الإمام الهادي(ع) في عطائه الروحي والفكري

الإمام الهادي(ع) في عطائه الروحي والفكري

الإمام الهادي(ع) في عطائه الروحي والفكري


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة مظهر حركة النبوة الرسالية

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام العاشر من الأئمة المعصومين(ع)، وهو الإمام علي بن محمد الهادي (ع). هذا الإمام الذي لم تكن حياته طويلة في عدد السنين، ولكنها كانت غنيّةٍ بكلِّ ما تحرّكت به إمامته في الرسالة الإسلامية التي كان يتنقل بها من موقع إلى موقع، وينفتح بها على جماعة هنا وجماعة هناك من أجل أن يؤصّل إسلامهم، ويعمّق إيمانهم بالله تعالى، وأن يجعلهم يتحركون في الحياة من موقع المسؤولية، لأن هذه هي رسالة الإمامة التي هي المظهر الحيّ لحركة النبوة الرسالية.

ولذلك، فقد كان الأئمة من أهل البيت (ع) يفيضون بالروحانية التي تجعل الإنسان يتحرك في القيم الروحية التي ترتبط بالله وتحلّق في آفاق الروح بعيداً عن المادة. وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه ونستفيده من سيرة أهل البيت (ع)، حتى نشعر، مع ما يفصلنا من القرون عنهم، بأنهم يعيشون معنا، لا بأجسادهم ولكن بعلمهم وروحانيتهم وكل ما أعطوه من عطاء العقل والروح وما يرتفع بالحياة إلى أعلى مستوى.

الإمام ومحاربته لظاهرة الغلوّ

ولا بد لنا أن نرصد في سيرة الإمام الهادي(ع) منحى عصره الذي أخذ يختزن بعض دعوات الغلوّ، وبعض الدعوات التي تفسّر القرآن الكريم والعبادات تفسيراً لا يظهر من الكلمات، ولهذا وقف الإمام الهادي (ع) موقفاً حازماً أمام كل هؤلاء الذين يحاولون أن ينشروا الغلوّ بأهل البيت(ع)، ليرتفعوا بهم إلى ما يقرب من صفات الله تعالى في كلِّ قدراتهم ومواقعهم وطاقاتهم.

ولذلك، كان الإمام الهادي (ع) يطلب من بعض الناس أن يعزلوا هؤلاء الأشخاص من الغلاة، وأن يقاطعوهم ويواجهوهم بكلِّ قوة، لأن المسألة ليست مسألة تفصيلية، بل مسألة تتصل بالعقيدة والتوحيد الذي هو رسالة الأنبياء، والذي يؤكد القرآن على أنه ليس كمثله شيء، وأنه هو المهيمن على الأمر كله، وليس لأحد من عباده أيّ موقع إلا من خلال ما يمنحه من كرامة وقرب، وما يتحرك به من دعوة وما إلى ذلك.

وسنحاول أن نقف مع الإمام الهادي(ع)، مع بعض كلماته التي تؤكد مبدأً وتشجب عادةً من العادات فيما رواه الرواة عنه. في الحديث الذي جرى في الحوار بينه وبين أحد أصحابه، وهو "ابن السكيت"، يؤكد الإمام(ع) أن العقل هو الحجة، هو الذي يملك الإنسان من خلاله أن يحق الحق ويبطل الباطل، ويعرف الصادق من الكاذب، لأن الله تعالى جعل العقل حجةً بينه وبين عباده، فهو يثيب الإنسان على قدر عقله، ويعاقبه على قدر عقله، وعندما يخاطبه بالأمر والنهي فإنه يخاطب عقله.

اختلاف مظاهر المعجزة

فلنستمع إلى هذا الحديث الذي يرويه الشيخ الكليني في "الكافي"، والذي يبيّن اختلاف مظاهر المعجزة في الأنبياء وأنها لم تكن واحدة، وذلك عندما سأل "أبن السكيت" الإمام علي الهادي(ع) قائلاً: لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً(ص) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن الهادي (ع): "إن الله لما بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر ـ كان السّحرة هم القوة التي يتحدى بها السلطان كل خصومه، بحيث يرعبهم بالسحر الذي يملكه أعوانه من السحرة، وكان يسيطر على الناس بذلك، ولهذا فإن الله تعالى أراد أن يفتح لموسى الطريق إلى أن يدخل على فرعون من موقع واسع قوي، لأنه لو دخل على فرعون الذي يقول "أنا ربكم الأعلى" فلن يُسمح له بالدخول ـ فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ـ وجاء بمظهر يشبه أعمال السّحرة، ولكنهم لا يملكون مثل هذه التقنية والقوة التي تتمثل فيها قوة خفية لا يعرفون طبيعتها ـ وما أبطل به سحرهم وأثبت الحجة به عليهم، وإن الله بعث عيسى (ع) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ـ الأمراض ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله ما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث محمداً (ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم وأثبت بهم الحجة عليهم".

الاحتكام إلى العقل

قال ابن السكيت: تالله، ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال (ع): "العقل، يُعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه".

ونفهم من خلال هذا الحديث قاعدة عامة في الحياة، وهي أنك عندما تريد أن تؤكد قيادة شخص أو مرجعيته الفكرية أو الفقهية أو أيّ نوع من أنواع المرجعيات الموجودة في الحياة، فإن عليك أن تدرسه، أن تحضّر عقلك لا هوى نفسك، وأن تحضّر فكرك ولا تخضع لهوى نفسك، لأن قضية أن ترتبط بأيِّ إنسان باسم الله، تحتاج إلى أن تدرس كل عناصر شخصيته، حتى تطمئن بأن هذا الشخص من رجال الله، وأنه يصدق على الله عندما يقول قولاً ينسبه إليه ولا يكذب عليه. ومن هنا، فإن الإمام الهادي (ع) يريد أن يشير: إلى أن الله عندما يحاسبك غداً على اتباعك شخصاً أو رفضه ، فإنه يحاسبك من خلال عقلك، هل اتبعته من خلال دراسة أم أنك اتبعته من خلال هوى نفسك. فقال ابن السكيت: والله هذا هو الجواب.

وهذا هو الدرس الذي يجب أن نأخذه من الإمام الهادي(ع)، لأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي مجتمعات ضائعة في مسألة القيادة، وإن الذهنية العشائرية تارةً والعصبية أخرى، هي التي تحدد موقفنا من الأشخاص سلباً أو إيجاباً، لأن المسألة في هذا الأمر هي أن لا تعيش الانفعال في كل علاقاتك الدينية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وأن لا تعيش العاطفة التي تلتهب في داخل مشاعرك، لأنها تذهب كأي شيء طارئ، وقد ورد في كلمة أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابن عباس: "فلا يكن أفضل ما نلته في دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حق".

استنطاق القرآن في كل زمان

وفي حديث آخر عن القرآن، يسأله الرجل نفسه، بأن القرآن هو كتاب كبقية الكتب وقد نزل منذ سنين، فأيّ كتاب يتلوه الناس ويقرأونه في الليل والنهار عادة يتحوّل إلى شيء جامد في نفوسهم، وميت في مشاعرهم، ما عدا القرآن كلما قُرِىءَ أكثر ازداد جدةً ونضارة، فما هو السبب؟ قال ابن السكيت: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا يقول: "ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ـ حيوية ونضارة وجدّة ـ إن الله تعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان ـ إن الله تعالى يريد للقرآن أن يتابع حركته في حياة الناس، بحيث يضع لكل مشكلة جديدة حلاً من قواعده وإيحاءاته ـ ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة".

ونفهم من هذا الحديث إيحاءً وحقيقة، وهو أنّ علينا أن نضع القرآن أمام عقولنا وفي امتداد حياتنا لنتأمله ونتدبّره، حتى عندما نقرأ قصة آدم (ع) مع إبليس، فإن علينا أن نأخذ منها كل النماذج التي يتمثل فيها آدم الإنسان وإبليس الشيطان في كل زمان ومكان، وهذا درسٌ لكلِّ مشكلةٍ تتصل بصراع الإنسان مع إبليس، وهكذا عندما نقرأ قصة موسى(ع)، فلا نستغرق في فرعون ذلك العصر، بل نجعله نموذجاً لكل الفراعنة والطغاة في العالم، لندرس شخصية الطاغية كيف يتحرك ويضطهد الناس ويقتلهم، وعندما ندرس بني إسرائيل، علينا أن نعرف أن هذا الشعب يمثل شعب المشاكل حتى مع النبيين.

أن نقرأ القرآن على أنه يعطينا إيحاء في كل ما يواجهنا من تحديات، ولهذا يأمرنا الله تعالى فيها بالتدبّر في القرآن، وأن لا نعتبره مجرد كتاب للبركة والتلاوة التي نعدد فيه الكلمات دون أن نفقه شيئاً من المعاني.

معالجة موقف الناس من الزمن

وقد عالج الإمام الهادي (ع) مع بعض أصحابه مسألة الموقف من الزمن الذي نصاب فيه بمرض أو بفقر أو هزيمة أو فقد حبيب، فيقول قائلنا: ما أشأم هذا الزمن وما أنحسه، محاولين أن نلقي على الزمن كل الويلات التي تصيبنا، وهذا ما حصل مع ذلك الرجل الذي جاء إلى الإمام الهادي(ع) زائراً، وقد حدثت له مشكلة، فقام يسب اليوم، فكيف عالج الإمام (ع) هذه المسألة؟

قال الحسن بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (ع) وقد نُكبت إصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك فما أيشمك ـ ما أكثر شؤمك ـ فقال لي: "يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك من لا ذنب له"، فثاب إليّ عقلي، وتبيّنت خطئي، فقلت: يا مولاي، أستغفر الله. فقال (ع): "يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها ـ وهذه تدل على ذهنية مغلقة ـ إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"، فقال الحسن: "وأنا أستغفر الله وهذه توبتي"، فقال (ع): "والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما ذم عليها فيه، أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال، عاجلاً أو آجلاً"؟..

وهناك بعض العادات التي يستغرق فيها بعض الناس، وهي أن آخر أربعاء في الشهر يوم شؤم، وهناك حديث للإمام موسى الكاظم (ع) يقول: "من خرج يوم الأربعاء الذي لا يدور ـ آخر أربعاء من الشهر ـ قضى الله له كل حاجة، وردّ عنه كل سوء"، الإمام (ع) يريد من الإنسان أن يقتحم كل ما تعطيه إياه الهواجس على أنه شؤم.

وسئل الإمام الهادي (ع) من قبل بعض أصحابه عن التوبة النصوح، فكتب(ع): أن يكون الباطن كالظاهر، بحيث تتوب إلى الله تعالى بكل كيانك.. وهكذا نعيش مع هذا الإمام العظيم الذي كانت الأمة تعظّمه وتقدّره، وكان الإمام الذي حمل الرسالة وعانى ما عاناه من طغاة زمانه ولكنه صبر كالأنبياء والأولياء.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المرحلة التي أقبلت فيها الفتن كقطع الليل المظلم، يزحم بعضها بعضاً، وتحركت فيها القوى المعادية المضادّة من أجل أن تثير الفوضى في بلادنا، وأن تخلق الفتنة في كلِّ أوضاعنا، حتى يربحوا بالفتنة أكثر ممّا يربحونه بالحرب. لذلك، لا بد لنا أن نواجه الموقف بالمزيد من الوعي والحذر واليقظة، ولا تزال المشاكل في منطقتنا تتوالى، من دون أيّ حلّ، فلنعرف ماذا هناك:

اغتيال القادة ومزيد من الاستسلام العربي

لا تزال أمريكا وإسرائيل تتحركان في عملية اغتيال وإبادة للمجاهدين الذين يعملون لتحرير بلدهم، فيما الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة تستهلك الحديث عن خارطة الطريق، من دون أن تملك أية قدرة على إحراز أيّ تقدّم في تنفيذها، لأن دورها في اللجنة الرباعية على الهامش لمصلحة الدور الأمريكي الخاضع للدور الصهيوني..

ولذلك، فإن اللعبة تدار ضد الشعب الفلسطيني بمبادرة دولية تتحدث عن الحلّ، ولكنها تحرس تعقيدات المشكلة، وتبقى المشكلة لدى هؤلاء ـ بقيادة أمريكية ـ هي مقاومة الاحتلال التي اعتبروها "إرهاباً"، لا الاحتلال نفسه الذي اعتبروه "دفاعاً عن النفس"؟!

ومن جانب آخر، فإن العرب ـ برؤسائهم ـ لا يحرّكون ساكناً، بل يستقبل بعضهم الذي يترأس "لجنة القدس" وزير خارجية إسرائيل من أجل إعادة العلاقات مع العدو، في حجة مبكية مضحكة وهي تقوية المساعي لحل المشكلة الفلسطينية، ولا سيما اقتراح رئيس حكومة السلطة الفلسطينية على المغرب إعادة العلاقات..

إنقاذ المقدسات مسؤولية مَن؟؟

إن الجميع يعرف أن "لجنة القدس" تحوّلت إلى ملهاة تارة، والى حائط مبكى تارة أخرى، ثم تطوّر التهويد في القدس وانتهكت حرمة المسجد الأقصى من قِبَل اليهود الذين يفكرون في السيطرة عليه، ولم يستطع المغرب ولا العرب تقديم أية مبادرة إنقاذية لمقدّسات المسلمين، بالرغم من العلاقات القوية مع العدو، لأنهم لا يملكون قوةً للضغط بل هم الخاضعون للضغط..

والسؤال عن هذا الاستقبال الملوكي لوزير خارجية العدو: هل هو التشجيع العربي والإسلامي لإهراق الدم الفلسطيني، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، وإبادة المجاهدين بالطائرات الأمريكية؟؟ وتتساءل الأمة كلها: أيّ عرب هؤلاء؟ وأيّ مسلمين هؤلاء؟ وهل تحوّل العالم العربي إلى حليف للدول المستكبرة للتحرر من فلسطين الحرية بدلاً من تحمّل المسؤولية لإنقاذها؟ إنهم يحشدون الأسلحة المتطوّرة في بلدانهم، ولكنهم لا يستخدمونها لإنقاذ الأمة، لأن الأمة ماتت في وجدانهم.

المال العربي والعقل الصهيوني؟؟

وفي موقع آخر، فإنّ رجال الأعمال العرب يلهثون الآن لحضور المؤتمر الاقتصادي الصهيوني، من أجل المزيد من التعاون العربي ـ الإسرائيلي الاقتصادي الذي سوف يفسح في المجال للسيطرة الصهيونية على مفاصل المال العربي، انسجاماً مع حديث بعض الملوك العرب الذي يقول: "إن العرب يملكون مالاً بلا عقل، وإن اليهود يملكون عقلاً بلا مال، فلنعمل على التزاوج بين العقل اليهودي والمال العربي"!! ولكنه كان يعرف أن المال اليهودي يتفوّق على حجم المال العربي بالرغم من البترول.. إن هذا كلّه يمثل الضعف والعجز والسقوط النفسي والروحي والحركي العربي، حتى لم يعد لهذا العالم أيّ وزن في سياسة المنطقة فضلاً عن سياسة العالم، فأيّ زمن هو هذا الزمن العربي الرديء؟؟

وتبقى الكلمة الحاسمة للشعب الفلسطيني أن يأخذ بأسباب الوعي والحذر الشديد من هذه الدوّامة الجديدة التي تتحرك في داخلها القضية الفلسطينية، في الخلافات الداخلية الواقعة تحت تأثير الضغوط الدولية والإسرائيلية والعربية، من أجل إيجاد مناخ للفتنة ومأزق للحركة السياسية التحريرية في هذه المرحلة الصعبة التي قد تحدد المستقبل كله للشعب الفلسطيني، ومن خلال ذلك للأمة كلها.

مجزرة النجف تجديد للفتنة

أما في العراق، فإن المجزرة الوحشية الهمجية التي استهدفت آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم والمصلّين المؤمنين معه، وانتهكت حرمة الحرم العلوي الشريف، أدخلت الوضع العراقي في متاهات أمنية وسياسية جديدة لا تخلو من الخطورة، لأن أكثر من جهة داخلية وخارجية تحرك أصابع الفتنة من خلال أطماعها وخططها ومصالحها، من دون تحديد دقيق للمجرم المسؤول بشكل مباشر، ولأن هناك خططاً جهنمية لإيقاع الفتنة بين المسلمين، في تبادل الاتهام هنا وهناك، من خلال تغذية مخابراتية إعلامية واستكبارية وتعصبية..

إننا نحذّر العراقيين من السقوط أمام هذه المحاولات، لأن ذلك يؤدي إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع، كما نحذِّر العالم الإسلامي ـ بعلمائه وفعالياته السياسية والثقافية والاجتماعية ـ من إفساح المجال للمتعصبين والمتطرفين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، فإن المرحلة الخطرة التي يمر بها العالم الإسلامي في التحديات والضغوط المطبقة عليه، هي من أكثر المراحل خطورةً ضد المستقبل الإسلامي على أكثر من صعيد.

مستقبل الحكومة العراقية الجديدة

وفي اتجاه آخر، فإنّ الحكومة العراقية الجديدة التي رحّب بها البعض وتحفّظ عنها بعضٌ آخر، لا تبعث على الكثير من التفاؤل، لأن أكثر من علامة استفهام تحيط بها في سيطرة المستشارين الأمريكيين على كل وزير ووزارته، وفي الإمكانات التي تملكها في تحقيق برنامجها في تأسيس عراق جديد في أمنه وحاجاته وخدماته وحرياته، لا سيما أننا استمعنا إلى وزير الخارجية الأمريكية يقول بأن أمريكا "تريد السيطرة حتى على الدول التي تشرف عليها الأمم المتحدة"، على حدّ قوله..

إن أمريكا لم تبدأ في جني الأرباح الاقتصادية والسياسية والأمنية في احتلالها للعراق على مستوى المنطقة، لذلك فقد يتساءل الناس: هل تسمح أمريكا في المرحلة الحاضرة ـ على الأقل ـ للعراقيين أن يديروا أمورهم بأنفسهم إلا على مستوى تخفيف الأعباء الأمنية وبعض الأعباء الاقتصادية عنها؟

إننا نتمنى للشعب العراقي كل تقدّم وازدهار، ولكن الأخطبوط الاحتلالي لا يزال يمدُّ أذرعه إلى كل مقدّرات العراق في امتداد المنطقة، فالحذر الحذر، والوعي الوعي، واليقظة اليقظة، ولا سيما أن إسرائيل بدأت في افتراس العراق اقتصادياً، وفي النفاذ إلى مفاصله الأمنية، ولا ندري هل أن تفجير النجف والأمم المتحدة كان إسرائيلياً بغطاء أمريكي؟ لمَ لا..

الإخلاص للشعب اللبناني

أما في لبنان، فإن الشعب كله يطلب من المسؤولين التكامل في التخطيط وفي التنفيذ، والإخلاص للشعب ليستقر في وطنه الذي لا بد له من الانفتاح على الإنسان المواطن لا الطائفي، وعلى التخطيط لحلِّ المشاكل التي تطبق على البلد، لا معالجة كل مشكلة كما لو كانت مفصولة عن القضايا الاقتصادية والمعيشية والسياسية..

إن على الشعب توجيه الإنذار إلى كل الذين يحكمون البلد أنه سوف يسلب الثقة منهم، على طريقة الآية القرآنية: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

الإمام الهادي(ع) في عطائه الروحي والفكري


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة مظهر حركة النبوة الرسالية

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام العاشر من الأئمة المعصومين(ع)، وهو الإمام علي بن محمد الهادي (ع). هذا الإمام الذي لم تكن حياته طويلة في عدد السنين، ولكنها كانت غنيّةٍ بكلِّ ما تحرّكت به إمامته في الرسالة الإسلامية التي كان يتنقل بها من موقع إلى موقع، وينفتح بها على جماعة هنا وجماعة هناك من أجل أن يؤصّل إسلامهم، ويعمّق إيمانهم بالله تعالى، وأن يجعلهم يتحركون في الحياة من موقع المسؤولية، لأن هذه هي رسالة الإمامة التي هي المظهر الحيّ لحركة النبوة الرسالية.

ولذلك، فقد كان الأئمة من أهل البيت (ع) يفيضون بالروحانية التي تجعل الإنسان يتحرك في القيم الروحية التي ترتبط بالله وتحلّق في آفاق الروح بعيداً عن المادة. وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه ونستفيده من سيرة أهل البيت (ع)، حتى نشعر، مع ما يفصلنا من القرون عنهم، بأنهم يعيشون معنا، لا بأجسادهم ولكن بعلمهم وروحانيتهم وكل ما أعطوه من عطاء العقل والروح وما يرتفع بالحياة إلى أعلى مستوى.

الإمام ومحاربته لظاهرة الغلوّ

ولا بد لنا أن نرصد في سيرة الإمام الهادي(ع) منحى عصره الذي أخذ يختزن بعض دعوات الغلوّ، وبعض الدعوات التي تفسّر القرآن الكريم والعبادات تفسيراً لا يظهر من الكلمات، ولهذا وقف الإمام الهادي (ع) موقفاً حازماً أمام كل هؤلاء الذين يحاولون أن ينشروا الغلوّ بأهل البيت(ع)، ليرتفعوا بهم إلى ما يقرب من صفات الله تعالى في كلِّ قدراتهم ومواقعهم وطاقاتهم.

ولذلك، كان الإمام الهادي (ع) يطلب من بعض الناس أن يعزلوا هؤلاء الأشخاص من الغلاة، وأن يقاطعوهم ويواجهوهم بكلِّ قوة، لأن المسألة ليست مسألة تفصيلية، بل مسألة تتصل بالعقيدة والتوحيد الذي هو رسالة الأنبياء، والذي يؤكد القرآن على أنه ليس كمثله شيء، وأنه هو المهيمن على الأمر كله، وليس لأحد من عباده أيّ موقع إلا من خلال ما يمنحه من كرامة وقرب، وما يتحرك به من دعوة وما إلى ذلك.

وسنحاول أن نقف مع الإمام الهادي(ع)، مع بعض كلماته التي تؤكد مبدأً وتشجب عادةً من العادات فيما رواه الرواة عنه. في الحديث الذي جرى في الحوار بينه وبين أحد أصحابه، وهو "ابن السكيت"، يؤكد الإمام(ع) أن العقل هو الحجة، هو الذي يملك الإنسان من خلاله أن يحق الحق ويبطل الباطل، ويعرف الصادق من الكاذب، لأن الله تعالى جعل العقل حجةً بينه وبين عباده، فهو يثيب الإنسان على قدر عقله، ويعاقبه على قدر عقله، وعندما يخاطبه بالأمر والنهي فإنه يخاطب عقله.

اختلاف مظاهر المعجزة

فلنستمع إلى هذا الحديث الذي يرويه الشيخ الكليني في "الكافي"، والذي يبيّن اختلاف مظاهر المعجزة في الأنبياء وأنها لم تكن واحدة، وذلك عندما سأل "أبن السكيت" الإمام علي الهادي(ع) قائلاً: لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً(ص) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن الهادي (ع): "إن الله لما بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر ـ كان السّحرة هم القوة التي يتحدى بها السلطان كل خصومه، بحيث يرعبهم بالسحر الذي يملكه أعوانه من السحرة، وكان يسيطر على الناس بذلك، ولهذا فإن الله تعالى أراد أن يفتح لموسى الطريق إلى أن يدخل على فرعون من موقع واسع قوي، لأنه لو دخل على فرعون الذي يقول "أنا ربكم الأعلى" فلن يُسمح له بالدخول ـ فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ـ وجاء بمظهر يشبه أعمال السّحرة، ولكنهم لا يملكون مثل هذه التقنية والقوة التي تتمثل فيها قوة خفية لا يعرفون طبيعتها ـ وما أبطل به سحرهم وأثبت الحجة به عليهم، وإن الله بعث عيسى (ع) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ـ الأمراض ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله ما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث محمداً (ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم وأثبت بهم الحجة عليهم".

الاحتكام إلى العقل

قال ابن السكيت: تالله، ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال (ع): "العقل، يُعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه".

ونفهم من خلال هذا الحديث قاعدة عامة في الحياة، وهي أنك عندما تريد أن تؤكد قيادة شخص أو مرجعيته الفكرية أو الفقهية أو أيّ نوع من أنواع المرجعيات الموجودة في الحياة، فإن عليك أن تدرسه، أن تحضّر عقلك لا هوى نفسك، وأن تحضّر فكرك ولا تخضع لهوى نفسك، لأن قضية أن ترتبط بأيِّ إنسان باسم الله، تحتاج إلى أن تدرس كل عناصر شخصيته، حتى تطمئن بأن هذا الشخص من رجال الله، وأنه يصدق على الله عندما يقول قولاً ينسبه إليه ولا يكذب عليه. ومن هنا، فإن الإمام الهادي (ع) يريد أن يشير: إلى أن الله عندما يحاسبك غداً على اتباعك شخصاً أو رفضه ، فإنه يحاسبك من خلال عقلك، هل اتبعته من خلال دراسة أم أنك اتبعته من خلال هوى نفسك. فقال ابن السكيت: والله هذا هو الجواب.

وهذا هو الدرس الذي يجب أن نأخذه من الإمام الهادي(ع)، لأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي مجتمعات ضائعة في مسألة القيادة، وإن الذهنية العشائرية تارةً والعصبية أخرى، هي التي تحدد موقفنا من الأشخاص سلباً أو إيجاباً، لأن المسألة في هذا الأمر هي أن لا تعيش الانفعال في كل علاقاتك الدينية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وأن لا تعيش العاطفة التي تلتهب في داخل مشاعرك، لأنها تذهب كأي شيء طارئ، وقد ورد في كلمة أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابن عباس: "فلا يكن أفضل ما نلته في دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حق".

استنطاق القرآن في كل زمان

وفي حديث آخر عن القرآن، يسأله الرجل نفسه، بأن القرآن هو كتاب كبقية الكتب وقد نزل منذ سنين، فأيّ كتاب يتلوه الناس ويقرأونه في الليل والنهار عادة يتحوّل إلى شيء جامد في نفوسهم، وميت في مشاعرهم، ما عدا القرآن كلما قُرِىءَ أكثر ازداد جدةً ونضارة، فما هو السبب؟ قال ابن السكيت: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا يقول: "ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ـ حيوية ونضارة وجدّة ـ إن الله تعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان ـ إن الله تعالى يريد للقرآن أن يتابع حركته في حياة الناس، بحيث يضع لكل مشكلة جديدة حلاً من قواعده وإيحاءاته ـ ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة".

ونفهم من هذا الحديث إيحاءً وحقيقة، وهو أنّ علينا أن نضع القرآن أمام عقولنا وفي امتداد حياتنا لنتأمله ونتدبّره، حتى عندما نقرأ قصة آدم (ع) مع إبليس، فإن علينا أن نأخذ منها كل النماذج التي يتمثل فيها آدم الإنسان وإبليس الشيطان في كل زمان ومكان، وهذا درسٌ لكلِّ مشكلةٍ تتصل بصراع الإنسان مع إبليس، وهكذا عندما نقرأ قصة موسى(ع)، فلا نستغرق في فرعون ذلك العصر، بل نجعله نموذجاً لكل الفراعنة والطغاة في العالم، لندرس شخصية الطاغية كيف يتحرك ويضطهد الناس ويقتلهم، وعندما ندرس بني إسرائيل، علينا أن نعرف أن هذا الشعب يمثل شعب المشاكل حتى مع النبيين.

أن نقرأ القرآن على أنه يعطينا إيحاء في كل ما يواجهنا من تحديات، ولهذا يأمرنا الله تعالى فيها بالتدبّر في القرآن، وأن لا نعتبره مجرد كتاب للبركة والتلاوة التي نعدد فيه الكلمات دون أن نفقه شيئاً من المعاني.

معالجة موقف الناس من الزمن

وقد عالج الإمام الهادي (ع) مع بعض أصحابه مسألة الموقف من الزمن الذي نصاب فيه بمرض أو بفقر أو هزيمة أو فقد حبيب، فيقول قائلنا: ما أشأم هذا الزمن وما أنحسه، محاولين أن نلقي على الزمن كل الويلات التي تصيبنا، وهذا ما حصل مع ذلك الرجل الذي جاء إلى الإمام الهادي(ع) زائراً، وقد حدثت له مشكلة، فقام يسب اليوم، فكيف عالج الإمام (ع) هذه المسألة؟

قال الحسن بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (ع) وقد نُكبت إصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك فما أيشمك ـ ما أكثر شؤمك ـ فقال لي: "يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك من لا ذنب له"، فثاب إليّ عقلي، وتبيّنت خطئي، فقلت: يا مولاي، أستغفر الله. فقال (ع): "يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها ـ وهذه تدل على ذهنية مغلقة ـ إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"، فقال الحسن: "وأنا أستغفر الله وهذه توبتي"، فقال (ع): "والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما ذم عليها فيه، أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال، عاجلاً أو آجلاً"؟..

وهناك بعض العادات التي يستغرق فيها بعض الناس، وهي أن آخر أربعاء في الشهر يوم شؤم، وهناك حديث للإمام موسى الكاظم (ع) يقول: "من خرج يوم الأربعاء الذي لا يدور ـ آخر أربعاء من الشهر ـ قضى الله له كل حاجة، وردّ عنه كل سوء"، الإمام (ع) يريد من الإنسان أن يقتحم كل ما تعطيه إياه الهواجس على أنه شؤم.

وسئل الإمام الهادي (ع) من قبل بعض أصحابه عن التوبة النصوح، فكتب(ع): أن يكون الباطن كالظاهر، بحيث تتوب إلى الله تعالى بكل كيانك.. وهكذا نعيش مع هذا الإمام العظيم الذي كانت الأمة تعظّمه وتقدّره، وكان الإمام الذي حمل الرسالة وعانى ما عاناه من طغاة زمانه ولكنه صبر كالأنبياء والأولياء.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المرحلة التي أقبلت فيها الفتن كقطع الليل المظلم، يزحم بعضها بعضاً، وتحركت فيها القوى المعادية المضادّة من أجل أن تثير الفوضى في بلادنا، وأن تخلق الفتنة في كلِّ أوضاعنا، حتى يربحوا بالفتنة أكثر ممّا يربحونه بالحرب. لذلك، لا بد لنا أن نواجه الموقف بالمزيد من الوعي والحذر واليقظة، ولا تزال المشاكل في منطقتنا تتوالى، من دون أيّ حلّ، فلنعرف ماذا هناك:

اغتيال القادة ومزيد من الاستسلام العربي

لا تزال أمريكا وإسرائيل تتحركان في عملية اغتيال وإبادة للمجاهدين الذين يعملون لتحرير بلدهم، فيما الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة تستهلك الحديث عن خارطة الطريق، من دون أن تملك أية قدرة على إحراز أيّ تقدّم في تنفيذها، لأن دورها في اللجنة الرباعية على الهامش لمصلحة الدور الأمريكي الخاضع للدور الصهيوني..

ولذلك، فإن اللعبة تدار ضد الشعب الفلسطيني بمبادرة دولية تتحدث عن الحلّ، ولكنها تحرس تعقيدات المشكلة، وتبقى المشكلة لدى هؤلاء ـ بقيادة أمريكية ـ هي مقاومة الاحتلال التي اعتبروها "إرهاباً"، لا الاحتلال نفسه الذي اعتبروه "دفاعاً عن النفس"؟!

ومن جانب آخر، فإن العرب ـ برؤسائهم ـ لا يحرّكون ساكناً، بل يستقبل بعضهم الذي يترأس "لجنة القدس" وزير خارجية إسرائيل من أجل إعادة العلاقات مع العدو، في حجة مبكية مضحكة وهي تقوية المساعي لحل المشكلة الفلسطينية، ولا سيما اقتراح رئيس حكومة السلطة الفلسطينية على المغرب إعادة العلاقات..

إنقاذ المقدسات مسؤولية مَن؟؟

إن الجميع يعرف أن "لجنة القدس" تحوّلت إلى ملهاة تارة، والى حائط مبكى تارة أخرى، ثم تطوّر التهويد في القدس وانتهكت حرمة المسجد الأقصى من قِبَل اليهود الذين يفكرون في السيطرة عليه، ولم يستطع المغرب ولا العرب تقديم أية مبادرة إنقاذية لمقدّسات المسلمين، بالرغم من العلاقات القوية مع العدو، لأنهم لا يملكون قوةً للضغط بل هم الخاضعون للضغط..

والسؤال عن هذا الاستقبال الملوكي لوزير خارجية العدو: هل هو التشجيع العربي والإسلامي لإهراق الدم الفلسطيني، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، وإبادة المجاهدين بالطائرات الأمريكية؟؟ وتتساءل الأمة كلها: أيّ عرب هؤلاء؟ وأيّ مسلمين هؤلاء؟ وهل تحوّل العالم العربي إلى حليف للدول المستكبرة للتحرر من فلسطين الحرية بدلاً من تحمّل المسؤولية لإنقاذها؟ إنهم يحشدون الأسلحة المتطوّرة في بلدانهم، ولكنهم لا يستخدمونها لإنقاذ الأمة، لأن الأمة ماتت في وجدانهم.

المال العربي والعقل الصهيوني؟؟

وفي موقع آخر، فإنّ رجال الأعمال العرب يلهثون الآن لحضور المؤتمر الاقتصادي الصهيوني، من أجل المزيد من التعاون العربي ـ الإسرائيلي الاقتصادي الذي سوف يفسح في المجال للسيطرة الصهيونية على مفاصل المال العربي، انسجاماً مع حديث بعض الملوك العرب الذي يقول: "إن العرب يملكون مالاً بلا عقل، وإن اليهود يملكون عقلاً بلا مال، فلنعمل على التزاوج بين العقل اليهودي والمال العربي"!! ولكنه كان يعرف أن المال اليهودي يتفوّق على حجم المال العربي بالرغم من البترول.. إن هذا كلّه يمثل الضعف والعجز والسقوط النفسي والروحي والحركي العربي، حتى لم يعد لهذا العالم أيّ وزن في سياسة المنطقة فضلاً عن سياسة العالم، فأيّ زمن هو هذا الزمن العربي الرديء؟؟

وتبقى الكلمة الحاسمة للشعب الفلسطيني أن يأخذ بأسباب الوعي والحذر الشديد من هذه الدوّامة الجديدة التي تتحرك في داخلها القضية الفلسطينية، في الخلافات الداخلية الواقعة تحت تأثير الضغوط الدولية والإسرائيلية والعربية، من أجل إيجاد مناخ للفتنة ومأزق للحركة السياسية التحريرية في هذه المرحلة الصعبة التي قد تحدد المستقبل كله للشعب الفلسطيني، ومن خلال ذلك للأمة كلها.

مجزرة النجف تجديد للفتنة

أما في العراق، فإن المجزرة الوحشية الهمجية التي استهدفت آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم والمصلّين المؤمنين معه، وانتهكت حرمة الحرم العلوي الشريف، أدخلت الوضع العراقي في متاهات أمنية وسياسية جديدة لا تخلو من الخطورة، لأن أكثر من جهة داخلية وخارجية تحرك أصابع الفتنة من خلال أطماعها وخططها ومصالحها، من دون تحديد دقيق للمجرم المسؤول بشكل مباشر، ولأن هناك خططاً جهنمية لإيقاع الفتنة بين المسلمين، في تبادل الاتهام هنا وهناك، من خلال تغذية مخابراتية إعلامية واستكبارية وتعصبية..

إننا نحذّر العراقيين من السقوط أمام هذه المحاولات، لأن ذلك يؤدي إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع، كما نحذِّر العالم الإسلامي ـ بعلمائه وفعالياته السياسية والثقافية والاجتماعية ـ من إفساح المجال للمتعصبين والمتطرفين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، فإن المرحلة الخطرة التي يمر بها العالم الإسلامي في التحديات والضغوط المطبقة عليه، هي من أكثر المراحل خطورةً ضد المستقبل الإسلامي على أكثر من صعيد.

مستقبل الحكومة العراقية الجديدة

وفي اتجاه آخر، فإنّ الحكومة العراقية الجديدة التي رحّب بها البعض وتحفّظ عنها بعضٌ آخر، لا تبعث على الكثير من التفاؤل، لأن أكثر من علامة استفهام تحيط بها في سيطرة المستشارين الأمريكيين على كل وزير ووزارته، وفي الإمكانات التي تملكها في تحقيق برنامجها في تأسيس عراق جديد في أمنه وحاجاته وخدماته وحرياته، لا سيما أننا استمعنا إلى وزير الخارجية الأمريكية يقول بأن أمريكا "تريد السيطرة حتى على الدول التي تشرف عليها الأمم المتحدة"، على حدّ قوله..

إن أمريكا لم تبدأ في جني الأرباح الاقتصادية والسياسية والأمنية في احتلالها للعراق على مستوى المنطقة، لذلك فقد يتساءل الناس: هل تسمح أمريكا في المرحلة الحاضرة ـ على الأقل ـ للعراقيين أن يديروا أمورهم بأنفسهم إلا على مستوى تخفيف الأعباء الأمنية وبعض الأعباء الاقتصادية عنها؟

إننا نتمنى للشعب العراقي كل تقدّم وازدهار، ولكن الأخطبوط الاحتلالي لا يزال يمدُّ أذرعه إلى كل مقدّرات العراق في امتداد المنطقة، فالحذر الحذر، والوعي الوعي، واليقظة اليقظة، ولا سيما أن إسرائيل بدأت في افتراس العراق اقتصادياً، وفي النفاذ إلى مفاصله الأمنية، ولا ندري هل أن تفجير النجف والأمم المتحدة كان إسرائيلياً بغطاء أمريكي؟ لمَ لا..

الإخلاص للشعب اللبناني

أما في لبنان، فإن الشعب كله يطلب من المسؤولين التكامل في التخطيط وفي التنفيذ، والإخلاص للشعب ليستقر في وطنه الذي لا بد له من الانفتاح على الإنسان المواطن لا الطائفي، وعلى التخطيط لحلِّ المشاكل التي تطبق على البلد، لا معالجة كل مشكلة كما لو كانت مفصولة عن القضايا الاقتصادية والمعيشية والسياسية..

إن على الشعب توجيه الإنذار إلى كل الذين يحكمون البلد أنه سوف يسلب الثقة منهم، على طريقة الآية القرآنية: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية