الحسين(ع) إمام الأمة والنموذج الأمثل للوحدة الإسلامية

الحسين(ع) إمام الأمة والنموذج الأمثل للوحدة الإسلامية

الحسين(ع) إمام الأمة والنموذج الأمثل للوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

بدايةً، أريد أن أوضح للجميع موضوع التغيير أو التبديل في مسألة عاشوراء، فمنذ البداية كان رأيي الشرعي أن نبدأ يوم الأحد، لأن يوم الأحد هو أول أيام شهر محرم الحرام، على أساس أن يكون يوم عاشوراء هو يوم الثلاثاء، ولكني اطّلعت في الصحف آنذاك على فتوى تقول إنه السبت، وعلى إعلان بعض الجهات بأنهم سوف يقيمون مآتم عاشوراء مساء الجمعة ليلة السبت، على أساس أن يكون يوم عاشوراء الاثنين، ولم ينسِّق أحد معي حول ذلك الموضوع، ولكني حفاظاً على الوحدة ـ وبما أنّ المسألة ليست شرعية إلزامية كقضية عيد الفطر ـ سرنا مع الأخوان في هذا المجال، حفاظاً على وحدة الموقف.

ولكن بعد ذلك، تبدّل الموقف، وتمّ التشاور والاتفاق على أن تكون عاشوراء يوم الثلاثاء، باعتبار أن المرجعيات الإسلامية في النجف وإيران ستقيم مراسم عاشوراء يوم الثلاثاء، وكان الاقتراح أن يكون العالم الشيعي بأكمله في موقف موحّد في العالم، ونحن قلنا إنه كان هذا رأينا من الأساس.

فقد انسجمنا بداية مع الوحدة، والآن أيضاً ننسجم مع الوحدة، ومع رأينا الفقهي في هذا المجال، مع ملاحظة بعض السلبيات التي تنتج عن ذلك، من جهة أنها تعطي صورة غير جيدة عن واقعنا في لبنان، حيث إنه يجب أن تبحث القضية من الأساس بحثاً دقيقاً، ومن جهة أنها تخلق إرباكاً عند الناس، بحيث إن الكثير منهم قد يكون رتّب أوضاعه على أساس أنها يوم الاثنين. ولكن على كل حال، نحن نؤكد على الوحدة بقطع النظر عن كل السلبيات، ونريد من كل الفعاليات الدينية وغير الدينية، أن تأخذ درساً من هذه التجربة، وأن عليها أن لا تستعجل الأمور، حتى لا نعطي صورة مشوّهة عن وضعنا كطائفة أمام الناس وأمام الآخرين في هذا المجال. وعلى كل حال الوحدة خير، والدراسة للأمور أيضاً خير. هذا ما أحببت أن أؤكده لكم في هذا الموضوع.

نموذج الوحدة الإسلامية

لا نزال نعيش الحسين(ع) روحاً وعقلاً ورسالةً وفكراً وحركةً، وعندما نعيش الحسين(ع)، نعيش الإسلام في عقيدته وفي شريعته وفي مناهجه وفي أساليبه وأهدافه في الحياة، وعندما نعيش الإسلام، فإننا نعيش رسول الله(ص)، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}. والحسين(ع) قطعة من رسول الله، قطعة في العاطفة، وخط في الرسالة، ونيابة في الإمامة، وعندما نتحدث عن الإسلام في رسالة الرسول، فإننا نتحدث عن المسلمين جميعاً، لنعيش كما أرادنا رسول الله(ص)، وكما أرادنا القرآن من خلال ذلك، أن نعيش وحدة الأمة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، أن نعيش وحدة الأمة بالرغم من اختلاف الأمة في خطوطها المذهبية وفي اجتهاداتها الفقهية، لأن الإسلام واحد وإن تنوّع فهمه.

وفي ضوء هذا، فإنّنا كما كنّا نتحدث عن عليّ بن أبي طالب(ع)، بأنه رائد الوحدة الإسلامية في حفاظه على الإسلام والمسلمين، فإنّ الحسين(ع) هو نموذج هذه الوحدة، لأن الحسين(ع) هو الإمام الذي يجمع كلَّ المسلمين ـ من كان في خطه في مذهب أهل البيت(ع) ومن لم يكن ـ على محبته وعلى تعظيمه، ذلك أن المسلمين يروون جميعاً بأن "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، ويروون جميعاً كلمة الرسول(ص): "إني أحب حسيناً، أحب الله من أحب حسيناً".

لذلك فالحسين(ع) هو الذي تخفق قلوب المسلمين بمحبته وتعظيمه وبمعرفة فضله، وإن اختلفوا في تقويم قضية كربلاء، ولئن عاش المسلمون في مرحلة كربلاء بعض الانحرافات، لكنهم كانوا كما قال الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

ونحن ـ أيها الأحبة ـ عندما نذكر الحسين إماماً، فإن علينا أن لا نستغرق في الجانب الثوري أو في الدائرة الكربلائية المأساوية، لنختصر الحسين في هاتين الدائرتين. فالحسين(ع) كان ثائراً في خطِّ الإمامة، وكان كربلائياً في مأساة كربلاء في خطِّ الإمامة الإسلامية، ولكن علينا أن نأخذ الحسين بكله مسلماً إماماً، فالحسين(ع) هو الإمام بعد الإمامين، وهو من رسول الله(ص( حيث قال: "حسين مني وأنا من حسين". لذلك، لا بدّ أن ندرس الإمام الحسين(ع) في الخط الإسلامي في الموعظة، في النصيحة، في الشريعة، في كل جوانب حركة الحسين في الدعوة، وحركة الحسين في التربية، وحركة الحسين في تغيير عقول المسلمين، وفي ربطهم بالله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الحسينيين هم الذين أطاعوا الله ووحّدوه، وأطاعوا رسول الله(ص) وساروا على خط الإسلام في كل ما يفكرون وفي كل ما يعملون.

العقل يكتمل باتباع الحق

ونريد في هذا الموقف أن نستنطق الحسين(ع)، ليعظنا وليذكرنا بالله في بعض كلماته المرويّة عنه، فمن هذه الكلمات: "لا يكمل العقل إلا باتّباع الحق"، هذا يعني أنّ على الإنسان أن ينمّي عقله وأن يطوّره، وأن ينفتح على كل مسؤولياته من خلال كل الواقع، ولا بد للإنسان أن يكمل عقله، وأن يدرس مواقع النقص فيه، لأن العقل هو حجة الله على الإنسان، ولأن العقل هو الذي يحدّد للإنسان الخير والشر، الحسن والقبيح، الحق والباطل. العقل هو الذي يجعل من إنسانيتك إنسانيةً تغني حياتك وحياة الناس من حولك.

وفي ضوء هذا، كان الحسين(ع) يحدثنا دائماً، ومن خلال القرآن، عن الحق، وتلك كلمته المعروفة: "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، لأن الحق هو دعامة الحياة كلها، وقد سمّى الله نفسه بالحق، ذلك بأن الله هو الحق، فالحسين(ع) يقول لنا إن العقل كما يتحرك في خط النظرية، فإنه يتحرك في خط الواقع، فالعقل يدرك أولاً أين سعادة الإنسان وأين الأساس في نظام الحياة، فيعرف أن الحق هو الثابت الذي لا يزول ولا يهتزّ ولا يسقط.

ولذلك، فإنّ العقل يقول لك إن الحقَّ هو خطّ حياتك، هو في نفسك، في ما تعتقده، في إيمانك بالله وبالرسالة وبكلّ القيم التي أحبّها الله ورسوله، والحق في علاقتك بالناس، فإن هناك برامج تفرض عليك أن تضع القواعد لحياتك مع الآخرين، سواء في البيت الأبوي أو في البيت الزوجي، أو مع الناس الآخرين في جميع المجالات، هناك حق وباطل في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهناك حق قانوني في ما بينك وبين الناس، ما يخلق للحياة توازنها ويغني للإنسان إنسانيته.

وانطلاقاً مما تقدّم، فإنّ العقل يقول لك اتّبع الحق، فإذا استجبت لعقلك واتّبعت الحق، فمعنى ذلك أن عقلك العملي تكامل مع عقلك النظري، وتحوّلت بذلك النظرية إلى تطبيق، أما إذا لم تتبع الحق، بل اتّبعت الباطل، فإن ذلك يدل على نقصان عقلك النظري والعملي إذا لم تهتدِ إلى الحق ولم تفكر به.

لذلك فالحسين(ع) يقول إنّه من لا يتبع الحق، في العقيدة أو في الشريعة أو في حركة الحياة، في حركة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، فهو ناقص العقل.

أشرف الناس المتّعظ المستيقظ

وفي حديث آخر، يقال إن رجلاً سأله: مَن أشرف الناس؟ فقال(ع): "من اتّعظ قبل أن يوعظ ـ يعني من لا يحتاج إلى من يعظه، بل يدرس الأمور بحسب نتائجها على حياته وعلى مصيره فيتّعظ بالمواعظ التي تمرّ عليه، وبالموتى الذين يتركون الحياة، ليعرف بأنه سيموت كما ماتوا، ويدرس الصدمات التي تصيبه، فيعرف أن عليه أن يتفادى أسباب هذه الصدمة أو الخسارة أو الهزيمة أو كل ما يصيب الإنسان في الخط السلبي.

وقد ورد في بعض كلمات الإمام علي(ع) في هذا الاتجاه: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"، فالذي لا يعيش الموعظة في نفسه، ولا يدرس كيف يستفيد من كل التجارب الفاشلة أو التجارب الناجحة في الحياة، ومن كل انحرافات الآخرين واستقامتهم، لا تنفعه المواعظ، لأنه قد أغلق عقله عن فهم الموعظة، وأغلق إرادته عن تأكيد الموقف في خطّ الموعظة.

ـ واستيقظ قبل أن يوقظ"، أي لا يحتاج إلى أحد كي يوقظه من النوم؛ نوم العقل، ونوم الروح، ونوم الحياة... أن يكون في يقظة دائمة لما حوله ولمن حوله... أن لا يكون غافلاً، لأن الغفلة واللامبالاة في الحياة هي حالة نوم وحالة غياب عن الواقع، لذلك كُن يقظاً مفتوح العينين على كل ما ينفعك وعلى كل ما يضرك، وعلى كل الواقع الذي يواجهك في مسوؤلياتك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن غفلة الناس عن الآخرة وهم مستغرقون في الدنيا: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، وبعضهم يقول: {قال ربّ ارجعونِ لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها}.

الكلمة الأخرى للإمام الحسين(ع) حيث سُئِل: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال(ع): "أصبحت ولي ربٌ فوقي ـ أعرف أنني سأقدم حسابي له يوم القيامة ـ والنار أمامي ـ أفكر بموقفي أمام الله في كل مسؤولياتي ـ والموت يطلبني والحساب محدق بي، وأنا مرتهنٌ بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني".

لذلك، عندما تحضرون مجالس العزاء، تذكروا الإمام الحسين(ع)، فهو لا يريد منكم أن تسكبوا الدموع فقط، وإن كان للدموع شأن عاطفي، ولكن يريد لكم أن تبكوا على أنفسكم أكثر مما تبكون عليه.

القرآن مرآةُ الحقائق

في كلمة أخرى للإمام الحسين(ع) يقول فيها: "إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمته، وقوله مرآته ـ ينظر في القرآن كما لو كان مرآةً تريه الأشياء على حقيقتها. وهذا مهم لنا في قراءتنا للقرآن، وأحب أن تتأملوا في هذه الكلمة، حتى تربطوا بين ما تقرأون في القرآن وبين ما تعيشونه في الواقع.

ويبيّن لنا الإمام(ع) كيف نفهم القرآن وكيف نجعله مرآة للحقائق ـ فمرةً ينظر في نعت المؤمنين ـ أي صفاتهم، فانظر إلى نفسك؛ هل أنت متّصف بصفات المؤمنين التي جاءت في القرآن، أم أنك لست متصفاً بها، وكذلك انظر إلى الناس من حولك، لتعرف من هو المؤمن ومن هو ليس بمؤمن ـ وتارةً ينظر في وصف المتجبرين ـ ادرس الجبابرة الذين يعلون في الأرض ويفرقون الناس، وهكذا ـ فهو منه (القرآن) في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين".

وهكذا في كلمة أخرى للإمام الحسين(ع) عندما قيل له: إن أبا ذر يقول: "الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسقم أحبّ إليّ من الصحة"، فقال(ع): "رحم الله أبا ذر، أمّا أنا أقول: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّ غير ما اختاره الله عزّ وجل". وفي كلمة أخرى كتب إليه بعض الناس، أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب إليه الحسين(ع): "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنه مَن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس"، وقيل له: ما أعظم خوفك من ربك، قال(ع): "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا".

السلام رابط بين القلوب

وفي ختام الكلمة بالنسبة إلى السلام، يقول الحسين(ع): "للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدىء وواحدة للرادّ"، وفي نقطة ثانية عالجها الإمام الحسين(ع) وينقلها عن أبيه علي ابن أبي طالب(ع) في الذين لا يسلّمون على من ارتكب ذنباً من إخوانهم المؤمنين، ففي رواية عن علي بن الحسين عن أبيه، أن ابن الكوّى سأل علي بن أبي طالب(ع)، فقال يا أمير المؤمنين، تسلّم على مذنب هذه الأمة؟ فقال(ع): "يراه الله عز وجل للتوحيد أهلاً ولا تراه للسلام عليه أهلاً". وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث: "أبخل الناس من بخل بالسلام".

لذلك ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا من أن نتحرك على أن نسلّم على كل الناس، ويجب أن نتدرّب على السلام جيداً، لأنّ تحية أهل الجنة هي السلام، حيث يقول عز وجل: {وتحيّتهم فيها سلام}، ومن آدابنا في الدنيا أن نسلّم أولاً ثم نتحدث، والسلام كلمة طيبة تربط بين القلوب وتعرّف الآخر أنه في سلامٍ معه، ولذلك وجب أن نحافظ عليها.

أيها الأحبة، هذا هو الحسين الإمام، فعلينا أن نعيش إمامته في خط إسلامه وفي خط دعوته إلى الله. رزقنا الله شفاعة الحسين(ع) وشفاعة جده وأبيه، وأمّه وأخيه، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله، وانطلقوا مع الحسين(ع) في ثورة متحركة، ثورة على الذات من أجل جهادها لتطيع الله وتسير في صراطه المستقيم؛ ثورة على كل الظالمين في الداخل وعلى كل المستكبرين في الخارج؛ ثورة على كل التفرقة والتمزّق في واقع المسلمين، وعلى كل الذين يكيدون للمسلمين بإثارة الفتنة بينهم في كل مجالات الحياة. إن ذلك هو مسؤوليتنا، وهو معنى احتفالنا بالحسين في ذكراه، أن نعيش مرحلتنا بمسؤولية كما عاش الحسين(ع) مرحلته بمسؤولية، لأننا مسؤولون عن مرحلتنا هذه، ولسنا مسؤولين عن مراحل التاريخ. تعالوا لنواجه المرحلة التي يعيشها المسلمون والمستضعفون في كل أنحاء العالم أمام المستكبرين وحلفائهم وأتباعهم وما إلى ذلك.

انكشاف صورة الذئب الصهيوني

المشهد الفلسطيني لا يزال يتمثل في الصورة الوحشية التي يرسمها الصهاينة للساحة في الاجتياح والقتل والتدمير والتعذيب والحصار، وأخيراً مصادرة الأموال الفلسطينية من المصارف بحجة أنها مساعدات لعوائل الشهداء ولرجال الانتفاضة، ما يؤكد اللصوصية اليهودية للأرض والإنسان والمال. ويبقى الصمود الفلسطيني الذي أربك الكيان الصهيوني والخطة الأمريكية الهادفة إلى إسقاط هذا الشعب الذي لا يزال يتابع جهاده بحجارة الأطفال وسلاح المجاهدين وتضحيات الاستشهاديين.

وهكذا، رأينا الصورة الصهيونية تنكمش في الرأي العام الدولي، وتنتقل من صورة الضحية المحاطة بالذئاب، إلى صورة الذئب الذي يفترس الضحايا من المدنيين، ولا سيما الأطفال، والدولة المدججة بأكثر الأسلحة الأمريكية تطوراً في مواجهة شعب أعزل لا يملك إلا جسده وحجارته وأسلحته الخفيفة التي يدافع بها عن نفسه... أما حقوق الإنسان، فقد صادرها اليهود في تعاملهم مع السجناء وحصارهم للشعب الفلسطيني وتدمير بيوتهم وجرف مزارعهم، وذلك كما جاء في التقرير الأمريكي... وسوف يخرج القرار القانوني في محكمة العدل الدولية في لاهاي الذي سيدين الجدار العنصري، ما يمثل قيمة إعلامية وإن لم يمثل قيمة قانونية ملزمة... وإننا نريد للعرب وللمسلمين أن يتابعوا الموقف الرافض للكيان الصهيوني بكل أوضاعه وبكل احتلاله، وأن يواجهوا الإدارة الأمريكية بمواقفها المنحازة انحيازاً مطلقاً ضد الفلسطينيين، وبنفاقها السياسي الذي يتباكى على الديمقراطية والحريات والإصلاح في منطقة الشرق الأوسط الكبير، في الوقت الذي تجري مصادرة الحريات باسم الأكذوبة الكبرى في الحرب ضد الإرهاب...

كذب الوعود الأمريكية في العراق

وهكذا نلاحظ ما يفعله الاحتلال الأميركي في العراق، الذي كان يعد العراقيين، بعد سقوط نظام الطاغوت بالمنّ والسلوى وبالجنة الأمريكية الديمقراطية الخضراء.

فالقرار الأخير هو للحاكم المدني الأمريكي الأوحد، وليس للعراقيين في مجلس الحكم وغيره إلا إصدار القرارات الملائمة للمزاج الأمريكي بما يحفظ مصالح الاحتلال ويثبّت أقدامه. أما تسليم الحكم للعراقيين في آخر حزيران، فإنه يمثل الظاهر العراقي الخاضع للباطن الأمريكي، لأن الأمريكيين لم يدخلوا العراق لتحرير العراقيين، بل لينقلوهم من طاغوت داخلي إلى طاغوت خارجي، وعلى العراقيين أن يدقّقوا في حركة اللعبة المتعددة الوسائل والأهداف، وأن يلتفتوا إلى الخطة الخبيثة في التحضير للفتنة المذهبية أو العراقية، وليكن الصوت واحداً للحرية لا للاحتلال، وللوحدة لا للطائفية، ولا للتنازع والتحاقد.

إيران: الحفاظ على الإسلام والوطن

أما إيران، فقد أثبت فيها الشعب الإيراني حيويته السياسية وقدرته على حركية التغيير، سواء على مستوى المشاركة في الانتخاب لاختيار ممثليه، أو المقاطعة له للاحتجاج على بعض المواقف والتعقيدات المحيطة بالانتخابات... إننا قد نسمع في الإعلام الخارجي، ولا سيّما المضادّ، بما يمثله الإعلام الأمريكي والأوروبي، انتقاداً وهجوماً، ولكن القضية هي أننا لا ننكر وجود نقاط ضعف في الموقف ممّا قد يتداول الإيرانيون السجال حوله، ولكن لا يملك أحد القول إنّ حركة الاستفتاء الشعبي ـ مشاركةً ومقاطعةً ـ كانت في موقع المصادرة لحرية الشعب في قراره المستقلّ. والسؤال لهذه الجهات: ماذا عن السلبيات في الانتخابات عندهم الخاضعة للشركات الاحتكارية ولبعض موازين القوى التي تضغط بأساليبها المختلفة على إرادة الشعب وقراره في اللعبة السياسية تارة والأمنية أخرى؟!

إننا ندعو الشعب الإيراني إلى أن يدرس خطورة المرحلة، ويبدأ في تركيز الوحدة على أساس التنوع، وأن يؤكد مسألة الحرية على قاعدة المسؤولية، وأن يكون الإسلام من جهة، والوطن من جهة أخرى، هما العنوان الكبير الذي يتكامل الشعب فيه، لأن إبقاء التنازع والاختلاف بالوسائل الحادة موقفاً وإعلاماً، سوف يدفع الهيكل إلى السقوط على رؤوس الجميع، وسوف يكون الاستكبار هو الذي يربح أخيراً.

الذبحة الوطنية القاتلة في لبنان

أما لبنان، فإن الحيرة لا تزال تحيط بالواقع الشعبي فيه، في السجالات المتنوعة التي تمثل المشهد السياسي الذي يتحدث فيه الجميع من هنا وهناك عن الفضائح في أكثر من صفقة، وعن الفساد في أكثر من موقع، وفي الكلمات الحادة الانفعالية التي قد تصل إلى مستوى الشتائم، وأخيراً في المسؤولية التي يتحمّلها المشاركون في إفقاد جلسات البرلمان النصاب القانوني، ليبقى مجرد ساحة للخطابة وللتنفيس عن التعقيدات النفسية الشخصية السياسية وللاستهلاك الشعبي، بينما يمثل النواب الوكلاء عن الشعب الذي لا يمنحهم الحرية في منع القرارات الحاسمة، كما لا يمنحهم الحرية في تشريع القرارات التي لا تعالج مشاكله ولا تدافع عن قضاياه الحيوية والمصيرية... إن الشعب هو الذي يملك المجلس كله، فهل يسمع الجميع، المعارضة والموالاة، خفقات ونبضات القلب الشعبي الذي يُخشى ـ من خلال المواقع ـ أن يصاب بالذبحة الوطنية التي لا دواء لها في السطح، بينما تعيش الأزمات الهائلة في العمق؟!

الحسين(ع) إمام الأمة والنموذج الأمثل للوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

بدايةً، أريد أن أوضح للجميع موضوع التغيير أو التبديل في مسألة عاشوراء، فمنذ البداية كان رأيي الشرعي أن نبدأ يوم الأحد، لأن يوم الأحد هو أول أيام شهر محرم الحرام، على أساس أن يكون يوم عاشوراء هو يوم الثلاثاء، ولكني اطّلعت في الصحف آنذاك على فتوى تقول إنه السبت، وعلى إعلان بعض الجهات بأنهم سوف يقيمون مآتم عاشوراء مساء الجمعة ليلة السبت، على أساس أن يكون يوم عاشوراء الاثنين، ولم ينسِّق أحد معي حول ذلك الموضوع، ولكني حفاظاً على الوحدة ـ وبما أنّ المسألة ليست شرعية إلزامية كقضية عيد الفطر ـ سرنا مع الأخوان في هذا المجال، حفاظاً على وحدة الموقف.

ولكن بعد ذلك، تبدّل الموقف، وتمّ التشاور والاتفاق على أن تكون عاشوراء يوم الثلاثاء، باعتبار أن المرجعيات الإسلامية في النجف وإيران ستقيم مراسم عاشوراء يوم الثلاثاء، وكان الاقتراح أن يكون العالم الشيعي بأكمله في موقف موحّد في العالم، ونحن قلنا إنه كان هذا رأينا من الأساس.

فقد انسجمنا بداية مع الوحدة، والآن أيضاً ننسجم مع الوحدة، ومع رأينا الفقهي في هذا المجال، مع ملاحظة بعض السلبيات التي تنتج عن ذلك، من جهة أنها تعطي صورة غير جيدة عن واقعنا في لبنان، حيث إنه يجب أن تبحث القضية من الأساس بحثاً دقيقاً، ومن جهة أنها تخلق إرباكاً عند الناس، بحيث إن الكثير منهم قد يكون رتّب أوضاعه على أساس أنها يوم الاثنين. ولكن على كل حال، نحن نؤكد على الوحدة بقطع النظر عن كل السلبيات، ونريد من كل الفعاليات الدينية وغير الدينية، أن تأخذ درساً من هذه التجربة، وأن عليها أن لا تستعجل الأمور، حتى لا نعطي صورة مشوّهة عن وضعنا كطائفة أمام الناس وأمام الآخرين في هذا المجال. وعلى كل حال الوحدة خير، والدراسة للأمور أيضاً خير. هذا ما أحببت أن أؤكده لكم في هذا الموضوع.

نموذج الوحدة الإسلامية

لا نزال نعيش الحسين(ع) روحاً وعقلاً ورسالةً وفكراً وحركةً، وعندما نعيش الحسين(ع)، نعيش الإسلام في عقيدته وفي شريعته وفي مناهجه وفي أساليبه وأهدافه في الحياة، وعندما نعيش الإسلام، فإننا نعيش رسول الله(ص)، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}. والحسين(ع) قطعة من رسول الله، قطعة في العاطفة، وخط في الرسالة، ونيابة في الإمامة، وعندما نتحدث عن الإسلام في رسالة الرسول، فإننا نتحدث عن المسلمين جميعاً، لنعيش كما أرادنا رسول الله(ص)، وكما أرادنا القرآن من خلال ذلك، أن نعيش وحدة الأمة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، أن نعيش وحدة الأمة بالرغم من اختلاف الأمة في خطوطها المذهبية وفي اجتهاداتها الفقهية، لأن الإسلام واحد وإن تنوّع فهمه.

وفي ضوء هذا، فإنّنا كما كنّا نتحدث عن عليّ بن أبي طالب(ع)، بأنه رائد الوحدة الإسلامية في حفاظه على الإسلام والمسلمين، فإنّ الحسين(ع) هو نموذج هذه الوحدة، لأن الحسين(ع) هو الإمام الذي يجمع كلَّ المسلمين ـ من كان في خطه في مذهب أهل البيت(ع) ومن لم يكن ـ على محبته وعلى تعظيمه، ذلك أن المسلمين يروون جميعاً بأن "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، ويروون جميعاً كلمة الرسول(ص): "إني أحب حسيناً، أحب الله من أحب حسيناً".

لذلك فالحسين(ع) هو الذي تخفق قلوب المسلمين بمحبته وتعظيمه وبمعرفة فضله، وإن اختلفوا في تقويم قضية كربلاء، ولئن عاش المسلمون في مرحلة كربلاء بعض الانحرافات، لكنهم كانوا كما قال الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

ونحن ـ أيها الأحبة ـ عندما نذكر الحسين إماماً، فإن علينا أن لا نستغرق في الجانب الثوري أو في الدائرة الكربلائية المأساوية، لنختصر الحسين في هاتين الدائرتين. فالحسين(ع) كان ثائراً في خطِّ الإمامة، وكان كربلائياً في مأساة كربلاء في خطِّ الإمامة الإسلامية، ولكن علينا أن نأخذ الحسين بكله مسلماً إماماً، فالحسين(ع) هو الإمام بعد الإمامين، وهو من رسول الله(ص( حيث قال: "حسين مني وأنا من حسين". لذلك، لا بدّ أن ندرس الإمام الحسين(ع) في الخط الإسلامي في الموعظة، في النصيحة، في الشريعة، في كل جوانب حركة الحسين في الدعوة، وحركة الحسين في التربية، وحركة الحسين في تغيير عقول المسلمين، وفي ربطهم بالله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الحسينيين هم الذين أطاعوا الله ووحّدوه، وأطاعوا رسول الله(ص) وساروا على خط الإسلام في كل ما يفكرون وفي كل ما يعملون.

العقل يكتمل باتباع الحق

ونريد في هذا الموقف أن نستنطق الحسين(ع)، ليعظنا وليذكرنا بالله في بعض كلماته المرويّة عنه، فمن هذه الكلمات: "لا يكمل العقل إلا باتّباع الحق"، هذا يعني أنّ على الإنسان أن ينمّي عقله وأن يطوّره، وأن ينفتح على كل مسؤولياته من خلال كل الواقع، ولا بد للإنسان أن يكمل عقله، وأن يدرس مواقع النقص فيه، لأن العقل هو حجة الله على الإنسان، ولأن العقل هو الذي يحدّد للإنسان الخير والشر، الحسن والقبيح، الحق والباطل. العقل هو الذي يجعل من إنسانيتك إنسانيةً تغني حياتك وحياة الناس من حولك.

وفي ضوء هذا، كان الحسين(ع) يحدثنا دائماً، ومن خلال القرآن، عن الحق، وتلك كلمته المعروفة: "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، لأن الحق هو دعامة الحياة كلها، وقد سمّى الله نفسه بالحق، ذلك بأن الله هو الحق، فالحسين(ع) يقول لنا إن العقل كما يتحرك في خط النظرية، فإنه يتحرك في خط الواقع، فالعقل يدرك أولاً أين سعادة الإنسان وأين الأساس في نظام الحياة، فيعرف أن الحق هو الثابت الذي لا يزول ولا يهتزّ ولا يسقط.

ولذلك، فإنّ العقل يقول لك إن الحقَّ هو خطّ حياتك، هو في نفسك، في ما تعتقده، في إيمانك بالله وبالرسالة وبكلّ القيم التي أحبّها الله ورسوله، والحق في علاقتك بالناس، فإن هناك برامج تفرض عليك أن تضع القواعد لحياتك مع الآخرين، سواء في البيت الأبوي أو في البيت الزوجي، أو مع الناس الآخرين في جميع المجالات، هناك حق وباطل في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهناك حق قانوني في ما بينك وبين الناس، ما يخلق للحياة توازنها ويغني للإنسان إنسانيته.

وانطلاقاً مما تقدّم، فإنّ العقل يقول لك اتّبع الحق، فإذا استجبت لعقلك واتّبعت الحق، فمعنى ذلك أن عقلك العملي تكامل مع عقلك النظري، وتحوّلت بذلك النظرية إلى تطبيق، أما إذا لم تتبع الحق، بل اتّبعت الباطل، فإن ذلك يدل على نقصان عقلك النظري والعملي إذا لم تهتدِ إلى الحق ولم تفكر به.

لذلك فالحسين(ع) يقول إنّه من لا يتبع الحق، في العقيدة أو في الشريعة أو في حركة الحياة، في حركة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، فهو ناقص العقل.

أشرف الناس المتّعظ المستيقظ

وفي حديث آخر، يقال إن رجلاً سأله: مَن أشرف الناس؟ فقال(ع): "من اتّعظ قبل أن يوعظ ـ يعني من لا يحتاج إلى من يعظه، بل يدرس الأمور بحسب نتائجها على حياته وعلى مصيره فيتّعظ بالمواعظ التي تمرّ عليه، وبالموتى الذين يتركون الحياة، ليعرف بأنه سيموت كما ماتوا، ويدرس الصدمات التي تصيبه، فيعرف أن عليه أن يتفادى أسباب هذه الصدمة أو الخسارة أو الهزيمة أو كل ما يصيب الإنسان في الخط السلبي.

وقد ورد في بعض كلمات الإمام علي(ع) في هذا الاتجاه: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"، فالذي لا يعيش الموعظة في نفسه، ولا يدرس كيف يستفيد من كل التجارب الفاشلة أو التجارب الناجحة في الحياة، ومن كل انحرافات الآخرين واستقامتهم، لا تنفعه المواعظ، لأنه قد أغلق عقله عن فهم الموعظة، وأغلق إرادته عن تأكيد الموقف في خطّ الموعظة.

ـ واستيقظ قبل أن يوقظ"، أي لا يحتاج إلى أحد كي يوقظه من النوم؛ نوم العقل، ونوم الروح، ونوم الحياة... أن يكون في يقظة دائمة لما حوله ولمن حوله... أن لا يكون غافلاً، لأن الغفلة واللامبالاة في الحياة هي حالة نوم وحالة غياب عن الواقع، لذلك كُن يقظاً مفتوح العينين على كل ما ينفعك وعلى كل ما يضرك، وعلى كل الواقع الذي يواجهك في مسوؤلياتك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن غفلة الناس عن الآخرة وهم مستغرقون في الدنيا: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، وبعضهم يقول: {قال ربّ ارجعونِ لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها}.

الكلمة الأخرى للإمام الحسين(ع) حيث سُئِل: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال(ع): "أصبحت ولي ربٌ فوقي ـ أعرف أنني سأقدم حسابي له يوم القيامة ـ والنار أمامي ـ أفكر بموقفي أمام الله في كل مسؤولياتي ـ والموت يطلبني والحساب محدق بي، وأنا مرتهنٌ بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني".

لذلك، عندما تحضرون مجالس العزاء، تذكروا الإمام الحسين(ع)، فهو لا يريد منكم أن تسكبوا الدموع فقط، وإن كان للدموع شأن عاطفي، ولكن يريد لكم أن تبكوا على أنفسكم أكثر مما تبكون عليه.

القرآن مرآةُ الحقائق

في كلمة أخرى للإمام الحسين(ع) يقول فيها: "إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمته، وقوله مرآته ـ ينظر في القرآن كما لو كان مرآةً تريه الأشياء على حقيقتها. وهذا مهم لنا في قراءتنا للقرآن، وأحب أن تتأملوا في هذه الكلمة، حتى تربطوا بين ما تقرأون في القرآن وبين ما تعيشونه في الواقع.

ويبيّن لنا الإمام(ع) كيف نفهم القرآن وكيف نجعله مرآة للحقائق ـ فمرةً ينظر في نعت المؤمنين ـ أي صفاتهم، فانظر إلى نفسك؛ هل أنت متّصف بصفات المؤمنين التي جاءت في القرآن، أم أنك لست متصفاً بها، وكذلك انظر إلى الناس من حولك، لتعرف من هو المؤمن ومن هو ليس بمؤمن ـ وتارةً ينظر في وصف المتجبرين ـ ادرس الجبابرة الذين يعلون في الأرض ويفرقون الناس، وهكذا ـ فهو منه (القرآن) في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين".

وهكذا في كلمة أخرى للإمام الحسين(ع) عندما قيل له: إن أبا ذر يقول: "الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسقم أحبّ إليّ من الصحة"، فقال(ع): "رحم الله أبا ذر، أمّا أنا أقول: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّ غير ما اختاره الله عزّ وجل". وفي كلمة أخرى كتب إليه بعض الناس، أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب إليه الحسين(ع): "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنه مَن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس"، وقيل له: ما أعظم خوفك من ربك، قال(ع): "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا".

السلام رابط بين القلوب

وفي ختام الكلمة بالنسبة إلى السلام، يقول الحسين(ع): "للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدىء وواحدة للرادّ"، وفي نقطة ثانية عالجها الإمام الحسين(ع) وينقلها عن أبيه علي ابن أبي طالب(ع) في الذين لا يسلّمون على من ارتكب ذنباً من إخوانهم المؤمنين، ففي رواية عن علي بن الحسين عن أبيه، أن ابن الكوّى سأل علي بن أبي طالب(ع)، فقال يا أمير المؤمنين، تسلّم على مذنب هذه الأمة؟ فقال(ع): "يراه الله عز وجل للتوحيد أهلاً ولا تراه للسلام عليه أهلاً". وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث: "أبخل الناس من بخل بالسلام".

لذلك ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا من أن نتحرك على أن نسلّم على كل الناس، ويجب أن نتدرّب على السلام جيداً، لأنّ تحية أهل الجنة هي السلام، حيث يقول عز وجل: {وتحيّتهم فيها سلام}، ومن آدابنا في الدنيا أن نسلّم أولاً ثم نتحدث، والسلام كلمة طيبة تربط بين القلوب وتعرّف الآخر أنه في سلامٍ معه، ولذلك وجب أن نحافظ عليها.

أيها الأحبة، هذا هو الحسين الإمام، فعلينا أن نعيش إمامته في خط إسلامه وفي خط دعوته إلى الله. رزقنا الله شفاعة الحسين(ع) وشفاعة جده وأبيه، وأمّه وأخيه، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله، وانطلقوا مع الحسين(ع) في ثورة متحركة، ثورة على الذات من أجل جهادها لتطيع الله وتسير في صراطه المستقيم؛ ثورة على كل الظالمين في الداخل وعلى كل المستكبرين في الخارج؛ ثورة على كل التفرقة والتمزّق في واقع المسلمين، وعلى كل الذين يكيدون للمسلمين بإثارة الفتنة بينهم في كل مجالات الحياة. إن ذلك هو مسؤوليتنا، وهو معنى احتفالنا بالحسين في ذكراه، أن نعيش مرحلتنا بمسؤولية كما عاش الحسين(ع) مرحلته بمسؤولية، لأننا مسؤولون عن مرحلتنا هذه، ولسنا مسؤولين عن مراحل التاريخ. تعالوا لنواجه المرحلة التي يعيشها المسلمون والمستضعفون في كل أنحاء العالم أمام المستكبرين وحلفائهم وأتباعهم وما إلى ذلك.

انكشاف صورة الذئب الصهيوني

المشهد الفلسطيني لا يزال يتمثل في الصورة الوحشية التي يرسمها الصهاينة للساحة في الاجتياح والقتل والتدمير والتعذيب والحصار، وأخيراً مصادرة الأموال الفلسطينية من المصارف بحجة أنها مساعدات لعوائل الشهداء ولرجال الانتفاضة، ما يؤكد اللصوصية اليهودية للأرض والإنسان والمال. ويبقى الصمود الفلسطيني الذي أربك الكيان الصهيوني والخطة الأمريكية الهادفة إلى إسقاط هذا الشعب الذي لا يزال يتابع جهاده بحجارة الأطفال وسلاح المجاهدين وتضحيات الاستشهاديين.

وهكذا، رأينا الصورة الصهيونية تنكمش في الرأي العام الدولي، وتنتقل من صورة الضحية المحاطة بالذئاب، إلى صورة الذئب الذي يفترس الضحايا من المدنيين، ولا سيما الأطفال، والدولة المدججة بأكثر الأسلحة الأمريكية تطوراً في مواجهة شعب أعزل لا يملك إلا جسده وحجارته وأسلحته الخفيفة التي يدافع بها عن نفسه... أما حقوق الإنسان، فقد صادرها اليهود في تعاملهم مع السجناء وحصارهم للشعب الفلسطيني وتدمير بيوتهم وجرف مزارعهم، وذلك كما جاء في التقرير الأمريكي... وسوف يخرج القرار القانوني في محكمة العدل الدولية في لاهاي الذي سيدين الجدار العنصري، ما يمثل قيمة إعلامية وإن لم يمثل قيمة قانونية ملزمة... وإننا نريد للعرب وللمسلمين أن يتابعوا الموقف الرافض للكيان الصهيوني بكل أوضاعه وبكل احتلاله، وأن يواجهوا الإدارة الأمريكية بمواقفها المنحازة انحيازاً مطلقاً ضد الفلسطينيين، وبنفاقها السياسي الذي يتباكى على الديمقراطية والحريات والإصلاح في منطقة الشرق الأوسط الكبير، في الوقت الذي تجري مصادرة الحريات باسم الأكذوبة الكبرى في الحرب ضد الإرهاب...

كذب الوعود الأمريكية في العراق

وهكذا نلاحظ ما يفعله الاحتلال الأميركي في العراق، الذي كان يعد العراقيين، بعد سقوط نظام الطاغوت بالمنّ والسلوى وبالجنة الأمريكية الديمقراطية الخضراء.

فالقرار الأخير هو للحاكم المدني الأمريكي الأوحد، وليس للعراقيين في مجلس الحكم وغيره إلا إصدار القرارات الملائمة للمزاج الأمريكي بما يحفظ مصالح الاحتلال ويثبّت أقدامه. أما تسليم الحكم للعراقيين في آخر حزيران، فإنه يمثل الظاهر العراقي الخاضع للباطن الأمريكي، لأن الأمريكيين لم يدخلوا العراق لتحرير العراقيين، بل لينقلوهم من طاغوت داخلي إلى طاغوت خارجي، وعلى العراقيين أن يدقّقوا في حركة اللعبة المتعددة الوسائل والأهداف، وأن يلتفتوا إلى الخطة الخبيثة في التحضير للفتنة المذهبية أو العراقية، وليكن الصوت واحداً للحرية لا للاحتلال، وللوحدة لا للطائفية، ولا للتنازع والتحاقد.

إيران: الحفاظ على الإسلام والوطن

أما إيران، فقد أثبت فيها الشعب الإيراني حيويته السياسية وقدرته على حركية التغيير، سواء على مستوى المشاركة في الانتخاب لاختيار ممثليه، أو المقاطعة له للاحتجاج على بعض المواقف والتعقيدات المحيطة بالانتخابات... إننا قد نسمع في الإعلام الخارجي، ولا سيّما المضادّ، بما يمثله الإعلام الأمريكي والأوروبي، انتقاداً وهجوماً، ولكن القضية هي أننا لا ننكر وجود نقاط ضعف في الموقف ممّا قد يتداول الإيرانيون السجال حوله، ولكن لا يملك أحد القول إنّ حركة الاستفتاء الشعبي ـ مشاركةً ومقاطعةً ـ كانت في موقع المصادرة لحرية الشعب في قراره المستقلّ. والسؤال لهذه الجهات: ماذا عن السلبيات في الانتخابات عندهم الخاضعة للشركات الاحتكارية ولبعض موازين القوى التي تضغط بأساليبها المختلفة على إرادة الشعب وقراره في اللعبة السياسية تارة والأمنية أخرى؟!

إننا ندعو الشعب الإيراني إلى أن يدرس خطورة المرحلة، ويبدأ في تركيز الوحدة على أساس التنوع، وأن يؤكد مسألة الحرية على قاعدة المسؤولية، وأن يكون الإسلام من جهة، والوطن من جهة أخرى، هما العنوان الكبير الذي يتكامل الشعب فيه، لأن إبقاء التنازع والاختلاف بالوسائل الحادة موقفاً وإعلاماً، سوف يدفع الهيكل إلى السقوط على رؤوس الجميع، وسوف يكون الاستكبار هو الذي يربح أخيراً.

الذبحة الوطنية القاتلة في لبنان

أما لبنان، فإن الحيرة لا تزال تحيط بالواقع الشعبي فيه، في السجالات المتنوعة التي تمثل المشهد السياسي الذي يتحدث فيه الجميع من هنا وهناك عن الفضائح في أكثر من صفقة، وعن الفساد في أكثر من موقع، وفي الكلمات الحادة الانفعالية التي قد تصل إلى مستوى الشتائم، وأخيراً في المسؤولية التي يتحمّلها المشاركون في إفقاد جلسات البرلمان النصاب القانوني، ليبقى مجرد ساحة للخطابة وللتنفيس عن التعقيدات النفسية الشخصية السياسية وللاستهلاك الشعبي، بينما يمثل النواب الوكلاء عن الشعب الذي لا يمنحهم الحرية في منع القرارات الحاسمة، كما لا يمنحهم الحرية في تشريع القرارات التي لا تعالج مشاكله ولا تدافع عن قضاياه الحيوية والمصيرية... إن الشعب هو الذي يملك المجلس كله، فهل يسمع الجميع، المعارضة والموالاة، خفقات ونبضات القلب الشعبي الذي يُخشى ـ من خلال المواقع ـ أن يصاب بالذبحة الوطنية التي لا دواء لها في السطح، بينما تعيش الأزمات الهائلة في العمق؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية