اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا

اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا

لكي لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

يقول الله سبحانه وتعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

هذا هو الخط الإسلامي الذي يريد الله للإنسان المسلم أن يسير عليه عندما يريد أن يدعو إلى سبيل الله في كل أمرٍ يُراد للناس أن يؤمنوا به أو يلتزموه، لأن مسألة أن تُدخل فكرة إلى عقل إنسان آخر تفرض عليك أن تدرس عقل هذا الإنسان، لتعرف كيف تفتح هذا العقل وكيف تغلقه، لأن للعقل مفاتيح ومغاليق، فربما تتحرك بكلمة وبأسلوب مع الإنسان الآخر، فتغلق عقله وقلبه عن الاستجابة لك، وربما تأتي بكلمة أو أسلوب يفتح عقله وقلبه للاستجابة لك.

لذلك، يقول الله تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك ـ إلى طريق ربك في ما أوحى به الله في كتابه، وفي ما أراد لنبيّه أن يبلِّغه وأن يحركه في كل شؤون الحياة ـ بالحكمة ـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، الكلمة المناسبة في الموقع المناسب ومع الشخص المناسب وفي الجوّ المناسب، بحيث تنطلق هذه الكلمة لتأخذ طريقها الطبيعي إلى العقل، لأنّ المسألة هي أننا كما نحن بحاجة إلى مهندسين يهندسون الطريق إلى بلداننا ويهندسون البيوت التي تلبي حاجاتنا، كذلك نحن بحاجة إلى مهندسين يهندسون الطريق إلى عقولنا وإلى قلوبنا وإلى حركة الحياة فيما بيننا وحركة العلاقات، لأننا بحاجة إلى أن نهندس لوصول الفكرة إلى العقل، ونهندس لوصول المشاعر إلى القلب، وهذه كلها نجمعها في كلمة الحكمة.

دراسة متأنية للآخر

لذلك، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جعل مهمة الرسول في جانبين {يعلمهم الكتاب والحكمة}، والكتاب هو القرآن، فالقرآن فيه كل شيء، وهو يمثل خط النظرية، بينما الحكمة تمثل خط التطبيق، كيف نستطيع أن نحوّل هذه النظرية لتكون إيماناً في نفوس الناس، ولتكون واقعاً في حياتهم، ولذلك لا بد للإنسان عندما يريد أن يركز فكرة، مع أولاده مثلاً، أن يدرس عقلية أولاده، ويدرس الذهنية الطفولية لديهم، وعليه أن يحول ذهنيته إلى ذهنية طفل ويخاطبه كطفل، وفي مرحلة الشباب عليه أن يدرسه ويكلّمه بما يناسب ثقافته حتى يدخل إلى عقله، أو أن يدع أحداً يتكلّم معه ممن يملك ثقافته إذا لم يكن يمتلك تلك الثقافة.

علينا أن ندرس عقول أطفالنا وشبابنا وبناتنا، فقد يعتبر بعض الآباء نفسه حاكماً مطلقاً في المنـزل، بحيث يفرض رأيه على أولاده، ولكنّ الله يقول: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، بالكلمة الرقيقة والليّنة التي يمكن أن تدخل القلب، عند ذلك يمكن أن تعيش في بيتك بسلام، فقد يرضخ ابنك أو ابنتك للأمر الواقع، لكنهم يتحولون إلى أُناس معقَّدين منك، لا يحبونك، لأنه لا يوجد فرق بين الديكتاتور في أعلى مواقع السلطة وبين الديكتاتور في البيت. أولادنا ليسوا حاجيات وأغراضاً، بل هم بشر وأناس.

نحن في شبابنا كنا نتأثر عندما كان آباؤنا يضغطون علينا ولا يكلّموننا إلا بالعنف، أيضاً أولادنا سيشعرون كما نشعر، لذلك عندما نصبح آباء وأمهات يجب أن نسترجع ما كنا نفكر فيه مع آبائنا عندما كنا أطفالاً.

وهكذا بالنسبة إلى الزوجة، فهي إنسانة ولم يشترها الرجل بالمال، {هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن} {فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان} {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة}، فلا يوجد حاكم ومحكوم في المنـزل، {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف}، لهنّ حق وعليهن واجب، وبهذا الأسلوب يمكننا أن نحوّل بيوتنا إلى سلام.

إذا استخدمنا الأسلوب السيّىء البعيد عن الحكمة، والناشىء من العصبية وانتفاخ الشخصية، والممارسات الوحشية التي يعيشها الإنسان القوي أمام الضعيف، فإننا سنعيش في بيوتنا التعقيدات، بحيث يحوّل الكثير من الناس أولادهم وأزواجهم وعائلاتهم إلى مصحات عقلية، وإلى زبائن لأطباء الأعصاب، وقد أدمنّا مثل هذه المعاملة، فأنتجنا سياسة التعب، بحيث ننتج كل يوم تعباً جديداً لأنفسنا ولعائلاتنا وللناس من حولنا، لأنه لم نثقّف أنفسنا بسياسة الراحة.

ولذا نحن نعتقد بأننا نريح أنفسنا بشراء الحاجيات البيتية وبتأمين المسكن الجيد وما إلى ذلك، وهذا مفهوم خاطىء عن الراحة، لأن الراحة تتمثل في أن يكون صدرك واسعاً وعقلك فيه الكثير من الحكمة، وأن يكون أسلوبك إنسانياً وتعترف بالآخر.

الجدال بالأحسن

{وجادلهم بالتي هي أحسن} عندما تختلف الأفكار وتختلف الأديان والمذاهب، فهناك وسيلتان: وسيلة العنف، ووسيلة الرفق. وسيلة العنف هي أن تحاول أن تسب وتشتم وتلعن وتهدد، بهذا الأسلوب يمكن أن تفجر غيظك وتنفّس عن حالة الاحتقان عندك، ولكنك لا تستطيع أن تربح هذا الإنسان، بل تزيده عداوة وعصبية.

لذلك، فإن مجتمعنا الشتّام في الخلافات الدينية والمذهبية والعشائرية والسياسية، هو بخلاف ما يأمرنا به الله تعالى، حيث يقول: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينّا لكل أمةٍ عملهم}. ويقول أمير المؤمنين(ع): "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم ـ وهنا تتجلى الروح الإسلامية بأسمى معانيها، مع العلم أن الإمام(ع) كان في حالة حرب مع معاوية في صفين، ومع ذلك كان يفكر بأن لا يحمل المسلم حقداً على مسلم، حيث كان يقاتل لحفظ النظام وليس للعقدة ـ وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به"، ولذلك عليك أن تبحث عن أفضل الكلمات والأساليب والمناخات للحوار فيما بينك وبينهم. فهذا تكليف، فأما مسألة أن يهتدوا أو يضلوا، فهذا ليس من شأنك، ويعود تقرير هذه المسألة إلى الله عز وجل: {إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، {فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمسيطر}، حتى أنه أراد منا أن عندما ندخل في جدال مع اليهود والنصارى أن لا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ بالأسلوب الأفضل والأحسن، ولا يفرِّق أو يبغض، بل يدخل القلب والعقل، وذلك عندما يكون الجو جوّ حوار ـ إلا الذين ظلموا منهم} أي الذي يفرض عليك نفسه بالقوة، كما هو حال اليهود في فلسطين الذين لا ينطبق عليهم عنوان أهل الكتاب، بل إنهم يندرجون تحت عنوان ظالم ومظلوم، معتدٍ ومعتدى عليه {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

الاحتكام في الخلافات إلى الله والرسول

{وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، فنحن نؤمن بالقرآن وبالإنجيل وبالتوراة وبالله الواحد، ولذلك علينا أن ننطلق من هذه القاعدة، وهذا الأسلوب لا ينحصر في الخلافات الدينية أو المذهبية، بل يمكن أن نطبّقه في الخلافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.

وعلينا أن نعرف أن الكلمة الطيبة والمنفتحة على الآخر لا بد أن تؤثر في الإنسان، ولكن ـ مع الأسف ـ نقفل قلوبنا بالحقد ونحرك كلماتنا بالبغضاء ونصمّ آذاننا وعقولنا، والنبي(ص) الذي هو الأفضل في كلّ شيء، كان سبحانه قد تحدث عنه بأخلاقه فقط {وإنك لعلى خلقٍ عظيم} {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

أيها الأحبة، إننا نعيش في عالم يهتز من تحت أقدامنا، في عالم يريد أن يمزقنا ويفرقنا ويسقطنا ويسيطر علينا، ويعمل على استغلال خلافاتنا وعصبياتنا ومذهبياتنا وأدياننا وسياستنا وحزبياتنا، لذلك علينا أن نكون واعين، لأن هذا السلاح هو السلاح الوحيد الذي يهزمنا، أما إذا وقفنا في مواقع الوحدة واللقاء، فإن أي عدو لن يستطيع أن ينفذ إلينا أو يسقط مواقعنا {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، هذه هي المسألة إذا أردتم الحرية فالحرية مع الحكمة والوحدة، وإذا أردتم القوة فالقوة مع الحكمة والوحدة، وإذا أردتم أن تأخذوا بأسباب النصر فإن أول سبب للنصر هو أن تعيش بعقلك وقلبك وكل طاقاتك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله، وتعلّموا كيف ترتكزون على مواقع اللقاء، وكيف تخاطبون بعضكم بعضاً في ما اختلفتم فيه، وكيف تخاطبون العالم بالطريقة التي تستطيعون فيها أن تربحوا عقل العالم وثقته، لأن الله أرادنا أن نأخذ بكل الأساليب التي تفتح إنسانية الإنسان على المحبة وعلى الخير وعلى كل ما يرتفع بالإنسان. واجهوا المواقف بمسؤولية، لا سيما إذا كانت الأوضاع تتحرك من أجل أن تبتعد بكم عن تأكيد عزتكم وقوتكم وحريتكم ولإسقاط مستقبلكم من خلال العبث بحاضركم، كونوا الأمة المسؤولة التي تفكر كيف تجعل من المستقبل مستقبل حرية وقوة ومنعة من خلال ما تتحركون فيه في الحاضر من وحدة، كما قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، لا سيما أن الأمم تتداعى علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

فعلينا أن نعرف كيف نحمي أنفسنا كي لا نكون المأكولين اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وما إلى ذلك، إن المسألة هي كيف نكون الأقوياء في موقع يفترس فيه القويُّ الضعيف، أن نكون الأعزاء في موقع يريد فيه المستكبرون إسقاط المستضعفين. نحن نعيش الآن في مرحلة فيها الصراع كأقصى ما يكون، صراع بين الذين احتلوا الأرض وبين الذين يحررونها، هو صراع بين الذين يسلبون الشعوب قدراتها وثرواتها وبين الذين يريدون أن يحافظوا عليها. علينا أن نفهم واقعنا القريب والبعيد، وأن نعرف أعداءنا ونعرف كيف نعدّ لهم ما استطعنا من قوةٍ، تعالوا لندرس ماذا هناك:

محاولات الإجهاز على الانتفاضة

القضية الفلسطينية تراوح مكانها في موقع التجميد الأمريكي حتى للمشروع الذي أعلنه الرئيس الأمريكي المسمى "خريطة الطرق" للدولة الفلسطينية، وقد فرض وزير خارجيته ذلك على اللجنة الرباعية بناءً على طلب إسرائيلي بتأجيل ذلك إلى ما بعد انتخاباتها من دون أن يطلب منها إيقاف الهجمة العسكرية والاقتصادية والتدميرية على الشعب الفلسطيني، لأن السياسة الأمريكية هي إعطاء الدولة العبرية الفرصة لخلق أمر واقع أمني سياسي يمنع من تحقيق الهدف الفلسطيني في إنشاء الدولة المستقلة حتى على مساحة الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، لأن أمريكا لا تعترف بأنها أراضٍ محتلة، بل هي في المنطق الأمريكي أراضٍ متنازع عليها...

أمّا الدعوة البريطانية للسلطة الفلسطينية للاجتماع في لندن للبحث في إصلاحها السياسي والأمني، فهي دعوة يراد منها تجميد الانتفاضة وإرباكها وإشغالها بالتفاصيل التافهة ريثما تنتهي الانتخابات الصهيونية بسلام وتنطلق طبول الحرب ضد العراق بالطريقة المتوقعة.

تخدير العالم العربي

إن المطلوب الآن هو تخدير العالم العربي من قبل الأمريكيين، وهذا ما يفسر التطمينات الهاتفية من قبل الرئيس الأمريكي للسعودية والأردن، لأن المطلوب هو أن يبيع العرب كلاماً معسولاً يريح الأعصاب ويهدّئ المشاعر من دون أية نتيجة عملية واقعية، بينما تقدم لإسرائيل المواقف في الخطة المشتركة على مستوى التحالف الاستراتيجي معها على صعيد مستقبل المنطقة بعد إسقاط النظام العراقي لاستبداله بنظام أكثر انفتاحاً على التنسيق مع الاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية، ومحاولة صياغة المنطقة لمصلحة التفوّق الإسرائيلي على الجميع والعمل على إطلاق التهديدات ضد إيران وسوريا، لأن إسرائيل لا ترتاح لسياستهما في دعم الانتفاضة من أجل تحرير الفلسطينيين من الاحتلال.

دراسة الأخطار القادمة

إن على الأحرار في المنطقة من العرب والمسلمين أن يدرسوا جيداً هذه الأخطار القادمة في الخطوط السياسية والأمنية الأمريكية، وهذا ما ينبغي ملاحظته في مسألة الحرب على العراق التي لم يتضح ـ حتى الآن ـ ما هي طبيعتها وهل تقتصر على إسقاط النظام أو أنها سوف تجتاح عشرات الألوف من الشعب العراقي، ثم ما هي طبيعة النظام الجديد بعد ذلك، فهل تؤمن أمريكا بالديمقراطية التي قد تتحرك في رفض السيطرة الأميركية على مقدرات العراق، لا سيما أن ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الثالث تتحدد بما يخدم مصالحها في هذا العالم لا بما يحقق لشعوبه الحرية وتقرير المصير على صعيد الاستقلال في إدارة شؤونها.. إن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي الضمانات التي تقدمها أمريكا للشعب العراقي بعد نظام الطاغية، وما هي الإمكانات الشعبية للمعارضة لتواجه المخططات المستقبلية في الهيمنة الأمريكية المطلقة باستبدال نظام طاغ صادر شعبه بكل وحشية بنظام طاغ آخر يحمل بعض مساحيق الديمقراطية؟!

إن علينا أن نعرف سرّ أمريكا في هذا التحرك بالقوة الطاغية التي تريد السيطرة على العالم بدلاً من تحسين ظروفه الإنسانية والاقتصادية والسياسية والأمنية في تطلّعات شعوبه نحو الحرية في نطاق حقوق الإنسان ، قد يتحدث البعض عن العجز، كما هو الحال في أحاديث الأنظمة العربية وأكثر الدول الإسلامية، ولكن المسألة هي أن الشعوب عندما تقرر المواجهة حتى بالطرق السلمية لتخرج إلى الشوارع بكل قوّة وعزم وإرادة، فإنها قد تستطيع إرباك الكثير من الخطط...

تقنين لشريعة الغاب

أما مسألة الحرب ضد ما تسميه بالإرهاب، فإنها تتحرك في إصدارالتشريعات المتنوعة التي تبرر لمخابراتها المركزية ولقواها الأمنية اغتيال كل الذين تتهمهم بالإرهاب من دون محاكمة، تماماً كما هو الأسلوب الصهيوني في اغتيال مجاهدي الانتفاضة، ما يوحي بأن أمريكا تعمل كما هي إسرائيل على تقنين وتشريع شريعة الغاب في الوقت الذي تتحدث فيه عن الحرية والحضارة وحقوق الإنسان... ومن هنا نعرف كم هي ملامح بوش قريبة من ملامح شارون، وكم هي أمريكا في إدارتها اليهودية الصهيونية قريبة من إسرائيل في لقاء وحشي يبرر الوحشية باسم الدفاع، والهمجية باسم الحضارة، والسؤال: هل يبقى لدى الإدارة الأمريكية ما تشتكيه بقولها: لماذا يكرهنا العرب والمسلمون، أو أن المتطرفين هم الذين يشوِّهون صورة أمريكا؟

إن الجواب هو أن سياسة الإدارة الأمريكية هي التي شوّهت صورة أمريكا لدى الشعوب التي لم تر في أمريكا سوى وحش يريد أن يحوّلها إلى قطيع من الحملان الوديعة المستعدة للخضوع لافتراس الوحش الكبير لها.

أما لبنان الجائع إلى لقمة الخبز، الظامئ إلى جرعة الماء، الحالم بفرص العمل، المطالب بالاستقرار، الثائر على الهدر والفساد ، الثائر من أجل تحقيق العدالة والإصلاح، المتشوق للخروج من أزماته المعيشية، المتحرك نحو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، بحثاً عن العيش الكريم .. .

أما لبنان، هذا الغارق في وحول الطائفية والشخصانية والعصبيات الحزبية، السائر في أكثر من مناخ ضبابيّ يحجب عنه وضوح الرؤية للأحداث الخطيرة التي تترصد أمنه واقتصاده وسياسته.

بالوحدة والوعي نواجه التحديات

أما لبنان، هذا الذي يهتز لتصريح صباحاً ولتصريح مساءً، ويغيب عن موقع السلامة من خلال معركة حكومية تارة أو نيابية أخرى أو سياسية ثالثةً... في الوقت الذي يواجه التهديد جنوباً في أرضه ومياهه الخاضعة للعبة تقتير هنا أو تضييع هناك تحت تأثير ضغوط خفية، وفي الوقت الذي تهدر العواصف والصواعق في آفاقه من خلال هدير الحرب في المنطقة.

أما لبنان هذا، فماذا ينتظر شعبه ومسؤولوه وسياسيّوه ونقابيُّوه ليرتفعوا إلى مستوى الخطر في المرحلة من أجل أن نتجاوز الفوضى التي قد تصادر أوضاع المنطقة كلها الزاحفة إلينا.

إن علينا أن نعرف كيف نواجه التحديات الكبرى من موقع شعب واحد وموقف واحد ووعي منفتح على المستقبل، لتتساقط أمامه كل التفاهات والهوامش، ليبقى الإنسان فينا حرّاً قوياً في وحدة الوطن والإنسان.

لكي لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

يقول الله سبحانه وتعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

هذا هو الخط الإسلامي الذي يريد الله للإنسان المسلم أن يسير عليه عندما يريد أن يدعو إلى سبيل الله في كل أمرٍ يُراد للناس أن يؤمنوا به أو يلتزموه، لأن مسألة أن تُدخل فكرة إلى عقل إنسان آخر تفرض عليك أن تدرس عقل هذا الإنسان، لتعرف كيف تفتح هذا العقل وكيف تغلقه، لأن للعقل مفاتيح ومغاليق، فربما تتحرك بكلمة وبأسلوب مع الإنسان الآخر، فتغلق عقله وقلبه عن الاستجابة لك، وربما تأتي بكلمة أو أسلوب يفتح عقله وقلبه للاستجابة لك.

لذلك، يقول الله تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك ـ إلى طريق ربك في ما أوحى به الله في كتابه، وفي ما أراد لنبيّه أن يبلِّغه وأن يحركه في كل شؤون الحياة ـ بالحكمة ـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، الكلمة المناسبة في الموقع المناسب ومع الشخص المناسب وفي الجوّ المناسب، بحيث تنطلق هذه الكلمة لتأخذ طريقها الطبيعي إلى العقل، لأنّ المسألة هي أننا كما نحن بحاجة إلى مهندسين يهندسون الطريق إلى بلداننا ويهندسون البيوت التي تلبي حاجاتنا، كذلك نحن بحاجة إلى مهندسين يهندسون الطريق إلى عقولنا وإلى قلوبنا وإلى حركة الحياة فيما بيننا وحركة العلاقات، لأننا بحاجة إلى أن نهندس لوصول الفكرة إلى العقل، ونهندس لوصول المشاعر إلى القلب، وهذه كلها نجمعها في كلمة الحكمة.

دراسة متأنية للآخر

لذلك، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جعل مهمة الرسول في جانبين {يعلمهم الكتاب والحكمة}، والكتاب هو القرآن، فالقرآن فيه كل شيء، وهو يمثل خط النظرية، بينما الحكمة تمثل خط التطبيق، كيف نستطيع أن نحوّل هذه النظرية لتكون إيماناً في نفوس الناس، ولتكون واقعاً في حياتهم، ولذلك لا بد للإنسان عندما يريد أن يركز فكرة، مع أولاده مثلاً، أن يدرس عقلية أولاده، ويدرس الذهنية الطفولية لديهم، وعليه أن يحول ذهنيته إلى ذهنية طفل ويخاطبه كطفل، وفي مرحلة الشباب عليه أن يدرسه ويكلّمه بما يناسب ثقافته حتى يدخل إلى عقله، أو أن يدع أحداً يتكلّم معه ممن يملك ثقافته إذا لم يكن يمتلك تلك الثقافة.

علينا أن ندرس عقول أطفالنا وشبابنا وبناتنا، فقد يعتبر بعض الآباء نفسه حاكماً مطلقاً في المنـزل، بحيث يفرض رأيه على أولاده، ولكنّ الله يقول: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، بالكلمة الرقيقة والليّنة التي يمكن أن تدخل القلب، عند ذلك يمكن أن تعيش في بيتك بسلام، فقد يرضخ ابنك أو ابنتك للأمر الواقع، لكنهم يتحولون إلى أُناس معقَّدين منك، لا يحبونك، لأنه لا يوجد فرق بين الديكتاتور في أعلى مواقع السلطة وبين الديكتاتور في البيت. أولادنا ليسوا حاجيات وأغراضاً، بل هم بشر وأناس.

نحن في شبابنا كنا نتأثر عندما كان آباؤنا يضغطون علينا ولا يكلّموننا إلا بالعنف، أيضاً أولادنا سيشعرون كما نشعر، لذلك عندما نصبح آباء وأمهات يجب أن نسترجع ما كنا نفكر فيه مع آبائنا عندما كنا أطفالاً.

وهكذا بالنسبة إلى الزوجة، فهي إنسانة ولم يشترها الرجل بالمال، {هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن} {فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان} {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة}، فلا يوجد حاكم ومحكوم في المنـزل، {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف}، لهنّ حق وعليهن واجب، وبهذا الأسلوب يمكننا أن نحوّل بيوتنا إلى سلام.

إذا استخدمنا الأسلوب السيّىء البعيد عن الحكمة، والناشىء من العصبية وانتفاخ الشخصية، والممارسات الوحشية التي يعيشها الإنسان القوي أمام الضعيف، فإننا سنعيش في بيوتنا التعقيدات، بحيث يحوّل الكثير من الناس أولادهم وأزواجهم وعائلاتهم إلى مصحات عقلية، وإلى زبائن لأطباء الأعصاب، وقد أدمنّا مثل هذه المعاملة، فأنتجنا سياسة التعب، بحيث ننتج كل يوم تعباً جديداً لأنفسنا ولعائلاتنا وللناس من حولنا، لأنه لم نثقّف أنفسنا بسياسة الراحة.

ولذا نحن نعتقد بأننا نريح أنفسنا بشراء الحاجيات البيتية وبتأمين المسكن الجيد وما إلى ذلك، وهذا مفهوم خاطىء عن الراحة، لأن الراحة تتمثل في أن يكون صدرك واسعاً وعقلك فيه الكثير من الحكمة، وأن يكون أسلوبك إنسانياً وتعترف بالآخر.

الجدال بالأحسن

{وجادلهم بالتي هي أحسن} عندما تختلف الأفكار وتختلف الأديان والمذاهب، فهناك وسيلتان: وسيلة العنف، ووسيلة الرفق. وسيلة العنف هي أن تحاول أن تسب وتشتم وتلعن وتهدد، بهذا الأسلوب يمكن أن تفجر غيظك وتنفّس عن حالة الاحتقان عندك، ولكنك لا تستطيع أن تربح هذا الإنسان، بل تزيده عداوة وعصبية.

لذلك، فإن مجتمعنا الشتّام في الخلافات الدينية والمذهبية والعشائرية والسياسية، هو بخلاف ما يأمرنا به الله تعالى، حيث يقول: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينّا لكل أمةٍ عملهم}. ويقول أمير المؤمنين(ع): "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم ـ وهنا تتجلى الروح الإسلامية بأسمى معانيها، مع العلم أن الإمام(ع) كان في حالة حرب مع معاوية في صفين، ومع ذلك كان يفكر بأن لا يحمل المسلم حقداً على مسلم، حيث كان يقاتل لحفظ النظام وليس للعقدة ـ وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به"، ولذلك عليك أن تبحث عن أفضل الكلمات والأساليب والمناخات للحوار فيما بينك وبينهم. فهذا تكليف، فأما مسألة أن يهتدوا أو يضلوا، فهذا ليس من شأنك، ويعود تقرير هذه المسألة إلى الله عز وجل: {إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، {فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمسيطر}، حتى أنه أراد منا أن عندما ندخل في جدال مع اليهود والنصارى أن لا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ بالأسلوب الأفضل والأحسن، ولا يفرِّق أو يبغض، بل يدخل القلب والعقل، وذلك عندما يكون الجو جوّ حوار ـ إلا الذين ظلموا منهم} أي الذي يفرض عليك نفسه بالقوة، كما هو حال اليهود في فلسطين الذين لا ينطبق عليهم عنوان أهل الكتاب، بل إنهم يندرجون تحت عنوان ظالم ومظلوم، معتدٍ ومعتدى عليه {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

الاحتكام في الخلافات إلى الله والرسول

{وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، فنحن نؤمن بالقرآن وبالإنجيل وبالتوراة وبالله الواحد، ولذلك علينا أن ننطلق من هذه القاعدة، وهذا الأسلوب لا ينحصر في الخلافات الدينية أو المذهبية، بل يمكن أن نطبّقه في الخلافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.

وعلينا أن نعرف أن الكلمة الطيبة والمنفتحة على الآخر لا بد أن تؤثر في الإنسان، ولكن ـ مع الأسف ـ نقفل قلوبنا بالحقد ونحرك كلماتنا بالبغضاء ونصمّ آذاننا وعقولنا، والنبي(ص) الذي هو الأفضل في كلّ شيء، كان سبحانه قد تحدث عنه بأخلاقه فقط {وإنك لعلى خلقٍ عظيم} {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

أيها الأحبة، إننا نعيش في عالم يهتز من تحت أقدامنا، في عالم يريد أن يمزقنا ويفرقنا ويسقطنا ويسيطر علينا، ويعمل على استغلال خلافاتنا وعصبياتنا ومذهبياتنا وأدياننا وسياستنا وحزبياتنا، لذلك علينا أن نكون واعين، لأن هذا السلاح هو السلاح الوحيد الذي يهزمنا، أما إذا وقفنا في مواقع الوحدة واللقاء، فإن أي عدو لن يستطيع أن ينفذ إلينا أو يسقط مواقعنا {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، هذه هي المسألة إذا أردتم الحرية فالحرية مع الحكمة والوحدة، وإذا أردتم القوة فالقوة مع الحكمة والوحدة، وإذا أردتم أن تأخذوا بأسباب النصر فإن أول سبب للنصر هو أن تعيش بعقلك وقلبك وكل طاقاتك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله اتقوا الله، وتعلّموا كيف ترتكزون على مواقع اللقاء، وكيف تخاطبون بعضكم بعضاً في ما اختلفتم فيه، وكيف تخاطبون العالم بالطريقة التي تستطيعون فيها أن تربحوا عقل العالم وثقته، لأن الله أرادنا أن نأخذ بكل الأساليب التي تفتح إنسانية الإنسان على المحبة وعلى الخير وعلى كل ما يرتفع بالإنسان. واجهوا المواقف بمسؤولية، لا سيما إذا كانت الأوضاع تتحرك من أجل أن تبتعد بكم عن تأكيد عزتكم وقوتكم وحريتكم ولإسقاط مستقبلكم من خلال العبث بحاضركم، كونوا الأمة المسؤولة التي تفكر كيف تجعل من المستقبل مستقبل حرية وقوة ومنعة من خلال ما تتحركون فيه في الحاضر من وحدة، كما قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، لا سيما أن الأمم تتداعى علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

فعلينا أن نعرف كيف نحمي أنفسنا كي لا نكون المأكولين اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وما إلى ذلك، إن المسألة هي كيف نكون الأقوياء في موقع يفترس فيه القويُّ الضعيف، أن نكون الأعزاء في موقع يريد فيه المستكبرون إسقاط المستضعفين. نحن نعيش الآن في مرحلة فيها الصراع كأقصى ما يكون، صراع بين الذين احتلوا الأرض وبين الذين يحررونها، هو صراع بين الذين يسلبون الشعوب قدراتها وثرواتها وبين الذين يريدون أن يحافظوا عليها. علينا أن نفهم واقعنا القريب والبعيد، وأن نعرف أعداءنا ونعرف كيف نعدّ لهم ما استطعنا من قوةٍ، تعالوا لندرس ماذا هناك:

محاولات الإجهاز على الانتفاضة

القضية الفلسطينية تراوح مكانها في موقع التجميد الأمريكي حتى للمشروع الذي أعلنه الرئيس الأمريكي المسمى "خريطة الطرق" للدولة الفلسطينية، وقد فرض وزير خارجيته ذلك على اللجنة الرباعية بناءً على طلب إسرائيلي بتأجيل ذلك إلى ما بعد انتخاباتها من دون أن يطلب منها إيقاف الهجمة العسكرية والاقتصادية والتدميرية على الشعب الفلسطيني، لأن السياسة الأمريكية هي إعطاء الدولة العبرية الفرصة لخلق أمر واقع أمني سياسي يمنع من تحقيق الهدف الفلسطيني في إنشاء الدولة المستقلة حتى على مساحة الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، لأن أمريكا لا تعترف بأنها أراضٍ محتلة، بل هي في المنطق الأمريكي أراضٍ متنازع عليها...

أمّا الدعوة البريطانية للسلطة الفلسطينية للاجتماع في لندن للبحث في إصلاحها السياسي والأمني، فهي دعوة يراد منها تجميد الانتفاضة وإرباكها وإشغالها بالتفاصيل التافهة ريثما تنتهي الانتخابات الصهيونية بسلام وتنطلق طبول الحرب ضد العراق بالطريقة المتوقعة.

تخدير العالم العربي

إن المطلوب الآن هو تخدير العالم العربي من قبل الأمريكيين، وهذا ما يفسر التطمينات الهاتفية من قبل الرئيس الأمريكي للسعودية والأردن، لأن المطلوب هو أن يبيع العرب كلاماً معسولاً يريح الأعصاب ويهدّئ المشاعر من دون أية نتيجة عملية واقعية، بينما تقدم لإسرائيل المواقف في الخطة المشتركة على مستوى التحالف الاستراتيجي معها على صعيد مستقبل المنطقة بعد إسقاط النظام العراقي لاستبداله بنظام أكثر انفتاحاً على التنسيق مع الاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية، ومحاولة صياغة المنطقة لمصلحة التفوّق الإسرائيلي على الجميع والعمل على إطلاق التهديدات ضد إيران وسوريا، لأن إسرائيل لا ترتاح لسياستهما في دعم الانتفاضة من أجل تحرير الفلسطينيين من الاحتلال.

دراسة الأخطار القادمة

إن على الأحرار في المنطقة من العرب والمسلمين أن يدرسوا جيداً هذه الأخطار القادمة في الخطوط السياسية والأمنية الأمريكية، وهذا ما ينبغي ملاحظته في مسألة الحرب على العراق التي لم يتضح ـ حتى الآن ـ ما هي طبيعتها وهل تقتصر على إسقاط النظام أو أنها سوف تجتاح عشرات الألوف من الشعب العراقي، ثم ما هي طبيعة النظام الجديد بعد ذلك، فهل تؤمن أمريكا بالديمقراطية التي قد تتحرك في رفض السيطرة الأميركية على مقدرات العراق، لا سيما أن ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الثالث تتحدد بما يخدم مصالحها في هذا العالم لا بما يحقق لشعوبه الحرية وتقرير المصير على صعيد الاستقلال في إدارة شؤونها.. إن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي الضمانات التي تقدمها أمريكا للشعب العراقي بعد نظام الطاغية، وما هي الإمكانات الشعبية للمعارضة لتواجه المخططات المستقبلية في الهيمنة الأمريكية المطلقة باستبدال نظام طاغ صادر شعبه بكل وحشية بنظام طاغ آخر يحمل بعض مساحيق الديمقراطية؟!

إن علينا أن نعرف سرّ أمريكا في هذا التحرك بالقوة الطاغية التي تريد السيطرة على العالم بدلاً من تحسين ظروفه الإنسانية والاقتصادية والسياسية والأمنية في تطلّعات شعوبه نحو الحرية في نطاق حقوق الإنسان ، قد يتحدث البعض عن العجز، كما هو الحال في أحاديث الأنظمة العربية وأكثر الدول الإسلامية، ولكن المسألة هي أن الشعوب عندما تقرر المواجهة حتى بالطرق السلمية لتخرج إلى الشوارع بكل قوّة وعزم وإرادة، فإنها قد تستطيع إرباك الكثير من الخطط...

تقنين لشريعة الغاب

أما مسألة الحرب ضد ما تسميه بالإرهاب، فإنها تتحرك في إصدارالتشريعات المتنوعة التي تبرر لمخابراتها المركزية ولقواها الأمنية اغتيال كل الذين تتهمهم بالإرهاب من دون محاكمة، تماماً كما هو الأسلوب الصهيوني في اغتيال مجاهدي الانتفاضة، ما يوحي بأن أمريكا تعمل كما هي إسرائيل على تقنين وتشريع شريعة الغاب في الوقت الذي تتحدث فيه عن الحرية والحضارة وحقوق الإنسان... ومن هنا نعرف كم هي ملامح بوش قريبة من ملامح شارون، وكم هي أمريكا في إدارتها اليهودية الصهيونية قريبة من إسرائيل في لقاء وحشي يبرر الوحشية باسم الدفاع، والهمجية باسم الحضارة، والسؤال: هل يبقى لدى الإدارة الأمريكية ما تشتكيه بقولها: لماذا يكرهنا العرب والمسلمون، أو أن المتطرفين هم الذين يشوِّهون صورة أمريكا؟

إن الجواب هو أن سياسة الإدارة الأمريكية هي التي شوّهت صورة أمريكا لدى الشعوب التي لم تر في أمريكا سوى وحش يريد أن يحوّلها إلى قطيع من الحملان الوديعة المستعدة للخضوع لافتراس الوحش الكبير لها.

أما لبنان الجائع إلى لقمة الخبز، الظامئ إلى جرعة الماء، الحالم بفرص العمل، المطالب بالاستقرار، الثائر على الهدر والفساد ، الثائر من أجل تحقيق العدالة والإصلاح، المتشوق للخروج من أزماته المعيشية، المتحرك نحو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، بحثاً عن العيش الكريم .. .

أما لبنان، هذا الغارق في وحول الطائفية والشخصانية والعصبيات الحزبية، السائر في أكثر من مناخ ضبابيّ يحجب عنه وضوح الرؤية للأحداث الخطيرة التي تترصد أمنه واقتصاده وسياسته.

بالوحدة والوعي نواجه التحديات

أما لبنان، هذا الذي يهتز لتصريح صباحاً ولتصريح مساءً، ويغيب عن موقع السلامة من خلال معركة حكومية تارة أو نيابية أخرى أو سياسية ثالثةً... في الوقت الذي يواجه التهديد جنوباً في أرضه ومياهه الخاضعة للعبة تقتير هنا أو تضييع هناك تحت تأثير ضغوط خفية، وفي الوقت الذي تهدر العواصف والصواعق في آفاقه من خلال هدير الحرب في المنطقة.

أما لبنان هذا، فماذا ينتظر شعبه ومسؤولوه وسياسيّوه ونقابيُّوه ليرتفعوا إلى مستوى الخطر في المرحلة من أجل أن نتجاوز الفوضى التي قد تصادر أوضاع المنطقة كلها الزاحفة إلينا.

إن علينا أن نعرف كيف نواجه التحديات الكبرى من موقع شعب واحد وموقف واحد ووعي منفتح على المستقبل، لتتساقط أمامه كل التفاهات والهوامش، ليبقى الإنسان فينا حرّاً قوياً في وحدة الوطن والإنسان.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية