لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفّلاً

لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفّلاً

 لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفّلاً
إن هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الحسرة تجلب الندم والألم

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}، ويقول تعالى: {قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}.

في هذه الآيات وغيرها، يحدّثنا الله تعالى عن يوم القيامة أنه يوم الحسرة، والحسرة هي هذا الشعور الذي يستشعره الإنسان عندما يواجه مصيره الأسود أو مصيره المتعب أو المعقَّد أو المهلك، ليتذكّر أن الله تعالى أعطاه الكثير من الفرص التي لو استفاد منها لاستطاع أن يبدّل مصيره بأن يؤمن بالله ولا يكفر به، وأن يطيعه ولا يعصيه، وأن يسير على الخط المستقيم ولا يسير على الخط المنحرف، وأن يكون مع الصادقين لا مع الكاذبين، ومع العادلين لا مع الظالمين، ومع أولياء الله لا مع أعداء الله.

عند ذلك يشعر الإنسان بالحسرة، لأنه كان يملك فرصة الحصول على نتائج طيبة، فاستبدلها بنتائج سلبية، وهذا أمر يعيشه الناس في الدنيا كما يعيشونه في الآخرة، فنحن نعرف أن الكثيرين من الناس الذين يشتغلون بأشغال الدنيا، سواء كانت أشغالاً تتصل بتجاراتهم أو حاجاتهم الخاصة أو العامة، حتى ما يتصل بشهواتهم ولذّاتهم، إن هؤلاء الناس قد تمرّ بهم الفرص فيغفلون عن الاستفادة منها، وعندما تذهب الفرصة تأتي الحسرة: لماذا لم أستفد من الموسم الذي يربح الناس فيه، ولماذا لم أشارك فلاناً، وما إلى ذلك؟ فيعيش الإنسان الحسرة التي تمثل المستوى العالي من الندم والحزن والألم.

ومن الطبيعي أن حسرة الإنسان في الدنيا قد تكون محدودة، لأن حجمها هو ما يعيشه الإنسان في الدنيا، إما في وقت محدد أو في عمره كله، والله يقول: {وما عندكم ينفد}، ولكن {الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}، فالحسرة تشتد عندما يواجه الإنسان المصير المهلك في الآخرة، والذي كان بإمكانه أن يبدّله إلى مصير أفضل.

تدبر عاقبة الأمر

وهذا ما يفرض علينا التفكير أمام أيّ فرصة، والصحة فرصة تستطيع أن تستفيد منها في كل مسؤولياتك التي تحتاج إلى جسد صحيح، والأمن فرصة، والقدرة المالية فرصة، والنفوذ الاجتماعي الذي تستطيع من خلاله أن تخدم وتتقرب إلى الله بالخدمة أكثر فرصة، وهكذا كل القدرات التي يملكها الإنسان هي فرص يستطيع أن يحصل من خلالها على خير الدنيا والآخرة، ولكن الإنسان يعيش الغفلة، لذلك فالآية الكريمة تقول: {وأنذرهم يوم الحسرة ـ ذكّرهم يا محمد بيوم القيامة الذي هو يوم الحسرة الذي تتقطّع فيه الأنفس أمام النتائج السيئة التي تواجه الإنسان في مصيره ـ إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} ـ إن الله يركّز على مسألة الغفلة التي تحدث لدى الإنسان، فلا ينتبه إلى النتائج السلبية من خلال عمله وواقعه، كالكثير من الناس الذين يفكرون باللحظة ولا يفكرون بالنهاية، وقد جاء في الحديث عن النبي (ص): "إن أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته"، وقد ورد: "انتهزوا الفرصة قبل أن تكون غصّة"، ولا سيما إذا كانت المسألة متصلة بالمصير الذي تصير إليه.

والله تعالى يحدّثنا عن بعض الناس يوم القيامة: {أن تقول نفس يا حسرتي ـ عندما يقف الإنسان يوم القيامة ويرى الناس يدخل فريق منهم إلى الجنة وآخر إلى النار، وهو يسير مع فريق أهل النار ـ على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ـ كان يسخر من الناس الذين يقفون عند الحرام فيتركونه، ويقفون عند الواجب فيفعلونه، ويخافون الله، وهناك مثل عربي يقول: "الذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً"، والله تعالى بيّن هذا المعنى، فقال تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفّار يضحكون} ـ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين* أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة ـ لو يعيدني الله إلى الدنيا ـ فأكون من المحسنين* بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين* ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين* وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسّهم السوء ولا هم يحزنون}.

من نماذج الغافلين

والله تعالى يبيّن لنا بعض النماذج ممن يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، هؤلاء الذين يتحوّلون إلى أتباع للمنحرفين والمستكبرين، يقول تعالى: {إذ تبرأ الذين اتُبِعوا ـ الزعماء وأهل السلطة والقوة ـ من الذين أتَبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب ـ كل هذه العلاقات ذهبت، هذا من حزب فلان ومن جماعة فلان ومن رجال فلان إلى آخر القائمة ـ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

وفي آية كريمة ثانية يقول تعالى: {ويوم يعضُّ الظالم على يديه ـ الذي ظلم نفسه بالكفر والضلال ـ يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ـ ليتني سرت على الطريق المستقيم في طاعة الله ورسوله ـ يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً* لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.

وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): "إن أعظم الحسرات يوم القيامة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله ـ تاجر بالحلال والحرام، فجمع المال وخزّنه ـ فورثه رجل فأنفقه في طاعة الله سبحانه فدخل به الجنة ودخل الأول به النار"، وأيّ حسرة أعظم من هذه الحسرة عندما جنيت هذا المال وتحمّلت ما تحملته لتحصل عليه، وإذا بهذا المال يدخلك النار، والذي يرثه يدخل به الجنة، لأنه أنفقه في طاعة الله؟

وعن الإمام عليّ (ع) وقد سئل: من أعظم الناس حسرة؟ قال (ع): "من رأى مالاً في ميزان غيره فأدخله الله به النار وأدخل وارثه به الجنة". ومن أعظم الناس حسرة من يعظ الناس ولا يعمل بما يعظ، لأن الوعظ عنده مهنة، وما أكثر وعّاظ السلاطين عندنا، فعن الإمام الصادق (ع) يقول: "إن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره". وعن رسول الله (ص): "إن أشدّ الناس ندامة يوم القيامة رجل باع آخرته بدنيا غيره". وعن الإمام الصادق (ع): "إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ـ الذي يرى العبرة ولا يعتبر ـ ومن لم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم أنفعٌ له أم ضر".

المؤمن غير مغفّل

من خلال هذا الجو، فإن هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تفرض علينا أن نكون واعين، ولا سيما لقضايا المصير، والله يريد للإنسان أن يكون واعياً لشؤون الدنيا أيضاً، لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفلاً، وقد قرأت لكم حديثاً عن الإمام الصادق(ع) الذي يحدّثنا فيه عن المؤمن ـ خلافاً لنظرة بعض الناس ـ يقول (ع): "المؤمن حسن المعونة ـ يعين غيره بما يملك من طاقات ـ خفيف المؤونة ـ لا يثقل على من يعيش معه ولا يثقل الآخرين بتكاليفه ـ جيد التدبير لأمر معيشته ـ في الحلال ـ لا يلدغ من جحر مرتين"، فهو ينتفع من تجاربه، والوعي لأمور الآخرة أكثر وأكبر.

السعي لكسب رضا الله

والوعي يقتضي منا أن نفهم أنّا خلقنا للآخرة لا للدنيا، فعلى الإنسان أن يفتح عقله وقلبه وأذنيه، ليدرس الحاضر بقدر ما يتصل بالمستقبل، وقد جاء في النداء القرآني: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}، صحيح أن أهلنا وأصدقاءنا ومريدينا من حولنا في الدنيا، ولكن من يكون معك إذا أطبق عليك القبر؟ ليس معك إلا عملك، فعلينا أن نكون واعين لعملنا، بأن نبتعد عن أي عمل أو قول أو موقف يخسّرنا رضى الله ومحبته، لأن الخسارة هي أن تخسر نفسك يوم القيامة.

فلنعمل على أن يكون يوم القيامة بالنسبة إلينا يوم الربح والكسب والفرح، لا أن يكون يوم الحسرة، فلا بدّ أن نرتب أمورنا وأعمالنا وفكرنا وشغل قلوبنا، فلا نجعلها ساحة للحقد والعداوة والبغضاء، ولا نجعل ألسنتنا ساحة للكذب والخيانة والغيبة والنميمة والفتنة، ولا نجعل أيدينا وأرجلنا وسيلة من وسائل معصية الله، حتى ننطلق بنفس مطمئنة إلى الله تعالى في ذلك اليوم الذي {لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل أموركم، واستعدوا ليوم السفر بالزاد الذي تحتاجونه يوم القيامة، وخير الزاد التقوى، وعلينا أن نستفيد من كل ما لدينا من الفرص في التقرب إلى ربنا ومواجهة كل الذين يريد الله لنا أن نواجههم من الظالمين والكافرين والمستكبرين، حتى نستطيع أن نعذر إلى الله تعالى في تطهير الأرض من كل هؤلاء الذين يبغون في الأرض بغير الحق.. وعلينا أن ننطلق على أساس وحدة الموقف من خلال وحدة العقيدة ووحدة الهدف، لأن الله تعالى يريد أن نكون أمة واحدة، لتكون لنا القوة على كل المستكبرين والمتجبّرين في الأرض.

ونحن منذ مدة لا نزال نواجه الكثير من تحديات المستكبرين وخطوات الظالمين في المنطقة كلها، وفي العالم الإسلامي وعالم المستضعفين كله، وعلينا أن نكتشف ماذا يخطِّطون، لإنقاذ أمتنا من كل هذه الخطط. فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

التطرف مصدره الانحياز المطلق لإسرائيل

من أخبار الإدارة الأمريكية أنها قررت شنّ حملة دبلوماسية ـ إعلامية ـ مالية لتعزيز المفاهيم والممارسات الديمقراطية في العالم العربي وإيران، بهدف إصلاح وتطوير المؤسسات التعليمية والاقتصادية والسياسية، والدفاع عن حقوق الإنسان في دول المنطقة، وتخفيف العداء لأمريكا في العالم العربي والإسلامي، حيث ترى أمريكا أن الأنظمة السلطوية السياسية في دول المنطقة قد خلقت أرضاً خصبة لما تسمّيه التطرّف والإرهاب، على حدّ زعمها..

والسؤال: هل أن الإدارة الأمريكية جادّة في هذا؟ وهل تصدّق نفسها ومستشاريها ومخبريها حول الأساس في نموّ ما تسمّيه الإرهاب؟ إنها تعرف جيداً أن السبب في ذلك كله هو موقفها في التأييد المطلق للعدو الصهيوني، وإعطائه الحرية في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، ومنعه من حق تقرير المصير ومقاومة الاحتلال، وإدخال حركات التحرر الفلسطيني واللبناني في دائرة الإرهاب، ومحاصرة إيران لإخضاعها لنفوذها الاستكباري، وتهديدها لدول المنطقة بتهمة حيازتها لأسلحة الدمار الشامل التي تملك إسرائيل أقوى ترسانة عسكرية منها، بما في ذلك السلاح النووي، ودعمها للأنظمة التي تحاصر شعوبها حماية لمصالح أمريكا..

أمريكا تخطّط لمصالحها

هذا بالإضافة إلى أن أمريكا لا تفكر في مصالح شعوب المنطقة، ومعها العالم الثالث بأسره، بل إنها تخطط لمصالحها أولاً للحفاظ على تدفّق النفط بسعر مناسب، وثانياً لدعم التفوّق الإسرائيلي، وثالثاً لنزع أسلحة الدمار الشامل من الدول التي تسمّيها بـ"المارقة"، وهي الدول غير الخاضعة للسياسة الأمريكية، لتبقى في يد الدول المتحالفة أو المتعاملة معها، من أجل إخضاع شعوبها أو تحويل مواقعها إلى قواعد عسكرية، للحفاظ على الجبروت الاستكباري الأمريكي.

إن أمريكا لا تشجّع الديمقراطية في العالم الثالث، بل إنها تحاول إعطاء ديكور ديمقراطي يخفي وراءه حكماً ديكتاتورياً يتحرك من خلال قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات لحماية المصالح الاستكبارية للإمبراطورية الأمريكية الجديدة في العالم. لذلك، فإن شعوبنا العربية والإسلامية والمستضعفة سوف تبقى في حالة عداءٍ لأمريكا، في إدارتها الضاغطة على مقدّراتها..

لقد قامت أمريكا بمعاقبة مصر لأنها حكمت على مواطن مصري يحمل الجنسية الأمريكية، ولكنها أعطت إسرائيل الحرية والتأييد المطلق لاعتقال الشعب الفلسطيني كله، والحكم عليه بالتدمير والقتل والتجويع والوسائل الإرهابية بشكل مباشر وغير مباشر، كما أنها سكتت عن عشرات الألوف من السجناء في البلاد الخاضعة لنفوذها لأنهم معادون لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، رفضاً للظلم الآتي منها في حياتها العامة..

أمريكا تصنع الأنظمة في المنطقة

وإذا كانت أمريكا تتباكى على شعب العراق وعلى المنطقة من خلال خطورة نظامه، فإننا لا ننسى أن أمريكا هي التي تصنع الأنظمة لمصالحها، ثم تسقطها لنفس المصالح المتطوّرة.. والسؤال: مَن الذي أسقط الانتفاضة الشعبية في العراق بعد حرب الكويت؟ ومَن الذي سكت عن استعمال نظام العراق أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه؟ ومَن الذي أعطاه التأييد المطلق في حربه ضد إيران... إلى آخر القائمة؟!

إن أمريكا لا تسمح بأية ديمقراطية للعراق  يملك فيها الشعب حرياته، ولكنها تحدّق ببترول العراق واستثماراته وأسواقه وموقعه الاستراتيجي في تهديد أكثر من دولة في المنطقة. ولهذا، فإننا لا نثق بأي خطة أمريكية لإنقاذ الشعب العراقي أو المنطقة من النظام الحاكم، بالرغم من أنها وزّعت الكثير من الأحلام في الخلاص، وإن غداً لناظره قريب.

وليس ذلك عقدة ذاتية ضد أمريكا، ولكن مشكلتنا معها أنها دولة ترفع شعار الحرية وحقوق الإنسان، وتصادر كل حرياتنا في حقوقنا الإنسانية وفي تقرير المصير، لتبقى حقوق الإنسان اليهودي فوق حقوق العرب والمسلمين كلهم. والحلّ الوحيد لعودة التوازن في علاقتنا معها، هو أن تحترم مصالحنا وحرياتنا وإنسانيتنا، لنبادلها احتراماً باحترام، ومصالح بمصالح متوازنة.

التخطيط لإيجاد مناخ للفتنة

أما في فلسطين، فالعدوّ الصهيوني يواصل عمليات الاغتيال والحصار والاعتقال وتدمير المنازل وجرف المزارع، وإلهاء "السلطة" بالاتفاقات الأمنية التي هي في مستوى الخديعة الساذجة.. وقد سمعنا "شارون" يحدّث وزراءه عن اتفاق "غزة أولاً" مع "بيت لحم"، بأنه لا يمثّل إلا سحب دبابتين من الشارع، كما سمعنا بعض رجال السلطة الفلسطينية يصرّحون بأن إسرائيل تمارس المماطلة في تنفيذ الاتفاق، وأن وزير حربها يشكك في قدرة السلطة على ضبط الأمن في "غزة" و"بيت لحم".. لأن المطلوب ـ إسرائيلياً وأمريكياً ـ إعطاء العالم فكرة أن إسرائيل تسعى للسلام مع الفلسطينيين، مع التخطيط لإيجاد مناخ للفتنة من أجل إيقاف الانتفاضة وتحويل المسألة إلى صراع فلسطيني ـ فلسطيني، بدلاً من صراع إسرائيلي ـ فلسطيني، وهذا هو الحلّ المميت للقضية الفلسطينية.

لذلك، لا بد للمجاهدين ولكل الشعب الفلسطيني في ساحة الجهاد، من الحذر والوعي للخطة الجديدة القديمة، من خلال الصبر والصمود والعضّ على الجراح، والبقاء في مواقع الانتفاضة، وحماية الوحدة الفلسطينية، فليس لديهم ما يخسرونه إلا قيودهم واحتلال أرضهم.. وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تتحمّل مسؤوليتها الكبرى إزاء الشعب الفلسطيني، لدعمه بكل الوسائل المتاحة، خاصة في هذه الأيام التي تطل منها الانتفاضة على مرحلة جديدة في فلسطين والمنطقة، ليكون ذلك بمثابة الجسر الذي تعبر عليه إلى المرحلة المقبلة.

لبنان: أزمات متلاحقة..

أما في لبنان، فلا يزال الجدل المتحرّك في المتاهات المحلية الطائفية والشخصانية، حول الحوار وشروطه وقاعدته ومواقعه، من دون جدوى، لأن القضية هي فقدان روحية الحوار، باعتبار أن كل فريق يريد أن يجرّ الآخر إليه دون أن يملك الاستعداد للتحرّك خطوة نحوه. ولذلك، فإن الجميع يبقون واقفين في أماكنهم، في مناخ يتوزّعون فيه الاتهامات في تعطيل الحوار. وفي جانب آخر، يتطلّع البعض هنا وهناك إلى القوى الخارجية ليستقوي بها ضد البعض الآخر، وهكذا يتحرك الرهان الذي لن يكون إلا خاسراً..

أما الشعب، فإنه يتلوّى ويتألم ويحترق بنار الأزمة المعيشية، لأن القوانين قد تتمثّل في إلغاء مصدر الرزق لفريق كبير من الناس الذين كانت قد شرّعت لهم الأخذ بهذا المصدر أو ذاك، أو في فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة من أجل دعم الموازنة التي تترنح بين عجز هنا وعجز هناك، من خلال تراكم الديون من جهة، وأوضاع الهدر والفساد والسرقات الكبيرة والصغيرة من جهة ثانية. ويحدّثونك عن التفاؤل الذي تأكله أكثر من مشكلة توحي بالتشاؤم، والمنطقة تهتز سياسياً وأمنياً واقتصادياً، والأرض تنتظر أكثر من زلزال، والساحة تغرق في المزيد من اللغو السياسي الذي لا يحمل أيّ مضمون. والسؤال: إلى أين تأخذون لبنان، وهناك أكثر من هاوية تنتظره، وأكثر من أخطبوط يلف أذرعه عليه، فهل من جواب؟؟

 لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفّلاً
إن هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الحسرة تجلب الندم والألم

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}، ويقول تعالى: {قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}.

في هذه الآيات وغيرها، يحدّثنا الله تعالى عن يوم القيامة أنه يوم الحسرة، والحسرة هي هذا الشعور الذي يستشعره الإنسان عندما يواجه مصيره الأسود أو مصيره المتعب أو المعقَّد أو المهلك، ليتذكّر أن الله تعالى أعطاه الكثير من الفرص التي لو استفاد منها لاستطاع أن يبدّل مصيره بأن يؤمن بالله ولا يكفر به، وأن يطيعه ولا يعصيه، وأن يسير على الخط المستقيم ولا يسير على الخط المنحرف، وأن يكون مع الصادقين لا مع الكاذبين، ومع العادلين لا مع الظالمين، ومع أولياء الله لا مع أعداء الله.

عند ذلك يشعر الإنسان بالحسرة، لأنه كان يملك فرصة الحصول على نتائج طيبة، فاستبدلها بنتائج سلبية، وهذا أمر يعيشه الناس في الدنيا كما يعيشونه في الآخرة، فنحن نعرف أن الكثيرين من الناس الذين يشتغلون بأشغال الدنيا، سواء كانت أشغالاً تتصل بتجاراتهم أو حاجاتهم الخاصة أو العامة، حتى ما يتصل بشهواتهم ولذّاتهم، إن هؤلاء الناس قد تمرّ بهم الفرص فيغفلون عن الاستفادة منها، وعندما تذهب الفرصة تأتي الحسرة: لماذا لم أستفد من الموسم الذي يربح الناس فيه، ولماذا لم أشارك فلاناً، وما إلى ذلك؟ فيعيش الإنسان الحسرة التي تمثل المستوى العالي من الندم والحزن والألم.

ومن الطبيعي أن حسرة الإنسان في الدنيا قد تكون محدودة، لأن حجمها هو ما يعيشه الإنسان في الدنيا، إما في وقت محدد أو في عمره كله، والله يقول: {وما عندكم ينفد}، ولكن {الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}، فالحسرة تشتد عندما يواجه الإنسان المصير المهلك في الآخرة، والذي كان بإمكانه أن يبدّله إلى مصير أفضل.

تدبر عاقبة الأمر

وهذا ما يفرض علينا التفكير أمام أيّ فرصة، والصحة فرصة تستطيع أن تستفيد منها في كل مسؤولياتك التي تحتاج إلى جسد صحيح، والأمن فرصة، والقدرة المالية فرصة، والنفوذ الاجتماعي الذي تستطيع من خلاله أن تخدم وتتقرب إلى الله بالخدمة أكثر فرصة، وهكذا كل القدرات التي يملكها الإنسان هي فرص يستطيع أن يحصل من خلالها على خير الدنيا والآخرة، ولكن الإنسان يعيش الغفلة، لذلك فالآية الكريمة تقول: {وأنذرهم يوم الحسرة ـ ذكّرهم يا محمد بيوم القيامة الذي هو يوم الحسرة الذي تتقطّع فيه الأنفس أمام النتائج السيئة التي تواجه الإنسان في مصيره ـ إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} ـ إن الله يركّز على مسألة الغفلة التي تحدث لدى الإنسان، فلا ينتبه إلى النتائج السلبية من خلال عمله وواقعه، كالكثير من الناس الذين يفكرون باللحظة ولا يفكرون بالنهاية، وقد جاء في الحديث عن النبي (ص): "إن أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته"، وقد ورد: "انتهزوا الفرصة قبل أن تكون غصّة"، ولا سيما إذا كانت المسألة متصلة بالمصير الذي تصير إليه.

والله تعالى يحدّثنا عن بعض الناس يوم القيامة: {أن تقول نفس يا حسرتي ـ عندما يقف الإنسان يوم القيامة ويرى الناس يدخل فريق منهم إلى الجنة وآخر إلى النار، وهو يسير مع فريق أهل النار ـ على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ـ كان يسخر من الناس الذين يقفون عند الحرام فيتركونه، ويقفون عند الواجب فيفعلونه، ويخافون الله، وهناك مثل عربي يقول: "الذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً"، والله تعالى بيّن هذا المعنى، فقال تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفّار يضحكون} ـ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين* أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة ـ لو يعيدني الله إلى الدنيا ـ فأكون من المحسنين* بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين* ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين* وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسّهم السوء ولا هم يحزنون}.

من نماذج الغافلين

والله تعالى يبيّن لنا بعض النماذج ممن يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، هؤلاء الذين يتحوّلون إلى أتباع للمنحرفين والمستكبرين، يقول تعالى: {إذ تبرأ الذين اتُبِعوا ـ الزعماء وأهل السلطة والقوة ـ من الذين أتَبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب ـ كل هذه العلاقات ذهبت، هذا من حزب فلان ومن جماعة فلان ومن رجال فلان إلى آخر القائمة ـ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

وفي آية كريمة ثانية يقول تعالى: {ويوم يعضُّ الظالم على يديه ـ الذي ظلم نفسه بالكفر والضلال ـ يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ـ ليتني سرت على الطريق المستقيم في طاعة الله ورسوله ـ يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً* لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.

وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): "إن أعظم الحسرات يوم القيامة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله ـ تاجر بالحلال والحرام، فجمع المال وخزّنه ـ فورثه رجل فأنفقه في طاعة الله سبحانه فدخل به الجنة ودخل الأول به النار"، وأيّ حسرة أعظم من هذه الحسرة عندما جنيت هذا المال وتحمّلت ما تحملته لتحصل عليه، وإذا بهذا المال يدخلك النار، والذي يرثه يدخل به الجنة، لأنه أنفقه في طاعة الله؟

وعن الإمام عليّ (ع) وقد سئل: من أعظم الناس حسرة؟ قال (ع): "من رأى مالاً في ميزان غيره فأدخله الله به النار وأدخل وارثه به الجنة". ومن أعظم الناس حسرة من يعظ الناس ولا يعمل بما يعظ، لأن الوعظ عنده مهنة، وما أكثر وعّاظ السلاطين عندنا، فعن الإمام الصادق (ع) يقول: "إن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره". وعن رسول الله (ص): "إن أشدّ الناس ندامة يوم القيامة رجل باع آخرته بدنيا غيره". وعن الإمام الصادق (ع): "إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ـ الذي يرى العبرة ولا يعتبر ـ ومن لم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم أنفعٌ له أم ضر".

المؤمن غير مغفّل

من خلال هذا الجو، فإن هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تفرض علينا أن نكون واعين، ولا سيما لقضايا المصير، والله يريد للإنسان أن يكون واعياً لشؤون الدنيا أيضاً، لأن الله تعالى لا يريد للمؤمن أن يكون مغفلاً، وقد قرأت لكم حديثاً عن الإمام الصادق(ع) الذي يحدّثنا فيه عن المؤمن ـ خلافاً لنظرة بعض الناس ـ يقول (ع): "المؤمن حسن المعونة ـ يعين غيره بما يملك من طاقات ـ خفيف المؤونة ـ لا يثقل على من يعيش معه ولا يثقل الآخرين بتكاليفه ـ جيد التدبير لأمر معيشته ـ في الحلال ـ لا يلدغ من جحر مرتين"، فهو ينتفع من تجاربه، والوعي لأمور الآخرة أكثر وأكبر.

السعي لكسب رضا الله

والوعي يقتضي منا أن نفهم أنّا خلقنا للآخرة لا للدنيا، فعلى الإنسان أن يفتح عقله وقلبه وأذنيه، ليدرس الحاضر بقدر ما يتصل بالمستقبل، وقد جاء في النداء القرآني: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}، صحيح أن أهلنا وأصدقاءنا ومريدينا من حولنا في الدنيا، ولكن من يكون معك إذا أطبق عليك القبر؟ ليس معك إلا عملك، فعلينا أن نكون واعين لعملنا، بأن نبتعد عن أي عمل أو قول أو موقف يخسّرنا رضى الله ومحبته، لأن الخسارة هي أن تخسر نفسك يوم القيامة.

فلنعمل على أن يكون يوم القيامة بالنسبة إلينا يوم الربح والكسب والفرح، لا أن يكون يوم الحسرة، فلا بدّ أن نرتب أمورنا وأعمالنا وفكرنا وشغل قلوبنا، فلا نجعلها ساحة للحقد والعداوة والبغضاء، ولا نجعل ألسنتنا ساحة للكذب والخيانة والغيبة والنميمة والفتنة، ولا نجعل أيدينا وأرجلنا وسيلة من وسائل معصية الله، حتى ننطلق بنفس مطمئنة إلى الله تعالى في ذلك اليوم الذي {لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل أموركم، واستعدوا ليوم السفر بالزاد الذي تحتاجونه يوم القيامة، وخير الزاد التقوى، وعلينا أن نستفيد من كل ما لدينا من الفرص في التقرب إلى ربنا ومواجهة كل الذين يريد الله لنا أن نواجههم من الظالمين والكافرين والمستكبرين، حتى نستطيع أن نعذر إلى الله تعالى في تطهير الأرض من كل هؤلاء الذين يبغون في الأرض بغير الحق.. وعلينا أن ننطلق على أساس وحدة الموقف من خلال وحدة العقيدة ووحدة الهدف، لأن الله تعالى يريد أن نكون أمة واحدة، لتكون لنا القوة على كل المستكبرين والمتجبّرين في الأرض.

ونحن منذ مدة لا نزال نواجه الكثير من تحديات المستكبرين وخطوات الظالمين في المنطقة كلها، وفي العالم الإسلامي وعالم المستضعفين كله، وعلينا أن نكتشف ماذا يخطِّطون، لإنقاذ أمتنا من كل هذه الخطط. فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

التطرف مصدره الانحياز المطلق لإسرائيل

من أخبار الإدارة الأمريكية أنها قررت شنّ حملة دبلوماسية ـ إعلامية ـ مالية لتعزيز المفاهيم والممارسات الديمقراطية في العالم العربي وإيران، بهدف إصلاح وتطوير المؤسسات التعليمية والاقتصادية والسياسية، والدفاع عن حقوق الإنسان في دول المنطقة، وتخفيف العداء لأمريكا في العالم العربي والإسلامي، حيث ترى أمريكا أن الأنظمة السلطوية السياسية في دول المنطقة قد خلقت أرضاً خصبة لما تسمّيه التطرّف والإرهاب، على حدّ زعمها..

والسؤال: هل أن الإدارة الأمريكية جادّة في هذا؟ وهل تصدّق نفسها ومستشاريها ومخبريها حول الأساس في نموّ ما تسمّيه الإرهاب؟ إنها تعرف جيداً أن السبب في ذلك كله هو موقفها في التأييد المطلق للعدو الصهيوني، وإعطائه الحرية في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، ومنعه من حق تقرير المصير ومقاومة الاحتلال، وإدخال حركات التحرر الفلسطيني واللبناني في دائرة الإرهاب، ومحاصرة إيران لإخضاعها لنفوذها الاستكباري، وتهديدها لدول المنطقة بتهمة حيازتها لأسلحة الدمار الشامل التي تملك إسرائيل أقوى ترسانة عسكرية منها، بما في ذلك السلاح النووي، ودعمها للأنظمة التي تحاصر شعوبها حماية لمصالح أمريكا..

أمريكا تخطّط لمصالحها

هذا بالإضافة إلى أن أمريكا لا تفكر في مصالح شعوب المنطقة، ومعها العالم الثالث بأسره، بل إنها تخطط لمصالحها أولاً للحفاظ على تدفّق النفط بسعر مناسب، وثانياً لدعم التفوّق الإسرائيلي، وثالثاً لنزع أسلحة الدمار الشامل من الدول التي تسمّيها بـ"المارقة"، وهي الدول غير الخاضعة للسياسة الأمريكية، لتبقى في يد الدول المتحالفة أو المتعاملة معها، من أجل إخضاع شعوبها أو تحويل مواقعها إلى قواعد عسكرية، للحفاظ على الجبروت الاستكباري الأمريكي.

إن أمريكا لا تشجّع الديمقراطية في العالم الثالث، بل إنها تحاول إعطاء ديكور ديمقراطي يخفي وراءه حكماً ديكتاتورياً يتحرك من خلال قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات لحماية المصالح الاستكبارية للإمبراطورية الأمريكية الجديدة في العالم. لذلك، فإن شعوبنا العربية والإسلامية والمستضعفة سوف تبقى في حالة عداءٍ لأمريكا، في إدارتها الضاغطة على مقدّراتها..

لقد قامت أمريكا بمعاقبة مصر لأنها حكمت على مواطن مصري يحمل الجنسية الأمريكية، ولكنها أعطت إسرائيل الحرية والتأييد المطلق لاعتقال الشعب الفلسطيني كله، والحكم عليه بالتدمير والقتل والتجويع والوسائل الإرهابية بشكل مباشر وغير مباشر، كما أنها سكتت عن عشرات الألوف من السجناء في البلاد الخاضعة لنفوذها لأنهم معادون لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، رفضاً للظلم الآتي منها في حياتها العامة..

أمريكا تصنع الأنظمة في المنطقة

وإذا كانت أمريكا تتباكى على شعب العراق وعلى المنطقة من خلال خطورة نظامه، فإننا لا ننسى أن أمريكا هي التي تصنع الأنظمة لمصالحها، ثم تسقطها لنفس المصالح المتطوّرة.. والسؤال: مَن الذي أسقط الانتفاضة الشعبية في العراق بعد حرب الكويت؟ ومَن الذي سكت عن استعمال نظام العراق أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه؟ ومَن الذي أعطاه التأييد المطلق في حربه ضد إيران... إلى آخر القائمة؟!

إن أمريكا لا تسمح بأية ديمقراطية للعراق  يملك فيها الشعب حرياته، ولكنها تحدّق ببترول العراق واستثماراته وأسواقه وموقعه الاستراتيجي في تهديد أكثر من دولة في المنطقة. ولهذا، فإننا لا نثق بأي خطة أمريكية لإنقاذ الشعب العراقي أو المنطقة من النظام الحاكم، بالرغم من أنها وزّعت الكثير من الأحلام في الخلاص، وإن غداً لناظره قريب.

وليس ذلك عقدة ذاتية ضد أمريكا، ولكن مشكلتنا معها أنها دولة ترفع شعار الحرية وحقوق الإنسان، وتصادر كل حرياتنا في حقوقنا الإنسانية وفي تقرير المصير، لتبقى حقوق الإنسان اليهودي فوق حقوق العرب والمسلمين كلهم. والحلّ الوحيد لعودة التوازن في علاقتنا معها، هو أن تحترم مصالحنا وحرياتنا وإنسانيتنا، لنبادلها احتراماً باحترام، ومصالح بمصالح متوازنة.

التخطيط لإيجاد مناخ للفتنة

أما في فلسطين، فالعدوّ الصهيوني يواصل عمليات الاغتيال والحصار والاعتقال وتدمير المنازل وجرف المزارع، وإلهاء "السلطة" بالاتفاقات الأمنية التي هي في مستوى الخديعة الساذجة.. وقد سمعنا "شارون" يحدّث وزراءه عن اتفاق "غزة أولاً" مع "بيت لحم"، بأنه لا يمثّل إلا سحب دبابتين من الشارع، كما سمعنا بعض رجال السلطة الفلسطينية يصرّحون بأن إسرائيل تمارس المماطلة في تنفيذ الاتفاق، وأن وزير حربها يشكك في قدرة السلطة على ضبط الأمن في "غزة" و"بيت لحم".. لأن المطلوب ـ إسرائيلياً وأمريكياً ـ إعطاء العالم فكرة أن إسرائيل تسعى للسلام مع الفلسطينيين، مع التخطيط لإيجاد مناخ للفتنة من أجل إيقاف الانتفاضة وتحويل المسألة إلى صراع فلسطيني ـ فلسطيني، بدلاً من صراع إسرائيلي ـ فلسطيني، وهذا هو الحلّ المميت للقضية الفلسطينية.

لذلك، لا بد للمجاهدين ولكل الشعب الفلسطيني في ساحة الجهاد، من الحذر والوعي للخطة الجديدة القديمة، من خلال الصبر والصمود والعضّ على الجراح، والبقاء في مواقع الانتفاضة، وحماية الوحدة الفلسطينية، فليس لديهم ما يخسرونه إلا قيودهم واحتلال أرضهم.. وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تتحمّل مسؤوليتها الكبرى إزاء الشعب الفلسطيني، لدعمه بكل الوسائل المتاحة، خاصة في هذه الأيام التي تطل منها الانتفاضة على مرحلة جديدة في فلسطين والمنطقة، ليكون ذلك بمثابة الجسر الذي تعبر عليه إلى المرحلة المقبلة.

لبنان: أزمات متلاحقة..

أما في لبنان، فلا يزال الجدل المتحرّك في المتاهات المحلية الطائفية والشخصانية، حول الحوار وشروطه وقاعدته ومواقعه، من دون جدوى، لأن القضية هي فقدان روحية الحوار، باعتبار أن كل فريق يريد أن يجرّ الآخر إليه دون أن يملك الاستعداد للتحرّك خطوة نحوه. ولذلك، فإن الجميع يبقون واقفين في أماكنهم، في مناخ يتوزّعون فيه الاتهامات في تعطيل الحوار. وفي جانب آخر، يتطلّع البعض هنا وهناك إلى القوى الخارجية ليستقوي بها ضد البعض الآخر، وهكذا يتحرك الرهان الذي لن يكون إلا خاسراً..

أما الشعب، فإنه يتلوّى ويتألم ويحترق بنار الأزمة المعيشية، لأن القوانين قد تتمثّل في إلغاء مصدر الرزق لفريق كبير من الناس الذين كانت قد شرّعت لهم الأخذ بهذا المصدر أو ذاك، أو في فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة من أجل دعم الموازنة التي تترنح بين عجز هنا وعجز هناك، من خلال تراكم الديون من جهة، وأوضاع الهدر والفساد والسرقات الكبيرة والصغيرة من جهة ثانية. ويحدّثونك عن التفاؤل الذي تأكله أكثر من مشكلة توحي بالتشاؤم، والمنطقة تهتز سياسياً وأمنياً واقتصادياً، والأرض تنتظر أكثر من زلزال، والساحة تغرق في المزيد من اللغو السياسي الذي لا يحمل أيّ مضمون. والسؤال: إلى أين تأخذون لبنان، وهناك أكثر من هاوية تنتظره، وأكثر من أخطبوط يلف أذرعه عليه، فهل من جواب؟؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية