ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
المولد انطلاقة رسالية
في ذكرى المولد النبوي الشريف نولد في رسالته، لأن ولادة النبي (ص) ليست في هذا الوجود الطبيعي الذي يلتقي فيه مع كل بشر، ولكنها ولادة الرسالة التي تنفتح على الناس جميعاً، فلا تختص بجماعة دون جماعة، ولا بجيل دون جيل، بل هي رسالة الله إلى الحياة كلها: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}، وهي الرحمة التي يرحم الله بها العالمين عندما يهديهم إلى ما يجعل من حياتهم عقلاً يتحمّل مسؤولية إنتاج الفكر الحق، وقلباً ينبض بالمحبة، وحركةً تنطلق في خط العدل، من أجل أن يعيش الناس الحضارة الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الحضارة التشريعية.
لذلك، فإنّنا عندما ننطلق لنستعيد ذكراه(ص)، فإنّ علينا أن لا نجمّد هذه الذكرى بالطريقة التقليدية التي يأخذ بها بعض الناس من المسلمين، وذلك بأن يلتقوا ليقرأوا المولد بشكل جامد من دون أن يتحسسوا معناه، أو أن يلتقوا في عملية لهو يبعدهم عن الرسول (ص).. المولد هو انطلاقة رسالية تجعلنا نشعر بحضور رسول الله (ص) فينا كما لو كنا نشاهده ونسمعه ونسير خلف خطواته ونقتدي به، لأن رسول الله (ص) هو الهدى الذي أرسله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ففي كل مرحلة من مراحل حياتنا التي ينتشر فيها الظلام الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي، نستحضر رسول الله (ص) ليعطينا النور من عقله وقلبه وروحه وسيرته: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور}.
الأسوة الحسنة
وإذا تذكّرنا رسول الله(ص)، فإن علينا أن نتذكّر سيرته في أخلاقه وأسلوبه في الحياة، وقد أراد الله تعالى منّا أن نقدّم رسول الله (ص) في حياتنا ليكون القدوة بعد أن كان في دعوته الرسالة: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}، وإذا أردنا أن نعبّر عن حبنا لله، فإن حبنا له سبحانه يفرض علينا اتّباع رسول الله (ص) في كلماته وسيرته: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
وقد مدح الله تعالى رسوله (ص) بالخُلُق العظيم كما لم يمدحه في أيّ صفة من صفات الكمال في شخصيته، وكل صفاته صفات كمال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، لأنّ الله تعالى يريد للإنسان في هذه الحياة أن يعيش أخلاقيته كقيمة يحملها في فكره وقلبه وحياته، لأن الأخلاق تمثّل عمق إنسانيتك، فأنت عندما تكون إنسان الأخلاق فلن تكون أنانياً، بل تحبّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك وتكره له ما تكره لها، لأنّ صاحب الأخلاق لا يعيش في زنزانة نفسه، فالأخلاق لا تنحصر في جانب دون جانب، فإذا كنت تؤمن بالخير كقيمة أخلاقية، فإنّ الخير حقك في معاملات الناس معك، كما هو حق الناس في معاملتك معهم، أن تكون إنسان الأخلاق في نفسك، فلا تتحرك في حياتك الفردية إلا بما يؤكد القيمة الأخلاقية، وإذا كنت تتحرك في بيتك فإن عليك أن تحترم إنسانية الذين تتحمّل المسؤولية العائلية تجاههم، أن لا تكون في بيتك الإنسان الذي يعتبر أنه هو الشخص الذي يحترمه أهل البيت وليس عليه أن يحترم الذين معه من أطفال ونساء وشيوخ، لأن الإنسان صاحب الأخلاق هو الذي تنطلق أخلاقيته كما ينطلق الماء من الينابيع بشكل عفوي لا بشكل متكلّف.
وهكذا نجد أنّ الله تعالى وصف رسوله (ص) في تعامله مع الناس وانفتاحه عليهم، وكيف كانت مشاعره تجاههم، كيف كان سلوكه معهم، ونظرته إليهم، وهو سيد الخلق الذي رفع الله درجته بما يميّزه عن الناس. لقد كان النبي(ص) يعيش مع الناس بإنسانية صافية منفتحة، يفكر في كل آلامهم وقضاياهم ومشاكلهم ومتاعبهم، كان(ص) يحضن الناس الذين يعيش معهم بروحه وجهده وبكل ما يملك من طاقة: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم ـ يحرص عليكم حتى لا تقعوا في الجهل، ولا تتمزقوا وتتفرقوا، يحرص عليكم ليربيكم ويحوّلكم إلى مجتمع يتكامل ويتعاون وينفتح بعضه على بعض ـ بالمؤمنين، رؤوف رحيم}، خُلقه الرأفة بالمؤمنين فلا يقسو عليهم ولا يسقطهم، بل يرحم ظروفهم وأفكارهم وأخطاءهم وكل أوضاعهم في الحياة.
كان النبي (ص) منفتح القلب، كان صاحب القلب الرقيق اللين الواسع، وكان لسانه اللسان اللين الذي لا يصدر منه إلا الكلمة الطيبة الحانية الرحيمة التي تتحرك من أجل أن تفتح قلوب الناس على الله وعلى الحق: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا جميعاً ـ وهو يريدنا أن نقتدي برسول الله (ص) في أخلاقه ـ إنّ رسولكم كان يحمل القلب المفتوح على الناس كلهم، القلب الذي ينبض بالمحبة لمن حوله، والذي يخفق بالخير للناس الذين يعيشون معه، فكونوا القلوب الطيبة الواسعة التي لا تضيق بأحد ولا تتعقّد من أحد ولا تحقد على أحد، ولقد كان رسولكم ـ أيها الناس ـ لين الكلمة ودافئ اللسان، كان لا يسب ولا يفحش في كلامه، وكان لا يؤذي الناس في ما يصدر عنه من كلمات، كان رحمةً للناس في كل كلماته، كلمته الرأفة والرحمة، والتي كان إذا سمعها الناس ـ في بيته ومسجده ـ كانوا يشعرون بالأمن والطمأنينة.
اختيار الكلمة والأسلوب الأحسن
لقد أراد الله تعالى للنبيّ (ص) في رسالته أن يتوجّه إلى الناس ليقول لهم: إنكم عندما تملكون الشخصية الاجتماعية ـ كلٌ بحسب ما يملك من فكر وقضية وعلاقات بالناس ـ فإنّ عليكم أن تتعلّموا ثقافة الكلمة، فهناك الكلمة السيئة والكلمة الأسوأ، وهناك الكلمة الحسنة والكلمة الأحسن، فإذا أردتم أن تتكلموا في البيت والمجتمع اختاروا الكلمة الأحسن، لأن الشيطان يدخل في الكلمة السيئة ليثير مشكلة هنا ويحرك فتنة هناك من خلال كلمة تقولها: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ـ عندما يتكلمون مع الناس الأقربين والأبعدين، حتى لا يقعوا في حبائل الشيطان ـ إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}، فكم من كلمة أحرقت مجتمعاً، وقتلت إنساناً، وأثارت فتنة هنا وهناك!!!
ويؤكد الله تعالى على العاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يكون لهم المنهج الذي يعرفون فيه كيف يفتحون قلوب الناس على كلمة الله والدعوة إليه، فلا يكفي أن يكون للداعية إلى الله ثقافة الفكرة، بل أن يكون لديه ثقافة الأسلوب، لأن هناك أسلوباً يفتح القلب وآخر يغلقه، كما أن تكون له ثقافة الكلمات التي يطلقها، لأن هناك كلمة "تحبب" وكلمة "تبغّض"، وكثيراً ما نردد المثل الشعبي: "كلمة بتحنن وكلمة بتجنن" والفارق بينهما نقطة، وفي بعض الحالات نحتاج أن نضع النقطة على هذا الحرف وفي وقت آخر نحتاج أن نحذفها، وليس معنى ذلك أن لا نقول كلمة الحق، بل أن نختار الأسلوب الأحسن لنعرف كيف نصوغ كلمة الحق وكيف نُلبسها للآخرين..
ثم، يؤكد الله تعالى في كتابه الكريم ـ مما كان النبي (ص) يدعو إليه ـ على مسألة الحلول السلمية بدلاً من الحلول العنيفة، فيقول تعالى: {ولا تستوي الحسنة ـ وهي الأسلوب السلمي الذي يحبِّب ولا يبغّض، ويوحّد ولا يفرّق ـ ولا السيئة ـ وهي أسلوب العنف والقسوة ـ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ـ أختر الأسلوب الذي يحوّل عدوّك إلى صديق، بدلاً مما نعمله نحن من تحويل أصدقائنا إلى أعداء ـ وما يلقّاها إلا الذين صبروا ـ لأن هذه المهمة ليست سهلة، لا سيما عندما يغرق الإنسان في توتره وانفعالاته ـ وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم}، حظ عظيم من الوعي والإنسانية والتقوى.
الاهتداء بالقرآن
لقد كان خلق رسول الله (ص) هو القرآن، وأرادنا أن نأخذ بالقرآن كله، أن نقرأه لنهتدي به ونستنير به، وقد كان خلقه خلق المحبة والسلام والخير والعدل، فإذا كنتم تحبون رسول الله (ص) فاقتدوا به، وانفتحوا عليه، وادرسوا كل سيرته.. لقد كان (ص) رحمة للعالمين، وعلينا أن لا نضيّع هذه الرحمة، وأن لا نبتعد عنها، ولا نجمّد فكر رسول الله (ص) في تقاليدنا، بل أن نجدده في كل مرحلة من مراحل حياتنا، لأننا بحاجة إلى رسول الله (ص) الذي كان يقول: "ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت"، والذي كان يجلس بين يدي ربه والدماء تسيل من وجهه ليقول: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي"، أن نحمل هذا الشعار، أن نقول الكلمة الحق بالمنهج الحق، والأسلوب الحق، والموقع الحق، ولا ننظر إلى الناس هل يقبلوننا أم لا، بل أن نحدّق بالله تعالى هل يرضى عنا أو لا يرضى، لأننا إذا انطلقنا مع الله الواحد بالكلمة التي يرضاها فإننا لن نسقط، أما إذا عشنا مع الناس ليرضوا عنا فسندخل في متاهات، لأن هناك من يرضى وهناك من يغضب، وهناك من يلاحظ مصالحه ومطامعه. وقد قال بعض الشعراء وهو يصوّر هذه الحالة:
فليتك تحلو والحياة مريرة |
وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر |
وبيني وبين العالمين خراب |
"إن الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما".
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله الذي يريد لكم العزة كما يريدها لنفسه ولرسوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، فالله تعالى فوّض إلى المؤمن جميع أموره ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، والله تعالى يريد من الرسل كلهم ومن أتباعهم، ولا سيما أتباع رسالة محمد (ص) أن يؤمنوا بوحدة الأمة، ويريد لنا أن نعتصم بحبل الله جميعاً ولا نتفرّق..
إن الله تعالى يريد منا أن نقف صفاً واحداً أمام كل التحديات، سواء كانت تحديات سياسية أو ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، لأن الله يريد لنا أن نكون أمةً واحدة لنواجه العدو من موقع واحد، لا سيما مع التحديات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي في هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها الأمة، فما هي صورة العالم الإسلامي في ذكرى المولد النبوي الشريف؟؟
العالم الإسلامي: الافتقاد لحرية القرار
ـ أولاً: ليس هناك عالمٌ إسلامي ـ على مستوى الأنظمة ـ يلتقي على عنوان إسلامي سياسي واقتصادي وأمني وثقافي، من خلال خطة مدروسة متكاملة في نطاق استراتيجية ثابتة، بل هناك دول متناثرة، ومصالح متضاربة، ومحاور خاصة لأكثر من محور دوليّ، وخلافات حادّة قد تتحوّل إلى قطيعة سياسية أو اقتصادية أو إرباكات أمنية واحتلالات مجنونة، واستعانة بالدول الكبرى للتدخّل في شؤونها ضد ظلم بعضها لبعض..
إن مشكلة هذه الدول الإسلامية أنها لا تملك حرية التحرّك لحلّ مشاكلها بقرار مستقل، بالرغم من ترسانة السلاح الهائلة التي أهدرت ميزانياتها الاقتصادية من أجل شرائها لتتحوّل إلى قطع جامدة لا نفع فيها بعد حين، لأن قرار الحرب والسلم والحلول السياسية والإقليمية خاضع لقرار الاستكبار العالمي ـ ولا سيما الأمريكي ـ وهكذا رأينا كيف أن "منظمة المؤتمر الإسلامي"، التي أُريد لها أن تكون حلاً للواقع الإسلامي، أصبحت مشكلةً له لتتحوّل إلى موقع من مواقع الآخرين لحماية مصالحهم؟!
عجزٌ إسلامي تجاه القضايا المصيرية
وهكذا، رأينا كيف أن العالم الإسلامي ـ وفي مقدمته العالم العربي ـ لم يستطع أن يحقِّق للقضية الفلسطينية شيئاً، ولم يتمكّن من منع اليهود من تدمير الشعب الفلسطيني بشكل كامل، بل إنّه خضع للضغوط الأمريكية ـ الإسرائيلية في سقوطه أمام السياسة الموضوعة لتصفية الانتفاضة، وللدخول في متاهات الطروحات الأمريكية ـ الدولية التي تحسب حساب إسرائيل في كلِّ تحفّظاتها واعتراضاتها، ولا تحسب حساب العرب والمسلمين لأنهم كفّوا عن أن يكونوا قوة ضاغطة، بل تحوّلوا إلى قوة خاضعة مضغوطة..
وهذا ما لاحظناه في الحديث عن "خريطة الطريق" التي رفضتها إسرائيل، حتى إن "شارون" اعتبرها غير موجودة، ولم يصدر أيّ صوت دولي يعترض على ذلك، حتى من اللجنة الرباعية الدولية صاحبة المشروع، لأن إسرائيل تعتبر أن قوتها هي قوة أمريكا التي تؤيدها بالمطلق، ولذلك أصبحت الدولة المخيفة للعالم، المحتقرة للأمم المتحدة، لأن أمريكا بالمرصاد لكل من يعارضها؟؟
ولعلّ من الملفت أن بعض الذين يرأسون "منظمة المؤتمر الإسلامي" يلتقون مع وزير خارجية العدو، في عملية إيحاء بإقامة علاقات دبلوماسية معه، في الوقت الذي يسقط فيه الشهداء والجرحى من الشعب الفلسطيني، وتدمَّر بيوته على رؤوس أصحابها، وذلك تحت عنوان "خدمة السلام وإنقاذ القضية الفلسطينية"، مما تضحك معه الثكلى؟!
ثم إنّ هذا العالم الإسلامي ـ ومعه العالم العربي ـ لم يحرّك ساكناً في مساعدة الشعب العراقي على التخلّص من وحشية نظامه، على أساس إنقاذ المصير العربي والإسلامي من احتلال جديد تحت تأثير شعار خادع وهو "تحرير العراق من الحكم الطاغي".. وهكذا، رأينا كيف دخل هذا البلد العربي والإسلامي في النفق الأمريكي المظلم الذي يريد السيطرة على كلّ مقدّراته، ويتدخّل في صياغة مستقبله الاقتصادي والسياسي والأمني، ليكون قاعدةً للمصالح الأمريكية في المنطقة.. ولا يزال الشعب العراقي يعيش في داخل الدوّامة، وفي المتاهات الضائعة في الضباب، لأنه لا يملك القيادة الميدانية على أكثر من صعيد، ولا يملك الخطة الواسعة لصنع المستقبل، لأن أمره ليس بيده بل بيد المحتلّ، الذي يعمل ـ ولو تحت الضباب ـ لصنع القيادات السياسية التي تحمي مصالحه..
وهكذا، ننتقل إلى أكثر من بلد من بلدان الإسلام، لنجد أمامنا المشاكل والمآزق التي يتخبط فيها، وفي مقدمتها "كشمير" التي لم تجد حلاًّ، وأفغانستان التي لا تزال تعيش في داخل الفوضى، وباكستان التي تهتز بين وقت وآخر، بالإضافة إلى أن ثروات العالم الإسلامي خاضعة للاقتصاد الاستكباري وإلى حفنة من الناس الذين صادروا ثروات الشعوب عائلياً وشخصياً، وتركوا الشعوب تعيش الجوع والحرمان.
الوحدة الإسلامية مصدر القوة
ـ ثانياً: أما واقع الأمة الإسلامية في الساحة الشعبية العامة، فهناك الكثير من الإيجابيات في الوحدة الشعورية العاطفية تجاه القضايا الإسلامية المصيرية، وفي الأجواء العبادية الجماعية التي يلتقي فيها المسلمون في صلاة الجمعة أو الجماعة، وفريضة الحج والعمرة، وغير ذلك من المناسبات الإسلامية المرتبطة بالتاريخ الإسلامي والشخصيات المقدّسة في الوجدان الإسلامي، ما يعطي للعالم صورة الأمة في أكثر من بُعد روحي واجتماعي وعاطفي..
ولكننا إلى جانب ذلك، نلاحظ العصبيات المذهبية المتجذّرة في الواقع الإسلامي، بحيث تحوّلت المذهبيات إلى حالات طائفية عصبية تختزن التكفير والتضليل لاختلاف في رأي أو اجتهاد، أو في قضية تاريخية مثيرة للجدل، حتى إن المذهبية تركت تأثيرها على وحدة المسجد الإسلامي، فأصبح لكلِّ طائفة مسجدها الذي يلتقي فيه أتباعها بعيداً عن أتباع الطائفة الأخرى.. وهكذا استطاع الكفر والاستكبار أن يستفيد من ذلك في تعميق الخلافات، وتحويلها إلى فتن وحروب تأكل الأخضر واليابس، وأصبح دعاة الوحدة الإسلامية بالطريقة الواقعية يُتهَمون بانحرافهم عن خط الالتزام بمذاهبهم بفعل عصبية الغوغاء والمتخلّفين..
إن على المسلمين أن يعرفوا أن الوحدة الإسلامية هي مصدر قوتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية، فعليهم أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، ويتحاوروا موضوعياً بالعودة إلى الكتاب والسنّة في ما اختلفوا فيه، انسجاماً مع قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}..
استنطاق المنهج القرآني
وهناك مشكلة أخرى، وهي مشكلة السلفية المتعصّبة المختنقة بالجمود والتخلّف، بعيداً عن الاجتهاد المنفتح على مقاصد الشريعة وعن دراسة الواقع في سلبياته وإيجابياته، وهذا ما نتمثّله في اعتبار العنف وسيلة للوصول إلى الأهداف من دون دراسة للنتائج في الواقع، ما قد يؤدي إلى إيقاع المسلمين في أكثر من مشكلة سياسية واقتصادية وأمنية، لا سيما عندما يستهدف هؤلاء المدنيين الذين لا علاقة لهم بالهدف السياسي الذي يواجهونه، كما حدث في أمريكا في 11 أيلول، وكما حدث في الرياض مؤخراً، ما أدّى إلى اتهام الإسلام بالإرهاب والعنف، والإضرار بالإسلام والمسلمين على أكثر من صعيد..
إننا ندعو إلى استنطاق المنهج القرآني الذي يضع للعنف في مواجهة العنف قواعده، وللرفق موارده، ويجعل للجهاد ساحاته وظروفه في خط المواجهة للاحتلال والدفاع عن الأمة، ولكنه يستنكر قتل المدنيين الأبرياء خارج ظروف الحرب الحارّة.. إننا نريد أن نعيش مع العالم من خلال مبادئنا وأخلاقياتنا ومناهجنا الإنسانية، بعيداً عن التطرف الذي يبتعد عن الخط المستقيم على قاعدة التوازن.
التخطيط لحلّ المشاكل ونصرة القضايا
ـ ثالثاً: إن على المسلمين في ذكرى المولد النبوي الشريف أن يجدوا السبيل إلى وحدتهم، ويخطّطوا لحلِّ مشاكلهم، ولنصرة قضاياهم، ولا سيما مواجهة الاحتلال اليهودي لفلسطين الذي مرّ عليه 55 سنة، والاحتلال الأمريكي للعراق، ولنصرة الشعبين الفلسطيني والعراقي بالموقف الحاسم، والقوة العاقلة، والنظرة الواقعية للحركة في عملية صنع المستقبل، والحذر من العناوين الخادعة التي يطلقها المستكبرون التي تجتذب مشاعرنا لخداع واقعنا..
كما ندعو الدول المستهدفة أمريكياً في المنطقة العربية والإسلامية، ولا سيما سوريا ولبنان وإيران والسعودية، إلى وحدة في الموقف، وتخطيطٍ للحركة، وتعاون على مواجهة الأخطار المحدقة بالأمة، لأنّ القوم يخططون فعلينا أن لا نرتجل، ولأن القوم يفكّرون فعلينا أن لا ننفعل، ولنجمّد الكثير من القضايا التي يمكن لها أن تنتظر من أجل القضايا المصيرية الكبرى. |