ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
في هذا اليوم مناسبتان، المناسبة الأولى أنه أول يوم من شهر رجب الحرام، والمناسبة الثانية هي أنه يوم ذكرى ولادة الإمام الباقر (ع). أما ما نستوحيه من هذا الشهر الحرام، فهو أن الله تعالى أراد له أن يكون شهر سلام في العالم، تماماً كالأشهر الحرم الثلاثة ذي القعدة وذي الحجة ومحرّم: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم}.
الأشهر الحُرُم: روحية السلام
وخصوصيّة الشهر الحرام، أن الله تعالى حرّم فيه القتال، يعني جعله ـ في الحالات الطبيعية للحرب ـ شهر هدنة وسلام من أجل أن يتخفّف الناس من ضغط الحرب التي تتحرك في مدى الزمن، ليدرسوا النتائج السلبية والأخطاء التي ارتكبوها، وما تنتجه الحرب من أحقاد وعداوات وبغضاء قد تسقط واقع الناس.
كما إن الله تعالى شرّع منطقة جغرافيةً جعلها المنطقة الحرام، وهي منطقة الحرم، أي مكة وما يتصل بالحرم ومنها "منى" والمشعر الحرام، فكانت هذه المنطقة منطقة السلام، حتى إن الإنسان إذا دخل إلى الحرم ورأى قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء، لأن الله تعالى حرّم فيها العنف والقتال، وهذا مما توارثه الناس في الجاهلية منذ عهد النبوّات الأولى، ولا سيما عهد إبراهيم(ع).
فالله تعالى يريد من خلال الأشهر الحرم، ومنطقة الحرم، أن يعيش الناس في بعض الزمان والمكان روحية السلام، ليفكّروا في الطريقة التي يتفادون فيها الحرب ويلتقون فيها على السلام، لأن للسلام دوره في إنتاج كل الخير للناس. ولكن هناك حالة واحدة من حالات الرخصة في الحرب هي حالة العدوان، والله تعالى يقول: {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر}، فالمسألة كانت في حال الضرورة كما إذا اعتدى عليك أحد في الشهر الحرام، كما نلاحظه الآن في العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، والعدوان الأمريكي على أكثر من بلد إسلامي، فإن للمسلمين الحق في مواجهة هذا العدوان حتى في الشهر الحرام، لأن حرمة المسلم والمستضعف أعظم من حرمة الزمن.
إننا نستوحي من دخولنا في هذا الشهر، كيف نستطيع أن نعيش السلام في حياتنا الخاصة والعامة، ونحن نعرف أن السلام يفرض على الناس أن يعيشوا روحيته، فلا أحد فيه يحقد على أخيه وأهله وعلى الناس من حوله، بل يحمل كل إنسان في نفسه المحبّة للآخرين، لأن الحقد ينتج العنف والحرب، بينما المحبة تنتج اللقاء والتعاون وما إلى ذلك.
التخفّف من الأحقاد
ولهذا فإن علينا أن نجاهد أنفسنا في بداية هذا الشهر، أن نتخفّف من كلِّ أحقادنا وعداواتنا. فإن علينا كثيراً من الناس يصومون هذه الأشهر الثلاثة، رجب وشعبان ورمضان، يصومون استحباباً وتقرباً إلى الله، ولكن علينا إلى جانب صيامنا عن الطعام والشراب، أن نصوم عن الحقد والعداوة والبغضاء والشر، هذا هو الصوم الحقيقي، حتى إن الصوم الذي فرضه الله تعالى في بعض الشهور وجعله مستحباً في شهور وأيام أخرى، إنما أراده الله أن يكون وسيلة للتقوى، لمراقبة الإنسان ربه في نفسه وفي الناس وفي الحياة.
ويتميّز هذا الشهر بنقطة مهمة، وهي أنه الشهر الذي انطلق فيه الإسلام في بعثة رسول الله (ص)، ففي السابع والعشرين من هذا الشهر كانت ولادة الإسلام، وهناك رواية أنّ الله تعالى ـ في سنة أخرى ـ سرى بعبده وهيأ له العروج إلى السماء في هذا الشهر، حتى ترتبط حركة البعث الإسلامي بحركة العروج إلى الله والانفتاح على مواقع الأنبياء في بيت المقدس، ولذلك فهو شهر ينفتح على تاريخ الإسلام، وهو شهر نلتقي في الثالث عشر منه بولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).
الإمام الباقر(ع) مدرسة متنقّلة
أما المناسبة الثانية، وهي ذكرى ولادة الإمام محمد الباقر (ع)، فإننا عندما ندرس حياة هذا الإمام العظيم، فإننا نجد أنه استطاع أن ينشر علوم الإسلام في خط أهل البيت (ع) وليس لهم خط إلا خط الإسلام، استطاع أن ينشر هذه العلوم في مدرسته التي امتدّت مع الإمام الصادق (ع)، ولذلك فإن أكثر ما جاءنا من تراث أهل البيت (ع) هو ما جاءنا عن الإمامين الباقر والصادق (ع)، لأن الظروف السياسية التي كانت تحيط بالمسلمين كانت تسمح لهما أن يبلّغا الناس ما يملكونه من علم رسول الله (ص).
وينقل تاريخه أنه عندما كان يجلس في المسجد، وكان المسجد هو المدرسة الإسلامية التي يجلس فيها العلماء من كل الاتجاهات والمذاهب، فإن العلماء كانوا يتصاغرون أمامه، حتى يُخيّل إليك أنهم في موقع التلاميذ له وليسوا في موقع الأنداد. وقد كان الإمام الباقر (ع) منفتحاً على الأمة كلها، ولذلك كان يأتيه من هو على مذهبه ومن هو على مذهب آخر، وكان يعطي كل واحد منهم من علمه وكان المسلمون يلتقون عليه، ولا يجدون في اختلافهم في بعض الخطوط المذهبية عنه، أيّ حرج في أن يلتقوا به ويستمعوا إليه ويتلمّذوا عليه، وينقل التاريخ أن هناك الكثيرين من علماء المسلمين من غير الشيعة ومن مثقفيهم ومفكّريهم من تتلمذوا على الإمام الباقر (ع).
منهاجه التواضع
وكان (ع) يعيش مع الناس كأحدهم، ليس هناك حاجز بينه وبينهم، كان يأتي إليه الصغير والكبير، فكان يجلس إليهم كما كان يجلس رسول الله (ص) إلى أصحابه والناس كافة، حتى قيل فيه: "كان فينا كأحدنا"، وكان يتواضع للصغير والكبير، وهكذا كان الأئمة من أهل البيت(ع)، لم تدفعهم هذه المرتبة العالية عند الله وعند الناس إلى أن ينفصلوا عن الناس، ولو درسنا تراث الإمام الباقر(ع)، لرأيناه يجيب عن المسائل الصغيرة والكبيرة، أسوةً بجده رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، بحيث كان الرسول(ص) وأئمة أهل البيت(ع) يجيبون الناس عن كلّ سؤال، لأن من يسألك يملك علامة استفهام لا بد أن تزيلها له. ولذلك فإن اقتداء العلماء بأهل البيت (ع) يفرض عليهم أن يتواضعوا للناس، لأنه ليس هناك إنسان أكبر من أن يبلّغ الناس ويستجيب لأسئلتهم وعلامات استفهامهم الصغيرة والكبيرة.
وكان الإمام الباقر (ع) يخرج في أكثر الأوقات حراً إلى مزرعة له ليشتغل فيها، وقد رآه أحد الناس في المدينة، وهو من الأشخاص الذين يمثِّلون موقعاً اجتماعياً، وهو "محمد بن المنكدر"، قال: "رأيت محمد بن علي في شدة الظهيرة وهو خارج إلى مكان للعمل، فأردت أن أعظه، فجئت إليه وقلت له: شيخ من أشياخ قريش يخرج في هذا الوقت ليطلب الدنيا؟ كيف تكون إذا جاءك الموت وأنت على هذه الحالة، فقال (ع): لو جاءني الموت فأنا في طاعة من طاعات الله، وإنما أخاف الموت وأنا على معصية من معاصي الله"، فخشعت لهذا الكلام، وقلت له: أردت أن أعظك فوعظتني".
تصويب المفاهيم
وهذا هو الفهم الإسلامي الرائع لطاعة الله، لأن مسألة طاعة الله ليست مجرّد صلاة أو صوم أو حج فقط، بل أن تمارس مسؤولياتك في الحياة لتبذل جهدك في سبيل أن تحفظ ماء وجهك عن الناس، فإنك بذلك من العابدين لله حتى وأنت في مواقع العمل.
وكان الإمام الباقر(ع) يتحدث عن بعض القضايا الأساسية ليغيّر الفهم الموجود عند بعض الناس، فكان يتحدث عن هؤلاء الذين يذهبون إلى الحج لمرّات عديدة ولكن إذا طلبت منه أن يعول عائلة فقيرة أو يسدّ حاجتهم فإنه ليس مستعداً أن يفعل ذلك، لأنه يعتبر أن التقرّب إلى الله هو بالحج، يقول (ع): "لئن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبُّ اليّ من أن أحجّ حجةً وحجة وحجة (حتى بلغ عشراً) ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين)".
ومن خلال هذا نفهم أن الإسلام أولى عناية خاصة للمسألة الاجتماعية، وجعل رعاية الناس الذين لا يجدون العيش الكريم أفضل من العبادات المستحبة، وليس معنى ذلك أن لا يحج الإنسان حجة ثانية إذا كان قادراً، بل أن يجمع بين الحج المستحب وكفالة الأيتام والمعوقين ورعاية الفقراء. ومن الأمور التي ينبغي أن تلحظ هي إخراج الحقوق الشرعية قبل الحج وتعطى في موقعها الصحيح، لتساهم في حل مشاكل الناس الذين يعيشون تحت ضغط الأوضاع الاجتماعية.
وفي حديث آخر للإمام الباقر (ع) يقول: "إذا أردت أن تعرف أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان قلبك يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان قلبك يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب".
وفي جانب آخر يتحدث الإمام الباقر (ع) مع شيعته، كيف كان يريد لشيعته أن يكونوا؟ يقول أحد أصحابه ويكنّى "أبا إسماعيل" قال: قلت لأبي جعفر: جعلت فداك، الشيعة عندنا كثير، فقال(ع): "هل يعطف الغني على الفقير، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء، وهل يتواسون"، فقلنا:لا، فقال (ع): "ليس هؤلاء شيعة"، لأنّ التشيّع هو الخط الإسلامي في كل منهجه الأخلاقي.
وفي رسالة إلى شيعته حملها أحد أصحابه واسمه "خيثمة"، يقول (ع): "أبلغ من ترى أنه يطيعنا من شيعتنا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ لُقْيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا"، ثم قال: "يا خيثمة، أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وإن أشد الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه لغيره، إنما شيعة عليّ المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لإحياء دين الله، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يسرفوا، بَرَكة على من جاوروا، وسلم لمن خالطوا".
هذا هو منهج أهل البيت (ع)، وهذه هي أخلاقهم، وهذا هو الخط المستقيم الذين أرادوا لنا أن نسير عليه، ولذلك فإن ولاية أهل البيت (ع) هي ولاية للإسلام والخط المستقيم، فلنكن مع أهل البيت (ع) عملاً ومنهجاً وأخلاقاً، والسلام عليهم يوم وُلدوا ويوم ماتوا ويوم نلتقي بهم عند الله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، وانفتحوا على كل الواقع الذي يحيط بكم من أجل أن تركزوا مواقع العزة والحرية والكرامة، أمام الذين يريدون أن يسقطوا كرامتكم ويسيطروا عليكم. كونوا وحدة في مواجهة التحديات الكبيرة، فإن القوم قد اجتمعوا على باطلهم وعلينا أن نلتقي على الحق؛ حق الإسلام والحرية والوحدة في كل قضايانا. إن المرحلة صعبة صعبة، والتحديات كبيرة كبيرة، ولذلك لا مجال للحياد والجلوس على التل، فتعالوا لنر ماذا هناك:
أمريكا: دعوة إلى القتل والتدمير
لا يزال تحالف "بوش" ـ "شارون" يتابع حربه على الشعب الفلسطيني، بالعقوبات الجماعية الشاملة، وتدمير البنية التحتية للمدن والعمران، لتحويل فلسطين المحتلة إلى خرائب، وباغتيال المجاهدين بالطائرات الأمريكية باسم الدفاع عن السلام وعن الدولة الفلسطينية المستقلة وعن أمن إسرائيل..
إن الخطة الأمريكية تعمل على جعل الشعب الفلسطيني ـ بقياداته وسلطته وجميع فعالياته ـ في خدمة الأمن الإسرائيلي، ولمساعدة إسرائيل على اجتياح أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية لتوسيع الجدار العنصري الفاصل وبناء المستوطنات، ولا يبقى للفلسطينيين من "البَرَكَة" الأمريكية إلا شبح الدولة المقطّعة الأوصال، من دون أيّ تواصل جغرافي بين مدنها وقراها.
إنّ الرئيس "بوش" يصرّح بدون حساب أن الدولة الفلسطينية "لا تقوم إلا بإيقاف عنف فصائل المقاومة"، على حدّ تعبيره، ولكنه ـ في هذا المنطق ـ يريد التأكيد بأن التنازلات الفلسطينية للكيان الصهيوني لن تتحقّق إلا إذا جرت الدماء أنهاراً في الشارع الفلسطيني في الحرب بين السلطة الحاصلة على "البَرَكة" الأمريكية ـ الإسرائيلية وبين فصائل المقاومة التي امتدّت في مفاصل الشعب كله.. وهذا ما عبّر عنه الناس في المظاهرات الهائلة من سائر قطاعات هذا الشعب خلال تشييع الشهيد "إسماعيل أبي شنب" الذي اغتالته إسرائيل..
إن ما يفكّر به "بوش" ـ ومعه "شارون" ـ هو أن الحرب الفلسطينية ـ الفلسطينية تحت شعار تطبيق القانون وتفكيك منظمات الإرهاب، سوف يخرج منها الفلسطينيون ـ شعباً وسلطةً ـ في هزيمة للقضية وحالة انعدام الوزن، من دون أن يملكوا أيّ أوراق للتفاوض الذي سوف يُدعَون إليه ليوقّعوا على الوثائق الإسرائيلية والتحفّظات "الشارونية" لخارطة الطريق، بعيداً عن أيّ دعم عربي أو إسلامي أو دولي، من أجل إغلاق ملف حركة القوة، لتبقى إسرائيل القوة الوحيدة التي تسقط المنطقة أمامها، دولاً وشعوباً..
لقد قال الرئيس الأمريكي أثناء تسلّمه مهامه الرئاسية عند سؤاله عن الوضع في فلسطين والشرق الأوسط: "دعوا الدماء تسيل ثم نرى ماذا نفعل"، والمقصود الدماء الفلسطينية العربية والإسلامية الرخيصة عنده، أما الدماء الصهيونية فهي دماء الديمقراطية والحضارة وحقوق الإنسان عند الإدارة الأمريكية ورئيسها.. وها هو الآن يقولها مجدداً ولكن بطريقة أخرى، في تأييده للموقف الإسرائيلي في اغتيال المجاهدين وتدميرهم والعقوبات الجماعية للشعب كله، لينطلق نداؤه: "اقتلوهم دون رحمة، دمّروهم دون إنسانية، لتأمن إسرائيل حتى ولو مات الجميع"؟!
بوش: فقدان القرار المستقل
إن الرئيس الأمريكي يعرف أن المشكلة هي الاحتلال لا المقاومة التي هي ردّ الفعل له.. ونحن نقترح عليه إذا كان يملك استقلاليةً في القرار من دون خضوع لـ"شارون"، فليجرّب ويطلب من إسرائيل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وليضع الكرة في ملعب المجاهدين الذي أعلنوا أكثر من مرة أنهم سوف يوقفون كل قتال في هذه الحالة.. وإذا كان يتحدث عن عدم الثقة بهم، فإننا نقول له: إن الصهاينة قادرون على العودة إلى الاحتلال، وإن الشعب الفلسطيني لن يقبل عندئذ من المجاهدين ممارسة أيّ عنف بعد الانسحاب..
إن مشكلة "بوش" أنه لا يملك قراره المستقل من خلال إدارته اليهودية الإجرامية الظامئة للدماء، والجائعة لثروات الشعوب، ولذلك فإنه يضع العربة أمام الحصان ولا يضع الحصان أمام العربة..
ثقة بعدم الانزلاق في الفتنة
إننا ـ أمام هذا الواقع ـ نؤكد ثقتنا بالشعب الفلسطيني أنه لن يدخل في الفتنة، ولن يتنازل عن حقّه في التحرير، ونريد للسلطة الفلسطينية ـ قيادةً وحكومةً ـ أن لا تكون السلطة التي تضرب المجاهدين وتغلق جمعياتهم الخيرية الراعية للأيتام والمرضى والفقراء، لأن ذلك سوف يكون في مستوى الخيانة العظمى.. إن الضغط الأمريكي لن يمنحكم شيئاً، فقد كان هو المشكلة في الماضي والحاضر والمستقبل، وسيبقى يلاحق كل التفاصيل حتى في تعيين مسؤول هنا ومسؤول هناك، وإلا فسيرفع عنكم "بَرَكاته" الاحتفالية لا الحقيقية.
العراق في الدوّامة
أما في العراق، فإن أمريكا قد فتحت كل أبوابه للتجارة الإسرائيلية، وللمشاركة في إعماره والاستفادة من بتروله، مستغلةً الوضع السياسي ـ الاقتصادي العراقي الخالي من الوزن، والذي لا يملك لنفسه ـ من خلال الاحتلال والفوضى المتحركة في أكثر من جانب ـ ضرّاً ولا نفعاً..
وهكذا بدأت أمريكا تسقط أمنياً أمام الهجمات المسلّحة التي تصطاد جنودها وتدمّر آلياتها، ولهذا فإنها أصبحت مشغولةً بالدفاع عن أمن جنودها، وتركت أمن العراقيين في مهبِّ الريح.. وهكذا رأينا كيف يعيش العراقيون في مرحلة تشبه الدوّامة، من دون ماء ولا كهرباء ولا خدمات حيوية ولا استقرار أمني أو اقتصادي أو اجتماعي.. وتدرس الإدارة الأمريكية دعوة قوات العالم لمساعدتها في ذلك كله، وتتحدث عن تسليم العراقيين الحكم والحكومة ووضع الدستور، ولكن تحت الإشراف الأمريكي الذي يملك حق الفرض والنقض من خلال أنه يملك القيادة..
والسؤال: هل يمكن لمثل هذا الوضع المضطرب السائر في المتاهات السياسية والأمنية أن يمنح الشعب ديمقراطيةً نموذجية "تقتدي بها المنطقة"، ما يجعلنا نشعر بأنها نكتة أمريكية لأنها بدأت تضيق بحريات الشعب الأمريكي، فأخذت من بعض قوانين العالم الثالث في الضغط على الحريات العامة باسم الأمن ومكافحة الإرهاب..
ضغوط أمريكية على إيران
وفي جانب آخر، لا تزال الضغوط الدولية ـ ولا سيما الأمريكية ـ على إيران في أكثر من جهة، من خلال الوكالة الدولية للطاقة النووية التي أثارت بعض الضباب حول العثور على آثار اليورانيوم المخصّب، وحذّرتها من العواقب الوخيمة، أو من خلال اعتقال بعض سفرائها، أو إثارة الحرب الإعلامية ضدها، أو إرباك الوضع الاقتصادي في التهديدات المتنوّعة، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا بدأت تجاربها على إنتاج قنابل نووية صغيرة يمكن استعمالها في الحروب التقليدية، ولكنها تبقى تطوف العالم للضغط على الذين تتّهمهم ـ كذباً وبهتاناً ـ بصنع أسلحة الدمار الشامل؟!
لا مسوّغ لانفجار بومباي
وعلى صعيد آخر، فقد قرأنا نبأ الانفجار المزدوج الذي طال الأبرياء في بومباي الهند، والذي سقط فيه أكثر من خمسين قتيلاً وأكثر من مئة جريح.. إننا في الوقت الذي ندعو فيه الجميع في الهند ـ مسلمين وغير مسلمين ـ للوصول إلى نتائج إيجابية على مستوى التعاون والتكافل والحوار، لا نجد أيّ مسوّغ شرعي أو سياسي أو إنساني لهذه الأعمال، أياً كانت الجهة الفاعلة أو الجهة المستهدفة، إلى أيّ بلد انتموا وإلى أيّ دين انتسبوا..
ولذلك، فإننا نريد للجميع في الهند الوصول إلى التوافق على احترام المواطنية للجميع، فلا يعتدي الهندوس على المسلمين في أوضاعهم ومقدّساتهم، ولا يعتدي المسلمون عليهم.. وإننا نريد للحكومة الهندية أن لا تتحرك في هذا الموضوع بطريقة سياسية غير واقعية، من خلال سعيها لتغليب فريق على فريق، لأن ذلك ليس في مصلحة أحد، لا بل إنه يزيد الواقع تعقيداً بما يربك أوضاع الجميع ومصالحهم.
كهرباء سياسية تمنع الإصلاح
أما في لبنان الذي يتحرك نحو العتمة الشاملة، من خلال الكهرباء السياسية التي تحرق استقرار البلد، ولا سيما المستضعفين من الشعب، وتتحرك على أساس الحسابات الخاصة لتسجيل نقطة هنا وللتنفيس عن عقدة هناك..
لقد خرج الكثيرون من اللبنانيين لمشاهدة كوكب المريخ الذي اقترب من الأرض، والسؤال: لماذا لا يخرج المواطنون إلى الشارع وإلى مواقع المسؤولين من أجل مشاهدة الأرض اللبنانية التي اقتربت من حافة الانهيار والسقوط، في الوقت الذي يصنع البعض ملهاة هنا وملهاةً هناك؟؟
إن الجميع يسأل: أين الإصلاح، هل ذهب في أجواء المريخ ليلهث الجميع نحو اكتشافه هناك، أم أنه يتحرك في الأرض، ولكن أيّ أرض.. أيّ مسؤول.. أيّ وطن.. أيّ إنسان؟؟ ويبقى السؤال ولا من جواب. |