ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
ونبقى مع عليّ أمير المؤمنين (ع)، هذا الإمام الذي عاش كل حياته لله، وحرّك كل طاقاته للإسلام، وارتفع إلى أعلى مستوى من العصمة في عقله وقلبه وحياته، ومن الإخلاص للمسلمين بما لم يرتفع إليه أحد بعد رسول الله (ص).
برنامج علي(ع) ومنهاجه
وعندما تسلّم عليّ (ع) الخلافة في شرعيتها من رسول الله (ص)، رسم للخلافة برنامجاً لم يرسمه قبله الذين تقدّموه، لأن علياً (ع) يعرف أن الحاكم ـ أياً كان ـ سواء كان حاكماً معصوماً كالأنبياء أو الأئمة، أو حاكماً غير معصوم، لا بدّ له من أن يحدِّد برنامج حكمه، ليعرف الناس كيف يسير بهم، والى أين يتّجه، وليحاسبوه إن كان هناك مجال للحساب على برنامجه كيف خطط له، وهل سار عليه.
إمامة القرآن
وقد كان عليّ (ع) يحدث الناس دائماً عمّا يجب أن يرتكزوا عليه في كل حياتهم، سواء كانت في موقع المسؤوليات العامة أو الخاصة، كان يقول لهم: خذوا القرآن، وادرسوا كل آية من آياته في كل موقع من مواقع حياتكم، إجعلوا القرآن إمامكم في كل ما تتحركون فيه، لأنه الحق الذي لم يقترب الباطل إليه، ولأنه النص المعصوم الذي لم يقترب إليه التحريف في الزيادة والنقصان، حتى عندما تأتيكم الأحاديث من هنا وهناك في ما يرويه الناس عن النبي (ص) أو عن الأئمة(ع)، فإن عليكم أن تعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار.
من بعض كلماته(ع) يقو ل وهو يخاطب الناس، وعليّ(ع) عندما يخاطب الناس فإنه لا يخاطب الذين عاشوا في مرحلته، وإنما يخاطب كل الناس لأنه كان للإنسان كله، لأن الإسلام للإنسان كله.. يقول(ع): "واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ ـ لأنه كلام الله الذي أراد لخلقه من خلال نصائحه، أن يرتفعوا ليعرفوه ويوحّدوه ويعبدوه ويطيعوه، وأن يرتفعوا إلى المستوى الذي يقرّبهم إليه ـ والهادي الذي لا يضل ـ فالله جعل القرآن هدى للناس، فقد أنزله نوراً يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ـ والمحدّث الذي لا يكذب ـ لأنه الصدق كله، وهو الذي جاء بالصدق وصدّق به ـ وما جالس هذا القرآن أحد إلا وقام عنه بزيادة أو نقصان"، من جلس مع القرآن وتدبّره فإنه لا بد أن يغتني ويصلح به، فيزيد هداه بهدى القرآن، وينفتح له النور الذي يُذهب عمى قلبه..
في القرآن شفاء وشفاعة
ويتابع أمير المؤمنين (ع): "واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ـ لأن الإنسان الذي يكون القرآن كل علمه، لا يحتاج إلى أحد ليهتدي به، لأنه الغنيّ في العلم والمعرفة والحق والهدى ـ ولا لأحد قبل القرآن من غنى ـ من لم يأخذ بالقرآن فإنه لا يحصل على غنى القلب والعقل والهدى ـ فاستشفوه من أدوائكم ـ إذا رأيتم أن هناك أمراضاً نفسية أو أخلاقية أو عقلية أو اجتماعية، فانفتحوا على القرآن، فإنه الشفاء من كل أمراضكم، فالله تعالى قال: {وشفاء لما في الصدور}، فهو الذي يشفي الإنسان من أمراضه ـ واستعينوا به على لأواكم ـ وهي الشدة، فاستعينوا به على ما تواجهونه من شدائد في ما تتعقّد به نفوسكم وما تواجهونه من البلاء ـ فإن فيه شفاءً من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق ـ فمن قرأ القرآن وتدبّره انطلق به من الكفر إلى الإيمان، ومن النفاق إلى الإخلاص ـ والغي والضلال ـ فمن أخذ بالقرآن انطلق به من الغي إلى الرشد، ومن الضلال إلى الهدى ـ فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه ـ هو النور الذي لا يحتاج إلى نور آخر ـ إنه ما توجّه العباد إلى الله بمثله ـ لأن القرآن يشفع لك ـ واعلموا أنه شافع مشفّع، وقائل مصدَّق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه ـ فالإنسان الذي يعيش مع القرآن علماً وقراءةً وتدبّراً فإنه سيقدّمه يوم القيامة ليشفع لقارئيه والعاملين به ـ ومن مَحَل به القرآن يوم القيامة صُدِّق عليه، فإنه ينادي منادٍ في عرصات القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، إلا حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم ـ سواء كانت آراءً شخصية أو اجتماعية أو سياسية ـ واستغشوا فيه أهواءكم".
دعوة إلى الفضائل والقيم
ثم ينادي الإمام عليّ (ع) في ما يشبه الاستغاثة: "العمل.. العمل ـ ليس هناك شيء بين الإنسان وربه يقرّبه إليه أو يبعّده عنه إلا العمل ـ والله تعالى يقول: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً}، وقد قال رسول الله (ص): "أيها الناس: لا يتمنى متمنٍ ولا يدّعي مدعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت" ـ ثمّ النهاية.. النهاية"، ونهايتنا جميعاً الوقوف بين يدي الله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} ـ والاستقامة.. الاستقامة ـ {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ـ والصبر.. الصبر ـ "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" ـ والورع.. الورع ـ الورع عن محارم الله، فتقف عند ما حرّم الله عليك فتتركه، وعند ما أمرك الله به فتفعله ـ إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غايةً فانتهوا إلى غايته، واخرجوا إلى الله بما افترض عليكم من حقه ـ اخرجوا من حقوق الله في توحيده وطاعته وعبادته، وفي ما فرضه عليكم في أموالكم، في ما فرضه عليكم من حقوق بعضكم البعض ـ وبيّن لكم من وظائفه، أنا شاهد لكم ـ سوف أكون الشاهد لكم يوم القيامة إذا أخذتم بهذا المنهج ـ وحجيج يوم القيامة عنكم"، وسوف أقف بين يدي الله وأحاجج معكم لتنجو إذا سرتم معي على الحق.
خط الحق والطاعة
هذا هو برنامج عليّ (ع) الذي ينادي فينا: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد".. وسلام الله عليك يا أمير المؤمنين، يوم وُلدت في بيت الله، وكانت حياتك في طريق الله، ولاقيت ربك في بيت الله، وفُزت وربّ الكعبة، رزقنا الله تعالى أن نسير على ولايتك ونهجك وهداك، فأنت يا أمير المؤمنين قائد الغرّ المحجّلين والسالك بنا إلى الجنة، إدعُ لنا ربك أن يثبّتنا على ديننا، وأن يغيّر سوء حالنا بحسن حاله.. سلام الله عليك يا أمير المؤمنين، إننا نحبك كما لا نحبّ أحداً بعد رسول الله، وإننا نواليك وولايتك الخير كله، والحق كله، والطاعة لله، نسأل الله أن يجعلنا معك في خط الحق في الدنيا، وأن يجعلنا معك يوم القيامة شافعاً مشفّعاً، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وتحركوا في خط القرآن الذي يقول: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، ويقول: {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، ويقول تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار}، أن لا نكون مع الظالمين بالكلمة والفعل والموقف، لأن الله تعالى أراد للظلم أن يزول من عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، وأراد للحياة أن تعيش على أساس العدل كله للناس كلهم.
ولذلك، عندما تواجهنا الأزمات الأمنية والسياسية، فإن علينا أن نستنطق القرآن الكريم لنحدِّد موقفنا من هذه الأزمات، ونحن نعيش في ظلم يتحرك بالظلمات في العالم كله، ونعيش في استكبار يتحرك من أجل أن يصادر المستضعفين، فعلينا أن نحدد مواقفنا على أساس تغيير المنكر، فماذا هناك:
صراع أمريكي لحساب المصالح الإسرائيلية
الشعب الفلسطيني في موقف استشهادي متحرّك في شكله ومضمونه، والعدو الصهيوني يتصرف بضوء أخضر أمريكي ضاغط على أكثر المحاور الدولية، بما فيها العربية والإسلامية، والقضية الفلسطينية في حركة السلطة تستسلم لأكثر من عملية تمييع سياسي لا تستقر على وقت معيّن، تحت خديعة ساذجة من اللجنة الرباعية التي تقدّم لها المواعظ في إصلاح نفسها ريثما يأتي الموعد للحل..
والرئيس الأمريكي "بوش" يخدّر العالم العربي والإسلامي بالتلويح بالدولة الفلسطينية الغارقة في مناخ ضبابي سياسي، ويدعو المسؤولين فيها إلى محاربة رجال الانتفاضة تحت شعار "الحرب ضد الإرهاب" كشرط للحلّ، لأن الخطة الأمريكية الجديدة هي أن يقاتل العرب بعضهم بعضاً لحساب المصالح الأمريكية السياسية، تبعاً لما تحدِّده أمريكا من خطط أمنية تلتقي مع الخطط الإسرائيلية التي تعمل ـ في الحكومة الجديدة ـ على توسيع المستوطنات، ورفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وإخضاع الشعب كله للشروط الصهيونية في السقوط الذليل أمام الحكم الإسرائيلي الذي لا يمنحه إلا دولة في شكل الحكم الذاتي..
أمريكا: تغيير النظام العراقي
أما في المسألة العراقية، فلا تزال أمريكا ـ وحليفتها بريطانيا ـ تخططان للحرب القريبة لاحتلال العراق، بإقامة إدارة عسكرية أمريكية بقيادة قائد أركان الجيوش الأمريكية، وذلك في نطاق خطة محدَّدة أعلنها "بوش" في أن العراق سيكون "نموذجاً لبلاد المنطقة"، مؤكداً نيّة أمريكا إقامة نظام عراقي جديد يكون "نموذجاً للحرية في دول المنطقة"، على حدّ قولـه، ما يوحي بالخطة السياسية التغييرية للنظام العربي بإشراف أمريكي..
ولا تزال أمريكا تلعبُ لعبة الخداع مع المعارضة العراقية، في إطلاق الكلمات الغامضة التي توحي بأكثر من تفسير، لأن المسألة لديها ليست إنقاذ الشعب العراقي، بل خدمة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والعالم، ما يجعلها تفتش عن عملاء وأتباع لا عن حلفاء بقدر ما يرتبط الأمر بالعالم الثالث، في الأنظمة الموظَّفة لديها فيه لحراسة مصالحها.
الإبقاء على موقع قيادة العالم
إن المرحلة هي مرحلة الحرب الدبلوماسية التي يُراد فيها تطويق مجلس الأمن، وتحويله إلى مجرد مجلس للأمن القومي الأمريكي، أو إبعاده عن الدور الفاعل، والضغط على أكثر من دولة ثانوية لا تملك حق الفيتو.. إننا نتصوّر أن المسألة ليست مسألة تغيير النظام الطاغي في العراق وتدمير أسلحة الدمار الشامل لديه، بل هي مسألة تتجاوز ذلك كله، لتبقى أمريكا في موقع قيادة العالم، لتجرّ الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وراءها بمختلف الضغوط، فلا تسمح لقطب دولي آخر بالموقع القوي في حركة العالم الاقتصادية والأمنية والسياسية..
ويبقى العالم العربي ـ ومعه العالم الإسلامي ـ يراوح مكانه، في حالة رعب مدمِّر، خوفاً من الأخطبوط الأمريكي الذي يمد أذرعه إلى كل مكان، وينتظر الجميع القمة التي سوف تصدر بياناً تتطاير أوراقه في الهواء، لتتطاير مواقع الأنظمة في رياح العاصفة.. والسؤال: أيّ عالم هو هذا العالم الذي نقبل عليه، حيث تسيطر قوة مستكبرة واحدة تملك كل الحرية في مصادرة المستضعفين بحسب مصالحها، من دون أن يردعها أحد، ومَن الذي يحمي الشعوب منها، لا سيما إذا كانت الشركات الاحتكارية العالمية هي التي تحدد الحرب والسلام؟!
المنطقة محاصرة بعواصف
أما لبنان، فقد واجه العواصف المدمِّرة بالطريقة التي لم يجد فيها الشعب صورة الدولة التي تخطط للمستقبل، وترصد المتغيّرات الطبيعية الضاغطة على الناس، بالإضافة إلى المتغيّرات الأخرى في الداخل والمنطقة، لأن الصورة لا تزال هي صورة دولة الأشخاص التي يسجّل فيها البعض في الأزمات نقطة على هذا أو ذاك، لا صورة دولة المؤسسات التي تنظر إلى الوطن كله كمسؤولية واحدة بعيداً عن رموز الحكم والطوائف..
إن هناك أكثر من عاصفة عسكرية وسياسية واقتصادية تحاصر المنطقة كلها، والسؤال: كيف نعمل جميعاً لتجميد كل عصبياتنا وطائفياتنا وأوضاعنا الخاصة، ريثما نتفادى النتائج المدمِّرة التي لا يعرف مداها إلا الله؟ |