نقتدي بسيرته، ونحفظ الرسالة الباقية

نقتدي بسيرته، ونحفظ الرسالة الباقية

في ذكرى وفاة الرسول الأكرم (ص): نقتدي بسيرته، ونحفظ الرسالة الباقية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

...وتبقى الرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}.

هذه الآية الكريمة ـ كما يروي المفسّرون ـ نزلت في معركة "أحد"، عندما اعتُدي على النبي (ص) فشُجّت جبهته وكُسرت رباعيته، وصاح صائح: "لقد قُتل محمد"، واهتز بعض ضعاف الإيمان من المسلمين وقالوا: "اذهبوا بنا إلى أبي سفيان لنكون معه"، وقال آخرون: "إن كان محمد قد مات فإن ربّ محمد لم يمت، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه"، فنزلت هذه الآية لتؤكّد للمسلمين حقيقة، وهي أن النبي(ص)، وإن كان قائداً للمسلمين، ليس له الخلد في هذه الحياة الدنيا، وهذا ما قررته الآيات الكريمة: {إنّك ميت وإنهم ميتون} {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}.

ولذلك، فإنّ دور النبي(ص) هو تبليغ الرسالة، كما حدّثنا الله تعالى بقوله: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، فالله تعالى أرسل رسوله من أجل أن يبلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة، ويهيّىء الظروف الملائمة التي تؤمِّن امتداد هذه الرسالة من بعده في المستقبل.

الكتاب والعترة

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، كان همّه(ص)، في نهاية حياته، أن يركّز الولاية من بعده للشخص القادر على تحمّل عبء هذه الرسالة، وهو بالضرورة شخصٌ لا يملك أحد كفاءته في جميع عناصر القيادة والولاية والإمامة، وهو عليّ (ع)، وأراد الرسول(ص) للأمة أن تلتزم، من بعده في مدى الزمن، بالثقلين: الكتاب والعترة، فقد ورد في طبقات "ابن سعد" عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) أنه قال: "إني أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

كان (ص) يريد للأمة أن ترتبط بهذا الخط المعصوم المشتمل على الثقلين: الأول ثقل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والثاني ثقل العترة الذين هم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأعطاهم علوم الثقل الأول، وبذلك لا يمكن الفصل بين هذين الثقلين.

وبما أنّ دور النبي (ص) تبليغ رسالته، وتأمين عوامل استمرارها بعده، وقد فعل ذلك، فقد نزل قولـه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

مسؤوليتنا بعد النبي(ص)

وبعد انتقال الرسول(ص) إلى جوار ربه، لا يزال الصدى القرآني يتردد: إن الرسول إذا مات أو قُتل فإن الرسالة لا تموت، بل تمتد خطوطها العريضة ما امتدت الحياة في الناس. وفي ضوء هذا، فإن عليكم، بعد غياب الرسول، أن تلتزموا الرسالة وتحملوها وتعتبروها أمانة في أعناقكم يحمّلكم الله إياها، لتنقلوها من جيل إلى جيل، ومن مرحلة إلى مرحلة. وبذلك توحي إلينا هذه الآية أن نهتم بانتماء أولادنا وأهلنا إلى الإسلام أكثر من اهتمامنا بحياتهم المادية في ما يريدون أن يحققوه من حاجاتهم في الحياة، لأنّ الإسلام هو رسالة الله، وعلى كل المؤمنين بالله أن يحملوا هذه الرسالة ويبلّغوها بكل ما لديهم من جهد، وقد قال الله تعالى عن هؤلاء الناس: {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}..

ثم، إن الله يهدد الذين ينقلبون على أعقابهم بعد النبي(ص)، ويتركون الإسلام ويهملونه، معتقدين أن في عملهم هذا ضررٌ لله وللرسالة، ولكن الله تعالى، الغني عنهم جميعاً، يقول لهم: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}، والشاكرون هم الذين يتحرّكون من أجل حفظ الإسلام كما حفظه رسول الله (ص) بدعوته، وحفظه المسلمون بجهادهم، وحفظه أهل البيت (ع) بالامتداد به في وجدان الناس الثقافي والروحي والسياسي.

في ضوء هذا، نخرج بقاعدة عامة يجب علينا التزامها، وهي ألاّ نجعل ارتباطنا الرسالي بالشخص لذاته، بحيث إذا كان حيّاً سرنا مع الرسالة وإذا مات تركناها، فعلينا أن نعي أن في كل الخطوط يموت القائد ويبقى الخط، يموت المرجع ويبقى فقهه، يموت المسؤول وتبقى مفردات مسؤوليته. لذا يجب علينا ألاّ نستغرق بالشخص ليكون ارتباطنا به ارتباطاً شخصياً، بل يجب أن نحوّل ارتباطنا ارتباطاً بالرسالة والقضية، ليكون الشخص رسول الرسالة وبطل القضية، ومن خلال ذلك تكون انتماءاتنا رسالية لا شخصية، ونبتعد عن عبادة الشخصية التي انتشرت عندنا.

مفاهيم إسلامية

وفي آخر حياة النبي (ص)، كان يريد أن يؤكد على عدة مفاهيم إسلامية أصيلة، ومن أهمها أن مفهوم أن العلاقة بين الله وبين عباده هي بالعمل لا بشيء آخر، كالقرابة والمال، أو أيِّ امتياز مما يأخذه الناس من امتيازات. وقد أكّد(ص)، أنّ العمل هو الذي يمثّل القيمة عند الله، بقوله في نهاية حياته المباركة: "معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلا العمل. أيها الناس، لا يتمن متمنٍ ولا يدعّ مدعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"..

ومما كان يركّز عليه(ص)، المفاهيم التي لها بعض الجوانب الروحية. فقد جاء عن جابر أنه قال: سمعت النبي (ص) قبل موته وهو يقول: "ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله"، يحسن الظن برحمته وبلطفه وبمغفرته وبكرمه وجوده، فلا ييأس منه تعالى.

التحلل من الأثقال الدنيوية

ويُنقل أنّه دخل الفضل بن عباس على النبي (ص) في مرضه، فقال له: "يا فضل، شدّ هذه العصابة على رأسي"، فشدّها، ثم قال النبي (ص): "أرنا يدك"، فأخذ بيد النبي، فانتهض حتى دخل المسجد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم، وإنما أنا بشر، فأيما رجل كنت قد أصبت من بشره شيئاً فهذا بشري فليقتص، وأيما رجل كنت أصبت ماله ـ وطبعاً النبي (ص) لا يفعل مثل هذا الفعل، ولكنه يريد أن يؤكد الفكرة ـ فهذا مالي فليأخذ، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حللني فلقيت ربي وأنا محلل لي، ولا يقولن رجل: إني أخاف العداوة والشحناء من رسول الله، فإنه ليس من خلقي، ومن غلبته نفسه على شيء فليستعن بي حتى أدعو له". فقام رجل وقال: أتاك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم، قال (ص): "صدق، أعطه إياها يا فضل"، ثم قام رجل وقال: يا رسول الله، إني لبخيل ولجبان ولنؤوم، فادع الله أن يُذهب عني البخل والجبن والنوم، فدعا له، ثم قامت امرأة فقالت: إني لكذا وإني لكذا ـ عندها بعض العيوب ـ فادع الله أن يُذهب عني ذلك، قال: "اذهبي إلى منزل عائشة"، فلما رجع رسول الله (ص) إلى منزل عائشة، وضع عصاه على رأسها ثم دعا لها، قالت عائشة: فمكثت تكثر السجود، فقال لها: "أطيلي السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً".

إن في كل ذلك درساً لنا، حين نجد أنّ رسول الله (ص) في آخر حياته ـ وهو سيد الخلق والحبيب إلى الله ـ يريد أن يخرج من الدنيا وليس لأحد عليه حق في أيّ جانب من جوانب حياته، فإذا كان رسول الله بهذه المثابة، فكيف بنا نحن الذين ننكر على الناس ديونهم التي علينا، والذين نظلم بعضنا بعضاً بالغيبة والضرب والشتيمة، فنَرِد إلى الله ونحن محمّلون بالأثقال؟ إنّ علينا أن نُرجع للناس حقوقهم، أو أن نتسامح منهم قبل أن يأتي وقت لا نستطيع فيه أن ندفع حقاً ولا أن نتسامح من أصحابه.

الرسول أسوة الحكّام

وفي الحديث عن رسول الله(ص)، أنه في آخر حياته كان يريد أن يقدّم حسابه للأمة، والأمة لم تنتخبه حتى يقدّم لها حسابه، بل إن الله اصطفاه واختاره وهو أعلم من الناس به، ولكن النبي (ص) أراد أن يعطي الفكرة لكلِّ قائد ومسؤول من بعده في ضرورة الوقوف على رأي الأمة، وأراد أن يعلّم الأمة أن تطلب من القائد أن يقدّم لها الحساب.. فقال(ص) في مرضه الذي توفي فيه: "أيها الناس، إنكم لا تعلّقون عليّ بواحدة، ما أحللت إلا ما أحلّ الله، وما حرّمت إلا ما حرّم الله"، وفي رواية أخرى أنه قال: "أيها الناس، والله لا تمسكون عليّ بشيء، إني لا أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولا أحرّم إلا ما حرّم الله، يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمّة رسول الله، اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". إنه يريد أن يؤكد الخط الإسلامي الأصيل، بأن علاقة الناس بالله ـ بما فيهم رسول الله (ص) ـ هي علاقة الاستقامة على خط الله، ولذلك خاطب الله رسوله بقوله تعالى في ما أراده منه: {فلذلك فادع واستقم كما أُمرت}، وخاطبه بقول آخر يوحي بالتهديد، ولكن الخطاب ليس موجّهاً للنبي بشخصه، بل هو إسماعٌ للآخرين، لأن القرآن نزل على طريقة: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وهو ما ورد في الآية: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً* ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً* إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً}، وفي آية أخرى يتحدث الله تعالى عن النبي(ص) بما يقترب من هذا الأسلوب بالقول: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين}.

وفاة... رسالية

ويحدثنا بعض أصحابه، وهو ابن مسعود، قائلاً: "نعى لنا نبيّنا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء، فقال: "مرحباً بكم، حيّاكم الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، أدّاكم الله، وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، أستخلفه عليكم وأحذركم الله إني لكم نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فقد قال لي: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}، وقال: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}.

وهناك درسٌ آخر قدّمه لنا رسول الله (ص) في آخر أيامه، عندما كان المسلمون حوله وهو على فراش الموت، فقال لهم: "آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً"، ولكن بعض الصحابة قال: "إن النبي ليهجر، حسبنا كتاب الله"، وهم يعرفون أنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولكنهم كانوا يعرفون ماذا يريد النبي (ص) أن يكتب، وبعد أن اختلفوا قالوا: يا رسول الله، هل نأتيك بدواة وكتف؟ قال (ص): "أبعد الذي قلتم، قوموا عني".

وينقل الرواة ـ من كل المذاهب ـ واقعة وفاة النبي(ص)، وما حصل بعدها، عندما كان أكثر المسلمين مشغولين بتدبّر أمر الخلافة من بعده، وأطلقت المقولة الشهيرة: "منا أمير ومنكم أمير"، ولكن عليّاً (ع) شُغل عن ذلك كله بتجهيز النبي (ص) ودفنه، ولم يحضر جنازته إلا أقرباؤه!! وفي هذه الواقعة درسٌ كبير جداً، نجد الكثير منه في مواقع حياتنا، عندما ينطلق الناس بعيداً عن أصحاب الرسالات ورسالاتهم نتيجة بعض التعقيدات أو اللامبالاة أو انفتاحهم على أمورهم الخاصّة.

...هذا هو رسول الله (ص) نبيّنا وإمامنا وحبيبنا وشفيعنا يوم القيامة: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرة وأصيلاً* إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا موقفكم بين يديه بالقيام بمسؤولياتكم، فكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، كلٌّ بحسب طاقته وإمكاناته، لأن علينا أن نحمل همّ المسلمين في كل قضاياهم التي ترتبط بمصيرهم، فهذا هو الصراط المستقيم الذي يحفظ للأمة قوتها وعزتها بوحدتها وتحمّلها للمسؤولية في كل قضاياها، فتعالوا لنرى ماذا هناك في المنطقة وماذا يقبل علينا من تحديات وأوضاع؟

خطة تصفية القضية الفلسطينية

القضية الفلسطينية لا تزال في الواجهة، تحت تأثير اللعبة الدولية والإقليمية الرامية إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، التي لن تصل بالشعب الفلسطيني إلى حقوقه الشرعية في الحرية والاستقلال على أساس حق تقرير المصير... ولا تزال الضغوط الدولية والعربية تؤكد الهدف الإسرائيلي، وهو: أوقفوا الانتفاضة أولاً ولا تنتظروا منا أن ننسحب من الأراضي المحتلة، أو نوقف عمليات الاجتياح للقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، إضافةً إلى خطط الاغتيال والاعتقال قبل ذلك وبعده...

ولا تزال المجازر تتوالى، والأطفال والشيوخ والنساء وكل المدنيين يُقتلون بالطائرات والمدافع والصواريخ في أكثر من هجوم يقتل ويقتل بدم بارد، بحجة اعتقال ناشط أو "إرهابي"... الخ، والأمريكيون ـ ومعهم اللجنة الرباعية ـ يبررون ذلك بحجة الدفاع عن النفس ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، ويحدّثونك عن السلام بالطريقة الإسرائيلية التي لا تمنح الفلسطينيين أيّ مطلب حقيقي حاسم، بل هي وعودٌ ومفاوضاتٌ تُدخل الشعب الفلسطيني في المتاهات، لأن إسرائيل لا توافق على دولة فلسطينية مستقلّة حتى على صورة "خريطة الطريق". ولذلك، فإن حكومة العدو تخلق في كل يوم أكثر من زوبعة لتعقيد الأمور، فهي تقوم باجتياح المناطق بالأساليب الوحشية، ثم تطلب من الفلسطينيين إيقاف الانتفاضة، وتفرض على الحكومة الفلسطينية الجديدة تدميرها، من دون أن تهيّئ المناخ للوصول إلى الحلّ الدولي، الذي لن يكون حلاً لهذا الشعب الشهيد المظلوم المجاهد.

إن المشكلة هي أنّ المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي للحل يهدف إلى تصفية القضية، ولكن مع إعطائها بعض المساحيق التجميلية التي قد تخدع الواقع السياسي.. وتنتهي المسألة عند الضغوط الأمريكية والدولية والعربية ضد الفلسطينيين لإكمال الخديعة السياسية التي قد تأخذ اسم الدولة، ولكن من دون مضمون للسيادة والاستقلال، ومن دون عودة فلسطينية، مع الموافقة على تهويد القدس وبقاء المستوطنات التي تحوّل المناطق الفلسطينية إلى جزر معزولة محاصرة أمنياً واقتصادياً وسياسياً..

والسؤال: ما هي خطة الحكومة الفلسطينية الجديدة؟ وما هو صك البراءة الأمريكية ـ الإسرائيلية الذي أُعطي لرئيسها؟ وما هو نوع السلاح غير الشرعي الذي تريد منعه؟ هل هو سلاح الجريمة أو سلاح الانتفاضة... ثم، ما هي الضمانات الحقيقية لانسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق الاحتلال؟ وما هي الضوابط لمنع الفتنة التي قد تحصل من خلال ذلك كله، والتي تدمّر كل شيء فلسطيني لحساب إسرائيل؟؟

ومن المضحك المبكي، أن إسرائيل تطالب الفلسطينيين بالأفعال ولا تمنحهم إلا الأقوال، وما زالت الوعود الدولية والعربية والإسرائيلية هي زاد الشعب الفلسطيني في الحاضر والمستقبل، في الوقت الذي تصنع إسرائيل في كل يوم استيطاناً جديداً يأكل أكثر الأراضي الفلسطينية، وواقعاً جديداً يجتاح كل المطالب الفلسطينية!!

واقعية التغيير لا الاستسلام

ربما يقول البعض إن علينا أن نأخذ بالسياسة الواقعية ولا نبقى تحت رحمة الشعارات الحماسية الخيالية، فنقبل ما يُقدّم إلينا، لأننا لن نحصل على أكثر من ذلك... ولكن، مَن قال لهؤلاء إن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ توافق على أن تمنح الشعب الفلسطيني حقه في الحرية والاستقلال، فقد وقع هذا الشعب تحت واقعية اتفاق "أوسلو" الذي تبخّر بفعل اللعبة الإسرائيلية ـ الأمريكية!!

لذلك، نقول لإخواننا في فلسطين، إن عليهم أن يتابعوا الحركة السياسية التي تواجه قضيتهم بكل دقة... ونقول لهم: حذارِ من الخديعة الجديدة القديمة... حذارِ من الفتنة... خذوا بأسباب السياسة الواقعية التي تغيّر الواقع بأدوات الواقع، ولا تأخذوا بالواقعية بمعنى الاستسلام للأمر الواقع، وثقوا ـ بفعل تجربتكم الجهادية وصمودكم القوي ـ بأن الشعوب الصامدة المجاهدة قادرة على تغيير الأمر الواقع بالخطة المدروسة المتحركة بصبر وقوة وثبات، والنصر لكم أولاً وأخيراً.

العراق: الاحتلال هو الاحتلال

أما في العراق، فالأسلوب الأمريكي في "الفلوجة"، في قتل المدنيين المتظاهرين بحجة الدفاع عن النفس، هو نفسه أسلوب الإسرائيليين... ولا بدّ للشعب العراقي من أن يأخذ الدرس من ذلك، ليفهم جيداً أن الأمريكيين جاؤوا لاستغلال العراق بعدما انتهى دور عميلهم "صدام"، ولم يأتوا لتحريره... إننا لا ندعوكم إلى المغامرة الارتجالية، ولكن ندعوكم إلى الدراسة الواعية في مواجهة قوى الاستكبار والاحتلال، وفي فهم خططهم ومعرفة أهدافهم، حتى لا نُلدغ من جحر مرتين... وليكن الصوت واحداً في المطالبة بالانسحاب الأمريكي من العراق، وترك العراقيين يتدبّرون أمرهم، لأنهم يملكون الطاقات عندما يتوفّر لهم مناخ الحرية..

أما الحديث عن أن الشعب العراقي بحاجة إلى وصاية وولاية أمريكية حتى في المؤتمرات المعقودة، مباشرة أو في شكل غير مباشر، بهدف بحث مستقبل العراق، فهو إهانة وتحقير للشعب ومحاولة للضغط على قرارات المؤتمرين الذين لا ندري إذا كانوا هم فعلاً الذين يمثّلون الشعب العراقي ويقررون مصيره...

إن المرحلة صعبة، لأننا لا نريد أن نسقط تحت تأثير طغيان احتلال واضح أو مقنّع، بعدما تحرّرنا من طغيان داخلي عميل للاستكبار بشكل مقنّع، وعلينا أن لا نقع في التجربة الفاشلة مرة أخرى.

وحدة المصير بين سوريا ولبنان

أما في لبنان، فإن السؤال الكبير هو: هل هناك خطة مدروسة شجاعة تتجاوز المداخلات الطائفية والشخصانية للإصلاح السياسي الذي هو الأساس للإصلاح الإداري والاقتصادي، في معالجة واقعية للطغيان السياسي الذي يختفي وراء أكثر من لعبة مشبوهة خلف الكواليس، لحماية الفساد تحت عناوين متعددة قد تصوّر الفساد إصلاحاً؟؟ وهل يبقى لبنان تحت رحمة اللعبة السياسية وإنشائيات البيانات الحكومية، أم أن هناك طريقةً أخرى للخروج من هذا النفق؟

أيها اللبنانيون: ارحموا لبنان البلد الذي استطاع أن يحقق الإبداع، ويفجّر ينابيع الثقافة، ويُطلق الإشعاع... إن هذا البلد يمرُّ بتحديات ضاغطة على جميع المستويات، ولا سيما مع الخط الجديد للسياسة الأمريكية ـ المتداخلة مع السياسة الإسرائيلية ـ التي تحمل العصا وتمارس ضغط القوة بشكل مباشر، وتهدد المنطقة كلها، ولا سيما سوريا ـ ومعها لبنان ـ بالضغوط الاقتصادية والسياسية، وتلوِّح بالضغوط الأمنية... والجميع يعرف أن هناك وحدة في المصير بين سوريا ولبنان، ما يفرض إيجاد قاعدة صلبة وخطة مدروسة لحماية الموقف والموقع، ولا سيما أن إسرائيل تتحدث في كل يوم بلغة تهديدية... كما أن اللغة الدولية ـ وفي مقدمها اللغة الفرنسية على لسان وزير خارجيتها ـ تأخذ أسلوباً جديداً ضاغطاً على سوريا في وجودها في لبنان، من دون دراسة للظروف الموضوعية في العلاقات اللبنانية ـ السورية، والأخطار التي تهددهما معاً...

إننا في الوقت الذي نعرف أن هناك بعض التعقيدات في الحركة السياسية اللبنانية التي تختلف فيها الآراء والاتجاهات، فإن علينا تجميد بعض القضايا التي قد لا يحين وقتها بحسب الظروف الخطرة في المنطقة كلها.

في ذكرى وفاة الرسول الأكرم (ص): نقتدي بسيرته، ونحفظ الرسالة الباقية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

...وتبقى الرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}.

هذه الآية الكريمة ـ كما يروي المفسّرون ـ نزلت في معركة "أحد"، عندما اعتُدي على النبي (ص) فشُجّت جبهته وكُسرت رباعيته، وصاح صائح: "لقد قُتل محمد"، واهتز بعض ضعاف الإيمان من المسلمين وقالوا: "اذهبوا بنا إلى أبي سفيان لنكون معه"، وقال آخرون: "إن كان محمد قد مات فإن ربّ محمد لم يمت، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه"، فنزلت هذه الآية لتؤكّد للمسلمين حقيقة، وهي أن النبي(ص)، وإن كان قائداً للمسلمين، ليس له الخلد في هذه الحياة الدنيا، وهذا ما قررته الآيات الكريمة: {إنّك ميت وإنهم ميتون} {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}.

ولذلك، فإنّ دور النبي(ص) هو تبليغ الرسالة، كما حدّثنا الله تعالى بقوله: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، فالله تعالى أرسل رسوله من أجل أن يبلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة، ويهيّىء الظروف الملائمة التي تؤمِّن امتداد هذه الرسالة من بعده في المستقبل.

الكتاب والعترة

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، كان همّه(ص)، في نهاية حياته، أن يركّز الولاية من بعده للشخص القادر على تحمّل عبء هذه الرسالة، وهو بالضرورة شخصٌ لا يملك أحد كفاءته في جميع عناصر القيادة والولاية والإمامة، وهو عليّ (ع)، وأراد الرسول(ص) للأمة أن تلتزم، من بعده في مدى الزمن، بالثقلين: الكتاب والعترة، فقد ورد في طبقات "ابن سعد" عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) أنه قال: "إني أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

كان (ص) يريد للأمة أن ترتبط بهذا الخط المعصوم المشتمل على الثقلين: الأول ثقل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والثاني ثقل العترة الذين هم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأعطاهم علوم الثقل الأول، وبذلك لا يمكن الفصل بين هذين الثقلين.

وبما أنّ دور النبي (ص) تبليغ رسالته، وتأمين عوامل استمرارها بعده، وقد فعل ذلك، فقد نزل قولـه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

مسؤوليتنا بعد النبي(ص)

وبعد انتقال الرسول(ص) إلى جوار ربه، لا يزال الصدى القرآني يتردد: إن الرسول إذا مات أو قُتل فإن الرسالة لا تموت، بل تمتد خطوطها العريضة ما امتدت الحياة في الناس. وفي ضوء هذا، فإن عليكم، بعد غياب الرسول، أن تلتزموا الرسالة وتحملوها وتعتبروها أمانة في أعناقكم يحمّلكم الله إياها، لتنقلوها من جيل إلى جيل، ومن مرحلة إلى مرحلة. وبذلك توحي إلينا هذه الآية أن نهتم بانتماء أولادنا وأهلنا إلى الإسلام أكثر من اهتمامنا بحياتهم المادية في ما يريدون أن يحققوه من حاجاتهم في الحياة، لأنّ الإسلام هو رسالة الله، وعلى كل المؤمنين بالله أن يحملوا هذه الرسالة ويبلّغوها بكل ما لديهم من جهد، وقد قال الله تعالى عن هؤلاء الناس: {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}..

ثم، إن الله يهدد الذين ينقلبون على أعقابهم بعد النبي(ص)، ويتركون الإسلام ويهملونه، معتقدين أن في عملهم هذا ضررٌ لله وللرسالة، ولكن الله تعالى، الغني عنهم جميعاً، يقول لهم: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}، والشاكرون هم الذين يتحرّكون من أجل حفظ الإسلام كما حفظه رسول الله (ص) بدعوته، وحفظه المسلمون بجهادهم، وحفظه أهل البيت (ع) بالامتداد به في وجدان الناس الثقافي والروحي والسياسي.

في ضوء هذا، نخرج بقاعدة عامة يجب علينا التزامها، وهي ألاّ نجعل ارتباطنا الرسالي بالشخص لذاته، بحيث إذا كان حيّاً سرنا مع الرسالة وإذا مات تركناها، فعلينا أن نعي أن في كل الخطوط يموت القائد ويبقى الخط، يموت المرجع ويبقى فقهه، يموت المسؤول وتبقى مفردات مسؤوليته. لذا يجب علينا ألاّ نستغرق بالشخص ليكون ارتباطنا به ارتباطاً شخصياً، بل يجب أن نحوّل ارتباطنا ارتباطاً بالرسالة والقضية، ليكون الشخص رسول الرسالة وبطل القضية، ومن خلال ذلك تكون انتماءاتنا رسالية لا شخصية، ونبتعد عن عبادة الشخصية التي انتشرت عندنا.

مفاهيم إسلامية

وفي آخر حياة النبي (ص)، كان يريد أن يؤكد على عدة مفاهيم إسلامية أصيلة، ومن أهمها أن مفهوم أن العلاقة بين الله وبين عباده هي بالعمل لا بشيء آخر، كالقرابة والمال، أو أيِّ امتياز مما يأخذه الناس من امتيازات. وقد أكّد(ص)، أنّ العمل هو الذي يمثّل القيمة عند الله، بقوله في نهاية حياته المباركة: "معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلا العمل. أيها الناس، لا يتمن متمنٍ ولا يدعّ مدعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"..

ومما كان يركّز عليه(ص)، المفاهيم التي لها بعض الجوانب الروحية. فقد جاء عن جابر أنه قال: سمعت النبي (ص) قبل موته وهو يقول: "ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله"، يحسن الظن برحمته وبلطفه وبمغفرته وبكرمه وجوده، فلا ييأس منه تعالى.

التحلل من الأثقال الدنيوية

ويُنقل أنّه دخل الفضل بن عباس على النبي (ص) في مرضه، فقال له: "يا فضل، شدّ هذه العصابة على رأسي"، فشدّها، ثم قال النبي (ص): "أرنا يدك"، فأخذ بيد النبي، فانتهض حتى دخل المسجد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم، وإنما أنا بشر، فأيما رجل كنت قد أصبت من بشره شيئاً فهذا بشري فليقتص، وأيما رجل كنت أصبت ماله ـ وطبعاً النبي (ص) لا يفعل مثل هذا الفعل، ولكنه يريد أن يؤكد الفكرة ـ فهذا مالي فليأخذ، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حللني فلقيت ربي وأنا محلل لي، ولا يقولن رجل: إني أخاف العداوة والشحناء من رسول الله، فإنه ليس من خلقي، ومن غلبته نفسه على شيء فليستعن بي حتى أدعو له". فقام رجل وقال: أتاك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم، قال (ص): "صدق، أعطه إياها يا فضل"، ثم قام رجل وقال: يا رسول الله، إني لبخيل ولجبان ولنؤوم، فادع الله أن يُذهب عني البخل والجبن والنوم، فدعا له، ثم قامت امرأة فقالت: إني لكذا وإني لكذا ـ عندها بعض العيوب ـ فادع الله أن يُذهب عني ذلك، قال: "اذهبي إلى منزل عائشة"، فلما رجع رسول الله (ص) إلى منزل عائشة، وضع عصاه على رأسها ثم دعا لها، قالت عائشة: فمكثت تكثر السجود، فقال لها: "أطيلي السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً".

إن في كل ذلك درساً لنا، حين نجد أنّ رسول الله (ص) في آخر حياته ـ وهو سيد الخلق والحبيب إلى الله ـ يريد أن يخرج من الدنيا وليس لأحد عليه حق في أيّ جانب من جوانب حياته، فإذا كان رسول الله بهذه المثابة، فكيف بنا نحن الذين ننكر على الناس ديونهم التي علينا، والذين نظلم بعضنا بعضاً بالغيبة والضرب والشتيمة، فنَرِد إلى الله ونحن محمّلون بالأثقال؟ إنّ علينا أن نُرجع للناس حقوقهم، أو أن نتسامح منهم قبل أن يأتي وقت لا نستطيع فيه أن ندفع حقاً ولا أن نتسامح من أصحابه.

الرسول أسوة الحكّام

وفي الحديث عن رسول الله(ص)، أنه في آخر حياته كان يريد أن يقدّم حسابه للأمة، والأمة لم تنتخبه حتى يقدّم لها حسابه، بل إن الله اصطفاه واختاره وهو أعلم من الناس به، ولكن النبي (ص) أراد أن يعطي الفكرة لكلِّ قائد ومسؤول من بعده في ضرورة الوقوف على رأي الأمة، وأراد أن يعلّم الأمة أن تطلب من القائد أن يقدّم لها الحساب.. فقال(ص) في مرضه الذي توفي فيه: "أيها الناس، إنكم لا تعلّقون عليّ بواحدة، ما أحللت إلا ما أحلّ الله، وما حرّمت إلا ما حرّم الله"، وفي رواية أخرى أنه قال: "أيها الناس، والله لا تمسكون عليّ بشيء، إني لا أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولا أحرّم إلا ما حرّم الله، يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمّة رسول الله، اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". إنه يريد أن يؤكد الخط الإسلامي الأصيل، بأن علاقة الناس بالله ـ بما فيهم رسول الله (ص) ـ هي علاقة الاستقامة على خط الله، ولذلك خاطب الله رسوله بقوله تعالى في ما أراده منه: {فلذلك فادع واستقم كما أُمرت}، وخاطبه بقول آخر يوحي بالتهديد، ولكن الخطاب ليس موجّهاً للنبي بشخصه، بل هو إسماعٌ للآخرين، لأن القرآن نزل على طريقة: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وهو ما ورد في الآية: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً* ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً* إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً}، وفي آية أخرى يتحدث الله تعالى عن النبي(ص) بما يقترب من هذا الأسلوب بالقول: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين}.

وفاة... رسالية

ويحدثنا بعض أصحابه، وهو ابن مسعود، قائلاً: "نعى لنا نبيّنا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء، فقال: "مرحباً بكم، حيّاكم الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، أدّاكم الله، وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، أستخلفه عليكم وأحذركم الله إني لكم نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فقد قال لي: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}، وقال: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}.

وهناك درسٌ آخر قدّمه لنا رسول الله (ص) في آخر أيامه، عندما كان المسلمون حوله وهو على فراش الموت، فقال لهم: "آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً"، ولكن بعض الصحابة قال: "إن النبي ليهجر، حسبنا كتاب الله"، وهم يعرفون أنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولكنهم كانوا يعرفون ماذا يريد النبي (ص) أن يكتب، وبعد أن اختلفوا قالوا: يا رسول الله، هل نأتيك بدواة وكتف؟ قال (ص): "أبعد الذي قلتم، قوموا عني".

وينقل الرواة ـ من كل المذاهب ـ واقعة وفاة النبي(ص)، وما حصل بعدها، عندما كان أكثر المسلمين مشغولين بتدبّر أمر الخلافة من بعده، وأطلقت المقولة الشهيرة: "منا أمير ومنكم أمير"، ولكن عليّاً (ع) شُغل عن ذلك كله بتجهيز النبي (ص) ودفنه، ولم يحضر جنازته إلا أقرباؤه!! وفي هذه الواقعة درسٌ كبير جداً، نجد الكثير منه في مواقع حياتنا، عندما ينطلق الناس بعيداً عن أصحاب الرسالات ورسالاتهم نتيجة بعض التعقيدات أو اللامبالاة أو انفتاحهم على أمورهم الخاصّة.

...هذا هو رسول الله (ص) نبيّنا وإمامنا وحبيبنا وشفيعنا يوم القيامة: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرة وأصيلاً* إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا موقفكم بين يديه بالقيام بمسؤولياتكم، فكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، كلٌّ بحسب طاقته وإمكاناته، لأن علينا أن نحمل همّ المسلمين في كل قضاياهم التي ترتبط بمصيرهم، فهذا هو الصراط المستقيم الذي يحفظ للأمة قوتها وعزتها بوحدتها وتحمّلها للمسؤولية في كل قضاياها، فتعالوا لنرى ماذا هناك في المنطقة وماذا يقبل علينا من تحديات وأوضاع؟

خطة تصفية القضية الفلسطينية

القضية الفلسطينية لا تزال في الواجهة، تحت تأثير اللعبة الدولية والإقليمية الرامية إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، التي لن تصل بالشعب الفلسطيني إلى حقوقه الشرعية في الحرية والاستقلال على أساس حق تقرير المصير... ولا تزال الضغوط الدولية والعربية تؤكد الهدف الإسرائيلي، وهو: أوقفوا الانتفاضة أولاً ولا تنتظروا منا أن ننسحب من الأراضي المحتلة، أو نوقف عمليات الاجتياح للقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، إضافةً إلى خطط الاغتيال والاعتقال قبل ذلك وبعده...

ولا تزال المجازر تتوالى، والأطفال والشيوخ والنساء وكل المدنيين يُقتلون بالطائرات والمدافع والصواريخ في أكثر من هجوم يقتل ويقتل بدم بارد، بحجة اعتقال ناشط أو "إرهابي"... الخ، والأمريكيون ـ ومعهم اللجنة الرباعية ـ يبررون ذلك بحجة الدفاع عن النفس ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، ويحدّثونك عن السلام بالطريقة الإسرائيلية التي لا تمنح الفلسطينيين أيّ مطلب حقيقي حاسم، بل هي وعودٌ ومفاوضاتٌ تُدخل الشعب الفلسطيني في المتاهات، لأن إسرائيل لا توافق على دولة فلسطينية مستقلّة حتى على صورة "خريطة الطريق". ولذلك، فإن حكومة العدو تخلق في كل يوم أكثر من زوبعة لتعقيد الأمور، فهي تقوم باجتياح المناطق بالأساليب الوحشية، ثم تطلب من الفلسطينيين إيقاف الانتفاضة، وتفرض على الحكومة الفلسطينية الجديدة تدميرها، من دون أن تهيّئ المناخ للوصول إلى الحلّ الدولي، الذي لن يكون حلاً لهذا الشعب الشهيد المظلوم المجاهد.

إن المشكلة هي أنّ المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي للحل يهدف إلى تصفية القضية، ولكن مع إعطائها بعض المساحيق التجميلية التي قد تخدع الواقع السياسي.. وتنتهي المسألة عند الضغوط الأمريكية والدولية والعربية ضد الفلسطينيين لإكمال الخديعة السياسية التي قد تأخذ اسم الدولة، ولكن من دون مضمون للسيادة والاستقلال، ومن دون عودة فلسطينية، مع الموافقة على تهويد القدس وبقاء المستوطنات التي تحوّل المناطق الفلسطينية إلى جزر معزولة محاصرة أمنياً واقتصادياً وسياسياً..

والسؤال: ما هي خطة الحكومة الفلسطينية الجديدة؟ وما هو صك البراءة الأمريكية ـ الإسرائيلية الذي أُعطي لرئيسها؟ وما هو نوع السلاح غير الشرعي الذي تريد منعه؟ هل هو سلاح الجريمة أو سلاح الانتفاضة... ثم، ما هي الضمانات الحقيقية لانسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق الاحتلال؟ وما هي الضوابط لمنع الفتنة التي قد تحصل من خلال ذلك كله، والتي تدمّر كل شيء فلسطيني لحساب إسرائيل؟؟

ومن المضحك المبكي، أن إسرائيل تطالب الفلسطينيين بالأفعال ولا تمنحهم إلا الأقوال، وما زالت الوعود الدولية والعربية والإسرائيلية هي زاد الشعب الفلسطيني في الحاضر والمستقبل، في الوقت الذي تصنع إسرائيل في كل يوم استيطاناً جديداً يأكل أكثر الأراضي الفلسطينية، وواقعاً جديداً يجتاح كل المطالب الفلسطينية!!

واقعية التغيير لا الاستسلام

ربما يقول البعض إن علينا أن نأخذ بالسياسة الواقعية ولا نبقى تحت رحمة الشعارات الحماسية الخيالية، فنقبل ما يُقدّم إلينا، لأننا لن نحصل على أكثر من ذلك... ولكن، مَن قال لهؤلاء إن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ توافق على أن تمنح الشعب الفلسطيني حقه في الحرية والاستقلال، فقد وقع هذا الشعب تحت واقعية اتفاق "أوسلو" الذي تبخّر بفعل اللعبة الإسرائيلية ـ الأمريكية!!

لذلك، نقول لإخواننا في فلسطين، إن عليهم أن يتابعوا الحركة السياسية التي تواجه قضيتهم بكل دقة... ونقول لهم: حذارِ من الخديعة الجديدة القديمة... حذارِ من الفتنة... خذوا بأسباب السياسة الواقعية التي تغيّر الواقع بأدوات الواقع، ولا تأخذوا بالواقعية بمعنى الاستسلام للأمر الواقع، وثقوا ـ بفعل تجربتكم الجهادية وصمودكم القوي ـ بأن الشعوب الصامدة المجاهدة قادرة على تغيير الأمر الواقع بالخطة المدروسة المتحركة بصبر وقوة وثبات، والنصر لكم أولاً وأخيراً.

العراق: الاحتلال هو الاحتلال

أما في العراق، فالأسلوب الأمريكي في "الفلوجة"، في قتل المدنيين المتظاهرين بحجة الدفاع عن النفس، هو نفسه أسلوب الإسرائيليين... ولا بدّ للشعب العراقي من أن يأخذ الدرس من ذلك، ليفهم جيداً أن الأمريكيين جاؤوا لاستغلال العراق بعدما انتهى دور عميلهم "صدام"، ولم يأتوا لتحريره... إننا لا ندعوكم إلى المغامرة الارتجالية، ولكن ندعوكم إلى الدراسة الواعية في مواجهة قوى الاستكبار والاحتلال، وفي فهم خططهم ومعرفة أهدافهم، حتى لا نُلدغ من جحر مرتين... وليكن الصوت واحداً في المطالبة بالانسحاب الأمريكي من العراق، وترك العراقيين يتدبّرون أمرهم، لأنهم يملكون الطاقات عندما يتوفّر لهم مناخ الحرية..

أما الحديث عن أن الشعب العراقي بحاجة إلى وصاية وولاية أمريكية حتى في المؤتمرات المعقودة، مباشرة أو في شكل غير مباشر، بهدف بحث مستقبل العراق، فهو إهانة وتحقير للشعب ومحاولة للضغط على قرارات المؤتمرين الذين لا ندري إذا كانوا هم فعلاً الذين يمثّلون الشعب العراقي ويقررون مصيره...

إن المرحلة صعبة، لأننا لا نريد أن نسقط تحت تأثير طغيان احتلال واضح أو مقنّع، بعدما تحرّرنا من طغيان داخلي عميل للاستكبار بشكل مقنّع، وعلينا أن لا نقع في التجربة الفاشلة مرة أخرى.

وحدة المصير بين سوريا ولبنان

أما في لبنان، فإن السؤال الكبير هو: هل هناك خطة مدروسة شجاعة تتجاوز المداخلات الطائفية والشخصانية للإصلاح السياسي الذي هو الأساس للإصلاح الإداري والاقتصادي، في معالجة واقعية للطغيان السياسي الذي يختفي وراء أكثر من لعبة مشبوهة خلف الكواليس، لحماية الفساد تحت عناوين متعددة قد تصوّر الفساد إصلاحاً؟؟ وهل يبقى لبنان تحت رحمة اللعبة السياسية وإنشائيات البيانات الحكومية، أم أن هناك طريقةً أخرى للخروج من هذا النفق؟

أيها اللبنانيون: ارحموا لبنان البلد الذي استطاع أن يحقق الإبداع، ويفجّر ينابيع الثقافة، ويُطلق الإشعاع... إن هذا البلد يمرُّ بتحديات ضاغطة على جميع المستويات، ولا سيما مع الخط الجديد للسياسة الأمريكية ـ المتداخلة مع السياسة الإسرائيلية ـ التي تحمل العصا وتمارس ضغط القوة بشكل مباشر، وتهدد المنطقة كلها، ولا سيما سوريا ـ ومعها لبنان ـ بالضغوط الاقتصادية والسياسية، وتلوِّح بالضغوط الأمنية... والجميع يعرف أن هناك وحدة في المصير بين سوريا ولبنان، ما يفرض إيجاد قاعدة صلبة وخطة مدروسة لحماية الموقف والموقع، ولا سيما أن إسرائيل تتحدث في كل يوم بلغة تهديدية... كما أن اللغة الدولية ـ وفي مقدمها اللغة الفرنسية على لسان وزير خارجيتها ـ تأخذ أسلوباً جديداً ضاغطاً على سوريا في وجودها في لبنان، من دون دراسة للظروف الموضوعية في العلاقات اللبنانية ـ السورية، والأخطار التي تهددهما معاً...

إننا في الوقت الذي نعرف أن هناك بعض التعقيدات في الحركة السياسية اللبنانية التي تختلف فيها الآراء والاتجاهات، فإن علينا تجميد بعض القضايا التي قد لا يحين وقتها بحسب الظروف الخطرة في المنطقة كلها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية