ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيرا}. من أهل هذا البيت (ع)، الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته وانتقاله إلى رحاب ربه هذا اليوم، الخامس والعشرين من شهر محرّم الحرام.
الإمام السجاد: الانفتاح الرسالي
والإمام زين العابدين (ع) هو من هذه الصفوة الطيبة الطاهرة المطهّرة من أئمة أهل البيت (ع)، هذا الإمام الذي عاش حياته آلاماً من أقسى الآلام، وجهاداً من أفضل الجهاد، وحركةً من أجل العلم الذي أعطاه للأمة الإسلامية في عصره وما بعدها، والروحانية التي جسّدها سلوكاً في عبادته، حتى قيل إنه زين العابدين وسيد الساجدين، وفي أدعيته التي تمثّل المستوى العالي من الدعاء الذي يمنح الإنسان عند قراءته روحاً يحلّق به في آفاق الله تعالى، ويحرّك في قلبه عمق المحبة لله، ويطوف به في كل ما يرفع مستوى الإنسان في أخلاقيته الفردية، وفي سلوكه الاجتماعي مع الناس، وفي انفتاحه على الرسالة التي يحملها، ليؤدي كل مسلم ومؤمن رسالته في الحياة، ولينفتح على الله سبحانه في توحيد العبادة والطاعة والحبّ، ولينفتح من خلال الله على الإنسان في وحدة الإنسانية في كل قضاياها الكبرى، فلا يتّخذ الناس أرباباً من دون الله.
مثال الأخلاق والتسامي
وقد رأينا الإمام زين العابدين(ع)، كيف تحركت أبعاد شخصيته في كل مواقع حياته، فكان في عطاءاته العلمية والروحية، وما قاساه من الآلام، يجسّد الأخلاق في تعامله مع الناس، فكان يكظم غيظه لمن أساء إليه، ويعفو عمن تعدّى عليه، إلى درجة أنه كان يعطي أعداءه الذين وقفوا ليصنعوا المأساة في حياته، لا سيما في كربلاء، فكان(ع) يتسامى ويتسامى حتى لا يبقى في قلبه أية عقدة، وإن كان الألم يتفجّر في قلبه عندما يذكر مأساة كربلاء.
لقد كان الإمام زين العابدين (ع) في المدينة عندما دارت الدوائر على بني أميه، وكان شيخ بني أميه في المدينة مروان بن الحكم، فخاف على نفسه وعياله، وأراد أن يهرب، ولكن عائلته المكوّنة من أولاده وأحفاده كانت تناهز الأربعمائة شخص، وجال في المدينة ليؤمِّن لهم الحماية، ولكنه لم يجد أحداً غير الإمام علي بن الحسين(ع)، الذي وفر له هذه الحماية والاستعانة، وتجلى ذلك بقوله له: "ضمّ عيالك إلى عيالي"، وقد ذكرت بعض بنات مروان بن الحكم: "إننا لم نجد من الرعاية والحماية في بيت أبينا ما رأيناه في بيت عليّ بن الحسين".
وهذا ما يمكن أن يكون مصداقاً لقول الشاعر، وهو يقارن بين خلق أهل البيت (ع)، من خلال جدّهم (ص) وأبيهم (ع)، وخلق الآخرين:
ملكنا فكان العفو منا سجيةً فلما ملكتم سال بالـدم أبطـح
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيـه ينضـح
ذلك هو خُلُق أهل البيت(ع). ونعرض لقضية أخرى، حيث كان والي المدينة يسيء إلى عليّ بن الحسين (ع) وأهل بيته، حتى ضاقوا به، ومرّت الأيام، وعُزل ذاك الوالي من قِبَل خليفة عصره، وصار يُعرض على الناس ليسبوه ويشتموه ويضربوه، وكان أكثر خشيته من الإمام زين العابدين (ع) وأهل بيته، لأنه لم يسىء إلى أحد من أهل المدينة كما أساء إليهم، فجمع الإمام زين العابدين (ع) أهل بيته، ولم يكتفِ منهم بعدم الإساءة إلى هذا الرجل، بل طلب منهم أن: "اعرضوا عليه إذا كانت له حاجة، ومرّوا عليه بكل احترام وبشر، فاستجابوا، فلم يكن من ذاك الرجل الحاقد إلا أن قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته".
وكان (ع) يعاني من أحد أقربائه، الذي تكلم بحقه كلاماً قاسياً وشتمه، وهو جالس مع بعض أصحابه، فلم يرد عيه الإمام(ع)، بل ذهب مع أصحابه إلى بيت الرجل الذي خرج متحسّباً للشر، فقال له الإمام (ع): "إنك قلت كلاماً فيّ، فإن كان ما قلته فيّ فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كان ما قلته ليس فيّ فأسأل الله أن يغفر لك"، فهزّت أريحية الإمام هذا الرجل وتبدّل إلى شخص آخر، وكان الإمام (ع) في أثناء سيره إلى هذا الرجل يتلو هذه الآية الكريمة: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
هكذا كان الإمام زين العابدين (ع) القدوة في مواجهة حالات الحقد والعدوان بطريقة وبأخرى، لأن الإمام (ع) ـ كبقية الرساليين من الأنبياء والأئمة(ع) ـ لا يندفع من حالة شخصية ليكون ردّ فعله شخصياً، بل كان يندفع من خط رسالي، ليعلّم الإنسان كيف يترفع عن مستوى الحقد إلى مستوى المحبة.
وكان(ع) يريد أن يعظ الناس بكلماته وعمله، فكان(ع) في كل أحاديثه مع الناس يأمل أن يستفيد منه كل من يجلس إليه، ويحدّث ابن أخته فاطمة بنت الحسين(ع) أنه قال: "أمرتني أمي أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد أُفدته، إما خشيه لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم قد استفدته منه"، لأنه كان يرى أن على الذين يملكون العلم في الموقع القيادي إذا جلسوا للناس، أن يملأوا عقول الناس بعلومهم، وقلوبهم بروحانيتهم.
الحب الرسالي لأهل البيت(ع)
وكان (ع) يحدث بعض أصحابه في تحديد نوعية الحب الذي لا بد أن ننفتح من خلاله على أهل البيت (ع)، هل نحبهم كما يحب الشخص الشخص من ناحية ذاتية، أم نحبهم من خلال أنهم معدن الرسالة، ومواقع الحق، وأئمة الصدق، أن نحبهم حبّ الإسلام، فلا نفصل بين الإسلام الذي نلتزمه وبين العاطفة التي نوجهها إلى كل من نريد أن نتعاطف معه، كان (ع) يقول: "أحبونا حبّ الإسلام ـ لا تغالوا بفعل الحب في أمرنا فترفعونا عن مراتبنا ومنازلنا التي أنزلنا الله فيها، ولا تنتقصوا منا في هذا المجال، وفق ما يريده الإسلام الذي يقول لك: أعطِ الحب على أساس العدل، فلا تزيد شيئاً لمن تحبه، ولا تنقص شيئاً لمن تبغضه ـ فما زال حبكم لنا حتى صار شيناً علينا".
سيرته(ع) نموذج يقتدى به
ويحدث بعض أصحاب الإمام الصادق (ع) كيف كان يقارن بين الإمام عليّ (ع) وبين حفيده الإمام علي بن الحسين (ع)، يقول سعيد بن كلثوم: كنت عند الصادق جعفر بن محمد(ع)، فذكر أمير المؤمنين عليّ(ع)، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال: "والله ما أكل عليّ من الدنيا حراماً قط حتى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما لله رضى إلا أخذ بأشدهما عليه، وما نزلت برسول الله نازلة في حياته إلا دعاه ولم يدع غيره، فقدّمه أمامه ـ ليطرد عنه هذه المصيبة ـ ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله من هذه الأمة غيره ـ فكان وحده يحمل ثقل المسؤولية التي كان رسول الله (ص) يتحملها في كل ما يجهد جسمه، وكل ما يؤذي حياته، فكان عليّ (ع) يأخذ كل رسول الله ـ وإن كان يعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار ـ كان عليّ(ع)، وهو الذي يحبه الله ورسوله كما أحبّ الله ورسوله، كان إذا ذكر الجنة والنار انطبع ذلك على ملامح وجهه ـ يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه ـ إذا ذكر الجنة رجا ثوابها، وإذا ذكر النار ذكر عقابها ـ ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار، مما كدّ بيديه ورشح به جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس ـ اللباس الخشن ـ إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم ـ المقص ـ فقصّه، وما أشبهه من ولده وأهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين (ع)".
وكان علي بن الحسين (ع) في خشيته من ربه إذا توضأ اصفرّ لونه، وقيل له: لماذا ذلك؟ قال (ع): "أتدرون بين يدي مَن أقف"؟ فكيف لا أشعر بالخشية أمام هذا الموقف. وينقل ابن طاووس أنه رأى شخصاً ساجداً في الكعبة، قال: فأحببت أن أسمع دعاءه، فسمعته يقول: "عبدك ببابك، مسكينك ببابك، فقيرك ببابك، سائلك ببابك"، وإذا هو علي بن الحسين، فما دعوت بهذا الدعاء في كربة إلا وفرّج الله بها عني.
علاقة مخلصة بالله
وأحبّ أن أختم الحديث عنه (ع) بنقطتين: الأولى في بعض أدعيته التي تجسّد علاقته بالله وإخلاصه له، حتى لا يجد أحداً غير الله، يقول (ع): "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلّة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي، ودون كل مطلوب إليه ولي حاجتي، أنت المخصوص قبل كل مدعو بدعوتي".
والنقطة الثانية هي كلمته عن العصبية، ونحن أمة العصبيات، نتحرك بالعصبية الشخصية والعائلية والمذهبية والطائفية وحتى العصبية الوطنية والقومية، بحيث نستغرق فيها، فما هي صفة المتعصّب؟ يقول (ع): "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن أن يعين قومه على الظلم".
هؤلاء هم أهل البيت (ع)، هم قدوتنا وأئمتنا وهداتنا، ونحن نعيش الولاية لهم ولكن ولاية العمل والاتباع، لا ولاية العاطفة: "والله ما شيعتنا ـ قالها الإمام الباقر (ع) ـ إلا من أطاع الله، وكانوا يُعرفون بالتواضع والتخشّع، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء، أفيكفي الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من عليّ، أفحسب الرجل أن يقول أحب رسول الله ثم لا يعمل بسنّته، والله ما معنا براءة من الله، من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للاهتداء بهديهم، والسير على منهجهم، وأن يوفقنا لطاعته في خطهم الذي هو الخط المستقيم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط أهل البيت(ع) الذي جسّده عليّ(ع) وهو يوصي ولديه الإمامين الحسنين (ع): "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا"، هذا هو الخط الإسلامي الذي يجعلك في الموقع الذي لا تمارس فيه الحياد بين الظالم والمظلوم، أياً كان الظالم شخصاً أو دولة، وأياً كان المظلوم شخصاً أو دولة.
ونحن الآن نعيش في مرحلة تتحرك فيها كل الاهتزازات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تريد أن تغيّر الواقع كله لمصلحة المستكبرين، ولذلك لا بد لنا أن نحدد موقفنا من ذلك كله، وأن نتحمّل مسؤولياتنا حسب ما نملك من طاقات في هذا الاتجاه، فماذا هناك؟
مجازر أمريكية بعنوان التحرير
بدأت أمريكا مجازرها في بغداد والبصرة والناصرية والنجف ضد المدنيين، تحت شعار "تحرير العراق من نظامه"، على الطريقة التي دخل فيها المحتل البريطاني العراق في أوائل القرن العشرين باسم تحريره من العثمانيين، وامتدت شعارات الحرية لتشمل العالم العربي كله.. ولكن الاستعمار ـ بشكله القديم وبثوبه الجديد ـ هو الذي يفرض نفسه على الشعب العراقي المظلوم الجريح، وهو الذي فرض عليه من قبل نظام الطاغية الذي انتهى دوره ليأتي دور شخص آخر..
إن أسلوب قصف المدنيين والاعتذار عنه بالخطأ، هو نفسه أسلوب العدو الصهيوني الذي يقوم بمجازره ضد الفلسطينيين المدنيين، ثم يتحدث عن الخطأ غير المقصود، وعن اضطراره للقيام بذلك من أجل محاربة الإرهاب، على حدّ قوله..
سياسة ترويض المنطقة
إن السؤال الذي يفرض نفسه الآن على الأمة: لماذا تواجه في تاريخها سلسلة المجازر في أنظمتها الداخلية المفروضة عليها من قِبَل الاستكبار، كما هو الحال في واقع الشعب العراقي وبعض الشعوب الأخرى، وفي الاحتلال الخارجي من خلال القوى الكبرى الطاغية؟؟ ثم، يُطرح سؤال آخر: لماذا يتحدث الآخرون ـ وفي مقدمتهم أمريكا ـ عن التخطيط من أجل تغييرنا ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، من أجل أن نتعلّم منهم كيف نحمي حقوق الإنسان، وكيف نقدّس الحرية، وكيف نعترف بالآخر، وكيف نحرّك مفاهيمنا وقيمنا الروحية والأخلاقية لتنسجم مع القيم الغربية، فلا نتحرك بالعنف حتى لو فُرض علينا، ولا ندعو للجهاد حتى لو اجتاحوا أرضنا وأوطاننا، وأن نلجأ إلى المفاوضات التي يضعون شروطها لمصلحة المحتل، ويفرضون ضغوطهم علينا للقبول بالنتائج السلبية التي لا تتناسب مع حريتنا واستقلالنا، على أساس ترتيب أوضاعنا على طريقة حماية مصالحهم، كما يحصل الآن في الصراع بين العدو الصهيوني والفلسطينيين، حيث كانت أمريكا تتحدث عن الأراضي بعد الـ67 بأنها أراضٍ محتلة، ثم سحبت هذا العنوان لتتحدث عن الأراضي المتنازع عليها، حتى تكون فلسطين كلها موضع نزاع بين الفلسطينيين واليهود، لئلا يبقى للشعب الفلسطيني أرض يملكها بشكل قانوني حاسم..
تخطيط لتصفية القضية الفلسطينية
وهذا هو الذي تحرّكت فيه مسألة التوطين، حتى لا يبقى للفلسطينيين أرض يفاوضون عليها، ولم تحرّك أمريكا ساكناً إلا ببعض التصريحات المائعة الخجولة التي تعرف أن إسرائيل لا تعير لها اهتماماً، حتى أن "خريطة الطريق" التي أُعلن أنها الحل للدولة الفلسطينية قد طرحها الرئيسان الأمريكي والبريطاني لتخدير العرب ـ والفلسطينيين بالذات ـ لامتصاص النقمة الشعبية، ولحفظ ماء وجه عملائهم من بعض مسؤولي الأنظمة، في الوقت الذي نعرف فيه أن هذا الطرح هو مجرد صراخ في الهواء لا يملك أية آلية وأيّ مناخ سياسي، بل كل ما هناك أنه يحاول أن يعطي الأمل حيث لا أمل، لأن "شارون" يخطط مع أكثر المسؤولين الأمريكيين لتصفية القضية الفلسطينية، حتى لا يبقى منها إلا ما يشبه الشبح الذي لا لون له..
المقاومة: دفاع لتأكيد الحرية
إنّ حرب أمريكا وبريطانيا وحلفائهما في العراق، استطاعت أن تكشف الوجه البشع للاستكبار في جرائمه ضد المدنيين، كما أنها أربكت كل خططه، وعطّلت عليه الكثير من حركته، وأخرجت صورة الحرب من صورة الحرب النظيفة السريعة إلى صورة الحرب الوسخة الطويلة..
إننا لا نريد الدخول في جدل سياسي حول شخصية المقاومة، في صفتها النظامية أو الشعبية، لأن الهدف الذي يؤكد حرية الأمة هو إضعاف أو هزيمة القوى المستكبرة المحتلة التي تخطط ليمتد احتلالها لأكثر من موقع سياسي وجغرافي واقتصادي في المنطقة كلها، من أجل تغيير صورة العالم، كما يقولون.. ولا بد لنا من أن نؤكد القراءة الصحيحة الدقيقة للمقاومة أنها لم تنطلق من أجل خدمة النظام، بل من أجل الدفاع عن حرية الشعب والأمة كلها، لأن عنوان هذه الحرب لا يتجمّد عند إسقاط النظام في العراق، بل يمتد إلى المنطقة كلها، ليترك تأثيره السلبي على الجميع حتى على ضحايا النظام..
إن علينا أن نخرج من دور الضحية إلى دور المقاوم، لأن على الأمة في كل جيل أن تصنع تاريخها واستقلالها بنفسها، ولا تنتظر الآخرين ـ ولا سيما الذين صنعوا كل المأساة في تاريخها ـ ليحلّوا لها مشكلتها وليمنحوها الحرية، لأن الآخرين يفكرون في الأمور على طريقتهم الخاصة..
حذار من الفتنة
إن الأمريكيين ـ في خطابهم السياسي ـ يحاولون إثارة الفتنة بين المسلمين في العراق، بالإيحاء بأن الشيعة يقفون مع الاحتلال وأن السنّة هم الذين يقاومونه، وهذا ما صرّح به بالأمس وزير الدفاع الأمريكي، الذي قال بأن الشيعة في البصرة "معنا وسيدعموننا، وأن الشيعة في بغداد يبلغون ثلاثة ملايين نسمة، وهم سوف يساعدوننا عندما ندخل بغداد"، على حدّ قوله..
إن المسلمين الشيعة هم الذين حملوا الحرية في وجدانهم التاريخي، انطلاقاً من قولـه تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، والذي فسّره الإمام جعفر الصادق (ع) بقوله: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"، ومن كلمة الإمام عليّ (ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً".
ولذلك، فإن المسلمين الشيعة كانوا ضد الاستعباد الذي يفرضه عليهم الطغاة، وضد الاستعباد الخارجي الذي يفرضه عليهم المحتل، فلا يمكن أن يسالموا المحتل أو يهادنوه أو يدافعوا عنه أو يسلّموه بلادهم ومصيرهم ليعبث فيه وليسيطر عليه.. وقد كان كل تاريخهم الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية، لأن ذلك هو الذي يمنح الأمة القوة بالرغم مما عانوه من الآلام..
الارتفاع إلى مستوى التحديات
إننا ـ في هذه الظروف الدقيقة ـ ندعو الجميع إلى الوعي السياسي، وليكن الصوت واحداً، والموقف واحداً ضد الاحتلال، كما كان الصوت واحداً وسيبقى ضد الطغيان الداخلي، لأن هذه المرحلة هي من أصعب المراحل التي تمر على الأمة كلها، فعلينا أن نرتفع إلى مستوى تحدياتها، لأنها تمثل الخط الفاصل بين أن نكون أحراراً وبين أن نكون مستعبَدين للاستكبار العالمي، وليتحمّل كل فريق من الأمة مسؤولياته أمام الله والتاريخ.
وأخيراً، إن علينا أن نكون في الموقف الواحد الصلب الذي لا يهون ولا يضعف ولا يتزلزل، انسجاماً مع قولـه تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، ومن قوله تعالى: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}. |