لتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله

لتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله

في رحاب ولادة السيد المسيح(ع):
لتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

المسيح(ع) رسالة للمحبة والتسامح

مرّت علينا قبل أيام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، ولا بد لنا أن نقف أمام هذه الذكرى، لأن السيد المسيح(ع) هو من أنبياء الله، ومن الذين تجلت قدرة الله فيهم، ومن الذين أعطوا العالم رسالة المحبة والتسامح والعدل والخير، من أجل أن يرتفع الإنسان إلى الأعالي في القيم الروحية الأخلاقية في حياته الفردية والاجتماعية.
ولذلك لا بد لنا من أن نركز على نقطتين:
النقطة الأولى: ما هو خط الإيمان الإسلامي؟ هل في إيمان المسلمين عقدة ضد أي دين آخر وأي نبي آخر؟ وهل أن الإيمان الإسلامي ينفتح على كل الأديان التي أنزلها الله على رسله، كما ينفتح على كل رسله؟
النقطة الثانية: ما هي العقيدة الإسلامية للسيد المسيح(ع)؟ لأن الرأي قد اختلف في شخصيته حتى بين النصارى، فهناك الفئة الغالبة التي ترى أنّ الله تجسّد في السيد المسيح، ولذلك فإن يسوع المسيح هو الله عندهم، الله المتجسد في الإنسان، بحيث إن الله تأنسن في السيد المسيح، فهو ليس رسولاً، وليس نبياً، ولكنّه الإله. وتنوّعت العقيدة عندهم، فقد ورد أن الله ثالث ثلاثة، فنجد في صلاتهم أنهم يقولون باسم الأب والابن والروح القدس، ويتبعونها بكلمة إلهاً واحداً، ويقولون إن هذه الكلمة لا تعني الشرك، فالإبنية والأبوية هنا ليست كالإبنية والأبوية في البشر، ولكنها تماماً كما هي إبنية الفكر للفكر، في تحليل فلسفي لسنا في موقع الدخول في جدل حوله.

الإيمان بالرسالات والرسل

أما النقطة الأولى، فقد أكد القرآن الكريم أن على المسلم أن يعتقد بالرسالات كلها وبالرسل كلهم، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا ـ كلام الله ـ وأطعنا ـ الخط العقيدي والعملي ـ غفرانك ربنا وإليك المصير}، وفي سورة آل عمران يطلب الله من رسوله ومن كل الذين يتبعون رسوله أن يؤكدوا الإيمان بصراحة {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.
ونلاحظ في أن القرآن الكريم عندما تحدث عن الحوار مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أراد أن يكون خطابه خطاباً وحدوياً {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ـ وهو القرآن ـ وأنزل إليكم ـ وهو التوراة والإنجيل ـ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
هذه هي العقيدة الإسلامية التي تقول إن كل رسل الله يمثلون رسالة الله، وإن الدين الذي أنزله الله على الناس هو دين واحد، وهو الإسلام، إسلام العقل والقلب والحياة {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، وهذا ما عبر عنه إبراهيم(ع) {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين* ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، وهكذا كان يقول: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وعلى ضوء هذا، فنحن نختلف في إيماننا الإسلامي عن إيمان الآخرين، مع احترامنا لكلِّ الآخرين، لأنّ اليهود لا يعترفون بعيسى(ع) ولا بمحمد(ص) كنبييَّن مرسلين من قِبَل الله، كما أن النصارى لا يعترفون بالنبي محمد(ص) كنبي مرسل من قبل الله، أما المسلمون فقد تحدث القرآن في خطابه لهم: {وتؤمنون بالكتاب كله}، فالمسلم هو الذي يؤمن بكل الكتاب الذي أنزله الله على أنبيائه، كصحف إبراهيم وموسى وعيسى وما إلى ذلك.
لذلك، فمن الممكن أن تجد بعض الناس المتطرفين من غير المسلمين من الأديان الأخرى يشتمون النبي أو القرآن ويسيئون إليهما، ولكننا لا نستطيع أن نشتم أنبياءه وكتبه، لأننا نقدسها بأجمعها، لأن المسلم يحمل رحابة الإيمان والانفتاح على الآخرين، انطلاقاً من القرآن الذي فتح باب الحوار مع الآخرين {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
إننا كمسلمين نحمل الإيمان الرحب المنفتح على كلِّ الديانات الأخرى، نحمله في نفوسنا ولا نتعصب ضد أي دين آخر، حتى لو اختلف الآخر معنا في تفسير بعض مفردات الإيمان الذي نؤمن به، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذمّ اليهود واعتبرهم أعداء، فإنما كان ذلك نتيجة سلوكهم العملي ضد المسلمين، حيث إنهم بدأوا العداوة كالمشركين، بينما نجده تحدث عن النصارى بشكل إيجابي: {لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}، وقد احتضن نصارى الحبشة المسلمين عندما هاجروا إليهم فراراً من اضطهاد المشركين لهم.

عقيدتنا في السيد المسيح(ع)

النقطة الثانية: ما هي عقيدتنا في السيد المسيح(ع)، وأؤكد هنا على كل إخواننا من المسلمين والمسلمات، أهمية تركيز الخطوط الفاصلة بين ما هو المعروف في العقيدة المسيحية الحالية وبين ما هو في العقيدة الإسلامية، حتى يؤكد المسلمون ثباتهم على إسلامهم، لأني أسمع بين وقت وآخر، أن البعض من المسلمين الطيبين الذين يعيشون مشكلة اقتصادية أو خدماتية، ربما يخدعون عن دينهم بالمساعدات الاجتماعية والخدمات. وعلى الرغم من أننا منفتحون على الآخرين، إلاّ أننا لا نريد أن تستعمل الخدمات الاجتماعية والمساعدات المادية لإخراج الناس من دينهم، لأن بعض وسائل التبشير قد تستخدم بعض المؤسسات الاجتماعية في هذا الاتجاه، وهذا أمر يشكل بعض الخطر على الإسلام، لأن هذا ليس هو السبيل إلى ذلك، ولذلك ننصح أن لا يستخدم هذا الأسلوب في تغيير أديان الناس وعقائدهم، لأن عمليّة التغيير تتأتّى من ناحية فكرية تتجلّى بإقناع الآخر.
فلنقرأ كيف كانت بداية السيد المسيح(ع) وكيف كانت النهاية من خلال القرآن {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ـ والكلمة هنا تعطي معنى القدرة التي تخلق وتبدع وتوجد ـ اسمه المسيح عيسى بن مريم ـ هو كلمة الله، لأنه لم يولد بالسنّة الطبيعية التي يولد فيها الناس، وإن كان أولئك يولدون بكلمة الله وبإرادته، وكل فيوضات الله كلماته، ولذا نقول بالدعاء: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق".
فالكلمة سوف تتحوّل إلى إنسان، ليكون هذا الإنسان في عقله وقلبه وحياته هو الكلمة، لأنه يولد بالكلمة ويحمل الكلمة رسالةً للناس ـ وجيهاً في الدنيا ـ فالله سوف يعطيه هذه الوجاهة التي تمتدُّ في الأرض كلها، ليهتف كل الناس باسمه وليعرفوه وليعظموه ـ والآخرة ـ لأنه كان عبداً صالحاً لله، عاش لله وعانى الأذى في جنبه ـ ومن المقربين ـ الذين قربهم الله بإخلاصهم له ـ ويكلم الناس في المهد ـ وفي هذا إشارة إلى ما تحدث الله عنه في سورة مريم عندما واجهها قومها بالاتهام {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً* فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً* قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً ـ ويفسر المفسرون معنى المبارك كما ورد عن أئمة أهل البيت(ع): النفاع للناس، للارتفاع بالناس إلى المستوى الروحي الذي يكبرون به ويرتاحون إليه ـ أينما كنت وأوصاني بالصلاة ـ التي هي معراج المؤمن إلى الله ـ والزكاة ما دمت حياً ـ وهي عبادة العطاء ـ وبراً بوالدتي ـ لأنه مظهر الإحساس والاعتراف بالجميل ـ ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً* ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} ـ وكهلاً ومن الصالحين ـ لأنه انطلق في خط الصلاح فيما أراد الله للإنسان أن يصلح أمره في عقله وقلبه وحياته.
ـ قالت ربي أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ـ كنايةً عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة التي تنتج الولد ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ـ فكما خلق الله آدم من قبل من دون أب وأم، وكما خلق الناس من أب وأم، فإنه قادر أن يخلق إنساناً من أم دون أب ـ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
لقد بدأت الآن، وبكل أسف، بعض البرامج في بريطانيا التي تعرض في محطة BBC، تتحدث عن أن مريم لم تكن عذراء، وأنها اغتصبت فولد السيد المسيح. ومن المؤسف أيضاً ونتيجة للقيام بعمليات إحصائية بين رجال الدين المسيحي، تبين أن ما يقرب بنسبة من 25 بالمائة لا يعتقدون أن السيدة مريم عذراء، كما أنه يبرر أن مثل هذه البرامج مفيدة وفيها موعظة للناس. ـ ويعلمه الكتاب ـ وهو الإنجيل ـ والحكمة ـ وهي كيفية تحريك الكتاب في خط الموعظة والتوعية والإرشاد والهداية للناس بطريقة واقعية ـ والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل ـ الذين كانوا يعيشون التعقيد والعصبية كأقصى ما يكون، ولذا أرسله الله ليوقظهم من سباتهم ـ اني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ـ وهذه النفخة تتجلى كما ورد في آية أخرى {إني خالق بشراً من طين* فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. كما نفخ في جسد مريم ـ وأبرىء الأكمه ـ الأعمى خلقة ـ والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبّئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ـ لتعرفوا أن البشر لا يملك مثل هذه القدرة، فلو لم أكن مرسلاً من قبل الله وأنه هو الذي أعطاني هذه القدرة، لما استطعت أن أفعل ذلك ـ ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ـ فأنا لم آت لألغي الرسالة التي من قبل، ولكني جئت لأصدق ما جاء بها وأتحدث إليكم مما أعطاني الله وأوصى به إليَّ بكتاب جديد.
ـ ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ـ لأن الله حرّم على بني إسرائيل بعض الأشياء عقوبة لهم، فجاء عيسى ليقول لهم إن الله بعثني رحمةً ليُحِلَّ لكم بعض الذي حرم عليكم.
ـ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ـ هذه رسالته ـ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فلما أحسّ عيسى منهم الكفر ـ إذ رفضوه تعصباً وحقداً ولم يفتحوا عقولهم على رسالته.
ـ قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ـ وهو عيسى ـ فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا ـ أي اليهود ـ ومكر الله والله خير الماكرين* إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ـ أي انقضى أجل بقائك في الدنيا، وليس من الضروري أن يكون ذلك بالموت، لأن التوفية هي بلوغ الإنسان حده، سواء بالموت أو بغيره ـ ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ـ من خلال قوة الإيمان وقوة العقيدة وقوة الخط في كل من اتبع الرسالات ـ ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون* فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين* وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم والله لا يحبُّ الظالمين* ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم* إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ـ في كونه مظهراً لقدرة الله بشكل غير مألوف عند الناس ـ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون* الحق من ربك فلا تكن من الممترين ـ.
ـ فمن حاجّك فيه ـ وذلك بعد أن جاء بعض نصارى نجران إلى النبي(ص) يجادلونه في العقيدة الإسلامية في عيسى(ع) ـ من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ـ وجاء النبي(ص) ومعه علي وفاطمة(ع) والحسن والحسين(ع)، فلما رأوا هذه الجماعة المطهرة قالوا لن نباهلك، لأنهم عرفوا أنه لو لم يكن نبياً متيقناً بما عنده لما جاء بأقرب الناس وأحبهم إليه، ولذلك اعترفوا بأنه على الحق ـ إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم}.
هذه هي خلاصة قصة عيسى(ع)، وفي آية أخرى يتحدث فيها عن قصة الصلب {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} وقد ورد في عبارة "شبّه لهم" تفسيران: التفسير الأول يقول إن الله ألقى شبه عيسى(ع) على شخص فصلب بدلاً منه، والتفسير الثاني ـ ولعله الأقرب ـ أن الله شبّه لهم أنهم صلبوه أي أنهم تخيّلوا أنهم يصلبونه، ولكن ذلك لم يتحقق في الواقع.
رأس السنة: تفكير بالمسؤولية
ونحن نحبّ لأخواننا وأخواتنا عندما تأتي مناسبة الميلاد أن لا يندفعوا بالأجواء الأخرى، إذا أردتم أن تحتفلوا اجلسوا في بيوتكم واقرأوا الآيات التي تتحدث عن ميلاد عيسى(ع)، في سورة مريم وفي سورة آل عمران وفي بعض الآيات الأخرى، لتعلِّموا أنفسكم وتعلِّموا أولادكم الإيمان الإسلامي في السيد المسيح(ع) وفي أمه العذراء اللذين هما طاهران مطهران مقدسان عندنا. ولا تأخذوا بالتقاليد الأخرى التي تأتي من الغرب، كشجرة الميلاد وغير ذلك، فللآخرين تقاليدهم ولنا تقاليدنا، لا تنجرفوا في الأجواء الصاخبة في رأس السنة الميلادية الذي "يهيِّص" الناس فيه ويرقصون ويغيبون عن الوعي ويبتعدون عن العقل، حيث يتحوّل العالم إلى حالة من الجنون الغرائزي.
نحن نقول إن رأس كل سنة يمثل المسؤولية، حاسب نفسك ماذا فعلت في السنة الماضية وماذا تفعل في السنة القادمة، لأن كل يوم هو شاهد عليك يوم القيامة ماذا فعلت فيه، كما يقول الإمام زين العابدين(ع): "اللهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهدٌ عتيد".
تذهب الأيام ويبقى عملنا: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. {عن اليمين وعن الشمال قعيد* ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
وغداً نقف بين يدي الله، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
في رأس السنة لا بد أن نعيش حالة طوارىء، لأنه ماتت سنة من عمرنا، لذلك يجب أن نفكر ما هي مسؤوليتنا {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.


الخطبة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله، اتقوا الله وانفتحوا على رسالاته التي تؤكد على أن نعبد الله ونوحده في العبادة، ونطيع الله ونوحده في الطاعة، ونحب الله ونوحده في الحب، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نعمل على مواجهة كل المستكبرين وكل الظالمين، وأن نكون مع المستضعفين ومع العادلين، وأن نواجه مسؤولياتنا في كل ما نقبل عليه من تحديات للكفر من جهة، وللاستكبار من جهة، لأننا مسؤولون عن الأمّة كلها، كما نحن مسؤولون عن أنفسنا، كلٌّ بحسب طاقته وإمكانياته، والأمة تواجه الكثير من التحديات في مرحلتنا هذه، ولذلك علينا أن نعي خطورة ذلك، وأن نستعدّ لمواجهة التحديات، وأن نعمل لتجاوز ذلك بكل الوسائل التي تجعل منا أمة موحَّدة قوية في مواجهة كل أعداء الله.

استهداف أمريكي ـ إسرائيلي للعرب والمسلمين

إسرائيل تمتد في تنويع المجازر الوحشية ضد البشر والحجر في ضوءٍ أخضر أمريكي بأكثر من موقف، ففي الأمم المتحدة، استخدمت أمريكا حق النقض للقرار الذي يدين إسرائيل في قتل موظفي الأمم المتحدة، في إيحاء متحرك أن لإسرائيل الحق في التنكر للقرارات الدولية من جهة، وفي محاصرة الموظفين الدوليين إلى حدّ القتل من جهة أخرى، من دون أن تخشى أية إدانة دولية، ولكننا نلاحظ أن أمريكا واجهت العزلة الدولية في موقفها الرافض للقرار، لأن أكثرية مجلس الأمن الدولي كانت مع القرار.
ومن جانب آخر، فإن المناورات الإسرائيلية ـ الأمريكية المشتركة القادمة تتحرك لتقوية الأداء الإسرائيلي حتى على صعيد الحرب المتوقعة ضد العراق، ما يوحي بأن هذا التحالف بين الدولتين يستهدف القيام بعمليات إسرائيلية ضد أية دولة عربية في نطاق الظروف العسكرية المرتقبة ، وهو ما يفرض على العرب أن يحسبوا حساباتهم في المستقبل الذي يواجهون فيه الخطر الإسرائيلي بطريقة جديدة، لا سيما أن أمريكا بدأت تخطط للضغط على أكثر من دولة عربية، حتى القريبة منها سياسياً، كمصر والسعودية، بالتنسيق مع العدوّ الصهيوني، الذي يخطط من خلال أعضاء الإدارة الأمريكية لإضعاف الموقع السياسي والاقتصادي والأمني للعرب كلهم لحساب إسرائيل... وقد صرح "شارون" بأن "إسرائيل في حالة تنسيق مع الولايات المتحدة لم يسبق لها مثيل، وهذه هي شبكة العلاقات الأفضل منذ قيام الدولة".
إن العرب ، ومعهم المسلمون ـ يواجهون حرباً مستمرة متحركة يومية في فلسطين في مواجهة حركة الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال، وحرباً مرتقبة ضد العراق.. فماذا أعدوا للموقف في خط المواجهة على مستوى الرغبة في الانتصار؟ إننا نعرف أن النظام العراقي لا يملك أية شعبية في الواقع العربي والإسلامي بشكل عام، حتى على مستوى شعبه، ولكننا نعرف أن الحرب تستهدف الشعب العراقي باسم تغيير النظام والدولة، وباسم التخلص من أسلحة الدمار الشامل، وتستهدف المنطقة باسم الحرب ضد الإرهاب، ما قد يعرِّض المنطقة لتطورات جديدة إذا نجحت أمريكا في قيادة الحلف الأطلسي للمشاركة في الحرب، لتتحول إلى حرب عالمية ضد المنطقة تحت تأثير اعتبارات مختلفة ، من خلال هدف أمريكي استراتيجي في مصادرة المنطقة كلها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية واسعة ضد شعوبها..

نخشى تجميد الانتفاضة

أما المسألة الفلسطينية، فإن هناك حواراً فلسطينياً ـ فلسطينياً في مصر، ونحن نرحب بأي حوار يوحِّد الفصائل المجاهدة للانتفاضة ويجمع الشعب الفلسطيني حولها، ولكننا نخشى أن يكون هدف الحوار تجميد الانتفاضة وإعلان هدنة فلسطينية مع العدو من جانب واحد، لتسقط حالة التوتر التحريري الذي لا يملك الشعب معه إلا الاندفاع للمواجهة لتوسيع المأزق الصهيوني الذي هو السبيل للوصول إلى التحرير، لأن التجربة مع إسرائيل منذ انعقاد مؤتمر مدريد وحتى اليوم، برهنت أن الفلسطينيين ـ ومعهم العرب ـ كلما قدموا التنازلات أكثر في السياسة والجغرافيا والأمن كلما تمادت إسرائيل بالطمع بتنازلات جديدة في الاستيطان وفي إلغاء اعتبار القدس مدينة فلسطينية، وفي مصادرة الثروات الطبيعية وفي محاصرة المسألة السياسية، حتى لا يبقى للفلسطينيين شي‏ء، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا تتابع الضغط للعب بالقضية الفلسطينية بإطلاق مشروع هنا تسحبه لمصلحة مشروع آخر تحت تأثير الرفض الإسرائيلي، حتى يحقق الصهاينة المشروع الاستيطاني في فلسطين كلها، ليبقى الفلسطينيون مواطنين من الدرجة الرابعة في الدولة المسخ. أما العرب، فلا يملكون شيئاً، لأنهم يواجهون مطرقة أمريكا وسندان إسرائيل من دون حول ولا قوة.
إننا نتصور أن هذه المرحلة تفرض على العرب والمسلمين على الصعيد الشعبي القيام بانتفاضة سياسية اعلامية احتجاجية ضاغطة على المصالح الأمريكية الإسرائيلية من ضمن خطة مدروسة للمستقبل.
الضرورات الوطنية: حكومة برنامج
ونبقى في لبنان الذي يعيش في نطاق جمود سياسي وتجاذب حكومي، يتحدث فيه المعنيون عن تغييرات معينة في استبدال حكومة بحكومة أخرى، على أن ما تتطلبه الضرورات الوطنية هو الحكومة البرنامج الذي يخطط لمواجهة الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي، ولتحريك عجلة الإصلاح الشامل، ومحاربة الهدر والسرقات، ومعالجة المشاكل الاقتصادية المعيشية وتخفيف الضرائب عن كاهل المواطنين، وتحديد الآليات الواقعية لذلك كله، بمعنى أن لا تكون الحكومة الجديدة المطلوبة مرتكزة على الحصص المفروضة لهذه الجهة أو تلك للحصول على امتيازات شخصية أو طائفية لم يحصل عليها أصحابها في الماضي... إننا بحاجة إلى حكومة تتحرك فيها كل الوزارات لتتحول إلى وزارة تخطيط لكل حاجات الإنسان في البلد، بدلاً من التسويات التي لا يملك فيها الوزراء أية صلاحية جادة لتحقيق الإصلاح.

الدين براء من محركي الفتن

وختاماً، إننا نلاحظ أن في البلد جهات تحاول أن تثير الفتنة الطائفية على صعيد العلاقات المسيحية ـ الإسلامية، والفتنة المذهبية على صعيد المواقع السنية ـ الشيعية، بالإضافة إلى الفتنة المنطلقة من بعض التعقيدات الشخصية والحزبية على مستوى المذهب الواحد، ونحن نخشى أن تكون المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وحلفاؤها وراء ذلك كله، ما يفرض على الشعب كله والأمة كلها أن يكونوا عيوناً ساهرة وآذاناً واعية راصدة لكل هؤلاء الذين قد يطلقون الكلمات باسم الدين، والدين منهم براء، فيحرفون ويكذبون ويدسّون على طريقة الوسواس الخناس.
إن المرحلة تنذر بالأخطار الكبرى، وعلينا أن نراقب كل الذين يريدون العبث بأمن البلد والأمة خدمةً للأعداء.

في رحاب ولادة السيد المسيح(ع):
لتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

المسيح(ع) رسالة للمحبة والتسامح

مرّت علينا قبل أيام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، ولا بد لنا أن نقف أمام هذه الذكرى، لأن السيد المسيح(ع) هو من أنبياء الله، ومن الذين تجلت قدرة الله فيهم، ومن الذين أعطوا العالم رسالة المحبة والتسامح والعدل والخير، من أجل أن يرتفع الإنسان إلى الأعالي في القيم الروحية الأخلاقية في حياته الفردية والاجتماعية.
ولذلك لا بد لنا من أن نركز على نقطتين:
النقطة الأولى: ما هو خط الإيمان الإسلامي؟ هل في إيمان المسلمين عقدة ضد أي دين آخر وأي نبي آخر؟ وهل أن الإيمان الإسلامي ينفتح على كل الأديان التي أنزلها الله على رسله، كما ينفتح على كل رسله؟
النقطة الثانية: ما هي العقيدة الإسلامية للسيد المسيح(ع)؟ لأن الرأي قد اختلف في شخصيته حتى بين النصارى، فهناك الفئة الغالبة التي ترى أنّ الله تجسّد في السيد المسيح، ولذلك فإن يسوع المسيح هو الله عندهم، الله المتجسد في الإنسان، بحيث إن الله تأنسن في السيد المسيح، فهو ليس رسولاً، وليس نبياً، ولكنّه الإله. وتنوّعت العقيدة عندهم، فقد ورد أن الله ثالث ثلاثة، فنجد في صلاتهم أنهم يقولون باسم الأب والابن والروح القدس، ويتبعونها بكلمة إلهاً واحداً، ويقولون إن هذه الكلمة لا تعني الشرك، فالإبنية والأبوية هنا ليست كالإبنية والأبوية في البشر، ولكنها تماماً كما هي إبنية الفكر للفكر، في تحليل فلسفي لسنا في موقع الدخول في جدل حوله.

الإيمان بالرسالات والرسل

أما النقطة الأولى، فقد أكد القرآن الكريم أن على المسلم أن يعتقد بالرسالات كلها وبالرسل كلهم، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا ـ كلام الله ـ وأطعنا ـ الخط العقيدي والعملي ـ غفرانك ربنا وإليك المصير}، وفي سورة آل عمران يطلب الله من رسوله ومن كل الذين يتبعون رسوله أن يؤكدوا الإيمان بصراحة {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.
ونلاحظ في أن القرآن الكريم عندما تحدث عن الحوار مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أراد أن يكون خطابه خطاباً وحدوياً {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ـ وهو القرآن ـ وأنزل إليكم ـ وهو التوراة والإنجيل ـ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
هذه هي العقيدة الإسلامية التي تقول إن كل رسل الله يمثلون رسالة الله، وإن الدين الذي أنزله الله على الناس هو دين واحد، وهو الإسلام، إسلام العقل والقلب والحياة {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، وهذا ما عبر عنه إبراهيم(ع) {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين* ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، وهكذا كان يقول: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وعلى ضوء هذا، فنحن نختلف في إيماننا الإسلامي عن إيمان الآخرين، مع احترامنا لكلِّ الآخرين، لأنّ اليهود لا يعترفون بعيسى(ع) ولا بمحمد(ص) كنبييَّن مرسلين من قِبَل الله، كما أن النصارى لا يعترفون بالنبي محمد(ص) كنبي مرسل من قبل الله، أما المسلمون فقد تحدث القرآن في خطابه لهم: {وتؤمنون بالكتاب كله}، فالمسلم هو الذي يؤمن بكل الكتاب الذي أنزله الله على أنبيائه، كصحف إبراهيم وموسى وعيسى وما إلى ذلك.
لذلك، فمن الممكن أن تجد بعض الناس المتطرفين من غير المسلمين من الأديان الأخرى يشتمون النبي أو القرآن ويسيئون إليهما، ولكننا لا نستطيع أن نشتم أنبياءه وكتبه، لأننا نقدسها بأجمعها، لأن المسلم يحمل رحابة الإيمان والانفتاح على الآخرين، انطلاقاً من القرآن الذي فتح باب الحوار مع الآخرين {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
إننا كمسلمين نحمل الإيمان الرحب المنفتح على كلِّ الديانات الأخرى، نحمله في نفوسنا ولا نتعصب ضد أي دين آخر، حتى لو اختلف الآخر معنا في تفسير بعض مفردات الإيمان الذي نؤمن به، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذمّ اليهود واعتبرهم أعداء، فإنما كان ذلك نتيجة سلوكهم العملي ضد المسلمين، حيث إنهم بدأوا العداوة كالمشركين، بينما نجده تحدث عن النصارى بشكل إيجابي: {لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}، وقد احتضن نصارى الحبشة المسلمين عندما هاجروا إليهم فراراً من اضطهاد المشركين لهم.

عقيدتنا في السيد المسيح(ع)

النقطة الثانية: ما هي عقيدتنا في السيد المسيح(ع)، وأؤكد هنا على كل إخواننا من المسلمين والمسلمات، أهمية تركيز الخطوط الفاصلة بين ما هو المعروف في العقيدة المسيحية الحالية وبين ما هو في العقيدة الإسلامية، حتى يؤكد المسلمون ثباتهم على إسلامهم، لأني أسمع بين وقت وآخر، أن البعض من المسلمين الطيبين الذين يعيشون مشكلة اقتصادية أو خدماتية، ربما يخدعون عن دينهم بالمساعدات الاجتماعية والخدمات. وعلى الرغم من أننا منفتحون على الآخرين، إلاّ أننا لا نريد أن تستعمل الخدمات الاجتماعية والمساعدات المادية لإخراج الناس من دينهم، لأن بعض وسائل التبشير قد تستخدم بعض المؤسسات الاجتماعية في هذا الاتجاه، وهذا أمر يشكل بعض الخطر على الإسلام، لأن هذا ليس هو السبيل إلى ذلك، ولذلك ننصح أن لا يستخدم هذا الأسلوب في تغيير أديان الناس وعقائدهم، لأن عمليّة التغيير تتأتّى من ناحية فكرية تتجلّى بإقناع الآخر.
فلنقرأ كيف كانت بداية السيد المسيح(ع) وكيف كانت النهاية من خلال القرآن {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ـ والكلمة هنا تعطي معنى القدرة التي تخلق وتبدع وتوجد ـ اسمه المسيح عيسى بن مريم ـ هو كلمة الله، لأنه لم يولد بالسنّة الطبيعية التي يولد فيها الناس، وإن كان أولئك يولدون بكلمة الله وبإرادته، وكل فيوضات الله كلماته، ولذا نقول بالدعاء: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق".
فالكلمة سوف تتحوّل إلى إنسان، ليكون هذا الإنسان في عقله وقلبه وحياته هو الكلمة، لأنه يولد بالكلمة ويحمل الكلمة رسالةً للناس ـ وجيهاً في الدنيا ـ فالله سوف يعطيه هذه الوجاهة التي تمتدُّ في الأرض كلها، ليهتف كل الناس باسمه وليعرفوه وليعظموه ـ والآخرة ـ لأنه كان عبداً صالحاً لله، عاش لله وعانى الأذى في جنبه ـ ومن المقربين ـ الذين قربهم الله بإخلاصهم له ـ ويكلم الناس في المهد ـ وفي هذا إشارة إلى ما تحدث الله عنه في سورة مريم عندما واجهها قومها بالاتهام {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً* فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً* قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً ـ ويفسر المفسرون معنى المبارك كما ورد عن أئمة أهل البيت(ع): النفاع للناس، للارتفاع بالناس إلى المستوى الروحي الذي يكبرون به ويرتاحون إليه ـ أينما كنت وأوصاني بالصلاة ـ التي هي معراج المؤمن إلى الله ـ والزكاة ما دمت حياً ـ وهي عبادة العطاء ـ وبراً بوالدتي ـ لأنه مظهر الإحساس والاعتراف بالجميل ـ ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً* ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} ـ وكهلاً ومن الصالحين ـ لأنه انطلق في خط الصلاح فيما أراد الله للإنسان أن يصلح أمره في عقله وقلبه وحياته.
ـ قالت ربي أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ـ كنايةً عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة التي تنتج الولد ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ـ فكما خلق الله آدم من قبل من دون أب وأم، وكما خلق الناس من أب وأم، فإنه قادر أن يخلق إنساناً من أم دون أب ـ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
لقد بدأت الآن، وبكل أسف، بعض البرامج في بريطانيا التي تعرض في محطة BBC، تتحدث عن أن مريم لم تكن عذراء، وأنها اغتصبت فولد السيد المسيح. ومن المؤسف أيضاً ونتيجة للقيام بعمليات إحصائية بين رجال الدين المسيحي، تبين أن ما يقرب بنسبة من 25 بالمائة لا يعتقدون أن السيدة مريم عذراء، كما أنه يبرر أن مثل هذه البرامج مفيدة وفيها موعظة للناس. ـ ويعلمه الكتاب ـ وهو الإنجيل ـ والحكمة ـ وهي كيفية تحريك الكتاب في خط الموعظة والتوعية والإرشاد والهداية للناس بطريقة واقعية ـ والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل ـ الذين كانوا يعيشون التعقيد والعصبية كأقصى ما يكون، ولذا أرسله الله ليوقظهم من سباتهم ـ اني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ـ وهذه النفخة تتجلى كما ورد في آية أخرى {إني خالق بشراً من طين* فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. كما نفخ في جسد مريم ـ وأبرىء الأكمه ـ الأعمى خلقة ـ والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبّئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ـ لتعرفوا أن البشر لا يملك مثل هذه القدرة، فلو لم أكن مرسلاً من قبل الله وأنه هو الذي أعطاني هذه القدرة، لما استطعت أن أفعل ذلك ـ ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ـ فأنا لم آت لألغي الرسالة التي من قبل، ولكني جئت لأصدق ما جاء بها وأتحدث إليكم مما أعطاني الله وأوصى به إليَّ بكتاب جديد.
ـ ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ـ لأن الله حرّم على بني إسرائيل بعض الأشياء عقوبة لهم، فجاء عيسى ليقول لهم إن الله بعثني رحمةً ليُحِلَّ لكم بعض الذي حرم عليكم.
ـ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ـ هذه رسالته ـ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فلما أحسّ عيسى منهم الكفر ـ إذ رفضوه تعصباً وحقداً ولم يفتحوا عقولهم على رسالته.
ـ قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ـ وهو عيسى ـ فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا ـ أي اليهود ـ ومكر الله والله خير الماكرين* إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ـ أي انقضى أجل بقائك في الدنيا، وليس من الضروري أن يكون ذلك بالموت، لأن التوفية هي بلوغ الإنسان حده، سواء بالموت أو بغيره ـ ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ـ من خلال قوة الإيمان وقوة العقيدة وقوة الخط في كل من اتبع الرسالات ـ ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون* فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين* وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم والله لا يحبُّ الظالمين* ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم* إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ـ في كونه مظهراً لقدرة الله بشكل غير مألوف عند الناس ـ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون* الحق من ربك فلا تكن من الممترين ـ.
ـ فمن حاجّك فيه ـ وذلك بعد أن جاء بعض نصارى نجران إلى النبي(ص) يجادلونه في العقيدة الإسلامية في عيسى(ع) ـ من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ـ وجاء النبي(ص) ومعه علي وفاطمة(ع) والحسن والحسين(ع)، فلما رأوا هذه الجماعة المطهرة قالوا لن نباهلك، لأنهم عرفوا أنه لو لم يكن نبياً متيقناً بما عنده لما جاء بأقرب الناس وأحبهم إليه، ولذلك اعترفوا بأنه على الحق ـ إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم}.
هذه هي خلاصة قصة عيسى(ع)، وفي آية أخرى يتحدث فيها عن قصة الصلب {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} وقد ورد في عبارة "شبّه لهم" تفسيران: التفسير الأول يقول إن الله ألقى شبه عيسى(ع) على شخص فصلب بدلاً منه، والتفسير الثاني ـ ولعله الأقرب ـ أن الله شبّه لهم أنهم صلبوه أي أنهم تخيّلوا أنهم يصلبونه، ولكن ذلك لم يتحقق في الواقع.
رأس السنة: تفكير بالمسؤولية
ونحن نحبّ لأخواننا وأخواتنا عندما تأتي مناسبة الميلاد أن لا يندفعوا بالأجواء الأخرى، إذا أردتم أن تحتفلوا اجلسوا في بيوتكم واقرأوا الآيات التي تتحدث عن ميلاد عيسى(ع)، في سورة مريم وفي سورة آل عمران وفي بعض الآيات الأخرى، لتعلِّموا أنفسكم وتعلِّموا أولادكم الإيمان الإسلامي في السيد المسيح(ع) وفي أمه العذراء اللذين هما طاهران مطهران مقدسان عندنا. ولا تأخذوا بالتقاليد الأخرى التي تأتي من الغرب، كشجرة الميلاد وغير ذلك، فللآخرين تقاليدهم ولنا تقاليدنا، لا تنجرفوا في الأجواء الصاخبة في رأس السنة الميلادية الذي "يهيِّص" الناس فيه ويرقصون ويغيبون عن الوعي ويبتعدون عن العقل، حيث يتحوّل العالم إلى حالة من الجنون الغرائزي.
نحن نقول إن رأس كل سنة يمثل المسؤولية، حاسب نفسك ماذا فعلت في السنة الماضية وماذا تفعل في السنة القادمة، لأن كل يوم هو شاهد عليك يوم القيامة ماذا فعلت فيه، كما يقول الإمام زين العابدين(ع): "اللهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهدٌ عتيد".
تذهب الأيام ويبقى عملنا: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. {عن اليمين وعن الشمال قعيد* ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
وغداً نقف بين يدي الله، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
في رأس السنة لا بد أن نعيش حالة طوارىء، لأنه ماتت سنة من عمرنا، لذلك يجب أن نفكر ما هي مسؤوليتنا {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.


الخطبة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله، اتقوا الله وانفتحوا على رسالاته التي تؤكد على أن نعبد الله ونوحده في العبادة، ونطيع الله ونوحده في الطاعة، ونحب الله ونوحده في الحب، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نعمل على مواجهة كل المستكبرين وكل الظالمين، وأن نكون مع المستضعفين ومع العادلين، وأن نواجه مسؤولياتنا في كل ما نقبل عليه من تحديات للكفر من جهة، وللاستكبار من جهة، لأننا مسؤولون عن الأمّة كلها، كما نحن مسؤولون عن أنفسنا، كلٌّ بحسب طاقته وإمكانياته، والأمة تواجه الكثير من التحديات في مرحلتنا هذه، ولذلك علينا أن نعي خطورة ذلك، وأن نستعدّ لمواجهة التحديات، وأن نعمل لتجاوز ذلك بكل الوسائل التي تجعل منا أمة موحَّدة قوية في مواجهة كل أعداء الله.

استهداف أمريكي ـ إسرائيلي للعرب والمسلمين

إسرائيل تمتد في تنويع المجازر الوحشية ضد البشر والحجر في ضوءٍ أخضر أمريكي بأكثر من موقف، ففي الأمم المتحدة، استخدمت أمريكا حق النقض للقرار الذي يدين إسرائيل في قتل موظفي الأمم المتحدة، في إيحاء متحرك أن لإسرائيل الحق في التنكر للقرارات الدولية من جهة، وفي محاصرة الموظفين الدوليين إلى حدّ القتل من جهة أخرى، من دون أن تخشى أية إدانة دولية، ولكننا نلاحظ أن أمريكا واجهت العزلة الدولية في موقفها الرافض للقرار، لأن أكثرية مجلس الأمن الدولي كانت مع القرار.
ومن جانب آخر، فإن المناورات الإسرائيلية ـ الأمريكية المشتركة القادمة تتحرك لتقوية الأداء الإسرائيلي حتى على صعيد الحرب المتوقعة ضد العراق، ما يوحي بأن هذا التحالف بين الدولتين يستهدف القيام بعمليات إسرائيلية ضد أية دولة عربية في نطاق الظروف العسكرية المرتقبة ، وهو ما يفرض على العرب أن يحسبوا حساباتهم في المستقبل الذي يواجهون فيه الخطر الإسرائيلي بطريقة جديدة، لا سيما أن أمريكا بدأت تخطط للضغط على أكثر من دولة عربية، حتى القريبة منها سياسياً، كمصر والسعودية، بالتنسيق مع العدوّ الصهيوني، الذي يخطط من خلال أعضاء الإدارة الأمريكية لإضعاف الموقع السياسي والاقتصادي والأمني للعرب كلهم لحساب إسرائيل... وقد صرح "شارون" بأن "إسرائيل في حالة تنسيق مع الولايات المتحدة لم يسبق لها مثيل، وهذه هي شبكة العلاقات الأفضل منذ قيام الدولة".
إن العرب ، ومعهم المسلمون ـ يواجهون حرباً مستمرة متحركة يومية في فلسطين في مواجهة حركة الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال، وحرباً مرتقبة ضد العراق.. فماذا أعدوا للموقف في خط المواجهة على مستوى الرغبة في الانتصار؟ إننا نعرف أن النظام العراقي لا يملك أية شعبية في الواقع العربي والإسلامي بشكل عام، حتى على مستوى شعبه، ولكننا نعرف أن الحرب تستهدف الشعب العراقي باسم تغيير النظام والدولة، وباسم التخلص من أسلحة الدمار الشامل، وتستهدف المنطقة باسم الحرب ضد الإرهاب، ما قد يعرِّض المنطقة لتطورات جديدة إذا نجحت أمريكا في قيادة الحلف الأطلسي للمشاركة في الحرب، لتتحول إلى حرب عالمية ضد المنطقة تحت تأثير اعتبارات مختلفة ، من خلال هدف أمريكي استراتيجي في مصادرة المنطقة كلها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية واسعة ضد شعوبها..

نخشى تجميد الانتفاضة

أما المسألة الفلسطينية، فإن هناك حواراً فلسطينياً ـ فلسطينياً في مصر، ونحن نرحب بأي حوار يوحِّد الفصائل المجاهدة للانتفاضة ويجمع الشعب الفلسطيني حولها، ولكننا نخشى أن يكون هدف الحوار تجميد الانتفاضة وإعلان هدنة فلسطينية مع العدو من جانب واحد، لتسقط حالة التوتر التحريري الذي لا يملك الشعب معه إلا الاندفاع للمواجهة لتوسيع المأزق الصهيوني الذي هو السبيل للوصول إلى التحرير، لأن التجربة مع إسرائيل منذ انعقاد مؤتمر مدريد وحتى اليوم، برهنت أن الفلسطينيين ـ ومعهم العرب ـ كلما قدموا التنازلات أكثر في السياسة والجغرافيا والأمن كلما تمادت إسرائيل بالطمع بتنازلات جديدة في الاستيطان وفي إلغاء اعتبار القدس مدينة فلسطينية، وفي مصادرة الثروات الطبيعية وفي محاصرة المسألة السياسية، حتى لا يبقى للفلسطينيين شي‏ء، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا تتابع الضغط للعب بالقضية الفلسطينية بإطلاق مشروع هنا تسحبه لمصلحة مشروع آخر تحت تأثير الرفض الإسرائيلي، حتى يحقق الصهاينة المشروع الاستيطاني في فلسطين كلها، ليبقى الفلسطينيون مواطنين من الدرجة الرابعة في الدولة المسخ. أما العرب، فلا يملكون شيئاً، لأنهم يواجهون مطرقة أمريكا وسندان إسرائيل من دون حول ولا قوة.
إننا نتصور أن هذه المرحلة تفرض على العرب والمسلمين على الصعيد الشعبي القيام بانتفاضة سياسية اعلامية احتجاجية ضاغطة على المصالح الأمريكية الإسرائيلية من ضمن خطة مدروسة للمستقبل.
الضرورات الوطنية: حكومة برنامج
ونبقى في لبنان الذي يعيش في نطاق جمود سياسي وتجاذب حكومي، يتحدث فيه المعنيون عن تغييرات معينة في استبدال حكومة بحكومة أخرى، على أن ما تتطلبه الضرورات الوطنية هو الحكومة البرنامج الذي يخطط لمواجهة الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي، ولتحريك عجلة الإصلاح الشامل، ومحاربة الهدر والسرقات، ومعالجة المشاكل الاقتصادية المعيشية وتخفيف الضرائب عن كاهل المواطنين، وتحديد الآليات الواقعية لذلك كله، بمعنى أن لا تكون الحكومة الجديدة المطلوبة مرتكزة على الحصص المفروضة لهذه الجهة أو تلك للحصول على امتيازات شخصية أو طائفية لم يحصل عليها أصحابها في الماضي... إننا بحاجة إلى حكومة تتحرك فيها كل الوزارات لتتحول إلى وزارة تخطيط لكل حاجات الإنسان في البلد، بدلاً من التسويات التي لا يملك فيها الوزراء أية صلاحية جادة لتحقيق الإصلاح.

الدين براء من محركي الفتن

وختاماً، إننا نلاحظ أن في البلد جهات تحاول أن تثير الفتنة الطائفية على صعيد العلاقات المسيحية ـ الإسلامية، والفتنة المذهبية على صعيد المواقع السنية ـ الشيعية، بالإضافة إلى الفتنة المنطلقة من بعض التعقيدات الشخصية والحزبية على مستوى المذهب الواحد، ونحن نخشى أن تكون المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وحلفاؤها وراء ذلك كله، ما يفرض على الشعب كله والأمة كلها أن يكونوا عيوناً ساهرة وآذاناً واعية راصدة لكل هؤلاء الذين قد يطلقون الكلمات باسم الدين، والدين منهم براء، فيحرفون ويكذبون ويدسّون على طريقة الوسواس الخناس.
إن المرحلة تنذر بالأخطار الكبرى، وعلينا أن نراقب كل الذين يريدون العبث بأمن البلد والأمة خدمةً للأعداء.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية