كيف نواجه الباطل من مواقع الوعي والصدق والقوة

كيف نواجه الباطل من مواقع الوعي والصدق والقوة

لنتعلّم من مدرسة عاشوراء في خط أهل البيت(ع)
كيف نواجه الباطل من مواقع الوعي والصدق والقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

أهل بيت النبوة تجسيد للرسالة

موسم عاشوراء هو الموسم الذي حمل في كل قضاياه وفي كل خطاباته وفي كل تضحياته ومواقفه منهج أهل البيت(ع)، الذي انطلق من رسول الله(ص) الذي ربّى هذا البيت على صورته، منذ أن ربّى علياً(ع) على أخلاقه وعلى علمه وعلى زهده وعلى وعيه وانفتاحه على الإنسان كله، ثم ربّى ابنته الصدّيقة فاطمة الزهراء(ع) التي عاشت منذ طفولتها الأولى معنى عقل رسول الله(ص)، على هذه القيم السامية، حتى ارتفعت إلى آفاق روحانيته، وعاشت عناصر علمه، فأصبحت وهي في سنّ الشباب الإنسانة التي تملك من العلم والوعي والروحانية وكل كمالات الأخلاق ما لا تملكه امرأة أخرى.

أما الحسنان(ع)، فقد أعطاهما رسول الله(ص) من قلبه كل العاطفة والحنان، وكل الأبوّة الروحية في رعاية طفولتهما، حتى تغذيا معنى روح رسول الله(ص)، وانفتحا فيها على آفاقه. هذا البيت الذي ربّاه رسول الله(ص) هو رسالة كلها، ولهذا كان تجسيداً للرسالة، وعلى هذا الأساس أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، لينطلق كل هؤلاء ليتمثلوا العصمة في ما قالوه وفي ما فعلوه. وهكذا لم يكن لأهل البيت(ع) أي منهج إلا الإسلام، ولا عنوان إلا الحق؛ الحق في العقيدة، فلا مجال لكل الباطل الذي يحاول الكثيرون أن يقحموه على العقيدة، والحقّ في العاطفة، فحبهم هو لله ولرسوله ولمن أحب الله ورسوله، وهكذا في الكلمة، فهم لا يقولون إلا الصدق، فلا يقترب الكذب إلى أية كلمة من كلماتهم. وهكذا أرادوا للناس كلهم أن يرتكزوا على قاعدة الحق في كل أمورهم، لأن مسألة أن تؤمن بالله أن تكون مع الحق، لأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، أن تكون مع الله، أن يكون الحق كل فكرك وكل عاطفتك وكل كلماتك وكل حركتك في الحياة.

إصرار على الحق

ومن هنا، عانى أهل البيت(ع) ما عانوه من خلال أنهم أصرّوا على الحق، وكان الآخرون يريدون لهم أن يخلطوا الحق بالباطل.

ولذلك قيل إن الحق مر، لأن الحق يتعب، أو لأنه يحمِّل الإنسان مسؤولية، ولأنه ينطلق نحو الخط المستقيم، فلا انحراف فيه يميناً وشمالاً. وهكذا كانت معاناة علي(ع) كمعاناة رسول الله(ص) منذ البداية، فقد جاء أهل مكة إلى رسول الله(ص) بعد أن اشتدّ ضغط الإسلام على الشرك، واشتدّ ضغط الشرك على المسلمين، وقالوا له: تعال نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة: {قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون* ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابدٌ ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين}.

لقد ركّز رسول الله(ص) المسألة بطريقة حاسمة لا تحتمل أي نوع من التسويات، لأن مسألة الحق ليست فيها تسويات، ذلك أن إدخال أي مفردة من مفردات الشرك في عقيدة التوحيد يمسّ سلامة العقيدة، في حين أن المشركين ليس لديهم مانع من إدخال التوحيد مع الشرك كما يفعلون، وهذا ما نلاحظه الآن في ساحة الانحراف العقيدي الإسلامي، حين يتحرك الكثيرون في خط الغلو، حتى أدخلوا مفردات الشرك في التوحيد، فأصبح توحيداً يختزن الكثير من عناصر الشرك، ولذلك فإن الإمام علي(ع) عندما واجه المشكلة في حياته قال: "قد هلك فيَّ اثنان: محبٌ غالٍ ومبغضٌ قال".

وفي هذا المجال، عانى النبي(ص) ما عاناه، لأنه رفض أن يبتعد عن الحق ولو بنسبة واحد بالمئة، ومضى الإمام علي(ع) على هذا الخط، حتى أنه بعد وفاة رسول الله(ص)، رفض، وهو القادر أن يدخل ـ كما نعبر فيه هذه الأيام ـ اللعبة السياسية كما دخل فيها الآخرون، لأن الإمام(ع) كان يريد الحق صافياً، وخصوصاً أن الدين كان يمثّل كل القيمة عنده، وهو القائل: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً (أو هدماً) تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه"، وعندما جاءت مسألة الشورى، قال له عبد الرحمن بن عوف: "أبايعك على أساس كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين"، فوافق بالمبايعة على كتاب الله وسنّة رسوله، وفي رواية أن سيرة الشيخين إذا كانت موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله فلا مشكلة، أما إذا كانت مخالفة فكيف يمكنه المبايعة، لذا مضت الخلافة إلى عثمان، مع أنه كان يمكنه أن يبايع، على طريقة الأسلوب الدارج في هذه الأيام: "وقّع والحس توقيعك"، كما هو حال الكثيرين الذين يعدونك بكل شيء، أما بعد الوصول إلى الحكم فلا يفون بأي وعد، وهذا هو واقعنا السياسي وواقعنا الاجتماعي، وقد يقترب من واقعنا الديني في هذا المقام، ولكن الإمام علي(ع) كان يعتبر أن قضية الخلافة ليست قضية طموح شخصي، وعبّر عن ذلك بقوله لابن عباس وهو يشير إلى نعله: "أترى هذه النعل، أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".

فالإمام علي(ع) كان يعتبر الخلافة مسؤولية ووسيلة لإزهاق الباطل، حتى أنه عندما دُفع إلى القتال الداخلي، كان الحق منطلقه وغايته، لذا قال: حاربناهم على التنـزيل والآن نحن نحاربهم على التأويل، أي بسبب ميلهم إلى الانحراف العملي عن الحق.

وهكذا عندما صارت الخلافة إليه، جاءه جماعة وقالوا له إن بيت مال المسلمين بيدك، خذ من بيت المال وأعطِ هؤلاء وأولئك ليستقرّ حكمك، فردّ عليهم بقوله: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليت عليه، والله ما أطور به ـ ما أقوم به ـ ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، لو كان المال مالي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله". فكان يبتعد عن الألاعيب السياسية، وقد عانى كثيراً من جراء تمسّكه بهذا النهج، حتى قال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانعٌ من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين، والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"، والإمام الذي كان فكره فكر كل الحياة، لا فكر مرحلة معينة، ألم يكن يعرف فنون السياسة؟ بلى، ولكن كان يمنعه من ذلك حاجز من أمر الله ونهيه!!

تعميق الوعي الرسالي

إنّ الفرق بين الإمام علي(ع) وبين الذين تقدموه أو تأخروا عنه، أن الإمام(ع) اعتبر نفسه مسؤولاً عن أصالة الإسلام وصفائه ونقائه، وعن إظهاره في الصورة المشرقة الطاهرة، تماماً كما فعل رسول الله(ص). كان يعتبر نفسه رسولاً من دون نبوة، يتحمل مسؤولية الرسالة، ولم يكن همه أن يجمع الناس من حوله، بل أن يعمّق وعيهم بالرسالة، حتى يجعلهم مبدئيين رساليين، على غرار ما أراده من ولده محمد عندما أراد ولده خوض المعركة، حيث قال له: "تِد في الأرض قدمك، أعِر الله جمجمتك، إرم ببصرك أقصى القوم، تزول الجبال ولا تزول". هكذا كان نهجه ورؤيته للناس، وقد عبر عن ذلك بقوله: "لا تزيدني كثرة الناس من حولي عزاً ولا تفرقهم عني وحشة". فالإمام أرادنا أن نكون على خطه في الفكر والسلوك، وهو الذي أوصانا بقوله: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل".

وعلى الخط نفسه، تحرك الإمام الحسين(ع)، فارتقى المرتقى الصعب، وسار ضد التيار السائد؛ تيار الانحراف الذي كان يمثله معاوية، وكانت ذروة الانحراف عندما بايع لولده يزيداً مستخدماً الإغراءات والقوة معاً، حيث كان يحمل بيد صرة من المال وبالأخرى سيفاً، ويقول من بايع فله المال، ومن لم يبايع فله السيف.

كان الناس قد تربوا على هذه الذهنية، التي تجعل قضية التحرك مع القيادة غير خاضعة للمبادىء، وإنما للمنافع، ولا يزال الكثير من الناس يصلون إلى غير ما يستحقونه من مواقع، سواء على مستوى سياسي أو اجتماعي أو ديني، وهم لا يملكون عناصر القيادة، إنما يملكون أرصدة المال، لذا حرص الإمام(ع) ومن بين كل الخلفاء الذين تقدموه، على أن يثقف الناس، وليس أن يحكمهم فقط، فكان(ع) المعلم والمربي كما كان الخليفة، كان يتحرك مع الناس حتى يصل إلى أعماقهم، وكان يدرس الواقع على الأرض وينقد الواقع المنحرف والسيء، حتى تعرض إلى ما تعرض إليه من مواجهات ظالمة، فكان في خلافته كما كان النبي(ص) عندما قال: "ما أُوذيَ نبيٌ مثلما أوذيت"، وهو ما عبّر عنه بقوله: "فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تلك الدار الآخرة يجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}".

وإذا كان مفهوم الإمام(ع) للقيادة على هذا النحو، فإن الأسلوب الأموي أوجد ثقافة مختلفة تركز على أن سبيل الارتباط بالقيادة لا يتم إلا من خلال اللعبة السياسية أو الإغراءات المادية وإلا فبالتهديد والترهيب.

عاشوراء قضية للحق

من هنا، فالإمام الحسين(ع) عندما قال: "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فإنه كان يشير إلى هذا الواقع، لأن المسألة أن الفساد لم يكن فقط في القيادة، بل كان يتحرك في القاعدة وفي الأمة، لأن الأمة وفي ضوء الثقافة الأموية، بدأت تنسى الحق، وتأخذ بالباطل: "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً"، وفي هذا المجال، لا بد أن نأخذ بالحق على مستوى المبادىء وعلى مستوى المواقف، لأن بعض الناس، وخصوصاً في مسألة ذكرى عاشوراء، أرادوا لعاشوراء أن تتحول من أن تكون قضية للحق إلى أن تكون مأساة للبكاء، وعاشوراء محدودة في عناصرها، وفي أيامها، فلذلك حشدوا آلاف الأكاذيب من أجل أن يثيروا عاطفة الناس، مع العلم أننا لو تحدثنا عن مواقع الصدق فيها لكانت كافية في تفجير العاطفة، ذلك أن الأكاذيب إنما تهزّ مصداقية الذكرى في عقول الناس ونفوسها.

وممّا يؤسف له أن الخطيب الذي يبكي الناس أكثر هو من ينجح حتى ولو جاء بالخرافات والأكاذيب، حتى بات المقياس، أن الخطيب الأفضل ليس الرسالي أو المثقف، إنما الذي يبكي الناس وذاك لا يبكيهم، ولكننا لا نقول هذا يثقف الناس وذاك لا يثقفهم.

إننا نريد من عاشوراء أن تثير عقولنا، أن تنقي قلوبنا، أن ترفع من مستوانا الروحي والإنساني، ما يتطلّب منا أن نقوم بثورة ثقافية وثورة سياسية وثورة اجتماعية حتى يرتفع مستوى المسلمين، لأن التخلف الذي أخذ يغزو عقلية المسلمين من جهة الجهلة والمتخلفين والمنحرفين.

ولأنّ الحسين(ع) كان كما أبوه، الإنسان الناقد للواقع، والحامل لراية الحق والصدق، فإنّ علينا أن لا ندخل عاشوراء في ضباب الأكاذيب والخرافات، ففي عاشوراء من الصدق والكثير مما يغني العقل، ومما يثير القلب، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع) لبعض أصحابه الذي كان يحاور بعض الناس، فتارة يرد عليه بالحق وأخرى بالباطل، لكي يسجل عليه نقطة، قال له الإمام الصادق(ع): "إنك أخذته بالحق والباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير من الباطل"!!

لذلك، أيها الأحبة، ليكن شعارنا في عاشوراء على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والروحي والتاريخي هو شعار الإسلام في خط أهل البيت(ع)، لنكن مع الحق ولو وقف الناس كلهم ضد الحق، ولنكن ضد الباطل ولو وقف الناس كلهم مع الباطل، والله أصدق القائلين: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.

* * * *

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وخذوا بالحق وإن كان مراً، واتركوا الباطل وإن كان حلواً، لأن المسألة هي كيف نواجه الله سبحانه وتعالى، عندما ينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}، هل نواجه الله بحياة كلها حق، أو نواجهه بحياة كلها باطل، إن الذين يأخذون بالباطل صافياً أو الذين يخلطون بين الحق والباطل سيكون لهم موقف أمام رب الحق وإله الحق، لذلك لا بد لنا أيها الأحبة، من أن نأخذ بالحق وأن نتدبر الأمور كلها لندقق ونحقق حتى لا نتخذ موقفاً إلا إذا عرفنا نه الموقف الذي يرضي الله ورسوله، ولا نرفض موقفاً إلا إذا عرفنا أنه يبتعد عن خط الله ورسوله، ونحن الآن في عالم يأخذ بالباطل في السياسة وفي الحرب وفي السلم وفي كل المواقع، ونحن الآن في صراع مع كل الباطل الاستكباري الذي يريد أن يفرض نفسه على العالم ليصادر الحق في كل مواقع الإنسان المستضعف، ولذلك لا بد لنا أن نكون واعين لخطواته، حتى نعرف كيف نواجهه من موقع الوعي ومن موقع القوة.

القمم العربية الإسلامية المتحركة في نزاعات تفصيلية تنعقد ضد الحرب الأمريكية، ولدعم القضية الفلسطينية ولكن من دون أي نتائج، لأن بعض العرب قد ارتبطوا بمعاهدات عسكرية مع أمريكا للدفاع عن أنفسهم ضد عدوان بعض العرب عليهم، ما يجعلهم في موقع عجزٍ عن التحرك بأيّة آليّة واقعية لتحقيق بعض الدعم للقضايا العربية المصيرية، ومنها القضية الفلسطينية، كالقيام بأية ضغوط عملانية ضد الذين يحركون العدوان على الواقع العربي والإسلامي .

أمريكا تشرعِن الإرهاب الصهيوني

أما القمة الإسرائيلية الأمريكية التي يتحرك في إطارها شارون وبوش، فإنها تحشد الجيوش ضد المنطقة في تحالف عسكري سياسي يظهر تارة ويختفي أخرى، وتترك لإسرائيل الحرية كلها في استخدام الطائرات والدبابات والمدافع والجرافات المدمرة ضد الشعب الفلسطيني لإخضاعه للاستسلام، ويسقط مئات الشهداء والجرحى من المدنيين، وتدمر البيوت على رؤوس أصحابها، وتبرر أمريكا لها ذلك بحقها في الدفاع عن نفسها، وقد تتصدق على الفلسطينيين بالحديث عن عدم الموافقة على الإفراط في استخدام القوة، حتى إذا قام المجاهدون الفلسطينيون بعملية استشهادية في حيفا للتخفيف من الضغوط العسكرية الوحشية الإسرائيلية، اندفع الاحتجاج الأمريكي بأشدِّ كلمات الإدانة والاستنكار ضد هذا العمل الإرهابي، كما يسمونه، لاستهدافه المدنيين، بينما يعتبر استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين من ضرورات الحرب الدفاعية، وقد بادرت فرنسا وروسيا وألمانيا وغيرها بمثل هذا الاستنكار، من دون دراسة للظروف الصعبة الخانقة المدمرة المحيطة بالشعب الفلسطيني، الذي يقف وحيداً أمام الوحشية الأمريكية الإسرائيلية.

فلسطين: بين الهدنة والاستسلام الكامل

إننا نقول للفلسطينيين إن الحكومة الصهيونية بزعامة شارون المدعوم من أمريكا، لن تكتفي بإيقاف العمليات الاستشهادية لو وافقتم عليها بل تريد الاستسلام المطلق لخططها العنصرية، فقد مضى شهران لم يقم فيهما المجاهدون بأية عملية استشهادية، فلم يمتنع العدو عن الاستمرار في الاحتلال وفي القتل والتدمير والحصار. لذلك، تابعوا جهادكم الرائع الذي يصنع للأمة العربية والإسلامية تاريخاً جديداً، ولا تخدعنّكم الإيحاءات الدولية والعربية بالهدنة، لأن إسرائيل لا تلتزم بها، كما أن اللجنة الرباعية الدولية لا تملك فرض أي حل عليها... إن الساحة هي ساحة عض الأصابع فلا تصرخوا، وقد عشتم الآلام كلها، وستصرخ إسرائيل في النهاية، لأن أية دولة لا تملك إخضاع شعب حرّ يريد الحرية والحياة.

طغيان أمريكي دون حدود

ومن جانب آخر، فإن الرئيس الأمريكي، ومعه بعض حلفائه ـ وفي مقدمهم بريطانيا ـ يختزن في داخل شخصيته ذهنية الطاغية شارون، الذي يستسقي الدم ولا يرتوي منه، لأن الإحساس بطغيان القوة عنده يحركه من أجل تهديد العالم بالحرب باسم السلام، وإسقاط حرية الشعوب تحت شعار تحقيق إرادة الله، تماماً كما لو أن الله أراد له أن يصادر المستضعفين وبعض المستكبرين، حتى يبقى له الدور الأوحد في القرار في العالم كله.

إننا نلاحظ أن أمريكا تستخدم سياسة العصا والجزرة في الضغط على بعض الدول لتسهيل تواجد جنودها في أراضيها لمصلحة الحرب على المنطقة من خلال العراق، وهذا ما لاحظناه في الضغط الأمريكي على تركيا التي رفض برلمانها الخضوع للقرار الأمريكي، ولكن اللعبة الدبلوماسية الضاغطة والتهديد بالانهيار الاقتصادي ربما يؤدي إلى خضوعها في نهاية المطاف، لا سيما بعد تدخل الجيش التركي للضغط على الحكومة والبرلمان، لاستكمال الطوق على العراق من الجنوب والشمال.

العراق بين المعارضة وأمريكا

إن السؤال الذي يفرض نفسه أمام الاحتمالات القريبة للحرب: وماذابعد؟ هل تملك أمريكا مصادرة قرار مجلس الأمن لمصلحتها تحت الترغيب والترهيب وتبادل المصالح، أو أنها سوف تسقط شرعيته الدولية لتقوم بعمل منفرد في الحرب... ثم ما هو موقف المعارضة العراقية من الخطة الأمريكية التي قدمت إليهم كقرار للتنفيذ، مفاده أنه بعد احتلال أمريكا للعراق سيكون حكم عسكري أمريكي، يدير البلاد باسم تحرير الشعب العراقي... والسؤال، ما هي الخطة البديلة، وما هي إمكانات الضغط على الأمريكيين... هل تبدأ بحرب ضد هذا الاحتلال أو تستمر في الانتظار إلى الوقت الأمريكي الخاضع للمصالح الاستراتيجية؟... إنها أسئلة بحاجة إلى جواب... وفي جميع الحالات، فإننا ندعو الشعب العراقي بجميع فصائله إلى أن يتابع بكل وحدته السياسية الشعبية جهاده الرامي إلى التحرر من نظام الطاغية ومن الاحتلال الأجنبي...

وعلى الجميع أن يعرفوا ـ من خلال دروس التاريخ الخاضعة للسنن الالهية ـ أن الشعوب إذا أصرت على حرياتها فلا تستطيع قوة مستكبرة أن تمنعها من تحقيق ذلك. ونريد للشعوب العربية والإسلامية ومعها كل الشعوب الحرّة، أن تبقى في ساحة الرفض للاستكبار العسكري والاقتصادي والأمني، فإن الطغاة مهما كانت قوتهم لن يستطيعوا الصمود أمام الإرادة الحرة للشعوب.

مجزرة بئر العبد والإرهاب الأمريكي

وإننا في هذه الأيام، نلتقي بذكرى مجزرة بئر العبد التي قامت بها المخابرات الأمريكية، بواسطة عملائها في المنطقة باعتراف مديرها وليم كايسي، وحصدت العشرات من المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال رضّع وأجنّة في بطون أمّهاتهم، وعمال عائدين من أعمالهم وشيوخ وغيرهم... إن علينا أن لا ننسى هذه المجزرة لنعرف كيف تمارس أمريكا الإرهاب لحساباتها الخاصة في الوقت الذي ترفع شعار الحرب ضد الإرهاب... إن المنطق الأمريكي هو أن الارهاب ممنوع أن يقترب من أمريكا، ولكنه مسموح للأمريكيين وللإسرائيليين ولكل الأنظمة الطاغية المتحالفة مع أمريكا...

فتش عن أمريكا في كل عناصر الظلم والإرهاب في العالم... في إداراتها الرسمية التي تحمل الحقد على المستضعفين، ولا سيما العرب والمسلمين.

لنتعلّم من مدرسة عاشوراء في خط أهل البيت(ع)
كيف نواجه الباطل من مواقع الوعي والصدق والقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

أهل بيت النبوة تجسيد للرسالة

موسم عاشوراء هو الموسم الذي حمل في كل قضاياه وفي كل خطاباته وفي كل تضحياته ومواقفه منهج أهل البيت(ع)، الذي انطلق من رسول الله(ص) الذي ربّى هذا البيت على صورته، منذ أن ربّى علياً(ع) على أخلاقه وعلى علمه وعلى زهده وعلى وعيه وانفتاحه على الإنسان كله، ثم ربّى ابنته الصدّيقة فاطمة الزهراء(ع) التي عاشت منذ طفولتها الأولى معنى عقل رسول الله(ص)، على هذه القيم السامية، حتى ارتفعت إلى آفاق روحانيته، وعاشت عناصر علمه، فأصبحت وهي في سنّ الشباب الإنسانة التي تملك من العلم والوعي والروحانية وكل كمالات الأخلاق ما لا تملكه امرأة أخرى.

أما الحسنان(ع)، فقد أعطاهما رسول الله(ص) من قلبه كل العاطفة والحنان، وكل الأبوّة الروحية في رعاية طفولتهما، حتى تغذيا معنى روح رسول الله(ص)، وانفتحا فيها على آفاقه. هذا البيت الذي ربّاه رسول الله(ص) هو رسالة كلها، ولهذا كان تجسيداً للرسالة، وعلى هذا الأساس أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، لينطلق كل هؤلاء ليتمثلوا العصمة في ما قالوه وفي ما فعلوه. وهكذا لم يكن لأهل البيت(ع) أي منهج إلا الإسلام، ولا عنوان إلا الحق؛ الحق في العقيدة، فلا مجال لكل الباطل الذي يحاول الكثيرون أن يقحموه على العقيدة، والحقّ في العاطفة، فحبهم هو لله ولرسوله ولمن أحب الله ورسوله، وهكذا في الكلمة، فهم لا يقولون إلا الصدق، فلا يقترب الكذب إلى أية كلمة من كلماتهم. وهكذا أرادوا للناس كلهم أن يرتكزوا على قاعدة الحق في كل أمورهم، لأن مسألة أن تؤمن بالله أن تكون مع الحق، لأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، أن تكون مع الله، أن يكون الحق كل فكرك وكل عاطفتك وكل كلماتك وكل حركتك في الحياة.

إصرار على الحق

ومن هنا، عانى أهل البيت(ع) ما عانوه من خلال أنهم أصرّوا على الحق، وكان الآخرون يريدون لهم أن يخلطوا الحق بالباطل.

ولذلك قيل إن الحق مر، لأن الحق يتعب، أو لأنه يحمِّل الإنسان مسؤولية، ولأنه ينطلق نحو الخط المستقيم، فلا انحراف فيه يميناً وشمالاً. وهكذا كانت معاناة علي(ع) كمعاناة رسول الله(ص) منذ البداية، فقد جاء أهل مكة إلى رسول الله(ص) بعد أن اشتدّ ضغط الإسلام على الشرك، واشتدّ ضغط الشرك على المسلمين، وقالوا له: تعال نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة: {قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون* ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابدٌ ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين}.

لقد ركّز رسول الله(ص) المسألة بطريقة حاسمة لا تحتمل أي نوع من التسويات، لأن مسألة الحق ليست فيها تسويات، ذلك أن إدخال أي مفردة من مفردات الشرك في عقيدة التوحيد يمسّ سلامة العقيدة، في حين أن المشركين ليس لديهم مانع من إدخال التوحيد مع الشرك كما يفعلون، وهذا ما نلاحظه الآن في ساحة الانحراف العقيدي الإسلامي، حين يتحرك الكثيرون في خط الغلو، حتى أدخلوا مفردات الشرك في التوحيد، فأصبح توحيداً يختزن الكثير من عناصر الشرك، ولذلك فإن الإمام علي(ع) عندما واجه المشكلة في حياته قال: "قد هلك فيَّ اثنان: محبٌ غالٍ ومبغضٌ قال".

وفي هذا المجال، عانى النبي(ص) ما عاناه، لأنه رفض أن يبتعد عن الحق ولو بنسبة واحد بالمئة، ومضى الإمام علي(ع) على هذا الخط، حتى أنه بعد وفاة رسول الله(ص)، رفض، وهو القادر أن يدخل ـ كما نعبر فيه هذه الأيام ـ اللعبة السياسية كما دخل فيها الآخرون، لأن الإمام(ع) كان يريد الحق صافياً، وخصوصاً أن الدين كان يمثّل كل القيمة عنده، وهو القائل: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً (أو هدماً) تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه"، وعندما جاءت مسألة الشورى، قال له عبد الرحمن بن عوف: "أبايعك على أساس كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين"، فوافق بالمبايعة على كتاب الله وسنّة رسوله، وفي رواية أن سيرة الشيخين إذا كانت موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله فلا مشكلة، أما إذا كانت مخالفة فكيف يمكنه المبايعة، لذا مضت الخلافة إلى عثمان، مع أنه كان يمكنه أن يبايع، على طريقة الأسلوب الدارج في هذه الأيام: "وقّع والحس توقيعك"، كما هو حال الكثيرين الذين يعدونك بكل شيء، أما بعد الوصول إلى الحكم فلا يفون بأي وعد، وهذا هو واقعنا السياسي وواقعنا الاجتماعي، وقد يقترب من واقعنا الديني في هذا المقام، ولكن الإمام علي(ع) كان يعتبر أن قضية الخلافة ليست قضية طموح شخصي، وعبّر عن ذلك بقوله لابن عباس وهو يشير إلى نعله: "أترى هذه النعل، أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".

فالإمام علي(ع) كان يعتبر الخلافة مسؤولية ووسيلة لإزهاق الباطل، حتى أنه عندما دُفع إلى القتال الداخلي، كان الحق منطلقه وغايته، لذا قال: حاربناهم على التنـزيل والآن نحن نحاربهم على التأويل، أي بسبب ميلهم إلى الانحراف العملي عن الحق.

وهكذا عندما صارت الخلافة إليه، جاءه جماعة وقالوا له إن بيت مال المسلمين بيدك، خذ من بيت المال وأعطِ هؤلاء وأولئك ليستقرّ حكمك، فردّ عليهم بقوله: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليت عليه، والله ما أطور به ـ ما أقوم به ـ ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، لو كان المال مالي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله". فكان يبتعد عن الألاعيب السياسية، وقد عانى كثيراً من جراء تمسّكه بهذا النهج، حتى قال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانعٌ من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين، والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"، والإمام الذي كان فكره فكر كل الحياة، لا فكر مرحلة معينة، ألم يكن يعرف فنون السياسة؟ بلى، ولكن كان يمنعه من ذلك حاجز من أمر الله ونهيه!!

تعميق الوعي الرسالي

إنّ الفرق بين الإمام علي(ع) وبين الذين تقدموه أو تأخروا عنه، أن الإمام(ع) اعتبر نفسه مسؤولاً عن أصالة الإسلام وصفائه ونقائه، وعن إظهاره في الصورة المشرقة الطاهرة، تماماً كما فعل رسول الله(ص). كان يعتبر نفسه رسولاً من دون نبوة، يتحمل مسؤولية الرسالة، ولم يكن همه أن يجمع الناس من حوله، بل أن يعمّق وعيهم بالرسالة، حتى يجعلهم مبدئيين رساليين، على غرار ما أراده من ولده محمد عندما أراد ولده خوض المعركة، حيث قال له: "تِد في الأرض قدمك، أعِر الله جمجمتك، إرم ببصرك أقصى القوم، تزول الجبال ولا تزول". هكذا كان نهجه ورؤيته للناس، وقد عبر عن ذلك بقوله: "لا تزيدني كثرة الناس من حولي عزاً ولا تفرقهم عني وحشة". فالإمام أرادنا أن نكون على خطه في الفكر والسلوك، وهو الذي أوصانا بقوله: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل".

وعلى الخط نفسه، تحرك الإمام الحسين(ع)، فارتقى المرتقى الصعب، وسار ضد التيار السائد؛ تيار الانحراف الذي كان يمثله معاوية، وكانت ذروة الانحراف عندما بايع لولده يزيداً مستخدماً الإغراءات والقوة معاً، حيث كان يحمل بيد صرة من المال وبالأخرى سيفاً، ويقول من بايع فله المال، ومن لم يبايع فله السيف.

كان الناس قد تربوا على هذه الذهنية، التي تجعل قضية التحرك مع القيادة غير خاضعة للمبادىء، وإنما للمنافع، ولا يزال الكثير من الناس يصلون إلى غير ما يستحقونه من مواقع، سواء على مستوى سياسي أو اجتماعي أو ديني، وهم لا يملكون عناصر القيادة، إنما يملكون أرصدة المال، لذا حرص الإمام(ع) ومن بين كل الخلفاء الذين تقدموه، على أن يثقف الناس، وليس أن يحكمهم فقط، فكان(ع) المعلم والمربي كما كان الخليفة، كان يتحرك مع الناس حتى يصل إلى أعماقهم، وكان يدرس الواقع على الأرض وينقد الواقع المنحرف والسيء، حتى تعرض إلى ما تعرض إليه من مواجهات ظالمة، فكان في خلافته كما كان النبي(ص) عندما قال: "ما أُوذيَ نبيٌ مثلما أوذيت"، وهو ما عبّر عنه بقوله: "فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تلك الدار الآخرة يجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}".

وإذا كان مفهوم الإمام(ع) للقيادة على هذا النحو، فإن الأسلوب الأموي أوجد ثقافة مختلفة تركز على أن سبيل الارتباط بالقيادة لا يتم إلا من خلال اللعبة السياسية أو الإغراءات المادية وإلا فبالتهديد والترهيب.

عاشوراء قضية للحق

من هنا، فالإمام الحسين(ع) عندما قال: "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فإنه كان يشير إلى هذا الواقع، لأن المسألة أن الفساد لم يكن فقط في القيادة، بل كان يتحرك في القاعدة وفي الأمة، لأن الأمة وفي ضوء الثقافة الأموية، بدأت تنسى الحق، وتأخذ بالباطل: "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً"، وفي هذا المجال، لا بد أن نأخذ بالحق على مستوى المبادىء وعلى مستوى المواقف، لأن بعض الناس، وخصوصاً في مسألة ذكرى عاشوراء، أرادوا لعاشوراء أن تتحول من أن تكون قضية للحق إلى أن تكون مأساة للبكاء، وعاشوراء محدودة في عناصرها، وفي أيامها، فلذلك حشدوا آلاف الأكاذيب من أجل أن يثيروا عاطفة الناس، مع العلم أننا لو تحدثنا عن مواقع الصدق فيها لكانت كافية في تفجير العاطفة، ذلك أن الأكاذيب إنما تهزّ مصداقية الذكرى في عقول الناس ونفوسها.

وممّا يؤسف له أن الخطيب الذي يبكي الناس أكثر هو من ينجح حتى ولو جاء بالخرافات والأكاذيب، حتى بات المقياس، أن الخطيب الأفضل ليس الرسالي أو المثقف، إنما الذي يبكي الناس وذاك لا يبكيهم، ولكننا لا نقول هذا يثقف الناس وذاك لا يثقفهم.

إننا نريد من عاشوراء أن تثير عقولنا، أن تنقي قلوبنا، أن ترفع من مستوانا الروحي والإنساني، ما يتطلّب منا أن نقوم بثورة ثقافية وثورة سياسية وثورة اجتماعية حتى يرتفع مستوى المسلمين، لأن التخلف الذي أخذ يغزو عقلية المسلمين من جهة الجهلة والمتخلفين والمنحرفين.

ولأنّ الحسين(ع) كان كما أبوه، الإنسان الناقد للواقع، والحامل لراية الحق والصدق، فإنّ علينا أن لا ندخل عاشوراء في ضباب الأكاذيب والخرافات، ففي عاشوراء من الصدق والكثير مما يغني العقل، ومما يثير القلب، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع) لبعض أصحابه الذي كان يحاور بعض الناس، فتارة يرد عليه بالحق وأخرى بالباطل، لكي يسجل عليه نقطة، قال له الإمام الصادق(ع): "إنك أخذته بالحق والباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير من الباطل"!!

لذلك، أيها الأحبة، ليكن شعارنا في عاشوراء على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والروحي والتاريخي هو شعار الإسلام في خط أهل البيت(ع)، لنكن مع الحق ولو وقف الناس كلهم ضد الحق، ولنكن ضد الباطل ولو وقف الناس كلهم مع الباطل، والله أصدق القائلين: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.

* * * *

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وخذوا بالحق وإن كان مراً، واتركوا الباطل وإن كان حلواً، لأن المسألة هي كيف نواجه الله سبحانه وتعالى، عندما ينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}، هل نواجه الله بحياة كلها حق، أو نواجهه بحياة كلها باطل، إن الذين يأخذون بالباطل صافياً أو الذين يخلطون بين الحق والباطل سيكون لهم موقف أمام رب الحق وإله الحق، لذلك لا بد لنا أيها الأحبة، من أن نأخذ بالحق وأن نتدبر الأمور كلها لندقق ونحقق حتى لا نتخذ موقفاً إلا إذا عرفنا نه الموقف الذي يرضي الله ورسوله، ولا نرفض موقفاً إلا إذا عرفنا أنه يبتعد عن خط الله ورسوله، ونحن الآن في عالم يأخذ بالباطل في السياسة وفي الحرب وفي السلم وفي كل المواقع، ونحن الآن في صراع مع كل الباطل الاستكباري الذي يريد أن يفرض نفسه على العالم ليصادر الحق في كل مواقع الإنسان المستضعف، ولذلك لا بد لنا أن نكون واعين لخطواته، حتى نعرف كيف نواجهه من موقع الوعي ومن موقع القوة.

القمم العربية الإسلامية المتحركة في نزاعات تفصيلية تنعقد ضد الحرب الأمريكية، ولدعم القضية الفلسطينية ولكن من دون أي نتائج، لأن بعض العرب قد ارتبطوا بمعاهدات عسكرية مع أمريكا للدفاع عن أنفسهم ضد عدوان بعض العرب عليهم، ما يجعلهم في موقع عجزٍ عن التحرك بأيّة آليّة واقعية لتحقيق بعض الدعم للقضايا العربية المصيرية، ومنها القضية الفلسطينية، كالقيام بأية ضغوط عملانية ضد الذين يحركون العدوان على الواقع العربي والإسلامي .

أمريكا تشرعِن الإرهاب الصهيوني

أما القمة الإسرائيلية الأمريكية التي يتحرك في إطارها شارون وبوش، فإنها تحشد الجيوش ضد المنطقة في تحالف عسكري سياسي يظهر تارة ويختفي أخرى، وتترك لإسرائيل الحرية كلها في استخدام الطائرات والدبابات والمدافع والجرافات المدمرة ضد الشعب الفلسطيني لإخضاعه للاستسلام، ويسقط مئات الشهداء والجرحى من المدنيين، وتدمر البيوت على رؤوس أصحابها، وتبرر أمريكا لها ذلك بحقها في الدفاع عن نفسها، وقد تتصدق على الفلسطينيين بالحديث عن عدم الموافقة على الإفراط في استخدام القوة، حتى إذا قام المجاهدون الفلسطينيون بعملية استشهادية في حيفا للتخفيف من الضغوط العسكرية الوحشية الإسرائيلية، اندفع الاحتجاج الأمريكي بأشدِّ كلمات الإدانة والاستنكار ضد هذا العمل الإرهابي، كما يسمونه، لاستهدافه المدنيين، بينما يعتبر استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين من ضرورات الحرب الدفاعية، وقد بادرت فرنسا وروسيا وألمانيا وغيرها بمثل هذا الاستنكار، من دون دراسة للظروف الصعبة الخانقة المدمرة المحيطة بالشعب الفلسطيني، الذي يقف وحيداً أمام الوحشية الأمريكية الإسرائيلية.

فلسطين: بين الهدنة والاستسلام الكامل

إننا نقول للفلسطينيين إن الحكومة الصهيونية بزعامة شارون المدعوم من أمريكا، لن تكتفي بإيقاف العمليات الاستشهادية لو وافقتم عليها بل تريد الاستسلام المطلق لخططها العنصرية، فقد مضى شهران لم يقم فيهما المجاهدون بأية عملية استشهادية، فلم يمتنع العدو عن الاستمرار في الاحتلال وفي القتل والتدمير والحصار. لذلك، تابعوا جهادكم الرائع الذي يصنع للأمة العربية والإسلامية تاريخاً جديداً، ولا تخدعنّكم الإيحاءات الدولية والعربية بالهدنة، لأن إسرائيل لا تلتزم بها، كما أن اللجنة الرباعية الدولية لا تملك فرض أي حل عليها... إن الساحة هي ساحة عض الأصابع فلا تصرخوا، وقد عشتم الآلام كلها، وستصرخ إسرائيل في النهاية، لأن أية دولة لا تملك إخضاع شعب حرّ يريد الحرية والحياة.

طغيان أمريكي دون حدود

ومن جانب آخر، فإن الرئيس الأمريكي، ومعه بعض حلفائه ـ وفي مقدمهم بريطانيا ـ يختزن في داخل شخصيته ذهنية الطاغية شارون، الذي يستسقي الدم ولا يرتوي منه، لأن الإحساس بطغيان القوة عنده يحركه من أجل تهديد العالم بالحرب باسم السلام، وإسقاط حرية الشعوب تحت شعار تحقيق إرادة الله، تماماً كما لو أن الله أراد له أن يصادر المستضعفين وبعض المستكبرين، حتى يبقى له الدور الأوحد في القرار في العالم كله.

إننا نلاحظ أن أمريكا تستخدم سياسة العصا والجزرة في الضغط على بعض الدول لتسهيل تواجد جنودها في أراضيها لمصلحة الحرب على المنطقة من خلال العراق، وهذا ما لاحظناه في الضغط الأمريكي على تركيا التي رفض برلمانها الخضوع للقرار الأمريكي، ولكن اللعبة الدبلوماسية الضاغطة والتهديد بالانهيار الاقتصادي ربما يؤدي إلى خضوعها في نهاية المطاف، لا سيما بعد تدخل الجيش التركي للضغط على الحكومة والبرلمان، لاستكمال الطوق على العراق من الجنوب والشمال.

العراق بين المعارضة وأمريكا

إن السؤال الذي يفرض نفسه أمام الاحتمالات القريبة للحرب: وماذابعد؟ هل تملك أمريكا مصادرة قرار مجلس الأمن لمصلحتها تحت الترغيب والترهيب وتبادل المصالح، أو أنها سوف تسقط شرعيته الدولية لتقوم بعمل منفرد في الحرب... ثم ما هو موقف المعارضة العراقية من الخطة الأمريكية التي قدمت إليهم كقرار للتنفيذ، مفاده أنه بعد احتلال أمريكا للعراق سيكون حكم عسكري أمريكي، يدير البلاد باسم تحرير الشعب العراقي... والسؤال، ما هي الخطة البديلة، وما هي إمكانات الضغط على الأمريكيين... هل تبدأ بحرب ضد هذا الاحتلال أو تستمر في الانتظار إلى الوقت الأمريكي الخاضع للمصالح الاستراتيجية؟... إنها أسئلة بحاجة إلى جواب... وفي جميع الحالات، فإننا ندعو الشعب العراقي بجميع فصائله إلى أن يتابع بكل وحدته السياسية الشعبية جهاده الرامي إلى التحرر من نظام الطاغية ومن الاحتلال الأجنبي...

وعلى الجميع أن يعرفوا ـ من خلال دروس التاريخ الخاضعة للسنن الالهية ـ أن الشعوب إذا أصرت على حرياتها فلا تستطيع قوة مستكبرة أن تمنعها من تحقيق ذلك. ونريد للشعوب العربية والإسلامية ومعها كل الشعوب الحرّة، أن تبقى في ساحة الرفض للاستكبار العسكري والاقتصادي والأمني، فإن الطغاة مهما كانت قوتهم لن يستطيعوا الصمود أمام الإرادة الحرة للشعوب.

مجزرة بئر العبد والإرهاب الأمريكي

وإننا في هذه الأيام، نلتقي بذكرى مجزرة بئر العبد التي قامت بها المخابرات الأمريكية، بواسطة عملائها في المنطقة باعتراف مديرها وليم كايسي، وحصدت العشرات من المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال رضّع وأجنّة في بطون أمّهاتهم، وعمال عائدين من أعمالهم وشيوخ وغيرهم... إن علينا أن لا ننسى هذه المجزرة لنعرف كيف تمارس أمريكا الإرهاب لحساباتها الخاصة في الوقت الذي ترفع شعار الحرب ضد الإرهاب... إن المنطق الأمريكي هو أن الارهاب ممنوع أن يقترب من أمريكا، ولكنه مسموح للأمريكيين وللإسرائيليين ولكل الأنظمة الطاغية المتحالفة مع أمريكا...

فتش عن أمريكا في كل عناصر الظلم والإرهاب في العالم... في إداراتها الرسمية التي تحمل الحقد على المستضعفين، ولا سيما العرب والمسلمين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية