالات السياسية والخدماتية التي لا تنتهي إلى نتيجة، ويواجه التسويات بين المسؤولين التي قد تتمُّ على حساب الناس... والجدال يستمر نيابياً ووزارياً، والاقتصاد يتراجع، والمديونية تكبر، والجوع يفتك بالفقراء، والخدمات تنتظر توزيع الحصص على هذه الجهة أو تلك، لتكون النتائج تصغير المشاريع، لأن ميزانياتها قد توزعها الهدر والفساد.

ويحدّثونك عن الإصلاح الذي يبقى في الأدراج، وعن المؤسّسات الرقابية التي تخضع للرقابة من قبل أكلة الجبنة، حتى لا تمسكهم متلبسين بالتخمة من كل ما في مائدة الوطن من أطايب وملذات.

هل يستمر الانخفاض في درجات الحرارة في لبنان ليستمر شتاء العواصف، أم ترتفع هذه الدرجات في مناخ ربيعي لنعيش الربيع؟!! متى يأتي ربيع لبنان؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية