ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
من الصفات الرسالية المميّزة للإمام عليّ(ع)، أنه كان يحمل همّ الأمّة في ثقافتها، كما يحمل همّها في أوضاعها العامة والتحديات التي تواجهها. ولذلك، فإننا لا نرى بعد رسول الله (ص) ممن تسلّموا المسؤولية العامة للناس شخصاً يفكر في الليل والنهار أن يعطي كل علمه وفكره للناس وللإسلام، لأن القضية عنده هي أن يأخذ الناس بالإسلام الأصيل، فلا يُخدعوا بالكلمات التي ربما تظهر لهم الباطل بصورة الحق، أو الحق بصورة الباطل، لأن مشكلة الجهل في المجتمع، هو أن هذا المجتمع قد يخضع لكثير من الأضاليل والخرافات والانحرافات الفكرية، انطلاقاً من أنه لا يميّز بين الحقيقة والخرافة، وبين الحق والباطل.
الإيمان بالله وحده
لذلك، كان عليّ (ع) يطلق وصاياه للأمة، وفي بعض كلماته القصار، وقف بين الناس وقال لهم: "أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً ـ لو أنكم سافرتم من أجل الحصول عليها وتعميق وعيكم حولها لكانت تستحقّ ذلك، لأنَّ هذه المسألة تجمع العناصر الأساسية لسلامة الخطّ المستقيم في المجتمع ـ لا يرجونّ أحد منكم إلا ربَّه ـ إذا كنتم تؤمنون بالله وتعتقدون أنه وحده هو الذي يملك الأمر كله، في كل ما يتصل بحياتكم في النظام الكوني الذي وضعه لكم لتستقيم الحياة من خلاله، أو في النظام الإنساني الذي شرّعه لكم، فعليكم أن تعتبروا الله تعالى هو الرجاء، فلا تتعلّقوا بأي إنسان، لأن الإنسان مهما كان، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بالله، لذلك حاولوا أن تؤكدوا معنى التوحيد لله في نفوسكم، ولا تشغلوها بغير الله، ولا تقدّموا رجاءكم في عمق الأمر وامتداده إلا لله، وإذا أردتم أن توالوا بعض من أرسله الله أو بعض من أحبّه وحمّله مسؤولية الإمامة، فعليكم أن تعتبروا أنهم {عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}، بحيث إن الإنسان لا يرجو إلا الله ولا يطلب إلا منه، ولا يرفع حاجته إلا إليه. ولذلك فإنّ بعض الناس الذين أخذوا بأسباب الغلوّ، انحرفوا عن خط العقيدة والتوحيد، فيقولون إنهم يطلبون الرزق وقضاء حوائجهم من عليّ والأئمة(ع)، لأن الله أوكل إليهم الأمر، وهذا مخالف للقرآن، لأن الله تعالى يتحدث أن على الناس أن يقدّموا كل حاجاتهم إليه وكل دعائهم إليه، وكل رجائهم به، قد يجعل الله الشفاعة لبعض خلقه، ولكنه لم يعطهم أمر الرزق والنصر وقضاء الحاجات وما أشبه ذلك، بل كل ذلك منحصر بالله، ولذلك فإن مثل هذه العقيدة قد تقترب من خط الكفر وإن لم تكن كفراً عندما يكون هناك شبهة في الموضوع.
الخوف من الذنب
ـ ولا يخافنّ إلا ذنبه"، إن الإنسان بحسب طبيعته يخاف من الأشياء التي تمثل خطراً على صحته وحياته ومصالحه، فالإمام عليّ (ع) يقول إن كل الأشياء التي تخافونها لا تتعلّق بمصير الإنسان، ولكن معصية الله والذنوب التي يذنب بها العبد أمام ربه هي الخطر كل الخطر، لأنه على أساس العمل يتحدّد المصير، فإذا قدمت إلى الله وكنت من الذين أحاطت به خطيئته ولم تتب إلى الله من ذلك فإن عليك أن تخشى على نفسك لأن سبيلك في ذلك هو النار.. ومشكلة كثير من الناس أنهم يستهينون بمعصية الله في ما يأكلون ويشربون ويعملون، من دون أن يشعروا بخطورة الذنب، وهناك حديث يقول: "لا تستصغرن حسنة فلربما أدخلتك الجنة، ولا تستصغرن سيئة فلربما أدخلتك النار".
التواضع في طلب العلم
ويكمل الإمام عليّ (ع): "ولا يستحينّ أحد منكم إذا سئل عمّا لا يعلمه أن يقول لا أعلم ـ إذا سألك شخص عن مسألة شرعية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، من دون أن يكون لك خبرة في ذلك، فتجيب من دون أن تملك علم ما تجيب به حفاظاً على عنفوانك الشخصي، فالإمام عليّ (ع) يقول إن على الإنسان أن يكون موضوعياً متواضعاً، لأنه ليس هناك إنسان يملك علم كل شيء، لأن العلم موزّع بين الناس، فلكل اختصاصه ومقدرته، وثانياً إن هذا المعنى لا يمثل انحطاطاً في موقعك بل ارتفاعاً في هذا الموقع، لأنك تتحمّل مسؤولية ما تجيب عنه.
ـ ولا يستحينّ أحد منكم إذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه ـ بعض الناس قد يصل إلى مرتبة معينة من السنّ والمرتبة الاجتماعية أو الموقع العلمي يشعر معه بالخجل من أن يتعلّم، فالإمام (ع) يقول إنك إن بقيت على ما أنت عليه من الجهل بهذه الحقيقة أو تلك، فإنك بذلك تنقص نفسك وتبقى في ظلمة، لأن العلم كمال ونور، فلا تخجل من السؤال والتعلّم. وإلا فما المانع من أن يتعلّم الإنسان من ابنه، ألم يحدثنا الله تعالى عن خطاب إبراهيم(ع) لأبيه وهو يقول له: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا}.
الصبر من الإيمان
ـ وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه" ، والصبر هو الذي يجمع القيم كلها، لأن أية قيمة أخلاقية أو روحية أو ثقافية أو اجتماعية لا بد فيها من أن تصبر على ما يمكن أن ينتج منها من سلبيات، ولذلك، فإن الصبر هو الذي يركّز موقعك واستقامتك على خطك الأخلاقي والروحي والاجتماعي، ولهذا يقول الإمام (ع) إنَّ مسألة الصبر هي من المسائل التي تمثِّل رأس الإيمان، لأنّه عندما يكون الإنسان مؤمناً ولا يصبر على التحديات التي تواجهه، سواء كانت تحديات من داخل نفسه الأمّارة بالسوء، أو من خلال الظروف التي تأتيه من الآخرين، فأيّ قيمة لإيمانه؟ ولذلك فإن الله تعالى ربط بين الإيمان والعمل الصالح، والعمل الصالح لا بد فيه من الصبر، لأنه على خلاف شهوات الجسد والمصالح الخاصة للإنسان.
وقد ورد عن الإمام الباقر (ع) وهو يخاطب أحد أصحابه أنه قال: "كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله"، ولذلك لا بدّ أن نعوّد أنفسنا على الصبر، لأنه هو الذي يركز لدينا الثبات على المبدأ والخط المستقيم، ولذلك قال الله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.
ونحن في هذه الظروف الصعبة نحتاج إلى مزيد من الصبر، لأن القوم يريدون إسقاطنا نفسياً وروحياً، وإفقادنا ثقتنا بأنفسنا من أجل انتصار عسكري هنا أو من خلال ضغوط سياسية واقتصادية هناك، لذلك نحن نحتاج في هذه المرحلة إلى أن نربي أنفسنا وأهلنا على الصبر، ونحتاج إلى أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، حتى نثبت في مواقع الزلزال، إلى أن يكشف الله هذه الغمة عن هذه الأمة.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا عليه وانتصروا به، وتوكلوا عليه في كل أموركم، وواجهوا التحديات الكبرى التي أطبقت على منطقتنا، وعلى واقع الإسلام والمسلمين، بالصبر والصمود والثبات والثقة بالله تعالى، وقد ورد في القرآن الكريم الحديث عن المؤمنين الذين واجهوا التحديات الشاملة على مستوى العالم: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}، أن نبقى في حالة صمود وصبر وثقة بالله وثقة بقدرة أمتنا الإسلامية أن تتجاوز المشاكل التي تواجهها في كل مرحلة، ليبقى الإسلام ويموت الاستكبار.
الجبروت الأمريكي في المأزق
أمريكا تتحدّى العالم بالحرب، وتحتقر كلّ الملايين التي عارضت الحرب ضد العراق، وتهدد مجلس الأمن وتوبّخه لأنه لم يستجب لقرارها الثاني الذي يشرّع لها حربها بعد أن عاشت الهزيمة أمامه، حتى أن الدول الصغيرة أعلنت أنها لا تؤيد أمريكا في هذا القرار..
إن أمريكا وصلت إلى ما يشبه العزلة الدبلوماسية، ولم تكن تتصوّر أن هناك دولة أو أكثر تهددها بالفيتو، لأنها ترى نفسها الدولة القائدة التي تتبعها الدول والشعوب ولا تتبع أحداً.. إنها ذهنية الإمبراطورية المستكبرة المستعلية.. ومن الطريف أنها لا تزال تعمل لتجمع حولها التأييد لخطتها من هذه الدولة أو تلك، مستغلّة حاجة الدول الاقتصادية إليها، ما يجعلها تمارس ضغوطها ترغيباً وترهيباً..
ارتهان عربي للإدارة الأميركية
وقد صرّح بعض المسؤولين الأمريكيين أن أكثر الدول العربية والإسلامية يؤيدون أمريكا في حربها، ولكنهم لا يعلنون ذلك خوفاً من شعوبهم، ومراعاةً لبعض الأوضاع المحيطة بهم.. وهذا ما نسجّله كموقف سلبي على هذه الدول التي تتخذ في السرّ موقفاً تابعاً لأمريكا، ولكنها في العلن تعارضه، لأن القائمين على شؤونها مرتَهنون للإدارة الأمريكية، وخائفون على مواقعهم الرسمية منها.. وهذا ما جعل هذه الدول تمارس اللاموقف، في الوقت الذي تجمع فيه على الرفض بالكلمات الطائرة في الهواء، وهذا هو سرّ العجز العربي والإسلامي الذي لم تعد تملك فيه الدول من أمرها شيئاً..
الشعب العراقي منتفضٌ مستقبلاً
إننا ـ في هذه المرحلة ـ نقدّر موقف الدول الكبرى التي قالت لا للحرب أمام أمريكا، ولا سيّما فرنسا وروسيا والصين وألمانيا، كما نسجّل بتقدير موقف الفاتيكان الذي قال إن "بوش يتحمّل مسؤولية أمام الله والتاريخ"، ونسجِّل لكلِّ المرجعيات المسيحية في العالم مواقفها الرافضة للحرب، مما أسقط كل الكلمات التي كانت تتحدث عن الحرب أنها حرب بين المسيحية والإسلام.. لتلتقي الأديان كلها على رفض الاستكبار العالمي الذي يضطهد المستضعفين، وليحقق ذلك الكثير من التقارب الروحي والفكري واللقاء على الكلمة السواء..
إننا نرفض احتلال العراق من قِبَل المستكبرين، ولا سيما أمريكا التي أعلن مسؤولوها بأن الحرب تستهدف تغيير المنطقة لخدمة مصالح أمريكا في المنطقة والعالم، لا لمصلحة الشعب العراقي المظلوم الجريح الذي أسقطت أمريكا انتفاضته المباركة بعد حرب الكويت، ولا ندري ماذا تفعل معه بعد هذه الحرب.. وإننا إذ نؤكد ذلك، فإننا ندعو الشعب العراقي إلى إسقاط الطاغية الذي دمّر العراق وأربك المنطقة العربية والإسلامية، وندعو الأحرار في العالم إلى مساعدة الشعب في انتفاضته المستقبلية، ليقرر مصيره ومستقبله بنفسه بكل حرية واستقلال.
أميركا تكافىء إسرائيل على مجازرها
أما فلسطين، فإنها لا تزال تواجه المجزرة تلو المجزرة، حتى بات من المألوف أن يسقط في كل يوم أكثر من عشرة شهداء، لا سيما من النساء والأطفال والشيوخ الذين تهدم بيوتهم على رؤوسهم، ولا يزال العدو الصهيوني يستغل أجواء الحرب على العراق وسكوت العالم عن فلسطين، لمواصلة تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، ولا يزال الضوء الأخضر الأمريكي يتحرك ليشجّع حكومة العدوّ على ذلك كله..
وكانت آخر المكافآت الأمريكية للعدوّ على هذه الخدمات الوحشية، والتي وضعها تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، تخصيص عشرة مليارات دولار كمساعدات وضمانات قروض للتخلّص من أزمته الاقتصادية بفعل الانتفاضة.. فيما تتوالى حرب العدوّ ومجازره ضد الشعب الفلسطيني الذي يُراد له أن يضيع في متاهات خريطة الطرق التي أدخل عليها "شارون" تعديلات تجعلها مشروعاً إسرائيلياً ليكودياً، لا مشروعاً لحل المشكلة الفلسطينية بما يحقق للشعب الفلسطيني حريته واستقلاله.
فلسطين القضية الأم
إن علينا أمام كل هذا الضجيج الأمريكي والصهيوني، والصمت العربي والإسلامي ـ فيما عدا القلة من المسؤولين ـ أن لا ننسى فلسطين، لأن كل التعقيدات والهزائم والحروب والفتن انطلقت من احتلال اليهود لفلسطين، فهي القضية الأم التي إذا انتصرت انتصر العرب والمسلمون، وإذا ضعفت ضعفوا.. وعلينا أن نبقى مع هذا الشعب المجاهد الذي يصنع في كل يوم من دمائه وصموده ملحمة بطولية لصنع التاريخ العربي والإسلامي.
الوحدة الوطنية حصنٌ وأمان
أما في لبنان، فإن على الجميع أن يعرفوا الطريق المستقيم الذي يسيرون فيه، في هذه المرحلة الدقيقة التي قد تتغيّر فيها السياسات، وتتعقّد فيها الأوضاع، وتهتز فيها المواقع والمواقف.. وذلك بالأخذ بأسباب الوحدة الوطنية في ما نلتقي عليه من القضايا الحيوية، والبعد عن الدخول في متاهات الخلافات الداخلية، التي مهما كانت أهميتها، فإنها قادرة على الانتظار ريثما ينتهي الزلزال، وأن نملك وضوح الرؤية للأشياء، لنصل إلى شاطئ الأمان. |