لماذا يُسقط العالم الإسلامي قراره بتقرير مصيره؟!

لماذا يُسقط العالم الإسلامي قراره بتقرير مصيره؟!

لأن الله تعالى أرادنا أن نأخذ بأسباب العزة:
لماذا يُسقط العالم الإسلامي قراره بتقرير مصيره؟!


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

انفتاح على عناصر القوة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد، وهو يصف الطليعة الإسلامية الواعية القوية التي تنفتح على الله تعالى، لتنفتح على عناصر القوة في الموقف، ولتأخذ من إيمانها بالله الإحساس بالقوّة بالمستوى الذي يصل بها إلى أن تتحدى كلّ قوة أخرى، يقول تعالى عن هذه الطليعة من صحابة النبي (ص) في وقعة "أحد": {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ـ أنتم لا تمثلون في المنطقة التي تعيشون فيها الصراع الكثرة العددية، ولا تمثلون القوة العسكرية والاقتصادية، أما الناس الآخرون الذين يواجهونكم، فهم يمثلون القوة كلها، والكثرة كلها، وقد جمعوا لكم ـ فاخشوهم ـ استسلموا لهم، اسقطوا أمام قوتهم، لا تواجهوهم لأن المواجهة تفرض نوعاً من توازن القوة بين المهاجِم والمهاجَم، فإذا كانت موازين القوة مختلة فعلى الضعيف أن يستسلم للقوي، هكذا كانوا يقولون لهم ـ فزادهم إيماناً ـ لم يخافوهم ولم يخشوهم بالرغم من أنهم يدركون اختلال موازين القوى من الناحية المادية، ولكنهم مؤمنون بالله القوي القادر الجبّار القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كله، ولذلك نجد أنهم أدخلوا أنفسهم في المقارنة بين قوة الله تعالى خالق السماوات والأرض وقوة الناس، فشعروا أنّ الله هو الأقوى والأعظم والأكبر، فاستمدوا القوة منه وتوكلوا عليه، وركّزوا مواقفهم واستعدوا لمواجهة الكافرين والمستكبرين بوسائلهم الخاصة، متوكلين على الله، ـ وقالوا حسبنا الله ـ مَن الذي يملك الأمر في مقابل الله ـ ونعم الوكيل ـ الذي أوكلنا إليه كل أمورنا ومواقفنا، فماذا كانت النتيجة ـ فانقلبوا بنعمة من الله ـ الذي أنعم عليهم، فأعطاهم قوّة فوق قوتهم ـ وفضل ـ بما هيأه لهم من الظروف ـ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ـ لأنهم رأوا الإيمان يستتبع العمل ـ والله ذو فضل عظيم ـ ثم سمعوا من الله النداء، فاستمدوا مناعةً في طبيعة القوّة النفسية، وابتعدوا عن السقوط أمام تخويف الآخرين بكل حربهم النفسية والإعلامية والسياسية، لأن كل هذا الخوف الذي يريد أن يسقط القوة ويضعف العزيمة ويجعل الإرادة تنهار هو من الشيطان ـ إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه ـ يخوّف الذين لا يملكون الانفتاح على ولاية الله، بل الذين يتبعون الشيطان ـ فلا تخافوهم ـ لأنهم لا يملكون من الأمر شيئاً ـ وخافوني ـ احسبوا حسابي في كل مشروع تتحركون فيه، وفي كل خطوة تخطونها، وفي كل مواجهة تختارونها أو تفرض عليكم ـ إن كنتم مؤمنين}، لأن المؤمن هو الذي يخاف الله ولا يخاف غيره، وقد ورد في بعض الأحاديث: "إن التوكل على الله هو أن لا تخاف مع الله أحداً".

هذه الآية الكريمة تمثّل الخطّ الذي يريد الله تعالى للمؤمنين في مواقف التحدي التي يفرضها الآخرون عليهم، أن ينتصروا في الحرب النفسية، لأن الحرب النفسية تحاول أن تخاطب نقاط الضعف فينا لتزيدنا ضعفاً، وأن تسقط نقاط القوة فينا لتضعف قوتنا، ولتهز كل مشاعرنا، حتى نشعر أنّ الأرض تهتزُّ من تحت أقدامنا، وأنه لا مجال للتوازن، تماماً كما حدثنا الله عن بعض الناس في وقعة "الأحزاب" التي بدأت بالحرب النفسية ضد المؤمنين: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم* وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ـ أما المؤمنون فإنهم يقولون ـ هذا ما وعدنا الله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.

إن الله تعالى يريد من الأمة كلها ـ ولا سيما الأمة الإسلامية ـ عندما توجّه إليها الحرب النفسية باستثارة نقاط الضعف فيها، وتحريك نقاط القوة لدى العدو، إن الله يريد من المسلمين أن يعملوا على أساس استثارة نقاط القوة فيهم. نحن يوجد عندنا نقاط ضعف في الجانب الثقافي والسياسي وربما العسكري، ولكننا نملك أيضاً نقاط قوة، لقد كان تاريخنا يتحرك بين نقاط قوة استطاع المسلمون فيها أن يفتحوا العالم ويقدموا له حضارة جديدة انفتح بها على كل ما قام به من نشاط حضاري، إن المسلمين كانوا يتحركون في نقاط القوة عندهم، وكانوا يعتبرون أن الإيمان بالله لا يمثل مجرد نبضة في العقل أو في القلب، أو مجرد عبادة لا معنى لها في الروح، ولكنهم يعتقدون أن الإيمان بالله يعطي العقل قوةً في التفكير، والقلب قوة في الثبات، والموقف قوةً في الحركة، ولذلك انتصروا.

حتى إننا في تاريخنا القريب، وفي أكثر من بلد إسلامي، استطعنا أن نطرد المستكبرين عندما احتلوا بلادنا، ربما سيطروا على الواقع مدة من الزمن، ولكن الأمة استطاعت أن تجمع نفسها وتستثير قوتها، وخرج الاستعمار من بلادنا من دون رجعة. لذلك، إذا أرادوا منا أن نفكر في نقاط ضعفنا، فإن علينا أن نفكر بنقاط قوتنا أيضاً، وإذا أرادونا أن نفكر بنقاط قوتهم فعلينا أن نفكر أيضاً بنقاط ضعفهم، لأن علينا أن نفهم حقيقة في سنن الله في الكون، وهي أنه ليس هناك ضعف خالد أو مطلق، وليس هناك قوة خالدة أو مطلقة، قوة الله وحدها هي الخالدة، ولكن القوي اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، والضعيف اليوم قد يكون قوياً غداً، وقد ركّز الله تعالى قاعدةً إنسانية في كتابه عندما قال للإنسان إني أعطيتك العقل والإرادة والقوة، ولذلك فإنك تستطيع أن تغيّر واقعك بتغيير ذهنيتك ونظرتك إلى الأشياء ووعيك للأمور: {إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.

أيها الإنسان، أنت الذي تستطيع أن تصنع التغيير في حركة الإنسان في العالم، لأن الله جعل الكثير من حركة القضاء والقدر بيدك، ولأن الله جعل أحد أسباب التغيير حركة الإنسان في هذا المجال أو ذاك، حتى إن الله تعالى تحدث في هذا الاتجاه في الجانب السلبي فقال: {ذلك بأن الله لم يكن مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، إنكم أيها الناس عندما أراد الله لكم وقدّر أن تعيشوا الحرية، فإنكم قد تتحوّلون إلى العبودية عندما تتغيّر ذهنية إرادة الحرية في نفوسكم، والله إذا أراد لكم أن تكونوا الأقوياء فإنكم سوف تنتقلون إلى الضعف إذا غيّرتكم إرادة القوة لتنفتحوا على مواقع الضعف.

الآلام متبادلة في حركة الصراع

ربما يحدِّثنا المستكبرون في أساليب الحرب النفسية عن الآلام التي تصيبنا إذا وقفنا من أجل أن نواجه مسألة الحرية بقوة، وإذا أردنا أن نواجه مسألة العزة والكرامة، ربما يثيرون لنا المآسي التي قد تصيبنا، ويقولون لنا: تعالوا وسلّموا لنا أمركم ونحن نعطيكم الحرية مجاناً، جنودنا يدافعون عنكم ويريدون لكم الخير، نحن نعطيكم الديمقراطية من دون ألم، لماذا تعيشون هذا السير في دروب الآلام؟؟ ولكن الله تعالى يقول لنا: لا تلتفتوا إلى الذين يثيرون لكم آلامكم لتسقطوا تحت هذه الآلام، حيث قال تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ـ إن المسألة هي أن آلامكم هي من طبيعة مواقفكم من أجل حريتكم ودينكم، ولكنهم يألمون لأنكم تصنعون لهم الآلام بقوتكم ومواقفكم، والفرق بينهم وبينكم أنهم يعتمدون على شياطينهم وقوتهم المادية، أما أنتم ـ وترجون من الله ما لا يرجون}، ويقول تعالى لنا: {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، لا تعتبروا أن هؤلاء الذين يثيرون الجراح أمامكم خالدون، إن المرحلة قد تكون لكم في المستقبل، لأن الله منذ أن خلق الإنسان في الكون، لم يجعل لأية قوة أن تستمر أو تخلد: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.

وهناك نقطة أخيرة في هذا الاتجاه، وهي أن الله تعالى أراد لنا أن نكون الأعزة، ولم يسمح لنا أن نأخذ بأسباب الذل: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، ويقول الإمام الصادق (ع): "إن الله فوّض إلى المؤمن جميع أموره ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً". كيف نأخذ بأسباب الذل؟ عندما تكون أمورنا بيد غيرنا لا بأيدينا، وعندما يقرر الآخرون ـ ولا سيما المستكبرون والكافرون ـ مصيرنا على قياس مصالحهم، هم يعطون التعليمات ونحن ننفذ، هم يحرروننا من الظالمين ولا نحرر أنفسنا، ننتظر الآخرين أن يحررونا ونحن نعرف أنهم يريدون أن يستعبدونا أكثر، وأن يخرجونا من ديكتاتورية إلى ديكتاتورية أخرى، لأن مصالحهم تفرض ذلك.

العالم الإسلامي: فقدان القرار في تقرير المصير

إن العالم الإسلامي في هذه المرحلة، ومن خلال الأنظمة المفروضة عليه، والتي أدمنها وابتعد عن مواجهتها بقوة، فقد قراره في تقرير مصيره. إننا نلاحظ أن القوم الآن عندما يتحدثون عن القضية الفلسطينية، نجد أن الذين يريدون أن يعملوا على حلها هم اللجنة الرباعية الدولية، أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وليس فيهم عربي أو مسلم واحد، وإسرائيل تفرض عليهم رؤيتها ولا يملكون أمامها شيئاً، والبعض، ولا سيما الأنظمة العربية، يلهثون وراء ما يسمى "خارطة الطريق"، ولم تسلّم لهم حتى هذه الخريطة.

إننا نلاحظ أنهم عندما تحدثوا عن الحرب ضد العراق، تحدثوا عن كيفية ترتيب الوضع بالحرب، وقد اجتمعوا الآن ـ حتى الذين اختلفوا في مجلس الأمن من الأوروبيين والروس والأمريكيين ـ ليتقاسموا الجبنة، وليفكروا بما بعد الحرب، ما هي القيادة العسكرية التي سوف تدير أمر العراقيين، كيف يمكن أن تتقاسم الشركات عملية إعمار العراق أو التصرف في نفطه، لم يستشيروا حاكماً عربياً أو إسلامياً واحداً أو شعباً إسلامياً أو عربياً واحداً، لأن قضايانا المصيرية تصنع في واشنطن وباريس ولندن وغيرها من العواصم، هل هذه هي عزة المسلمين؟ ونحن نعيش الاسترخاء واللهاث وراء فضائية هنا وفضائية هناك، والقوم يمارسون الآن الحرب النفسية لنشعر أننا سقطنا قبل أن ندخل المعركة.

العدوان يستهدف كل الأمة

القصة الآن ليست قصة العراق أو قصة إسقاط النظام العراقي الذي يجب أن يسقط، بل القصة هي قصة الأمة كلها، نحن نفكر على مستوى العالم الإسلامي كله، أن ينتفض ويأخذ بأسباب القوة، وأن يواجه قضايا حريته وعزته وكرامته ولو بعد خمسين سنة، لأن قضايا الأجيال والشعوب والأمة لا تقاس بالسنوات ولكنها تقاس بالأجيال كلها، وقد قال الله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}. إن الله لن يخذل الذين يؤمنون به، ويثقون به ويتحركون في المنهج الذي فرضه، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستنفار في مواقع التحدي

عباد الله.. اتقوا الله في حاضركم ومستقبلكم، في مصيركم، في قضايا الحرية في حياة الأمة، وفي قضايا العزة والكرامة، اتقوا الله فلا تتخاذلوا ولا تضعفوا ولا تهنوا، ولا تأخذوا بأسباب الفتنة، ولا سيما في المرحلة التي يطبق فيها الاستكبار كله على المستضعفين كلهم، لا تستسلموا أمام الإعلام الذي يريد أن يسقط روحيتكم ومواقفكم. خذوا بأسباب القوة، ولا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وقد هدد الله تعالى الذين يوالون الكافرين ويعملون على تمكين الكافرين من المسلمين: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذّركم الله نفسه والى الله المصير}، هؤلاء الذين يتحركون ليدخلوا بلادهم تحت مظلة القوات المحتلة يقول الله فيهم: {بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً* الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً}.

إن علينا أن نعمل على أساس أن نصبر ونصابر، لأن الله تعالى يريد لنا أن نكون في مواقع التحدي مستنفِرين، ولكن لا بالفوضى والانفعال، بل بالتخطيط ودراسة الأمور فكرياً وميدانياً، فتعالوا لنناقش منطق هؤلاء المستكبرين في شعاراتهم التي يطلقونها في إعلامهم، الذين يقولون لنا إنهم محررون، ويريدون أن يقدموا لنا الحضارة:

إيحاءات أمريكية مزيفة في حرب العراق

"إننا نحتلكم لننقذكم، ونستعبدكم لكي نحرركم، ونقتلكم لكي نمنحكم الحياة"؟! هذه هي إيحاءات الحرب الأمريكية ضد العراق.. وتمتد المقولة في سياسة الإدارة الأمريكية للفلسطينيين: "إننا ندعم إسرائيل لتقتلكم، أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، ولتدمّر البنية التحتية لكم، ولتلاحق الأحرار والمجاهدين من الشعب الفلسطيني في انتفاضته التحريرية، لأنكم ـ أيها الفلسطينيون ـ تمثِّلون الإرهاب للدولة المميّزة عندنا وهي إسرائيل، ما يجعلها في حالة الدفاع عن النفس، لأنكم ـ حسب زعمهم ـ احتللتم فلسطين وهي إرث مقدساتهم.

إن هذا هو منطق الإدارة الأمريكية المتطابقة مع الإدارة الإسرائيلية، لأنهما تنطلقان من موقع واحد وهو إضعاف القوة العربية والإسلامية بكل الوسائل، بما فيها الاتهام بحيازة أسلحة الدمار الشامل أو بالتخطيط ـ ولو في المستقبل ـ لذلك، لتبقى إسرائيل الدولة الأقوى التي من حقها ـ حسب المنطق الأمريكي والإسرائيلي ـ الدفاع عن نفسها أمام محاصرتها بدولٍ عدوّة..

تماثل في المجازر الصهيونية والأمريكية

ومن هذا التطابق بين الأمريكي والإسرائيلي، أن الصحف الإسرائيلية نشرت صور المئات من الضحايا العراقيين المدنيين، الذين سقطوا بفعل المجازر التي قامت بها قوات التحالف الأمريكية والبريطانية، لتوجّه نداءها إلى الشعبين الأمريكي والبريطاني أن عليهم أن يقدّموا لإسرائيل العذر في قتل المدنيين الفلسطينيين لاضطرارها إلى ذلك في ملاحقتها للمجاهدين، أو لوقوع ذلك بسبب الخطأ، لأن الجيشين الأمريكي والبريطاني فعلا ذلك في حربهما على العراق.. وهذا هو الذي جعل الذهنية مشتركةً بين اليهود والأمريكيين في احتقار الإنسان العربي والمسلم.

إن حركة الحرب ضد العراق لم تنطلق من موقع الصدق في العناوين التي طرحتها الإدارة الأمريكية، بل انطلقت ـ في كل امتداداتها ـ من مصالحها في الجانب المحلي والإقليمي والدولي، مستغلةً قوتها الهائلة الضاربة التي تجعلها في موقع الذي يملك الحرب والسلم لحساباته الذاتية، حتى لو رفض العالم ذلك، لأنها القوة التي لا تسمح لأحد في العالم أن يعارضها، وإذا فعل فإنها تهدده بالعقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.. وهذا هو الذي سمعناه من المسؤولين الأمريكيين في خطابهم الاستعلائي حتى على الدول الكبرى المتحالفة معها، عندما رفضت قرار الحرب في مجلس الأمن.

إنّ على العالم أن يراجع حساباته بدقة، أمام هذا الجبروت الشيطاني الذي يستغل الشعارات الدينية الإنجيلية لقتل الشعوب الآمنة والسيطرة عليها.. إن الطريقة التي استعملتها أمريكا ـ ومعها بريطانيا ـ تؤدي إلى احتقار مجلس الأمن وإبعاده عن الفاعلية في حماية السلام واحترام حقوق الشعوب، ما يجعل العالم يعيش في غابة الذئاب التي تخطط لافتراس الحملان المغلوبة على أمرها..

وربما كان من اللافت أن الدول المعارضة لحرب أمريكا، بدأت تنفتح عليها لتتمنى لها النصر، ولتبحث مصالحها المستقبلة بعد الحرب، لتتقاسم معها الغنائم التي لن يكون للشعب العراقي حصة فيها، على أساس المقولة الاستكبارية: "ما لنا لنا، وما لكم لنا"..

إن الآخرين لن يقلّعوا لنا أشواكنا، بل سوف يزرعون الكثير من الأشواك السياسية والاقتصادية والأمنية الجديدة، فلنفكّر كيف نخطط لنقلّع شوكنا بأظافرنا ولو استمر ذلك زمناً طويلاً، فما ضاع حق وراءه مطالب.

حذار من الاعتداء على الأماكن المقدسة

وفي هذا الجو، فإننا نحذّر القوات الأمريكية والبريطانية التي تصنع المأساة في المنطقة بمجازرها العسكرية والسياسية والاقتصادية، تحذيراَ شديداً من العدوان على الأماكن الإسلامية المقدّسة، لأنها تتصل بالقيمة الروحية للشخصيات المقدّسة التي يقدّسها المسلمون في عقيدتهم، ما يجعل من الإساءة إليها إساءة للقيمة الإسلامية التي ترتبط بالواقع الإسلامي في العالم كله، كما هي إساءة للإنسان الذي هو القيمة في حرماته التي هي في المستوى الأعلى من القيمة.

وبهذه المناسبة، فإننا ندعو المسلمين ـ وكل الأحرار في العالم ـ إلى الوقوف بقوة ضد هذه الجريمة، والمواجهة الجادّة للاحتلال كله، والبُعد عن تصديق كل شعاراتهم في اعتبار حربهم حرب تحرير، لأن ذلك هو الذي يبعدنا عن السذاجة السياسية التي تحدّق في الزوايا الضيّقة، ولا تنفتح على الأفق الواسع لقضية الإنسان..

لا شرعية لأي احتلال

وعلينا أن نبقى في خط المواجهة للعدو الصهيوني، وفي دعم الشعب الفلسطيني الذي أُخرج من دائرة الضوء في الاهتمام العالمي، فلم يعد أحد يفكر بالمجازر اليومية والاعتقالات العشوائية، والتدمير والمصادرة للأراضي الفلسطينية.. إن علينا أن لا ننسى فلسطين، ولنعرف أن المعركة واحدة، وهي معركة أمريكا لحساب بقاء القوة الإسرائيلية في المنطقة كأقوى دولة في إمكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، من خلال الدعم الأمريكي المطلق لها..

إنّ المستقبل مليءٌ بالتحدّيات، وقد بدأ الآخرون يخططون لمستقبل خالٍ من كل عناصر القوة للأمة، وليفرضوا علينا بعض الحكام والأنظمة التي تمثل حراسة مصالح المستكبرين، ليستبدلوا بعد انتهاء دورهم طاغية مستهلَكاً بطاغية جديد..

ولذلك فإننا كعرب ومسلمين وأحرار لن نعطي أية شرعية لأية حكومة تنشأ في العراق تحت إدارة أمريكية، لأن هذا الرجل الذي يريد أن يكون رئيساً للحكومة العراقية من قِبَل الإدارة الأمريكية كان يعيش في إسرائيل، وهو الذي كان يقول للصهاينة: اقتلوا الفلسطينيين بدون رحمة. أي حكومة هي هذه التي تأخذ الشرعية من المحتل أياً كان المحتل. إن الحكومة العراقية الشرعية هي التي ينتخبها الشعب العراقي بكل إرادته وبحرية واستقلالية.

إننا ندعو إلى الوعي الذي يتجاوز الخاص إلى العام، والزاوية الضيّقة إلى الأفق الواسع، لأن المسألة هي مسألة الأمة كلها، ولن يسلم أحد حتى الذين يساعدون الاستكبار العالمي، لأن الاستكبار لا يؤمن بإنسانية الشعوب، ولا سيما المستضعفة منها، ولا يحترم عملاءه، الذين يهيئون الفرص لاحتلال بلادهم، بل يحتقرهم لأنهم خانوها، وهو يؤمن بسيطرة الشركات الاحتكارية الكبرى التي تصنع الإدارات الرسمية في أمريكا وغيرها. وبذلك نعرف أن الديمقراطية الأمريكية هي ديمقراطية الشركات الاحتكارية التي تسيطر على مقدرات الأمور، وليست ديمقراطية الشعب الأمريكي.

لأن الله تعالى أرادنا أن نأخذ بأسباب العزة:
لماذا يُسقط العالم الإسلامي قراره بتقرير مصيره؟!


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

انفتاح على عناصر القوة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد، وهو يصف الطليعة الإسلامية الواعية القوية التي تنفتح على الله تعالى، لتنفتح على عناصر القوة في الموقف، ولتأخذ من إيمانها بالله الإحساس بالقوّة بالمستوى الذي يصل بها إلى أن تتحدى كلّ قوة أخرى، يقول تعالى عن هذه الطليعة من صحابة النبي (ص) في وقعة "أحد": {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ـ أنتم لا تمثلون في المنطقة التي تعيشون فيها الصراع الكثرة العددية، ولا تمثلون القوة العسكرية والاقتصادية، أما الناس الآخرون الذين يواجهونكم، فهم يمثلون القوة كلها، والكثرة كلها، وقد جمعوا لكم ـ فاخشوهم ـ استسلموا لهم، اسقطوا أمام قوتهم، لا تواجهوهم لأن المواجهة تفرض نوعاً من توازن القوة بين المهاجِم والمهاجَم، فإذا كانت موازين القوة مختلة فعلى الضعيف أن يستسلم للقوي، هكذا كانوا يقولون لهم ـ فزادهم إيماناً ـ لم يخافوهم ولم يخشوهم بالرغم من أنهم يدركون اختلال موازين القوى من الناحية المادية، ولكنهم مؤمنون بالله القوي القادر الجبّار القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كله، ولذلك نجد أنهم أدخلوا أنفسهم في المقارنة بين قوة الله تعالى خالق السماوات والأرض وقوة الناس، فشعروا أنّ الله هو الأقوى والأعظم والأكبر، فاستمدوا القوة منه وتوكلوا عليه، وركّزوا مواقفهم واستعدوا لمواجهة الكافرين والمستكبرين بوسائلهم الخاصة، متوكلين على الله، ـ وقالوا حسبنا الله ـ مَن الذي يملك الأمر في مقابل الله ـ ونعم الوكيل ـ الذي أوكلنا إليه كل أمورنا ومواقفنا، فماذا كانت النتيجة ـ فانقلبوا بنعمة من الله ـ الذي أنعم عليهم، فأعطاهم قوّة فوق قوتهم ـ وفضل ـ بما هيأه لهم من الظروف ـ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ـ لأنهم رأوا الإيمان يستتبع العمل ـ والله ذو فضل عظيم ـ ثم سمعوا من الله النداء، فاستمدوا مناعةً في طبيعة القوّة النفسية، وابتعدوا عن السقوط أمام تخويف الآخرين بكل حربهم النفسية والإعلامية والسياسية، لأن كل هذا الخوف الذي يريد أن يسقط القوة ويضعف العزيمة ويجعل الإرادة تنهار هو من الشيطان ـ إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه ـ يخوّف الذين لا يملكون الانفتاح على ولاية الله، بل الذين يتبعون الشيطان ـ فلا تخافوهم ـ لأنهم لا يملكون من الأمر شيئاً ـ وخافوني ـ احسبوا حسابي في كل مشروع تتحركون فيه، وفي كل خطوة تخطونها، وفي كل مواجهة تختارونها أو تفرض عليكم ـ إن كنتم مؤمنين}، لأن المؤمن هو الذي يخاف الله ولا يخاف غيره، وقد ورد في بعض الأحاديث: "إن التوكل على الله هو أن لا تخاف مع الله أحداً".

هذه الآية الكريمة تمثّل الخطّ الذي يريد الله تعالى للمؤمنين في مواقف التحدي التي يفرضها الآخرون عليهم، أن ينتصروا في الحرب النفسية، لأن الحرب النفسية تحاول أن تخاطب نقاط الضعف فينا لتزيدنا ضعفاً، وأن تسقط نقاط القوة فينا لتضعف قوتنا، ولتهز كل مشاعرنا، حتى نشعر أنّ الأرض تهتزُّ من تحت أقدامنا، وأنه لا مجال للتوازن، تماماً كما حدثنا الله عن بعض الناس في وقعة "الأحزاب" التي بدأت بالحرب النفسية ضد المؤمنين: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم* وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ـ أما المؤمنون فإنهم يقولون ـ هذا ما وعدنا الله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.

إن الله تعالى يريد من الأمة كلها ـ ولا سيما الأمة الإسلامية ـ عندما توجّه إليها الحرب النفسية باستثارة نقاط الضعف فيها، وتحريك نقاط القوة لدى العدو، إن الله يريد من المسلمين أن يعملوا على أساس استثارة نقاط القوة فيهم. نحن يوجد عندنا نقاط ضعف في الجانب الثقافي والسياسي وربما العسكري، ولكننا نملك أيضاً نقاط قوة، لقد كان تاريخنا يتحرك بين نقاط قوة استطاع المسلمون فيها أن يفتحوا العالم ويقدموا له حضارة جديدة انفتح بها على كل ما قام به من نشاط حضاري، إن المسلمين كانوا يتحركون في نقاط القوة عندهم، وكانوا يعتبرون أن الإيمان بالله لا يمثل مجرد نبضة في العقل أو في القلب، أو مجرد عبادة لا معنى لها في الروح، ولكنهم يعتقدون أن الإيمان بالله يعطي العقل قوةً في التفكير، والقلب قوة في الثبات، والموقف قوةً في الحركة، ولذلك انتصروا.

حتى إننا في تاريخنا القريب، وفي أكثر من بلد إسلامي، استطعنا أن نطرد المستكبرين عندما احتلوا بلادنا، ربما سيطروا على الواقع مدة من الزمن، ولكن الأمة استطاعت أن تجمع نفسها وتستثير قوتها، وخرج الاستعمار من بلادنا من دون رجعة. لذلك، إذا أرادوا منا أن نفكر في نقاط ضعفنا، فإن علينا أن نفكر بنقاط قوتنا أيضاً، وإذا أرادونا أن نفكر بنقاط قوتهم فعلينا أن نفكر أيضاً بنقاط ضعفهم، لأن علينا أن نفهم حقيقة في سنن الله في الكون، وهي أنه ليس هناك ضعف خالد أو مطلق، وليس هناك قوة خالدة أو مطلقة، قوة الله وحدها هي الخالدة، ولكن القوي اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، والضعيف اليوم قد يكون قوياً غداً، وقد ركّز الله تعالى قاعدةً إنسانية في كتابه عندما قال للإنسان إني أعطيتك العقل والإرادة والقوة، ولذلك فإنك تستطيع أن تغيّر واقعك بتغيير ذهنيتك ونظرتك إلى الأشياء ووعيك للأمور: {إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.

أيها الإنسان، أنت الذي تستطيع أن تصنع التغيير في حركة الإنسان في العالم، لأن الله جعل الكثير من حركة القضاء والقدر بيدك، ولأن الله جعل أحد أسباب التغيير حركة الإنسان في هذا المجال أو ذاك، حتى إن الله تعالى تحدث في هذا الاتجاه في الجانب السلبي فقال: {ذلك بأن الله لم يكن مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، إنكم أيها الناس عندما أراد الله لكم وقدّر أن تعيشوا الحرية، فإنكم قد تتحوّلون إلى العبودية عندما تتغيّر ذهنية إرادة الحرية في نفوسكم، والله إذا أراد لكم أن تكونوا الأقوياء فإنكم سوف تنتقلون إلى الضعف إذا غيّرتكم إرادة القوة لتنفتحوا على مواقع الضعف.

الآلام متبادلة في حركة الصراع

ربما يحدِّثنا المستكبرون في أساليب الحرب النفسية عن الآلام التي تصيبنا إذا وقفنا من أجل أن نواجه مسألة الحرية بقوة، وإذا أردنا أن نواجه مسألة العزة والكرامة، ربما يثيرون لنا المآسي التي قد تصيبنا، ويقولون لنا: تعالوا وسلّموا لنا أمركم ونحن نعطيكم الحرية مجاناً، جنودنا يدافعون عنكم ويريدون لكم الخير، نحن نعطيكم الديمقراطية من دون ألم، لماذا تعيشون هذا السير في دروب الآلام؟؟ ولكن الله تعالى يقول لنا: لا تلتفتوا إلى الذين يثيرون لكم آلامكم لتسقطوا تحت هذه الآلام، حيث قال تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ـ إن المسألة هي أن آلامكم هي من طبيعة مواقفكم من أجل حريتكم ودينكم، ولكنهم يألمون لأنكم تصنعون لهم الآلام بقوتكم ومواقفكم، والفرق بينهم وبينكم أنهم يعتمدون على شياطينهم وقوتهم المادية، أما أنتم ـ وترجون من الله ما لا يرجون}، ويقول تعالى لنا: {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، لا تعتبروا أن هؤلاء الذين يثيرون الجراح أمامكم خالدون، إن المرحلة قد تكون لكم في المستقبل، لأن الله منذ أن خلق الإنسان في الكون، لم يجعل لأية قوة أن تستمر أو تخلد: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.

وهناك نقطة أخيرة في هذا الاتجاه، وهي أن الله تعالى أراد لنا أن نكون الأعزة، ولم يسمح لنا أن نأخذ بأسباب الذل: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، ويقول الإمام الصادق (ع): "إن الله فوّض إلى المؤمن جميع أموره ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً". كيف نأخذ بأسباب الذل؟ عندما تكون أمورنا بيد غيرنا لا بأيدينا، وعندما يقرر الآخرون ـ ولا سيما المستكبرون والكافرون ـ مصيرنا على قياس مصالحهم، هم يعطون التعليمات ونحن ننفذ، هم يحرروننا من الظالمين ولا نحرر أنفسنا، ننتظر الآخرين أن يحررونا ونحن نعرف أنهم يريدون أن يستعبدونا أكثر، وأن يخرجونا من ديكتاتورية إلى ديكتاتورية أخرى، لأن مصالحهم تفرض ذلك.

العالم الإسلامي: فقدان القرار في تقرير المصير

إن العالم الإسلامي في هذه المرحلة، ومن خلال الأنظمة المفروضة عليه، والتي أدمنها وابتعد عن مواجهتها بقوة، فقد قراره في تقرير مصيره. إننا نلاحظ أن القوم الآن عندما يتحدثون عن القضية الفلسطينية، نجد أن الذين يريدون أن يعملوا على حلها هم اللجنة الرباعية الدولية، أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وليس فيهم عربي أو مسلم واحد، وإسرائيل تفرض عليهم رؤيتها ولا يملكون أمامها شيئاً، والبعض، ولا سيما الأنظمة العربية، يلهثون وراء ما يسمى "خارطة الطريق"، ولم تسلّم لهم حتى هذه الخريطة.

إننا نلاحظ أنهم عندما تحدثوا عن الحرب ضد العراق، تحدثوا عن كيفية ترتيب الوضع بالحرب، وقد اجتمعوا الآن ـ حتى الذين اختلفوا في مجلس الأمن من الأوروبيين والروس والأمريكيين ـ ليتقاسموا الجبنة، وليفكروا بما بعد الحرب، ما هي القيادة العسكرية التي سوف تدير أمر العراقيين، كيف يمكن أن تتقاسم الشركات عملية إعمار العراق أو التصرف في نفطه، لم يستشيروا حاكماً عربياً أو إسلامياً واحداً أو شعباً إسلامياً أو عربياً واحداً، لأن قضايانا المصيرية تصنع في واشنطن وباريس ولندن وغيرها من العواصم، هل هذه هي عزة المسلمين؟ ونحن نعيش الاسترخاء واللهاث وراء فضائية هنا وفضائية هناك، والقوم يمارسون الآن الحرب النفسية لنشعر أننا سقطنا قبل أن ندخل المعركة.

العدوان يستهدف كل الأمة

القصة الآن ليست قصة العراق أو قصة إسقاط النظام العراقي الذي يجب أن يسقط، بل القصة هي قصة الأمة كلها، نحن نفكر على مستوى العالم الإسلامي كله، أن ينتفض ويأخذ بأسباب القوة، وأن يواجه قضايا حريته وعزته وكرامته ولو بعد خمسين سنة، لأن قضايا الأجيال والشعوب والأمة لا تقاس بالسنوات ولكنها تقاس بالأجيال كلها، وقد قال الله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}. إن الله لن يخذل الذين يؤمنون به، ويثقون به ويتحركون في المنهج الذي فرضه، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستنفار في مواقع التحدي

عباد الله.. اتقوا الله في حاضركم ومستقبلكم، في مصيركم، في قضايا الحرية في حياة الأمة، وفي قضايا العزة والكرامة، اتقوا الله فلا تتخاذلوا ولا تضعفوا ولا تهنوا، ولا تأخذوا بأسباب الفتنة، ولا سيما في المرحلة التي يطبق فيها الاستكبار كله على المستضعفين كلهم، لا تستسلموا أمام الإعلام الذي يريد أن يسقط روحيتكم ومواقفكم. خذوا بأسباب القوة، ولا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وقد هدد الله تعالى الذين يوالون الكافرين ويعملون على تمكين الكافرين من المسلمين: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذّركم الله نفسه والى الله المصير}، هؤلاء الذين يتحركون ليدخلوا بلادهم تحت مظلة القوات المحتلة يقول الله فيهم: {بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً* الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً}.

إن علينا أن نعمل على أساس أن نصبر ونصابر، لأن الله تعالى يريد لنا أن نكون في مواقع التحدي مستنفِرين، ولكن لا بالفوضى والانفعال، بل بالتخطيط ودراسة الأمور فكرياً وميدانياً، فتعالوا لنناقش منطق هؤلاء المستكبرين في شعاراتهم التي يطلقونها في إعلامهم، الذين يقولون لنا إنهم محررون، ويريدون أن يقدموا لنا الحضارة:

إيحاءات أمريكية مزيفة في حرب العراق

"إننا نحتلكم لننقذكم، ونستعبدكم لكي نحرركم، ونقتلكم لكي نمنحكم الحياة"؟! هذه هي إيحاءات الحرب الأمريكية ضد العراق.. وتمتد المقولة في سياسة الإدارة الأمريكية للفلسطينيين: "إننا ندعم إسرائيل لتقتلكم، أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، ولتدمّر البنية التحتية لكم، ولتلاحق الأحرار والمجاهدين من الشعب الفلسطيني في انتفاضته التحريرية، لأنكم ـ أيها الفلسطينيون ـ تمثِّلون الإرهاب للدولة المميّزة عندنا وهي إسرائيل، ما يجعلها في حالة الدفاع عن النفس، لأنكم ـ حسب زعمهم ـ احتللتم فلسطين وهي إرث مقدساتهم.

إن هذا هو منطق الإدارة الأمريكية المتطابقة مع الإدارة الإسرائيلية، لأنهما تنطلقان من موقع واحد وهو إضعاف القوة العربية والإسلامية بكل الوسائل، بما فيها الاتهام بحيازة أسلحة الدمار الشامل أو بالتخطيط ـ ولو في المستقبل ـ لذلك، لتبقى إسرائيل الدولة الأقوى التي من حقها ـ حسب المنطق الأمريكي والإسرائيلي ـ الدفاع عن نفسها أمام محاصرتها بدولٍ عدوّة..

تماثل في المجازر الصهيونية والأمريكية

ومن هذا التطابق بين الأمريكي والإسرائيلي، أن الصحف الإسرائيلية نشرت صور المئات من الضحايا العراقيين المدنيين، الذين سقطوا بفعل المجازر التي قامت بها قوات التحالف الأمريكية والبريطانية، لتوجّه نداءها إلى الشعبين الأمريكي والبريطاني أن عليهم أن يقدّموا لإسرائيل العذر في قتل المدنيين الفلسطينيين لاضطرارها إلى ذلك في ملاحقتها للمجاهدين، أو لوقوع ذلك بسبب الخطأ، لأن الجيشين الأمريكي والبريطاني فعلا ذلك في حربهما على العراق.. وهذا هو الذي جعل الذهنية مشتركةً بين اليهود والأمريكيين في احتقار الإنسان العربي والمسلم.

إن حركة الحرب ضد العراق لم تنطلق من موقع الصدق في العناوين التي طرحتها الإدارة الأمريكية، بل انطلقت ـ في كل امتداداتها ـ من مصالحها في الجانب المحلي والإقليمي والدولي، مستغلةً قوتها الهائلة الضاربة التي تجعلها في موقع الذي يملك الحرب والسلم لحساباته الذاتية، حتى لو رفض العالم ذلك، لأنها القوة التي لا تسمح لأحد في العالم أن يعارضها، وإذا فعل فإنها تهدده بالعقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.. وهذا هو الذي سمعناه من المسؤولين الأمريكيين في خطابهم الاستعلائي حتى على الدول الكبرى المتحالفة معها، عندما رفضت قرار الحرب في مجلس الأمن.

إنّ على العالم أن يراجع حساباته بدقة، أمام هذا الجبروت الشيطاني الذي يستغل الشعارات الدينية الإنجيلية لقتل الشعوب الآمنة والسيطرة عليها.. إن الطريقة التي استعملتها أمريكا ـ ومعها بريطانيا ـ تؤدي إلى احتقار مجلس الأمن وإبعاده عن الفاعلية في حماية السلام واحترام حقوق الشعوب، ما يجعل العالم يعيش في غابة الذئاب التي تخطط لافتراس الحملان المغلوبة على أمرها..

وربما كان من اللافت أن الدول المعارضة لحرب أمريكا، بدأت تنفتح عليها لتتمنى لها النصر، ولتبحث مصالحها المستقبلة بعد الحرب، لتتقاسم معها الغنائم التي لن يكون للشعب العراقي حصة فيها، على أساس المقولة الاستكبارية: "ما لنا لنا، وما لكم لنا"..

إن الآخرين لن يقلّعوا لنا أشواكنا، بل سوف يزرعون الكثير من الأشواك السياسية والاقتصادية والأمنية الجديدة، فلنفكّر كيف نخطط لنقلّع شوكنا بأظافرنا ولو استمر ذلك زمناً طويلاً، فما ضاع حق وراءه مطالب.

حذار من الاعتداء على الأماكن المقدسة

وفي هذا الجو، فإننا نحذّر القوات الأمريكية والبريطانية التي تصنع المأساة في المنطقة بمجازرها العسكرية والسياسية والاقتصادية، تحذيراَ شديداً من العدوان على الأماكن الإسلامية المقدّسة، لأنها تتصل بالقيمة الروحية للشخصيات المقدّسة التي يقدّسها المسلمون في عقيدتهم، ما يجعل من الإساءة إليها إساءة للقيمة الإسلامية التي ترتبط بالواقع الإسلامي في العالم كله، كما هي إساءة للإنسان الذي هو القيمة في حرماته التي هي في المستوى الأعلى من القيمة.

وبهذه المناسبة، فإننا ندعو المسلمين ـ وكل الأحرار في العالم ـ إلى الوقوف بقوة ضد هذه الجريمة، والمواجهة الجادّة للاحتلال كله، والبُعد عن تصديق كل شعاراتهم في اعتبار حربهم حرب تحرير، لأن ذلك هو الذي يبعدنا عن السذاجة السياسية التي تحدّق في الزوايا الضيّقة، ولا تنفتح على الأفق الواسع لقضية الإنسان..

لا شرعية لأي احتلال

وعلينا أن نبقى في خط المواجهة للعدو الصهيوني، وفي دعم الشعب الفلسطيني الذي أُخرج من دائرة الضوء في الاهتمام العالمي، فلم يعد أحد يفكر بالمجازر اليومية والاعتقالات العشوائية، والتدمير والمصادرة للأراضي الفلسطينية.. إن علينا أن لا ننسى فلسطين، ولنعرف أن المعركة واحدة، وهي معركة أمريكا لحساب بقاء القوة الإسرائيلية في المنطقة كأقوى دولة في إمكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، من خلال الدعم الأمريكي المطلق لها..

إنّ المستقبل مليءٌ بالتحدّيات، وقد بدأ الآخرون يخططون لمستقبل خالٍ من كل عناصر القوة للأمة، وليفرضوا علينا بعض الحكام والأنظمة التي تمثل حراسة مصالح المستكبرين، ليستبدلوا بعد انتهاء دورهم طاغية مستهلَكاً بطاغية جديد..

ولذلك فإننا كعرب ومسلمين وأحرار لن نعطي أية شرعية لأية حكومة تنشأ في العراق تحت إدارة أمريكية، لأن هذا الرجل الذي يريد أن يكون رئيساً للحكومة العراقية من قِبَل الإدارة الأمريكية كان يعيش في إسرائيل، وهو الذي كان يقول للصهاينة: اقتلوا الفلسطينيين بدون رحمة. أي حكومة هي هذه التي تأخذ الشرعية من المحتل أياً كان المحتل. إن الحكومة العراقية الشرعية هي التي ينتخبها الشعب العراقي بكل إرادته وبحرية واستقلالية.

إننا ندعو إلى الوعي الذي يتجاوز الخاص إلى العام، والزاوية الضيّقة إلى الأفق الواسع، لأن المسألة هي مسألة الأمة كلها، ولن يسلم أحد حتى الذين يساعدون الاستكبار العالمي، لأن الاستكبار لا يؤمن بإنسانية الشعوب، ولا سيما المستضعفة منها، ولا يحترم عملاءه، الذين يهيئون الفرص لاحتلال بلادهم، بل يحتقرهم لأنهم خانوها، وهو يؤمن بسيطرة الشركات الاحتكارية الكبرى التي تصنع الإدارات الرسمية في أمريكا وغيرها. وبذلك نعرف أن الديمقراطية الأمريكية هي ديمقراطية الشركات الاحتكارية التي تسيطر على مقدرات الأمور، وليست ديمقراطية الشعب الأمريكي.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية