الإمام الحسن(ع) عمل على حفظ المعارضة التي تحمل الخط الإسلامي الأصيل

الإمام الحسن(ع) عمل على حفظ المعارضة التي تحمل الخط الإسلامي الأصيل

قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم:
الإمام الحسن(ع) عمل على حفظ المعارضة التي تحمل الخط الإسلامي الأصيل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

في كنف النبوّة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، الذي كان أوّل وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وكان حبيب رسول الله (ص) و"أشبه الناس به خلقاً وهيئة وهدياً وسؤدداً"، وكان (ع) ـ كما روي عن الإمام زين العابدين(ع) ـ "أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمرُّ بأيةٍ حالة من أحواله بشيء إلا ذكر الله عزّ وجلّ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه وقال: إلهي، ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم".

وعاش الإمام الحسن(ع) في بداية طفولته الأولى في أحضان رسول الله (ص) وأمه الزهراء (ع) وأبيه أمير المؤمنين(ع)، فكان رسول الله(ص) يحمله مع أخيه الحسين(ع) ويقول: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، وعاش الإمام الحسن(ع) في هذه الأحضان الطاهرة.

رجل المهمات الصعبة

وانطلق مع أبيه بعد وفاة أمه (ع) ليكون عضداً له، حيث كان الإمام عليّ(ع) يعتمد عليه في الأمور الصعبة بعد أن تسلّم زمام الخلافة، وكانت مواقفه صلبة وقوية وثابتة، تدل على مدى ما يختزنه من قوة في الحق، وصرامة في المواجهة من أجل الحق، حتى إذا استُشهد أبوه (ع) في محراب المسجد، تسلّم الخلافة بعد أن بايعه المسلمون، ولكنّ معاوية الذي حارب أباه وعطّل بذلك الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الإمام عليّ(ع) أن يركزه في الوجدان الإسلامي والحياة الإسلامية العامة، انطلق لمواجهة الإمام الحسن(ع) وجرت بينهما مراسلات ومكاتبات، لأنه (ع) ـ كأبيه وجده ـ كان يؤمن بالحوار حتى مع الذين ينحرفون عن الحق، لأن الحوار هو الذي يحدِّد المواقف ويزيل الشبهات، ويدعو إلى التفاهم وربما إلى اللقاء، ولكنّ معاوية الذي طلب الباطل والذي يعرف أين مواقع الحق ومواقع الباطل، والذي غصب الخلافة من الخليفة الشرعي، بدأ يشتري الناس من رؤساء العشائر والقبائل بالمال، حتى أربك جيش الإمام الحسن (ع) فهدده البعض بالقتل. وهكذا من خلال خيانة هنا وخيانة هناك، أوقفت الحرب، وبدأت الهدنة التي سمّوها "صلحاً"، ولم يفِ معاوية للإمام الحسن(ع) بشيء مما وقّع هو عليه، ثم بدأ يفكر باغتياله، لأن وثيقة الصلح بينهما كانت تنصّ على أن تكون الخلافة من بعده للإمام الحسن(ع)، بينما كان يخطط لخلافة ابنه يزيد لتبدأ خلافة بني أمية التي تحوّلت معها الخلافة إلى ملك عضود لا علاقة له بالإسلام من قريب أو من بعيد، فدسّ السم للإمام الحسن(ع) من خلال زوجة منحرفة من بني الأشعث، واستُشهد الإمام الحسن(ع)، ولكنه أوصى أخاه الحسين (ع) أن يُدفن عند جده (ص)، وإن لم يستطع دفنه في البقيع فلا يدخل في أيّ صراع مسلّح مع بني أميه، لأنه كان يعرف أنهم سوف يمنعون دفنه عند جده (ص)، لأنّهم لا يريدون له هذه الكرامة، وقد استخدموا "عائشة" لذلك، وكانت تقول: "لا تدخلوا الحسن في بيتي"، وجرّد بنو هاشم سيوفهم، ولكن الإمام الحسين (ع) قال لهم: "الله الله في وصية أخي الحسن، أن لا نهرق في أمره ملء محجمة دماً".

وكان الإمام الحسن (ع) يعيش مأساةً من أقسى المآسي، ولكنه كان الصابر المنفتح، وكان الذي يعمل في سلمه وحربه من أجل مصلحة المسلمين، ومن أجل أن يحفظ المعارضة التي تحمي الخط الإسلامي الأصيل من التصفية على أيدي أولئك الذين لا يريدون للحق أن يعلو، ولا يريدون للإسلام أن ينطلق من موقع الأصالة.

تركيزه(ع) على القيم الإسلامية

وعندما نستثير ذكرى الإمام الحسن(ع)، نحاول أن نأخذ بعض كلماته التي تتصل بحياتنا العامة والخاصة. نقرأ في كلماته(ع) وهو يطلب من كل إنسان أن لا يستبد برأيه، ليتصوّر أن رأيه يمثل الحق وأنه لا حاجة به إلى آراء الناس في القضايا الخاصة أو العامة، فكانت كلمته (ع): "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، فالشورى بين الناس تجعل العقول تطرح وجهات نظرها وتتكامل في معرفة الحقيقة هنا وهناك. ولذلك فإن الإمام (ع) انطلاقاً من القرآن الكريم الذي يريد للمسلمين أن يتشاوروا في كل أمورهم، يقول للناس: إذا أردتم أن تصلوا إلى الرشاد الذي يبعدكم عن الباطل فتشاوروا، فإن من شاور الرجال شاركها في عقولها، وهذا ما ينبغي لنا أن نأخذ به في كل قضايانا العامة والخاصة، حتى لا نخطئ في إعطاء الرأي والمواقف.

وكان (ع) يتحدث عن أخٍ صالحٍ له، ومن خلال هذه الكلمات نعرف كيف يصوّر القيمة الروحية والأخلاقية التي ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزمها في حياته من خلال حديثه عن هذا الأخ الصالح. يقول(ع): "كان من أعظم الناس في عيني ـ كنت أتمثله من خلال مواكبتي له ورصدي لأعماله فيعظم في عيني ـ وكان رأس ما عظم به في عيني ـ القمة التي جعلتني أجد فيه هذه العظمة ـ صغر الدنيا في عينه ـ كان لا يعتبر الدنيا هي الغاية والقيمة والهدف، بل كان يعتبرها مجرد حاجة يلبي فيها حاجاته ومجرد موقع لممارسة مسؤوليته أمام الله تعالى، ليستعد للقاء الله من خلال ما يقوم به في الدنيا من ممارسة المسؤوليات مما يحبه الله ويرضاه، لم يكن عبد الدنيا ولكنه كان عبد الله ـ كان لا يشتكي ـ كان يعيش المشكلة والألم، ولكنه كان يصبر عليه ـ ولا يسخط ولا يتبرم ـ كان راضياً بالله وبقضائه، والصابر على كلِّ ما يصيبه ـ كان أكثر دهره صامتاً ـ لأنه كان مشغولاً بالتفكر، كان يفكر بالله ليزداد معرفةً به، وكان يفكر بالآخرة ليزداد اهتماماً بها، ويفكر بالناس ليزداد خدمةً وإصلاحاً لهم، وليس صمته صمت العاجز ـ فإذا قال بذّ القائلين ـ سبقهم ـ كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول ـ لم يكن همه في جلوسه مع العلماء أن يتحدث ليكون كل الكلام له، بل كان يعتبر جلوسه مع العلماء فرصةً ليثقف نفسه ويبني أخلاقه ـ وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت ـ لم يكن المهذار الذي يتكلم كيفما كان، فربما يتقدم عليه الذين يعيشون الرغبة في الكلام حتى لو كان من لغو القول، ولكنه كان لا ينافس في الكلام بل في السكوت، لأن مسألة السكوت عنده مسألة فكر وتخطيط وتأمل ـ كان لا يقول ما لا يفعل ـ لا يتحدث عن الأشياء التي لا يقوم بها ـ ويفعل ما لا يقول ـ أما إذا أراد أن يقوم بشيء فإنه لا يتحدث عنه، بل يقوم به على أساس أنه مسؤوليته، وليس شيئاً ذاتياً يفتخر به ويحاول أن يستعرض نفسه أمام الناس ـ كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه، نظر أقربهما من هواه فخالفه ـ لم يدرِ أي الخيارين أرضى لله، فما هو الطريق ليعرف أنه الأرضى لله؟ كان ينظر إلى ما يشتهي فيخالفه ـ كان لا يلوم أحداً على ما يقع العذر في مثله"، إذا صدر من بعض الناس كلام أو فعل وكان هناك إمكانية للعذر في ما فعل أو تكلم به، كان هذا الشخص لا يبادر إلى لومه إذا أمكن تقديم العذر له..

ومن مواعظه (ع) وهو يتحدث إلى الناس عن القيمة، كيف تكون عابداً وغنياً ومسلماً، وكيف تكون عدلاً، يقول (ع): "يابن آدم، عفّ عن محارم الله ـ لتكن لك العفة عن كل ما حرّمه الله من فعل أو قول ـ تكن عابداً ـ فالعبادة هي أن تجتنب ما حرّم الله عليك، وقد ورد في بعض كلمات عليّ (ع): "أفضل العبادة العفاف" ـ وارض بما قسم الله تكن غنياً ـ لأن القناعة بما قسم الله تجعلك تعيش غنى النفس، فلا تشعر بسقوطك في حاجاتك أمام الآخرين، وليس الغنى غنى المال ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ وهذه من خصائص الإنسان المسلم المؤمن ـ وصاحب النّاس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً ـ لأن العدالة هي أن ترضى للناس ما ترضاه لنفسك.

وقد ورد في وصية الإمام عليّ (ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لنفسك ما تحب لغيرك واكره له ما تكره لها" ـ إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ـ يجمعون الكثير من المال ونسوا مسؤوليتهم أمام الله ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بورا ـ إنهم هلكى لا وجود لهم ـ وعملهم غرورا، يابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ أن سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك ـ خذ من هذا المال والجاه وكل هذه الإمكانات لما بين يديك من مسؤولياتك، ومما تقبل عليه عند ربك ـ فإن المؤمن يتزوّد والكافر يتمتّع".

هؤلاء أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والإمام الحسن (ع) هو هذا الإمام الذي لا بد للمسلمين من أن يدرسوه دراسة واعية، ليعرفوا أنه قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم وأهله، وللانحراف وأهله، وكانت سيرة الحسن (ع) هي التي خططت لثورة الإمام الحسين (ع).

الخطبة الثانية

أيها الأحبة : إصنعوا عراقا" جديدا"ولا تستبدلوا طاغية" بإحتلال

عباد الله.. اتقوا الله، ومن تقوى الله أن تدرسوا عمق الأمور وخلفياتها، ولا تنظروا إلى السطح الذي يغري الإنسان بغير الواقع، حاولوا أن لا تنفعلوا بالأشخاص، بل حدّقوا بأعمالهم ومنطلقاتهم، عندما تواجهون الأحداث الصعبة لا تنطلقوا في حالة انفعال وارتجال، بل ادرسوا هذه الأحداث من خلال خلفياتها وامتداداتها وكل الذين يقودونها، سلباً أو إيجاباً، دفاعاً أو هجوماً، ولا تسقطوا عندما يسقط الطغاة الذين يحكمون هذا البلد أو ذاك من بلدان المسلمين، فإن الطاغية يسقط من خلال ما يختزنه في طغيانه من كل روح الهزيمة..

صمود بطولي للشعب العراقي

ونحن نعيش في عالم يسيطر فيه الطغاة، سواء كانوا من المستكبرين الكبار أو من الصغار، من الذين وظّفهم المستكبرون ليكونوا ملوكاً ورؤساء ووزراء، ولذلك فإنهم يخافون من أية حركة يقوم بها المستكبرون في أوضاعهم، لأنهم يعرفون أنه لا يحترمهم بل يستغلهم.

.. وأخيراً سقط النظام العراقي الطاغية، والذي أسقطه الشعب العراقي عندما سحب ثقته به منذ زمن طويل.. ولكن العراق كوطن وكشعب لم يسقط، بل بقي صامداً أمام كل هذه الحرب الوحشية التي حصدت المدنيين، كما حصدت الكثير من البنية التحتية للعراق..

فقد بقي هذا الشعب الجريح المظلوم المجاهد صامداً أمام الاحتلال، فلم يصفّق له، ولم يستقبله بالورود، ما جعل المحتل مصدوماً بفعل المفاجأة غير المنتظرة أو المحسوبة من قِبَله، بالرغم من كل وسائل الترغيب والترهيب..

وإذا كان البعض ـ وربما الأكثرية ـ من هذا الشعب قد احتفل بسقوط النظام الطاغي الوحشي، فلم يكن ذلك احتفالاً بالاحتلال واقتناعاً بدوره الاحتلالي الذي خطط لمصالحه في المنطقة والعالم من خلال هذه الحرب على حساب مصالح العرب والمسلمين، بل هو احتفال بزوال الكابوس الثقيل عن صدر الشعب والأمة كلها، رافضاً استبدال كابوس بكابوس، وطاغية باحتلال، لأن البديل عنده هو الحرية والكرامة الإنسانية..

روحية الصدر في وجدان الأمة

ولعلّ من هذه المصادفات الحيّة هو سقوط هذا النظام الطاغي في ذكرى اغتيال الشهيد المرجع والمفكّر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر، الذي أعطى الفكر الإسلامي في العصر الحاضر ما لم يعطه شخص آخر من المفكّرين المسلمين، في تأسيس المذهب الاقتصادي الإسلامي، وتأصيل الفكر الإسلامي الفلسفي بالطريقة العلمية الدقيقة المنفتحة..

كما أن الشهيد الصدر قد واجه النظام الطاغي بكل قوة وشجاعة وصمود وإخلاص للإسلام والمسلمين، حتى كانت الجريمة الكبرى في اغتياله واغتيال شقيقته الفاضلة بنت الهدى، إلى جانب العلماء والمفكرين والمجاهدين في العراق.. وسيبقى الشهيد المرجع السيد محمد باقر الصدر في وجدان الأمة الإسلامية نوراً وروحاً وجهاداً وحركةً ورسالةً في خط الحرية للمسلمين وللمستضعفين، وسيزول الطغاة ليُدفنوا في مزابل التاريخ.

إنّ هذا النظام قد أعاد التاريخ إلى الوراء بطريقته الاستبدادية، فأعاد إلى العراق الاستعمار الذي فرض عليه الإذلال زمناً طويلاً، حتى أصبح الواقع الصعب في خيار ـ غير معقول ـ بين ليل الاستبداد وليل الإذلال بالاحتلال الأجنبي.. ولكن الشعب العراقي استطاع إخراج الاستعمار البريطاني بعد جهاد مرير، لأنه شعب الكرامة والحرية والعنفوان والصمود..

الأخذ بأسباب الوحدة

من هنا، فإننا ندعو أهلنا الطيبين الواعين الذين صنعوا للتاريخ الصمود في حركة الحرية، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وينفذوا إلى العمق لدراسة كل المخططات الكامنة وراء خطة الاحتلال، حتى لا يُخدعوا خدعة جديدة باستغلال آلامهم ومأساتهم التي لم يقاسِ مثلها أكثر الشعوب، مما قد لا يعرفه الكثيرون من الناس..

إنّ الاحتلال يعمل على أساس الاستفادة من بعض الأوضاع القلقة للشعوب، ليفرض عليها نظاماً طاغياً حارساً لمصالحه، ولكن في ملامح جذّابة وشعارات برّاقة.. إن عليهم أن يحذروا من المستقبل الذي قد يفرض فيه الاحتلال عليهم نظاماً طاغياً جديداً ولكن في ملامح ديمقراطية، لأن القضية المركزية لدى الاستكبار العالمي هي التلويح بالحرية التي تختفي في داخلها العبودية، وبالديمقراطية التي تكمن في امتداداتها الدكتاتورية، وتذكروا أن المؤمن "لا يُلدغ من جحر مرتين"..

إنني أدعوكم ـ يا أبنائي وأخواني ـ بكلِّ محبة ومسؤولية إلى الأخذ بأسباب الوحدة، والى الحفاظ على أمن وأموال الناس من حولكم، وليكن كل واحد منكم رقيباً على ذلك، كما أدعوكم إلى التعاون على البر والتقوى، والتخطيط للمستقبل بدلاً من الارتجال، والعقل بدلاً من الانفعال، لتثبتوا للعالم أن الشعب العراقي الحضاري في تاريخه وفي قيمه الروحية الدينية ـ ولا سيما الإسلامية ـ لن يسقط أمام الفوضى التي قد يستغلها المحتل لحساباته بطريقة وبأخرى، وربما يفسح ـ هذا المحتل ـ المجال لأكثر من فتنة بين المواطنين من أجل إشغالهم بذلك، ليشغلهم عن التفكير في دراسة الخطة في مواجهته.. فحذارِ من الفتنة التي يتحرك فيها المحتل، وحذارِ من الاستماع إلى كل الأصوات الداعية إليها، وإلى كل من يتحرك في أجوائها على مستوى الواقع الإسلامي في العراق أو خارجه..

أيها الأحبة: فكّروا كيف تتوحّدون لتصنعوا عراقاً جديداً موحَّداً يتحرك في قاعدة المسؤولية، وينفتح على الشعب كلّه بالمحبة والخير والعدل، وسيكون المستقبل للحرية وللكرامة والعزة والعنفوان، لتأخذوا مكانكم المميّز بين الشعوب المتحضّرة في العالم.

فلسطين المقاومة والجهاد

وتبقى فلسطين المقاومة والجهاد في خطّ الانتفاضة الشعبية المباركة، أرض الصمود القوي المتحدّي، وحركة المواجهة الحرّة ضد التحالف اليهودي الأمريكي الذي يحاول أن يخوّف الفلسطينيين ليأخذوا العبرة من حرب العراق، ليهزم انتفاضتهم بإثارة التهاويل القاتلة أمامها، ولكنهم لن يُهزموا مهما كانت التحديات، ولن يسقطوا أمام الإرهاب الأمريكي والصهيوني، لأن الخطة هي إبقاء هؤلاء في المأزق، ليكون المأزق مأزقاً صهيونياً أمريكياً، في مقابل ما خططوا له أن يكون المأزق فلسطينياً..

ولا تزال إسرائيل ترتكب المجازر التي تمثّلت في وضع عبوة ناسفة في مدرسة قرب "جنين" أوقعت 39 من الطلاب، بفعل جماعة يهودية متطرفة.. ومن الملحوظ أنه لم يصدر من الرئيس "بوش" ومن الاتحاد الأوروبي وغيرهما أيّ استنكار لهذا العمل الإرهابي، لأنهم يعتبرون أن لليهود الحق في قتل المدنيين بالدم البارد، كما هو الحال بالنسبة إلى التحالف الذي يقصف المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم تحريرهم..

وهكذا، يتحرك اليهود في فلسطين من بلدة إلى بلدة في موجة من الاعتقالات والاغتيالات والتدمير، من خلال الضوء الأخضر الأمريكي الذي يتفهّم الحاجات الإسرائيلية في تدمير الشعب الفلسطيني، تحت شعار الحق في الدفاع عن النفس الذي لا يملك الفلسطينيون مثله عند أمريكا.

تجميد الخلافات أمام التهديدات الأمريكية

أيها الأحبة: إن المرحلة الآن تختزن الكثير من التطورات والمتغيّرات التي قد تصنع الزلزال في واقعنا السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، فلنجمّد الكثير من الخلافات الهامشية، ومن العصبيات المتنوّعة، لأن الرئيس "بوش" صرّح قبل هذه الحرب بأننا "سوف ننشر الموت والرعب في كل أنحاء الأرض لحماية أمتنا"، على حدّ قولـه، وذلك بالحروب الوقائية التي يقدّم خطتها له اليهود المسيطرون على الإدارة الأمريكية وعلى الرئيس بالذات، من خلال إثارة أكثر من وهم حول امتلاك هذا البلد أو ذاك أسلحة الدمار الشامل.. وهذا ما لاحظناه في تحذير واشنطن لسوريا وإيران وكوريا الشمالية في امتلاك أسلحة محظورة، وفي دعوة دمشق بالذات إلى أخذ العبرة، تماماً كما لو كانت لها الولاية على العالم كله، في عملية إخضاع الأحرار لسلطتها الامبراطورية..

إن القوة العسكرية قد تصنع النصر في الميدان، ولكنها لن تصنع قوة سياسية تكفل للقائمين عليها الاستمرار، لأن الشعوب تملك أكثر من فرصة للقوة.. ويموت الطغاة، وتبقى الشعوب، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.

قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم:
الإمام الحسن(ع) عمل على حفظ المعارضة التي تحمل الخط الإسلامي الأصيل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

في كنف النبوّة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، الذي كان أوّل وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وكان حبيب رسول الله (ص) و"أشبه الناس به خلقاً وهيئة وهدياً وسؤدداً"، وكان (ع) ـ كما روي عن الإمام زين العابدين(ع) ـ "أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمرُّ بأيةٍ حالة من أحواله بشيء إلا ذكر الله عزّ وجلّ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه وقال: إلهي، ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم".

وعاش الإمام الحسن(ع) في بداية طفولته الأولى في أحضان رسول الله (ص) وأمه الزهراء (ع) وأبيه أمير المؤمنين(ع)، فكان رسول الله(ص) يحمله مع أخيه الحسين(ع) ويقول: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، وعاش الإمام الحسن(ع) في هذه الأحضان الطاهرة.

رجل المهمات الصعبة

وانطلق مع أبيه بعد وفاة أمه (ع) ليكون عضداً له، حيث كان الإمام عليّ(ع) يعتمد عليه في الأمور الصعبة بعد أن تسلّم زمام الخلافة، وكانت مواقفه صلبة وقوية وثابتة، تدل على مدى ما يختزنه من قوة في الحق، وصرامة في المواجهة من أجل الحق، حتى إذا استُشهد أبوه (ع) في محراب المسجد، تسلّم الخلافة بعد أن بايعه المسلمون، ولكنّ معاوية الذي حارب أباه وعطّل بذلك الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الإمام عليّ(ع) أن يركزه في الوجدان الإسلامي والحياة الإسلامية العامة، انطلق لمواجهة الإمام الحسن(ع) وجرت بينهما مراسلات ومكاتبات، لأنه (ع) ـ كأبيه وجده ـ كان يؤمن بالحوار حتى مع الذين ينحرفون عن الحق، لأن الحوار هو الذي يحدِّد المواقف ويزيل الشبهات، ويدعو إلى التفاهم وربما إلى اللقاء، ولكنّ معاوية الذي طلب الباطل والذي يعرف أين مواقع الحق ومواقع الباطل، والذي غصب الخلافة من الخليفة الشرعي، بدأ يشتري الناس من رؤساء العشائر والقبائل بالمال، حتى أربك جيش الإمام الحسن (ع) فهدده البعض بالقتل. وهكذا من خلال خيانة هنا وخيانة هناك، أوقفت الحرب، وبدأت الهدنة التي سمّوها "صلحاً"، ولم يفِ معاوية للإمام الحسن(ع) بشيء مما وقّع هو عليه، ثم بدأ يفكر باغتياله، لأن وثيقة الصلح بينهما كانت تنصّ على أن تكون الخلافة من بعده للإمام الحسن(ع)، بينما كان يخطط لخلافة ابنه يزيد لتبدأ خلافة بني أمية التي تحوّلت معها الخلافة إلى ملك عضود لا علاقة له بالإسلام من قريب أو من بعيد، فدسّ السم للإمام الحسن(ع) من خلال زوجة منحرفة من بني الأشعث، واستُشهد الإمام الحسن(ع)، ولكنه أوصى أخاه الحسين (ع) أن يُدفن عند جده (ص)، وإن لم يستطع دفنه في البقيع فلا يدخل في أيّ صراع مسلّح مع بني أميه، لأنه كان يعرف أنهم سوف يمنعون دفنه عند جده (ص)، لأنّهم لا يريدون له هذه الكرامة، وقد استخدموا "عائشة" لذلك، وكانت تقول: "لا تدخلوا الحسن في بيتي"، وجرّد بنو هاشم سيوفهم، ولكن الإمام الحسين (ع) قال لهم: "الله الله في وصية أخي الحسن، أن لا نهرق في أمره ملء محجمة دماً".

وكان الإمام الحسن (ع) يعيش مأساةً من أقسى المآسي، ولكنه كان الصابر المنفتح، وكان الذي يعمل في سلمه وحربه من أجل مصلحة المسلمين، ومن أجل أن يحفظ المعارضة التي تحمي الخط الإسلامي الأصيل من التصفية على أيدي أولئك الذين لا يريدون للحق أن يعلو، ولا يريدون للإسلام أن ينطلق من موقع الأصالة.

تركيزه(ع) على القيم الإسلامية

وعندما نستثير ذكرى الإمام الحسن(ع)، نحاول أن نأخذ بعض كلماته التي تتصل بحياتنا العامة والخاصة. نقرأ في كلماته(ع) وهو يطلب من كل إنسان أن لا يستبد برأيه، ليتصوّر أن رأيه يمثل الحق وأنه لا حاجة به إلى آراء الناس في القضايا الخاصة أو العامة، فكانت كلمته (ع): "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، فالشورى بين الناس تجعل العقول تطرح وجهات نظرها وتتكامل في معرفة الحقيقة هنا وهناك. ولذلك فإن الإمام (ع) انطلاقاً من القرآن الكريم الذي يريد للمسلمين أن يتشاوروا في كل أمورهم، يقول للناس: إذا أردتم أن تصلوا إلى الرشاد الذي يبعدكم عن الباطل فتشاوروا، فإن من شاور الرجال شاركها في عقولها، وهذا ما ينبغي لنا أن نأخذ به في كل قضايانا العامة والخاصة، حتى لا نخطئ في إعطاء الرأي والمواقف.

وكان (ع) يتحدث عن أخٍ صالحٍ له، ومن خلال هذه الكلمات نعرف كيف يصوّر القيمة الروحية والأخلاقية التي ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزمها في حياته من خلال حديثه عن هذا الأخ الصالح. يقول(ع): "كان من أعظم الناس في عيني ـ كنت أتمثله من خلال مواكبتي له ورصدي لأعماله فيعظم في عيني ـ وكان رأس ما عظم به في عيني ـ القمة التي جعلتني أجد فيه هذه العظمة ـ صغر الدنيا في عينه ـ كان لا يعتبر الدنيا هي الغاية والقيمة والهدف، بل كان يعتبرها مجرد حاجة يلبي فيها حاجاته ومجرد موقع لممارسة مسؤوليته أمام الله تعالى، ليستعد للقاء الله من خلال ما يقوم به في الدنيا من ممارسة المسؤوليات مما يحبه الله ويرضاه، لم يكن عبد الدنيا ولكنه كان عبد الله ـ كان لا يشتكي ـ كان يعيش المشكلة والألم، ولكنه كان يصبر عليه ـ ولا يسخط ولا يتبرم ـ كان راضياً بالله وبقضائه، والصابر على كلِّ ما يصيبه ـ كان أكثر دهره صامتاً ـ لأنه كان مشغولاً بالتفكر، كان يفكر بالله ليزداد معرفةً به، وكان يفكر بالآخرة ليزداد اهتماماً بها، ويفكر بالناس ليزداد خدمةً وإصلاحاً لهم، وليس صمته صمت العاجز ـ فإذا قال بذّ القائلين ـ سبقهم ـ كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول ـ لم يكن همه في جلوسه مع العلماء أن يتحدث ليكون كل الكلام له، بل كان يعتبر جلوسه مع العلماء فرصةً ليثقف نفسه ويبني أخلاقه ـ وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت ـ لم يكن المهذار الذي يتكلم كيفما كان، فربما يتقدم عليه الذين يعيشون الرغبة في الكلام حتى لو كان من لغو القول، ولكنه كان لا ينافس في الكلام بل في السكوت، لأن مسألة السكوت عنده مسألة فكر وتخطيط وتأمل ـ كان لا يقول ما لا يفعل ـ لا يتحدث عن الأشياء التي لا يقوم بها ـ ويفعل ما لا يقول ـ أما إذا أراد أن يقوم بشيء فإنه لا يتحدث عنه، بل يقوم به على أساس أنه مسؤوليته، وليس شيئاً ذاتياً يفتخر به ويحاول أن يستعرض نفسه أمام الناس ـ كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه، نظر أقربهما من هواه فخالفه ـ لم يدرِ أي الخيارين أرضى لله، فما هو الطريق ليعرف أنه الأرضى لله؟ كان ينظر إلى ما يشتهي فيخالفه ـ كان لا يلوم أحداً على ما يقع العذر في مثله"، إذا صدر من بعض الناس كلام أو فعل وكان هناك إمكانية للعذر في ما فعل أو تكلم به، كان هذا الشخص لا يبادر إلى لومه إذا أمكن تقديم العذر له..

ومن مواعظه (ع) وهو يتحدث إلى الناس عن القيمة، كيف تكون عابداً وغنياً ومسلماً، وكيف تكون عدلاً، يقول (ع): "يابن آدم، عفّ عن محارم الله ـ لتكن لك العفة عن كل ما حرّمه الله من فعل أو قول ـ تكن عابداً ـ فالعبادة هي أن تجتنب ما حرّم الله عليك، وقد ورد في بعض كلمات عليّ (ع): "أفضل العبادة العفاف" ـ وارض بما قسم الله تكن غنياً ـ لأن القناعة بما قسم الله تجعلك تعيش غنى النفس، فلا تشعر بسقوطك في حاجاتك أمام الآخرين، وليس الغنى غنى المال ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ وهذه من خصائص الإنسان المسلم المؤمن ـ وصاحب النّاس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً ـ لأن العدالة هي أن ترضى للناس ما ترضاه لنفسك.

وقد ورد في وصية الإمام عليّ (ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لنفسك ما تحب لغيرك واكره له ما تكره لها" ـ إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ـ يجمعون الكثير من المال ونسوا مسؤوليتهم أمام الله ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بورا ـ إنهم هلكى لا وجود لهم ـ وعملهم غرورا، يابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ أن سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك ـ خذ من هذا المال والجاه وكل هذه الإمكانات لما بين يديك من مسؤولياتك، ومما تقبل عليه عند ربك ـ فإن المؤمن يتزوّد والكافر يتمتّع".

هؤلاء أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والإمام الحسن (ع) هو هذا الإمام الذي لا بد للمسلمين من أن يدرسوه دراسة واعية، ليعرفوا أنه قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم وأهله، وللانحراف وأهله، وكانت سيرة الحسن (ع) هي التي خططت لثورة الإمام الحسين (ع).

الخطبة الثانية

أيها الأحبة : إصنعوا عراقا" جديدا"ولا تستبدلوا طاغية" بإحتلال

عباد الله.. اتقوا الله، ومن تقوى الله أن تدرسوا عمق الأمور وخلفياتها، ولا تنظروا إلى السطح الذي يغري الإنسان بغير الواقع، حاولوا أن لا تنفعلوا بالأشخاص، بل حدّقوا بأعمالهم ومنطلقاتهم، عندما تواجهون الأحداث الصعبة لا تنطلقوا في حالة انفعال وارتجال، بل ادرسوا هذه الأحداث من خلال خلفياتها وامتداداتها وكل الذين يقودونها، سلباً أو إيجاباً، دفاعاً أو هجوماً، ولا تسقطوا عندما يسقط الطغاة الذين يحكمون هذا البلد أو ذاك من بلدان المسلمين، فإن الطاغية يسقط من خلال ما يختزنه في طغيانه من كل روح الهزيمة..

صمود بطولي للشعب العراقي

ونحن نعيش في عالم يسيطر فيه الطغاة، سواء كانوا من المستكبرين الكبار أو من الصغار، من الذين وظّفهم المستكبرون ليكونوا ملوكاً ورؤساء ووزراء، ولذلك فإنهم يخافون من أية حركة يقوم بها المستكبرون في أوضاعهم، لأنهم يعرفون أنه لا يحترمهم بل يستغلهم.

.. وأخيراً سقط النظام العراقي الطاغية، والذي أسقطه الشعب العراقي عندما سحب ثقته به منذ زمن طويل.. ولكن العراق كوطن وكشعب لم يسقط، بل بقي صامداً أمام كل هذه الحرب الوحشية التي حصدت المدنيين، كما حصدت الكثير من البنية التحتية للعراق..

فقد بقي هذا الشعب الجريح المظلوم المجاهد صامداً أمام الاحتلال، فلم يصفّق له، ولم يستقبله بالورود، ما جعل المحتل مصدوماً بفعل المفاجأة غير المنتظرة أو المحسوبة من قِبَله، بالرغم من كل وسائل الترغيب والترهيب..

وإذا كان البعض ـ وربما الأكثرية ـ من هذا الشعب قد احتفل بسقوط النظام الطاغي الوحشي، فلم يكن ذلك احتفالاً بالاحتلال واقتناعاً بدوره الاحتلالي الذي خطط لمصالحه في المنطقة والعالم من خلال هذه الحرب على حساب مصالح العرب والمسلمين، بل هو احتفال بزوال الكابوس الثقيل عن صدر الشعب والأمة كلها، رافضاً استبدال كابوس بكابوس، وطاغية باحتلال، لأن البديل عنده هو الحرية والكرامة الإنسانية..

روحية الصدر في وجدان الأمة

ولعلّ من هذه المصادفات الحيّة هو سقوط هذا النظام الطاغي في ذكرى اغتيال الشهيد المرجع والمفكّر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر، الذي أعطى الفكر الإسلامي في العصر الحاضر ما لم يعطه شخص آخر من المفكّرين المسلمين، في تأسيس المذهب الاقتصادي الإسلامي، وتأصيل الفكر الإسلامي الفلسفي بالطريقة العلمية الدقيقة المنفتحة..

كما أن الشهيد الصدر قد واجه النظام الطاغي بكل قوة وشجاعة وصمود وإخلاص للإسلام والمسلمين، حتى كانت الجريمة الكبرى في اغتياله واغتيال شقيقته الفاضلة بنت الهدى، إلى جانب العلماء والمفكرين والمجاهدين في العراق.. وسيبقى الشهيد المرجع السيد محمد باقر الصدر في وجدان الأمة الإسلامية نوراً وروحاً وجهاداً وحركةً ورسالةً في خط الحرية للمسلمين وللمستضعفين، وسيزول الطغاة ليُدفنوا في مزابل التاريخ.

إنّ هذا النظام قد أعاد التاريخ إلى الوراء بطريقته الاستبدادية، فأعاد إلى العراق الاستعمار الذي فرض عليه الإذلال زمناً طويلاً، حتى أصبح الواقع الصعب في خيار ـ غير معقول ـ بين ليل الاستبداد وليل الإذلال بالاحتلال الأجنبي.. ولكن الشعب العراقي استطاع إخراج الاستعمار البريطاني بعد جهاد مرير، لأنه شعب الكرامة والحرية والعنفوان والصمود..

الأخذ بأسباب الوحدة

من هنا، فإننا ندعو أهلنا الطيبين الواعين الذين صنعوا للتاريخ الصمود في حركة الحرية، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وينفذوا إلى العمق لدراسة كل المخططات الكامنة وراء خطة الاحتلال، حتى لا يُخدعوا خدعة جديدة باستغلال آلامهم ومأساتهم التي لم يقاسِ مثلها أكثر الشعوب، مما قد لا يعرفه الكثيرون من الناس..

إنّ الاحتلال يعمل على أساس الاستفادة من بعض الأوضاع القلقة للشعوب، ليفرض عليها نظاماً طاغياً حارساً لمصالحه، ولكن في ملامح جذّابة وشعارات برّاقة.. إن عليهم أن يحذروا من المستقبل الذي قد يفرض فيه الاحتلال عليهم نظاماً طاغياً جديداً ولكن في ملامح ديمقراطية، لأن القضية المركزية لدى الاستكبار العالمي هي التلويح بالحرية التي تختفي في داخلها العبودية، وبالديمقراطية التي تكمن في امتداداتها الدكتاتورية، وتذكروا أن المؤمن "لا يُلدغ من جحر مرتين"..

إنني أدعوكم ـ يا أبنائي وأخواني ـ بكلِّ محبة ومسؤولية إلى الأخذ بأسباب الوحدة، والى الحفاظ على أمن وأموال الناس من حولكم، وليكن كل واحد منكم رقيباً على ذلك، كما أدعوكم إلى التعاون على البر والتقوى، والتخطيط للمستقبل بدلاً من الارتجال، والعقل بدلاً من الانفعال، لتثبتوا للعالم أن الشعب العراقي الحضاري في تاريخه وفي قيمه الروحية الدينية ـ ولا سيما الإسلامية ـ لن يسقط أمام الفوضى التي قد يستغلها المحتل لحساباته بطريقة وبأخرى، وربما يفسح ـ هذا المحتل ـ المجال لأكثر من فتنة بين المواطنين من أجل إشغالهم بذلك، ليشغلهم عن التفكير في دراسة الخطة في مواجهته.. فحذارِ من الفتنة التي يتحرك فيها المحتل، وحذارِ من الاستماع إلى كل الأصوات الداعية إليها، وإلى كل من يتحرك في أجوائها على مستوى الواقع الإسلامي في العراق أو خارجه..

أيها الأحبة: فكّروا كيف تتوحّدون لتصنعوا عراقاً جديداً موحَّداً يتحرك في قاعدة المسؤولية، وينفتح على الشعب كلّه بالمحبة والخير والعدل، وسيكون المستقبل للحرية وللكرامة والعزة والعنفوان، لتأخذوا مكانكم المميّز بين الشعوب المتحضّرة في العالم.

فلسطين المقاومة والجهاد

وتبقى فلسطين المقاومة والجهاد في خطّ الانتفاضة الشعبية المباركة، أرض الصمود القوي المتحدّي، وحركة المواجهة الحرّة ضد التحالف اليهودي الأمريكي الذي يحاول أن يخوّف الفلسطينيين ليأخذوا العبرة من حرب العراق، ليهزم انتفاضتهم بإثارة التهاويل القاتلة أمامها، ولكنهم لن يُهزموا مهما كانت التحديات، ولن يسقطوا أمام الإرهاب الأمريكي والصهيوني، لأن الخطة هي إبقاء هؤلاء في المأزق، ليكون المأزق مأزقاً صهيونياً أمريكياً، في مقابل ما خططوا له أن يكون المأزق فلسطينياً..

ولا تزال إسرائيل ترتكب المجازر التي تمثّلت في وضع عبوة ناسفة في مدرسة قرب "جنين" أوقعت 39 من الطلاب، بفعل جماعة يهودية متطرفة.. ومن الملحوظ أنه لم يصدر من الرئيس "بوش" ومن الاتحاد الأوروبي وغيرهما أيّ استنكار لهذا العمل الإرهابي، لأنهم يعتبرون أن لليهود الحق في قتل المدنيين بالدم البارد، كما هو الحال بالنسبة إلى التحالف الذي يقصف المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم تحريرهم..

وهكذا، يتحرك اليهود في فلسطين من بلدة إلى بلدة في موجة من الاعتقالات والاغتيالات والتدمير، من خلال الضوء الأخضر الأمريكي الذي يتفهّم الحاجات الإسرائيلية في تدمير الشعب الفلسطيني، تحت شعار الحق في الدفاع عن النفس الذي لا يملك الفلسطينيون مثله عند أمريكا.

تجميد الخلافات أمام التهديدات الأمريكية

أيها الأحبة: إن المرحلة الآن تختزن الكثير من التطورات والمتغيّرات التي قد تصنع الزلزال في واقعنا السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، فلنجمّد الكثير من الخلافات الهامشية، ومن العصبيات المتنوّعة، لأن الرئيس "بوش" صرّح قبل هذه الحرب بأننا "سوف ننشر الموت والرعب في كل أنحاء الأرض لحماية أمتنا"، على حدّ قولـه، وذلك بالحروب الوقائية التي يقدّم خطتها له اليهود المسيطرون على الإدارة الأمريكية وعلى الرئيس بالذات، من خلال إثارة أكثر من وهم حول امتلاك هذا البلد أو ذاك أسلحة الدمار الشامل.. وهذا ما لاحظناه في تحذير واشنطن لسوريا وإيران وكوريا الشمالية في امتلاك أسلحة محظورة، وفي دعوة دمشق بالذات إلى أخذ العبرة، تماماً كما لو كانت لها الولاية على العالم كله، في عملية إخضاع الأحرار لسلطتها الامبراطورية..

إن القوة العسكرية قد تصنع النصر في الميدان، ولكنها لن تصنع قوة سياسية تكفل للقائمين عليها الاستمرار، لأن الشعوب تملك أكثر من فرصة للقوة.. ويموت الطغاة، وتبقى الشعوب، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية