"كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"

"كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"

في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع) : "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت ومن أئمتهم الإمام الحادي عشر الإمام الحسن بن علي العسكري (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر.

الأمّة أوّلاً

والحديث عن أهل البيت (ع) حديث متنوّع في العصمة الفكرية والروحية والعملية التي يتمثلون بها، فتنطلق الحقيقة في كل كلمة من كلماتهم، وفي كل سيرة من سيرهم، وفي كل انطلاقة روحية من انطلاقاتهم، صافيةً لا يشوبها أي كدر. وهكذا، عندما نتذكرهم، فإننا نتذكر الطهارة كلها، طهارة العقل والروح واليد واللسان، هذه التي تعطي الناس من طهرها طهر الرسالة، وإذا تذكّرناهم، فإننا نتذكر العلم الواسع الذي انفتح على الوحي، فكان الوحي عمقه وامتداده وآفاقه.

ولأنّ أهل البيت (ع) كانوا مع الناس، يعلّمونهم ويخدمونهم ويقضون لهم حاجاتهم ويسيرون بهم نحو الطريق المستقيم، ويوجّهونهم إلى أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، ويؤكدون عليهم أن يلتزموا بأمور المسلمين، كما قال جدهم عليّ (ع) عندما عصفت العواصف بالمسلمين في قضاياهم الداخلية والخارجية، وكانت الأوضاع السلبية توجَّه إليه في عملية إبعاد عن حقه واضطهاد لموقعه، كان (ع) يقول: "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين"، لأنني مسؤول عن كل أمور المسلمين، ولذلك لا يمكن أن يصدر مني أي قول أو عمل يمكن أن يثير فتنةً، أو يصنع عصبية لحسابات ذاتية. هكذا كان يقول عليّ (ع) عندما كان يعبّر عن تجربته الصعبة، وهكذا ترك للأئمة (ع) من أولاده، وترك للمسلمين من بعده، أنهم إذا وقفوا بين الخاص والعام، فإن عليهم أن يغلّبوا العام على الخاص، وأن يعضّوا على الجراح حتى لا تُجرح الأمة.

العدل الشامل

والإمام العسكري (ع) هو من أهل هذا البيت(ع)، وهو آخر الأئمة الذين ظهروا مع الناس، ثم جاء ولده الإمام المهدي (عج) من أجل أن يعدّه الله تعالى للعدل الشامل في الكون كله، العدل المبني على الإسلام في كل مفاهيمه وقيمه وشرائعه، هذا العدل الذي بدأ الله تعالى به إرسال الرسالات ليقوم الناس بالقسط، ويختم به التجربة الرسالية الأخيرة في رسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله (ص) وحملها الأئمة (ع) من ذريّته، ليحقق الهدف الأخير الذي لم يستطع الأنبياء أن يحققوه بالشكل الشمولي، وهو العدل الشامل، أن تكون الأرض كلها عدلاً، وأن لا يبقى هناك ظلم على الصعيد الفردي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لينزع الإنسان ـ بروحية الرسالة والإسلام ـ الظلم من عقله وقلبه وحياته.

إننا عندما نقف في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع)، الذي أخذ لقب العسكري لأنه كان يسكن في بلدة "سامراء" في العراق، في محلّة اسمها "العسكر"، فنُسب إلى تلك المحلّة كما ينسب الناس إلى أية محلّة يسكنونها.. وقد عانى الإمام العسكري (ع) من خلفاء زمانه من العباسيين الكثير الكثير، وكان العباسيون في سيرتهم مع الأئمة من أهل البيت (ع) يعملون على مراقبة كل أوضاعهم، في حياتهم مع الناس وفي ثقة الناس بهم والتفافهم حولهم واعتقادهم بإمامتهم، فكانوا يخافون منهم، كانوا لا يخافون من أن يخطّطوا لانقلاب عسكري ضدهم، بل كانوا يخافون من التخطيط لانقلاب روحي وقيمي وأخلاقي ضدهم..

كان أهل البيت (ع) ـ كما هي سيرتهم ـ يزرعون في عقول الناس أن عليهم أن يكونوا مع الحق، لأن الله تعالى هو الحق، وأن يقولوا كلمة الحق بقطع النظر عن ردّ الفعل في ذلك، انسجاماً مع قولـه تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، كانوا يعلّمون الناس أن يتحركوا بالعدل في بيوتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانوا يؤكّدون للناس أن لا تسقط إنسانيتهم بفعل ضغط الذين يريدون إلغاء إنسانية الإنسان، وكان الطغاة في كل زمان ومكان ـ ولا يزالون ـ يخافون أن يستيقظ الإنسان على الإحساس بإنسانيته التي ترفض العبودية وتعمل على إلغاء مواقع الطغاة، لأنهم ـ أي الطغاة ـ لا يريدون أن يعيش الناس معنى الحرية في إرادتهم ومواقفهم حتى يستقيم لهم ملكهم، لأن الناس إذا ما أخذوا بأسباب الحرية وأصبحوا أحراراً في كلماتهم ومواقفهم وكل أوضاعهم، فإن الطغاة لا يستطيعون أن يفرضوا عليهم العبودية.

التركيز على العزة والحرية

تلك هي رسالة أهل البيت (ع) التي أخذوها من القرآن الكريم الذي ركّز العزة للمؤمنين إلى جانب العزة لله ولرسوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، تلك كانت رسالة الأئمة من أهل البيت (ع) التي تحدثوا فيها عما تحدث به جدهم عليّ (ع) ـ رائد الحرية بعد رسول الله (ص) ـ الذي كانت مشكلته مع كل الواقع الذي يحيط به أنه كان يريد للإنسان أن يكون حراً، وقد قال مخاطباً كل إنسان: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

لقد كان الإمام العسكري (ع) يؤكِّد هذه المفاهيم، وكان الخلفاء يخافونه، ولذلك قاموا باضطهاده. وقد نقل أحد سجّانيه في بعض سجون بني العباس، عندما جاءه فريق من العباسيين وطلبوا منه أن يضيّق على الإمام في سجنه للتخلّص منه، فقال لهم: "ما أصنع وقد وكّلت به شر خلق الله حتى يضيّقوا عليه فإذا بهما وقد صارا من خير خلق الله"، ثم استدعاهما وقال لهما: "ماذا بكما"؟ فقالا: "ماذا نصنع لشخص يصوم النهار ويقوم الليل ولا يتكلم إلا بذكر الله، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وأخذتنا هيبته".

غاية في الإجلال والتقدير

ويتحدث أحد الذين عاشوا في أجواء الخلافة العباسية عن المدى الاجتماعي الذي كان يملكه الإمام العسكري حتى في أوساط الخلافة، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، يقول: "ما رأيت ولا عرفت بـ"سرّ من رأى" ـ وهي سامراء ـ من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (ع)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء والكتّاب وعوام الناس، وما سألت عنه أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشائخه وغيرهم، ولم أرَ له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه". وقال عبيد الله بن خاقان ـ أبو هذا الرجل ـ وقد كان من الوزراء: "لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، فإنه يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".

تأكيد على الوحدة الإسلامية

وكان الإمام العسكري (ع) يتحرك في توجيه الشيعة الإمامية الذين اعتقدوا بإمامته وساروا خلفه، وهي وصية لكل جيل من أجيال الإسلام، باعتبار أنها ليست وصايا شخصية محلية، ولكنها وصايا إسلامية في كل مكان وزمان، يقول (ع): "أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم، والاجتهاد في الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، صَلّوا في عشائرهم ـ يريد الإمام العسكري (ع) أن يؤكد للمسلمين الشيعة على الوحدة الإسلامية في التعامل مع المسلمين الآخرين ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: "هذا شيعي"، فيسرّني ذلك.. اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ـ كونوا زيناً لنا بحيث نعتزّ بكم ونقدّم إلى الناس باعتبار أنكم تمثلون الخط الأصيل ـ جرّوا إلينا كل مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدثونهم عن علمنا وفضائلنا وإخلاصنا لله، بدلاً من التحدث مع الناس بلغة اللعن والشتائم والحقد والضغينة ـ وادفعوا عنا كل قبيح ـ من خلال ما يكذب فيه الكاذبون وما يحرّف فيه المحرّفون، أو من خلال ما قد تنسبونه إلينا مما يدخل في حسابات الغلو ـ فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ـ لأننا نعمل على أساس أن يكون الخلق الحسن والقول الحسن والفعل الحسن والهدف الحسن هو الخط الذي ندعو الناس إليه ونأخذ أنفسنا به ـ وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله وقرابة من رسول الله وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب، أكثروا ذكر الله ـ حتى يبقى الله عقيدة في عقولكم، ونبضة في قلوبكم، ووعياً في كل حياتكم ـ وذكر الموت ـ حتى إذا ذكرتم الموت عرفتم حجم الدنيا وعرفتم مسؤوليتكم لتستعدوا وتتزودوا بالتقوى ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي (ص)، فإن الصلاة عليه عشر حسنات. إحفظوا ما وصّيتكم به ـ وهو خطاب لنا جميعاً ـ وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام".

هذا هو خط الأئمة من أهل البيت (ع)، وهو خط يمتد بامتداد الحياة، ويتحرك بحركة الإسلام، لذلك إذا أردنا أن نكون في خط الولاية لهم (ع)، فعلينا أن تكون ولايتنا ولاية الموقف والعمل والخط، لا ولاية العاطفة الساذجة. ويبقى أهل البيت (ع) النور الذي يضيء لنا الطريق، لأنهم عاشوا في خط رسول الله (ص)، ولأنهم كانوا في كل سيرتهم يمثلون القرآن الناطق.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وانطلقوا في الخط المستقيم الذي يجعل الإنسان المسلم في كل مصادره وموارده، وفي كل أوضاعه، الإنسان الذي يعيش المسؤولية بحجم طاقاته الفكرية والعملية، فلا يجلس على التل ولا يبتعد عن ساحة الصراع، بل ينطلق ليكون مع الحق ضد الباطل، ومع الخير ضد الشر. الله تعالى يريد للإنسان المسلم أن يكون الإنسان الذي يراقب الله ولا يراقب غيره، ويخشى الله ولا يخشى غيره، ويعيش الحرية التي منحه الله إياها، فلا يقبل أن يكون عبداً، وأن يواجه الساحة التي يعيش فيها، وأن يدرس كل واقع الإسلام والمسلمين ليكون ـ بحجم قوته ـ قوة لهم جميعاً.

ونحن نعيش في مرحلة من الزمن التي نواجه فيها التحديات الكبرى، لأن المستكبرين المتحالفين مع الكافرين الحاقدين، يعملون على إسقاط الإسلام، ولذلك لا مجال للحياد واللامبالاة، فتعالوا لندرس ماذا في الساحة الإسلامية في مواقع الصراع مع المستكبرين، ولنتعرّف الغشَّ والمكيدة التي يمارسها المستكبرون ليخدعوا المسلمين عن حريتهم واستقلالهم:

توظيف أمريكي للحرب على العراق

قالوا عن حرب أمريكا على العراق إنه الزلزال الذي سوف يهزّ المنطقة العربية والإسلامية كلها، ليجعل عاليها سافلها في السياسة والأمن والاقتصاد.. ويمتد في تأثيراته العنيفة إلى أكثر من محور دولي ولا سيما في آسيا، مع بعض الرسائل الضاغطة على أوروبا..

إن أمريكا تطالب الأمم المتحدة وكل دول العالم بالاعتراف بأنها القطب الأوحد الذي لا يسمح بنشوء قطب جديد، لأنها في ما تزعم لنفسها ـ وحدها ـ الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وعلى الجميع تقديم فروض الطاعة التي تختلف أساليبها ووسائلها باختلاف موازين القوى..

وكانت البداية هي زيارة وزير خارجية أمريكا إلى سوريا ولبنان، في رسالة ضغط تهديدي للعالم العربي والإسلامي بأسلوب دبلوماسي، بأن عليهم أن يتعاملوا مع المتغيّرات الجديدة بطريقة مختلفة عن السابق، لأن الحرب قد أسقطت الجزرة وبقيت العصا، ولذا عليكم أن لا تتدخّلوا في العراق الأمريكي، لأنه لا يُسمح لأية دولة عربية أو إسلامية التدخّل في أية منطقة تخضع للنفوذ الأمريكي ـ حتى لو كانت عربية أو إسلامية ـ وذلك حمايةً للمصالح الأمريكية..

ثم، لا تربكوا أيها العرب والمسلمون ـ بحسب المطالب الأمريكية ـ "خريطة الطريق" لحلّ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ولا تساعدوا الشعب الفلسطيني حتى بالوسائل الإنسانية، ووظّفوا مخابراتكم للضغط على السلطة الفلسطينية لتصفية الانتفاضة التي تربك الأمن الإسرائيلي الذي هو عند أمريكا فوق كل أمنٍ في العالم، وحاصروا الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان، لأن المطلوب هو أن لا يبقى هناك أيّ تهديد للمحتل اليهودي الذي من حقه ـ وحده ـ أن يهدد شعوب المنطقة وأنظمتها؟!

إن أمريكا تريد أن تبدأ في تنفيذ مفاعيل حرب العراق، لإكمال مشروعها الاستكباري لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة، مستغلةً إسقاط نظام الطاغية في العراق الذي كان يمثل الكابوس الجاثم على صدر العراق والمنطقة من خلال ما كانت تقدّمه أمريكا من دعم.. لكننا نعرف ـ كما يعرف الجميع ـ أن ذلك لم يكن لسواد عيون العراقيين، بل لخدمة الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية الأمريكية.

خريطة الطريق: خديعة سياسية

أما "خريطة الطريق" التي يلوّح بها الرئيس الأمريكي تحت مظلة اللجنة الرباعية الدولية، فإنها تمثل الخديعة السياسية التي بدأت إسرائيل تسعى لدى اللوبي اليهودي المتحرّك في مواقع صنع القرار في أمريكا لإسقاطها، بالرغم من أنها لا تحقق أهداف الشعب الفلسطيني، لكن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية مستقلة في فلسطين.. والجميع يعرف أن الرئيس "بوش" عاجز عن الضغط على إسرائيل، لأن "صقور" الإدارة الأمريكية الضالعين في خدمة إسرائيل بكل الوسائل والضغوط ضد العرب لا يوافقونه على ذلك، ولأن السنة المقبلة هي سنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وغيرها، مما لا يسمح له بإغضاب اليهود الأمريكيين الذين يخلصون لإسرائيل أكثر مما يخلصون لأمريكا..

ولذلك، فإننا نجد الموافقة الفلسطينية على هذه الخريطة، التي تبعتها الموافقة العربية، تمثل لوناً من إعلان الضعف والعجز والسذاجة السياسية، ولم يأخذوا بعض الوقت لدراستها وإبداء بعض الملاحظات عليها، لأنهم خائفون من اتهامهم بتعطيل عملية السلام!!

إن على الشعب الفلسطيني ـ بقياداته الجهادية في الانتفاضة وحكومته ـ أن لا يُلدغوا من الجحر مرتين، وقد جرّبوا اتفاق "أوسلو" المذلّ الذي أسقطه اليهود، ليأتي اتفاق الخريطة الذي سوف يسقطونه بدعم أمريكي، في الوقت الذي لا يملك فيه أعضاء اللجنة الرباعية الآخرون أيّ دور في إنقاذ المشروع.. لذلك، لا بد من دراسة المرحلة في نطاق خطة شعب يريد أن يتحرر من الاحتلال، ويحصل على حقوقه الشرعية، لا في نطاق الشعور بالهزيمة التي تنذر بها أمريكا الجميع في حرب العراق.. إنهم لن يستطيعوا إلغاء شعب بأكمله حتى لو أمعنوا فيه تقتيلاً، والمطلوب أن لا يسمح هذا الشعب بتجديد أساليب الخديعة.. إننا لا ندعو إلى المغامرة العشوائية، بل ندعو إلى التخطيط للمستقبل في عملية تنويع للمواقع، وتوزيع للأدوار في حركة التكتيك الذي يحمي الاستراتيجية.

العراق في مهبّ الفوضى

أما العراق، فقد اكتشف العراقيون من خلال المقابر الجماعية، أن كل السجناء السياسيين وغير السياسيين، ومنهم الكبار الكبار من علماء الدين والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية، ومن المجاهدين من الأحزاب الإسلامية وكل أحرار العراق، أن كل هؤلاء قد أُعدموا بشكل جماعي، بحيث تبيّن أن بعض هؤلاء السجناء مقيّدون وهم في قبورهم، ما يعني أنهم قد أُعدِموا وهم مقيّدون، أو أنهم دفنوا وهم أحياء.. حتى إن بعض الشهود العيان يقولون إن الطاغية أعدم في ليلة واحدة ألف شخص.. ولا يزال أهلنا في العراق ينتقلون من مقبرة جماعية إلى مقبرة جماعية، وهذا ما يؤكد ما قلناه في السابق، بأن التاريخ عندما يكشف عن جرائم هذاالطاغية، فإننا لن نجد وحشاً في التاريخ يقترب من وحشيته، فضلاً عن أن يتقدّم عليه في الإجرام وسفك الدماء، هذا الوحش الذي اعتبره بعض السذج أنه بطل العروبة.

هذا ولا يزال العراق في مهبّ الفوضى الأمنية، بحيث لا يأمن أحد على نفسه في بيته ولا في خارج بيته، ولا يأمن على عرضه وأمواله، والفوضى الصحية، فهناك الأمراض التي تفتك بالشعب العراقي وخاصة الأطفال، لا سيما بعد أن دمّر الأمريكيون كل البنية التحتية للخدمات، من ماء وكهرباء إضافة إلى مصادرة الأدوية وإتلافها وتدمير المستشفيات وإفساح المجال للّصوص للنهب والسلب، كل ذلك كان يحصل على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية، وكأنهم يقولون: نحرّركم من الصحة ونحرركم من الأمن ونحرّركم من الحياة ومن كل شيء.

وهنا الفوضى الاجتماعية، حيث لا تزال الأوضاع تمزّق الواقع الشعبي في أكثر من حزبٍ وأكثر من موقع.

والانهيار الاقتصادي، لأن الاحتلال جعل من الشعب العراقي مختبراً للتجارب، في الوقت الذي بدأ يمنح فيه الشركات الأمريكية الاحتكارية أكثر من فرصة لاستغلال الثروات والاستثمارات العراقية..

إننا نقدّر فرحة الشعب العراقي بتحرره من النظام الطاغي، ولكننا نريد للفرح أن يكون عقلانياً واقعياً يحدّق بالواقع والمستقبل، ويدرس الوضع الاقتصادي الذي قد يحوّل الثروات العراقية إلى ثروات منهوبة مرتهنة للعبة الدولية عشرات السنين.. لقد وعدوكم بالمنّ والسلوى، ولكن هل تحقق بعض ذلك؟ إن المسؤولين الأمريكيين عن العراق هم الذين يمثلون إسرائيل بكل سياستهم، ويخططون لتدمير كل المنطقة بحجة الحرب على الإرهاب ـ ومنهم الحاكم الجديد "بريمر" و"غارنر" ـ فأيّ عراق هو العراق الذي يصنعه هؤلاء، والذي يريدون إخضاعه للنفوذ الإسرائيلي الملحق بالنفوذ الأمريكي؟!

إننا نعتقد أن المرحلة تفرض على الجميع في العراق الوحدة الوطنية، والتفاهم على خطة مستقبلية تعيد العراق إلى شعبه، وتحرره من الاحتلال الخارجي الجاثم على أرضه الآن، والذي قد يجتذب في مصالحه احتلالاً داخلياً طاغياً كما صنع في الماضي، باعتبار أن الطاغية المخلوع كان جزءاً من مخابرات هذا الاحتلال..

إنّ الشعب العراقي يملك خزّاناً من الطاقات الثقافية والسياسية والإبداعية، فهو ليس بحاجة إلى وصاية دولية أجنبية.. ولذلك، فإنّ المطلوب هو أن يثبت هذا الشعب للعالم أنه قادر على الإمساك بزمام البلد، والعمل على إعادة دوره الحضاري والقيادي في المنطقة والعالم.

لبنان: مزيداً من العقل والوعي

أما في لبنان، الذي لا يزال يتخبّط بأزمته الاقتصادية، وفي حرتقاته السياسية، وفي مآزقه الخارجية، فإننا نلاحظ في المسار الرسمي، أنه لا يواجه المرحلة في استحقاقاتها المصيرية من خلال الزلزال الذي أصابها، ولا سيما بما يتصل بالتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي الذي يعمل على تفريغ البلد من كل موقع للقوة، ويعمل على تحريك لعبة الفتنة في إعادة بعض الأجواء المثيرة للجدل في العلاقات السورية ـ اللبنانية، بإثارة الملهاة من جديد، لإشغال اللبنانيين عن التهديدات الموجَّهة إليهم، وإرباك الواقع في سوريا التي تواجه الضغوط في أكثر من جانب.

أيها اللبنانيون: مزيداً من العقل والحكمة والوعي والتبصّر والتحديق بالمستقبل، لأن الحاضر المشغول بتفاهاته سوف يُدخل المستقبل في المتاهات، في مرحلة يُراد للمنطقة أن تغيب في أجواء الضباب.

في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع) : "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت ومن أئمتهم الإمام الحادي عشر الإمام الحسن بن علي العسكري (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر.

الأمّة أوّلاً

والحديث عن أهل البيت (ع) حديث متنوّع في العصمة الفكرية والروحية والعملية التي يتمثلون بها، فتنطلق الحقيقة في كل كلمة من كلماتهم، وفي كل سيرة من سيرهم، وفي كل انطلاقة روحية من انطلاقاتهم، صافيةً لا يشوبها أي كدر. وهكذا، عندما نتذكرهم، فإننا نتذكر الطهارة كلها، طهارة العقل والروح واليد واللسان، هذه التي تعطي الناس من طهرها طهر الرسالة، وإذا تذكّرناهم، فإننا نتذكر العلم الواسع الذي انفتح على الوحي، فكان الوحي عمقه وامتداده وآفاقه.

ولأنّ أهل البيت (ع) كانوا مع الناس، يعلّمونهم ويخدمونهم ويقضون لهم حاجاتهم ويسيرون بهم نحو الطريق المستقيم، ويوجّهونهم إلى أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، ويؤكدون عليهم أن يلتزموا بأمور المسلمين، كما قال جدهم عليّ (ع) عندما عصفت العواصف بالمسلمين في قضاياهم الداخلية والخارجية، وكانت الأوضاع السلبية توجَّه إليه في عملية إبعاد عن حقه واضطهاد لموقعه، كان (ع) يقول: "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين"، لأنني مسؤول عن كل أمور المسلمين، ولذلك لا يمكن أن يصدر مني أي قول أو عمل يمكن أن يثير فتنةً، أو يصنع عصبية لحسابات ذاتية. هكذا كان يقول عليّ (ع) عندما كان يعبّر عن تجربته الصعبة، وهكذا ترك للأئمة (ع) من أولاده، وترك للمسلمين من بعده، أنهم إذا وقفوا بين الخاص والعام، فإن عليهم أن يغلّبوا العام على الخاص، وأن يعضّوا على الجراح حتى لا تُجرح الأمة.

العدل الشامل

والإمام العسكري (ع) هو من أهل هذا البيت(ع)، وهو آخر الأئمة الذين ظهروا مع الناس، ثم جاء ولده الإمام المهدي (عج) من أجل أن يعدّه الله تعالى للعدل الشامل في الكون كله، العدل المبني على الإسلام في كل مفاهيمه وقيمه وشرائعه، هذا العدل الذي بدأ الله تعالى به إرسال الرسالات ليقوم الناس بالقسط، ويختم به التجربة الرسالية الأخيرة في رسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله (ص) وحملها الأئمة (ع) من ذريّته، ليحقق الهدف الأخير الذي لم يستطع الأنبياء أن يحققوه بالشكل الشمولي، وهو العدل الشامل، أن تكون الأرض كلها عدلاً، وأن لا يبقى هناك ظلم على الصعيد الفردي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لينزع الإنسان ـ بروحية الرسالة والإسلام ـ الظلم من عقله وقلبه وحياته.

إننا عندما نقف في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع)، الذي أخذ لقب العسكري لأنه كان يسكن في بلدة "سامراء" في العراق، في محلّة اسمها "العسكر"، فنُسب إلى تلك المحلّة كما ينسب الناس إلى أية محلّة يسكنونها.. وقد عانى الإمام العسكري (ع) من خلفاء زمانه من العباسيين الكثير الكثير، وكان العباسيون في سيرتهم مع الأئمة من أهل البيت (ع) يعملون على مراقبة كل أوضاعهم، في حياتهم مع الناس وفي ثقة الناس بهم والتفافهم حولهم واعتقادهم بإمامتهم، فكانوا يخافون منهم، كانوا لا يخافون من أن يخطّطوا لانقلاب عسكري ضدهم، بل كانوا يخافون من التخطيط لانقلاب روحي وقيمي وأخلاقي ضدهم..

كان أهل البيت (ع) ـ كما هي سيرتهم ـ يزرعون في عقول الناس أن عليهم أن يكونوا مع الحق، لأن الله تعالى هو الحق، وأن يقولوا كلمة الحق بقطع النظر عن ردّ الفعل في ذلك، انسجاماً مع قولـه تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، كانوا يعلّمون الناس أن يتحركوا بالعدل في بيوتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانوا يؤكّدون للناس أن لا تسقط إنسانيتهم بفعل ضغط الذين يريدون إلغاء إنسانية الإنسان، وكان الطغاة في كل زمان ومكان ـ ولا يزالون ـ يخافون أن يستيقظ الإنسان على الإحساس بإنسانيته التي ترفض العبودية وتعمل على إلغاء مواقع الطغاة، لأنهم ـ أي الطغاة ـ لا يريدون أن يعيش الناس معنى الحرية في إرادتهم ومواقفهم حتى يستقيم لهم ملكهم، لأن الناس إذا ما أخذوا بأسباب الحرية وأصبحوا أحراراً في كلماتهم ومواقفهم وكل أوضاعهم، فإن الطغاة لا يستطيعون أن يفرضوا عليهم العبودية.

التركيز على العزة والحرية

تلك هي رسالة أهل البيت (ع) التي أخذوها من القرآن الكريم الذي ركّز العزة للمؤمنين إلى جانب العزة لله ولرسوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، تلك كانت رسالة الأئمة من أهل البيت (ع) التي تحدثوا فيها عما تحدث به جدهم عليّ (ع) ـ رائد الحرية بعد رسول الله (ص) ـ الذي كانت مشكلته مع كل الواقع الذي يحيط به أنه كان يريد للإنسان أن يكون حراً، وقد قال مخاطباً كل إنسان: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

لقد كان الإمام العسكري (ع) يؤكِّد هذه المفاهيم، وكان الخلفاء يخافونه، ولذلك قاموا باضطهاده. وقد نقل أحد سجّانيه في بعض سجون بني العباس، عندما جاءه فريق من العباسيين وطلبوا منه أن يضيّق على الإمام في سجنه للتخلّص منه، فقال لهم: "ما أصنع وقد وكّلت به شر خلق الله حتى يضيّقوا عليه فإذا بهما وقد صارا من خير خلق الله"، ثم استدعاهما وقال لهما: "ماذا بكما"؟ فقالا: "ماذا نصنع لشخص يصوم النهار ويقوم الليل ولا يتكلم إلا بذكر الله، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وأخذتنا هيبته".

غاية في الإجلال والتقدير

ويتحدث أحد الذين عاشوا في أجواء الخلافة العباسية عن المدى الاجتماعي الذي كان يملكه الإمام العسكري حتى في أوساط الخلافة، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، يقول: "ما رأيت ولا عرفت بـ"سرّ من رأى" ـ وهي سامراء ـ من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (ع)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء والكتّاب وعوام الناس، وما سألت عنه أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشائخه وغيرهم، ولم أرَ له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه". وقال عبيد الله بن خاقان ـ أبو هذا الرجل ـ وقد كان من الوزراء: "لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، فإنه يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".

تأكيد على الوحدة الإسلامية

وكان الإمام العسكري (ع) يتحرك في توجيه الشيعة الإمامية الذين اعتقدوا بإمامته وساروا خلفه، وهي وصية لكل جيل من أجيال الإسلام، باعتبار أنها ليست وصايا شخصية محلية، ولكنها وصايا إسلامية في كل مكان وزمان، يقول (ع): "أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم، والاجتهاد في الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، صَلّوا في عشائرهم ـ يريد الإمام العسكري (ع) أن يؤكد للمسلمين الشيعة على الوحدة الإسلامية في التعامل مع المسلمين الآخرين ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: "هذا شيعي"، فيسرّني ذلك.. اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ـ كونوا زيناً لنا بحيث نعتزّ بكم ونقدّم إلى الناس باعتبار أنكم تمثلون الخط الأصيل ـ جرّوا إلينا كل مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدثونهم عن علمنا وفضائلنا وإخلاصنا لله، بدلاً من التحدث مع الناس بلغة اللعن والشتائم والحقد والضغينة ـ وادفعوا عنا كل قبيح ـ من خلال ما يكذب فيه الكاذبون وما يحرّف فيه المحرّفون، أو من خلال ما قد تنسبونه إلينا مما يدخل في حسابات الغلو ـ فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ـ لأننا نعمل على أساس أن يكون الخلق الحسن والقول الحسن والفعل الحسن والهدف الحسن هو الخط الذي ندعو الناس إليه ونأخذ أنفسنا به ـ وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله وقرابة من رسول الله وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب، أكثروا ذكر الله ـ حتى يبقى الله عقيدة في عقولكم، ونبضة في قلوبكم، ووعياً في كل حياتكم ـ وذكر الموت ـ حتى إذا ذكرتم الموت عرفتم حجم الدنيا وعرفتم مسؤوليتكم لتستعدوا وتتزودوا بالتقوى ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي (ص)، فإن الصلاة عليه عشر حسنات. إحفظوا ما وصّيتكم به ـ وهو خطاب لنا جميعاً ـ وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام".

هذا هو خط الأئمة من أهل البيت (ع)، وهو خط يمتد بامتداد الحياة، ويتحرك بحركة الإسلام، لذلك إذا أردنا أن نكون في خط الولاية لهم (ع)، فعلينا أن تكون ولايتنا ولاية الموقف والعمل والخط، لا ولاية العاطفة الساذجة. ويبقى أهل البيت (ع) النور الذي يضيء لنا الطريق، لأنهم عاشوا في خط رسول الله (ص)، ولأنهم كانوا في كل سيرتهم يمثلون القرآن الناطق.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وانطلقوا في الخط المستقيم الذي يجعل الإنسان المسلم في كل مصادره وموارده، وفي كل أوضاعه، الإنسان الذي يعيش المسؤولية بحجم طاقاته الفكرية والعملية، فلا يجلس على التل ولا يبتعد عن ساحة الصراع، بل ينطلق ليكون مع الحق ضد الباطل، ومع الخير ضد الشر. الله تعالى يريد للإنسان المسلم أن يكون الإنسان الذي يراقب الله ولا يراقب غيره، ويخشى الله ولا يخشى غيره، ويعيش الحرية التي منحه الله إياها، فلا يقبل أن يكون عبداً، وأن يواجه الساحة التي يعيش فيها، وأن يدرس كل واقع الإسلام والمسلمين ليكون ـ بحجم قوته ـ قوة لهم جميعاً.

ونحن نعيش في مرحلة من الزمن التي نواجه فيها التحديات الكبرى، لأن المستكبرين المتحالفين مع الكافرين الحاقدين، يعملون على إسقاط الإسلام، ولذلك لا مجال للحياد واللامبالاة، فتعالوا لندرس ماذا في الساحة الإسلامية في مواقع الصراع مع المستكبرين، ولنتعرّف الغشَّ والمكيدة التي يمارسها المستكبرون ليخدعوا المسلمين عن حريتهم واستقلالهم:

توظيف أمريكي للحرب على العراق

قالوا عن حرب أمريكا على العراق إنه الزلزال الذي سوف يهزّ المنطقة العربية والإسلامية كلها، ليجعل عاليها سافلها في السياسة والأمن والاقتصاد.. ويمتد في تأثيراته العنيفة إلى أكثر من محور دولي ولا سيما في آسيا، مع بعض الرسائل الضاغطة على أوروبا..

إن أمريكا تطالب الأمم المتحدة وكل دول العالم بالاعتراف بأنها القطب الأوحد الذي لا يسمح بنشوء قطب جديد، لأنها في ما تزعم لنفسها ـ وحدها ـ الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وعلى الجميع تقديم فروض الطاعة التي تختلف أساليبها ووسائلها باختلاف موازين القوى..

وكانت البداية هي زيارة وزير خارجية أمريكا إلى سوريا ولبنان، في رسالة ضغط تهديدي للعالم العربي والإسلامي بأسلوب دبلوماسي، بأن عليهم أن يتعاملوا مع المتغيّرات الجديدة بطريقة مختلفة عن السابق، لأن الحرب قد أسقطت الجزرة وبقيت العصا، ولذا عليكم أن لا تتدخّلوا في العراق الأمريكي، لأنه لا يُسمح لأية دولة عربية أو إسلامية التدخّل في أية منطقة تخضع للنفوذ الأمريكي ـ حتى لو كانت عربية أو إسلامية ـ وذلك حمايةً للمصالح الأمريكية..

ثم، لا تربكوا أيها العرب والمسلمون ـ بحسب المطالب الأمريكية ـ "خريطة الطريق" لحلّ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ولا تساعدوا الشعب الفلسطيني حتى بالوسائل الإنسانية، ووظّفوا مخابراتكم للضغط على السلطة الفلسطينية لتصفية الانتفاضة التي تربك الأمن الإسرائيلي الذي هو عند أمريكا فوق كل أمنٍ في العالم، وحاصروا الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان، لأن المطلوب هو أن لا يبقى هناك أيّ تهديد للمحتل اليهودي الذي من حقه ـ وحده ـ أن يهدد شعوب المنطقة وأنظمتها؟!

إن أمريكا تريد أن تبدأ في تنفيذ مفاعيل حرب العراق، لإكمال مشروعها الاستكباري لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة، مستغلةً إسقاط نظام الطاغية في العراق الذي كان يمثل الكابوس الجاثم على صدر العراق والمنطقة من خلال ما كانت تقدّمه أمريكا من دعم.. لكننا نعرف ـ كما يعرف الجميع ـ أن ذلك لم يكن لسواد عيون العراقيين، بل لخدمة الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية الأمريكية.

خريطة الطريق: خديعة سياسية

أما "خريطة الطريق" التي يلوّح بها الرئيس الأمريكي تحت مظلة اللجنة الرباعية الدولية، فإنها تمثل الخديعة السياسية التي بدأت إسرائيل تسعى لدى اللوبي اليهودي المتحرّك في مواقع صنع القرار في أمريكا لإسقاطها، بالرغم من أنها لا تحقق أهداف الشعب الفلسطيني، لكن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية مستقلة في فلسطين.. والجميع يعرف أن الرئيس "بوش" عاجز عن الضغط على إسرائيل، لأن "صقور" الإدارة الأمريكية الضالعين في خدمة إسرائيل بكل الوسائل والضغوط ضد العرب لا يوافقونه على ذلك، ولأن السنة المقبلة هي سنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وغيرها، مما لا يسمح له بإغضاب اليهود الأمريكيين الذين يخلصون لإسرائيل أكثر مما يخلصون لأمريكا..

ولذلك، فإننا نجد الموافقة الفلسطينية على هذه الخريطة، التي تبعتها الموافقة العربية، تمثل لوناً من إعلان الضعف والعجز والسذاجة السياسية، ولم يأخذوا بعض الوقت لدراستها وإبداء بعض الملاحظات عليها، لأنهم خائفون من اتهامهم بتعطيل عملية السلام!!

إن على الشعب الفلسطيني ـ بقياداته الجهادية في الانتفاضة وحكومته ـ أن لا يُلدغوا من الجحر مرتين، وقد جرّبوا اتفاق "أوسلو" المذلّ الذي أسقطه اليهود، ليأتي اتفاق الخريطة الذي سوف يسقطونه بدعم أمريكي، في الوقت الذي لا يملك فيه أعضاء اللجنة الرباعية الآخرون أيّ دور في إنقاذ المشروع.. لذلك، لا بد من دراسة المرحلة في نطاق خطة شعب يريد أن يتحرر من الاحتلال، ويحصل على حقوقه الشرعية، لا في نطاق الشعور بالهزيمة التي تنذر بها أمريكا الجميع في حرب العراق.. إنهم لن يستطيعوا إلغاء شعب بأكمله حتى لو أمعنوا فيه تقتيلاً، والمطلوب أن لا يسمح هذا الشعب بتجديد أساليب الخديعة.. إننا لا ندعو إلى المغامرة العشوائية، بل ندعو إلى التخطيط للمستقبل في عملية تنويع للمواقع، وتوزيع للأدوار في حركة التكتيك الذي يحمي الاستراتيجية.

العراق في مهبّ الفوضى

أما العراق، فقد اكتشف العراقيون من خلال المقابر الجماعية، أن كل السجناء السياسيين وغير السياسيين، ومنهم الكبار الكبار من علماء الدين والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية، ومن المجاهدين من الأحزاب الإسلامية وكل أحرار العراق، أن كل هؤلاء قد أُعدموا بشكل جماعي، بحيث تبيّن أن بعض هؤلاء السجناء مقيّدون وهم في قبورهم، ما يعني أنهم قد أُعدِموا وهم مقيّدون، أو أنهم دفنوا وهم أحياء.. حتى إن بعض الشهود العيان يقولون إن الطاغية أعدم في ليلة واحدة ألف شخص.. ولا يزال أهلنا في العراق ينتقلون من مقبرة جماعية إلى مقبرة جماعية، وهذا ما يؤكد ما قلناه في السابق، بأن التاريخ عندما يكشف عن جرائم هذاالطاغية، فإننا لن نجد وحشاً في التاريخ يقترب من وحشيته، فضلاً عن أن يتقدّم عليه في الإجرام وسفك الدماء، هذا الوحش الذي اعتبره بعض السذج أنه بطل العروبة.

هذا ولا يزال العراق في مهبّ الفوضى الأمنية، بحيث لا يأمن أحد على نفسه في بيته ولا في خارج بيته، ولا يأمن على عرضه وأمواله، والفوضى الصحية، فهناك الأمراض التي تفتك بالشعب العراقي وخاصة الأطفال، لا سيما بعد أن دمّر الأمريكيون كل البنية التحتية للخدمات، من ماء وكهرباء إضافة إلى مصادرة الأدوية وإتلافها وتدمير المستشفيات وإفساح المجال للّصوص للنهب والسلب، كل ذلك كان يحصل على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية، وكأنهم يقولون: نحرّركم من الصحة ونحرركم من الأمن ونحرّركم من الحياة ومن كل شيء.

وهنا الفوضى الاجتماعية، حيث لا تزال الأوضاع تمزّق الواقع الشعبي في أكثر من حزبٍ وأكثر من موقع.

والانهيار الاقتصادي، لأن الاحتلال جعل من الشعب العراقي مختبراً للتجارب، في الوقت الذي بدأ يمنح فيه الشركات الأمريكية الاحتكارية أكثر من فرصة لاستغلال الثروات والاستثمارات العراقية..

إننا نقدّر فرحة الشعب العراقي بتحرره من النظام الطاغي، ولكننا نريد للفرح أن يكون عقلانياً واقعياً يحدّق بالواقع والمستقبل، ويدرس الوضع الاقتصادي الذي قد يحوّل الثروات العراقية إلى ثروات منهوبة مرتهنة للعبة الدولية عشرات السنين.. لقد وعدوكم بالمنّ والسلوى، ولكن هل تحقق بعض ذلك؟ إن المسؤولين الأمريكيين عن العراق هم الذين يمثلون إسرائيل بكل سياستهم، ويخططون لتدمير كل المنطقة بحجة الحرب على الإرهاب ـ ومنهم الحاكم الجديد "بريمر" و"غارنر" ـ فأيّ عراق هو العراق الذي يصنعه هؤلاء، والذي يريدون إخضاعه للنفوذ الإسرائيلي الملحق بالنفوذ الأمريكي؟!

إننا نعتقد أن المرحلة تفرض على الجميع في العراق الوحدة الوطنية، والتفاهم على خطة مستقبلية تعيد العراق إلى شعبه، وتحرره من الاحتلال الخارجي الجاثم على أرضه الآن، والذي قد يجتذب في مصالحه احتلالاً داخلياً طاغياً كما صنع في الماضي، باعتبار أن الطاغية المخلوع كان جزءاً من مخابرات هذا الاحتلال..

إنّ الشعب العراقي يملك خزّاناً من الطاقات الثقافية والسياسية والإبداعية، فهو ليس بحاجة إلى وصاية دولية أجنبية.. ولذلك، فإنّ المطلوب هو أن يثبت هذا الشعب للعالم أنه قادر على الإمساك بزمام البلد، والعمل على إعادة دوره الحضاري والقيادي في المنطقة والعالم.

لبنان: مزيداً من العقل والوعي

أما في لبنان، الذي لا يزال يتخبّط بأزمته الاقتصادية، وفي حرتقاته السياسية، وفي مآزقه الخارجية، فإننا نلاحظ في المسار الرسمي، أنه لا يواجه المرحلة في استحقاقاتها المصيرية من خلال الزلزال الذي أصابها، ولا سيما بما يتصل بالتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي الذي يعمل على تفريغ البلد من كل موقع للقوة، ويعمل على تحريك لعبة الفتنة في إعادة بعض الأجواء المثيرة للجدل في العلاقات السورية ـ اللبنانية، بإثارة الملهاة من جديد، لإشغال اللبنانيين عن التهديدات الموجَّهة إليهم، وإرباك الواقع في سوريا التي تواجه الضغوط في أكثر من جانب.

أيها اللبنانيون: مزيداً من العقل والحكمة والوعي والتبصّر والتحديق بالمستقبل، لأن الحاضر المشغول بتفاهاته سوف يُدخل المستقبل في المتاهات، في مرحلة يُراد للمنطقة أن تغيب في أجواء الضباب.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية