الزهراء(ع) ليست مجرد دمعة يستهلكها الناس بل هي عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة

الزهراء(ع) ليست مجرد دمعة يستهلكها الناس بل هي عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة

في رحاب الصدّيقة المعصومة.. صلة الوصل بين النبوة والإمامة:
الزهراء(ع) ليست مجرد دمعة يستهلكها الناس بل هي عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت ومن قلبه فاطمة الزهراء (ع)، سيدة نساء العالمين، التي نلتقي بذكرى مولدها في هذه الأيام. هي بضعة رسول الله (ص) وزوجة عليّ (ع) وأم الحسن والحسين (ع)، وبذلك كانت الرابط بين النبوة والإمامة، فهي التي اختزنت في شخصيتها وعلاقتها معنى النبوّة في نسبها، ومعنى الإمامة في زوجيتها وأمومتها.

سرّ فاطمة(ع)

وعندما ندرس شخصية هذه الإنسانة التي طهّرها الله تعالى وأذهب عنها الرجس، وجعلها المثل والنموذج الأعلى للمرأة المسلمة، فإننا نرى أنها المعصومة بنصّ آية التطهير التي تدل على عصمة هؤلاء الخمسة من أهل البيت(ع)، لم يقترب الرجس من قولها ولا من عملها وفكرها، كانت الطهارة كلها والعصمة كلها، وكانت الخير كله، وقد تحدث القرآن عنها في ثلاثة مواضع: في آية التطهير، وفي سورة الإنسان عندما تحدث الله تعالى عن روحية العطاء التي عاشتها مع زوجها وإمامها الإمام عليّ (ع) عندما كانا صائمين عن نذر نذراه في شفاء الحسنين (ع)، وجاءهما مسكين ويتيم وأسير متتابعين، وأعطياهم فطورهما وبقيا في حالة صيام، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.

وقد أكدت هاتان الآيتان معنى كبيراً عميقاً في سرّ علي وفاطمة(ع) لجهة أنهما يعيشان العطاء من أجل الله، لا من أجل أيّ شيء مما يقدّمه الناس للمعطي {إنما نطعمكم لوجه الله}، فهم لا ينتظرون ممن يعطونه أيّ جزاء أو شكر أو مدح، لأنهم يفعلون ما يفعلونه قربة إلى الله، وذلك هو سرّ عليّ وفاطمة (ع) وسرّ أبنائهما؛ هو سرّ رسول الله (ص)، أنهم عاشوا لله وعملوا لله وماتوا في سبيل الله، فكانت حياتهم كلها لله تعالى، وهذه هي حركة القدوة في أهل البيت (ع).

وهذا هو ما نتمثّله في معنى الموالاة لأهل البيت(ع)، فالموالاة لهم ليست مجرد نبضة قلب وخفقة شعور، بل الموالاة لهم هي السير على نهجهم والتحرك في خطهم، كما قال عليّ (ع) وهو يخاطب أصحابه ونحن من أصحابه: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ـ بأن تلبسوا ما ألبس من خشن الثياب، وتأكلوا ما آكل من جشوبة الطعام. فماذا تريد منا يا أمير المؤمنين وأنت قدوتنا وإمامنا؟ ـ ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفّة ـ عن كل ما يغضب الله ـ وسداد"، أن يكون لكم العقل المفتوح العميق الذي إذا فكّر كان سديداً في فكره. هذه هي مسألتهم معنا.

وفي الآية الثالثة عندما جاء نصارى نجران يحاجُّون النبي(ص) في عيسى(ع)، وكانوا يدّعون له الألوهية وأن الله تجسّد فيه، فدعاهم النبي (ص) بعد أن استنفد حجته التي يردُّ بها على مقولتهم، فدعاهم إلى المباهلة، ويُقال إن المباهلة إذا كانت بشروطها فإن العذاب ينزل على الكاذب، قال تعالى: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك به من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. فالنبي(ص) دعاهم إلى المباهلة، ولكن رئيس الوفد أمر أصحابه أنه إذا جاء النبي (ص) بأشخاص عاديين من أصحابه فباهلوه، ولكن إذا جاء بأهل بيته فلا تباهلوه، لأنه إذا كان ـ والعياذ بالله ـ كاذباً في دعواه، فإن العذاب سوف ينزل على أهل بيته، فلا يمكن أن يضحّي بهم، وإذا جاء بأهل بيته فمعنى ذلك أنه صادق في دعواه، وعندما جاء النبي (ص) ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، امتنع نصارى نجران عن المباهلة، وعقدوا مع النبي(ص) معاهدة، ولذلك كانت آية المباهلة دليلاً على أن هؤلاء الأربعة أحبّ الناس إلى رسول الله وأقربهم إليه.

استحقاقها(ع) للوسام النبوي

وعندما نأتي إلى أحاديث النبي (ص) عن السيدة الزهراء (ع)، فإننا نجد الكثير من الروايات التي لا يرويها المسلمون الشيعة فحسب، بل روايات إخواننا من أهل السنّة، فقد ورد في صحيح البخاري عن رسول الله(ص) أنها "سيدة نساء أهل الجنة"، وفي رواية أخرى: "إنها سيدة نساء هذه الأمة"، وفي صحيح مسلم أنها "سيدة نساء المؤمنين"، وفي مسند أبي داود أنها "سيدة نساء العالمين".

ونحن نعرف قيمة هذا الوسام النبوي، وهو الذي {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}. وهذه الأحاديث الشريفة تختصر لنا سموّ الزهراء (ع) ورفعة قدرها عند الله تعالى، فنحن نعرف أن الجنة تشمل نساءً في الدرجة العليا، منهم مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكثير من المؤمنات، فعندما تكون الزهراء (ع) سيدة نساء أهل الجنة، فأي مرتبة عالية هي مرتبتها في الجنة، كذلك "سيدة نساء هذه الأمة"، و"سيدة نساء العالمين". والنبي(ص) لا يتكلم كلاماً عاطفياً، بل يتكلم من خلال ما ألهمه الله من الحقائق، سواء كان ذلك في التشريع أو في المفاهيم العامة أو في تقويم الأشخاص، ولذلك نحن نعتبر أن النبي(ص) عندما تحدث عن عليّ(ع) قائلاً: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، كان يتكلم عن الله في ذلك، ولذلك قال له الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}، لأن النبي لا يتكلم بما يتكلم به في الجوانب الرسالية بصفته الشخصية، بل بصفته الرسالية.

وفي الحديث أيضاً عن رسول الله (ص): "ابنتي فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني"، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها "، "إنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها"، هذه الأحاديث هي أحاديث النبي (ص) عنها، وهو يتكلم من قلب الحقيقة.

وفي الروايات عن بعض النساء المعاصرين لها، عن عائشة تقول: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلته وأجلسته في مجلسها". وفي كتاب الاستيعاب وردت هذه الرواية: سألت عائشة أم المؤمنين: أيّ النساء كان أحبّ إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة، قلت: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمته صوّاماً قوّاماً"، وتقول عائشة: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المجال.

وعن الإمام الكاظم (ع): "إن فاطمة كانت صدّيقة شهيدة"، وبعض الناس يحملون كلمة الشهيدة على الشهادة وهي القتل، لكن الظاهر أن المقصود بها أنها تشهد على الناس، والله تعالى تحدث في القرآن الكريم عن الصدّيقين والشهداء، والله تعالى جعل النبي (ص) شهيداً على الناس، فكما أن الأنبياء هم شهداء على الناس، بحيث يقدّمون شهادتهم لله على الأمة التي عاشوا معها في إيجابياتها وسلبياتها، فالزهراء (ع) هي شهيدة بهذا المعنى، وهي الصدّيقة كما كان الأنبياء من الصدّيقين.

أما طفولتها فكانت طفولة مثقلة بالآلام، لأنها فقدت أمها في بداية حياتها، ولأنها عاشت آلام رسول الله (ص) عندما كانت ترى إيذاء المشركين له. وينقل لنا التاريخ كيف كانت السيدة الزهراء (ع) ترعى رسول الله حتى وهي طفلة، فقد ورد في صحيحي مسلم وبخاري هذه الرواية: "بينا رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نُحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلل جزور بني فلان ـ أمعاء وأوساخ الذبيحة ـ فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كان لي منعة، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية ـ طفلة ـ فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم"، وهذه الرواية تدل على أن الزهراء(ع) كانت وهي في طفولتها الأولى تتحمّل مسؤولية رعاية أبيها، بحيث إن الناس إذا أصيب النبي بشيء من هذا القبيل يذهبون إلى فاطمة ـ وهي طفلة ـ حتى تأتي وتدافع عنه، ولم تكتفِ أنها رفعت الأوساخ عن ظهره، بل وقفت أمام كبار قريش وأخذت تشتمهم، فكم هو وعي الزهراء في ذلك الوقت.

وكانت الزهراء (ع) الراعية لرسول الله (ص) في بيته، فأعطته من حنانها وعاطفتها ما عوّضه ما خسره من حنان أمه وعاطفتها، فقال عن تلك العظيمة: "إنها أمّ أبيها". وكأنه (ص) أراد أن يقول: إن الزهراء أعطتني في أمومتها الروحية ما فقدته من أمومة والدتي عندما فقدتها في بداية حياتي.

لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ

وعندما تزوّجت علياً(ع) ـ وكانت قد خُطبت من عظماء المسلمين كان جواب الرسول(ص): "إني أنتظر أمر ربي" ـ وعندما جاءه عليّ (ع) وكان من أفقر الناس مادياً، إذ لم يكن يملك إلا الدرع والسيف، ابتسم النبي (ص) في وجهه، وقال الكلمة المعروفة: "لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ"، ونحن نقول: لو كانت الكفاءة من خلال النسب فما أكثر أبناء عم النبي، فالكفاءة هي بالوعي والعلم والتقوى وقوة الشخصية، لأن علياً وفاطمة تعلما معاً في بيت رسول الله (ص)، لذلك كانت شخصية الزهراء (ع) تمثّل شخصية عليّ، وكانا يمثلان معاً شخصية رسول الله (ص)، فكان عقلهما من عقله، وروحاهما من روحه، وكانت سيرتهما تبعاً لسيرته.

هنا في هذه الصورة نرى كيف كان التعامل بين الإمام عليّ (ع) والزهراء(ع)، حتى يتعلّم النساء والرجال كيف تكون الحياة الزوجية. ففي آخر حياتها أوصت الإمام بعدة وصايا، وقالت له: "ما عهدتني كاذبة لا خائنة وما خالفتك مذ عرفتك"، فقال لها الإمام (ع): "أنت أبرّ بالله وأعلم وأتقى من أن أوبخك بمخالفة". وقال عليّ (ع): "ما أغضبتها مدة حياتي معها، ولم تغضبني ولم تعصِ أمري مدة حياتها معي"، ولذلك كان هذا النوع من الانسجام الروحي والتكامل الأخلاقي والسلوك الإنساني، ومن مراعاة كل منهما مشاعر الآخر. في هذا الجو تربى الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، فعندما يكون الأبوان صالحين متفاهمين منسجمين، لا يسيء أحدهما إلى الآخر، فمن الطبيعي أن ينشأ الأولاد نشأة طبيعية صالحة.

ولعل أكثر العقد النفسية التي تصيب الأولاد ـ وهذا أمر يؤكده علماء الاجتماع ـ إنما هي نتيجة الخلافات الزوجية، لأن هذه الخلافات تترك تأثيرات سلبية عميقة على نفسية الأولاد في المستقبل. ولذلك، نحن مسؤولون عن نفسية أولادنا بقدر ما نحن مسؤولون عن مستقبلهم المادي، فلا تجعلوا أولادكم معقّدين نتيجة الخلافات داخل البيت، وهذا ما ينبغي لنا أن نفهمه.

ثم كيف كان التعاون بين الزهراء(ع) وعليّ(ع)؟ تقول الرواية إنهما تقاضيا عند رسول الله ـ تقاضي محبة وليس خلافاً ـ فقسّم الجهد بينهما، فكانت الزهراء(ع) "تطحن وتعجن وتخبز، وكان عليّ يستقي ويحتطب ويكنس البيت"، وهذا عليّ (ع) وليس أنا وأنت، ومع ذلك فإنه لا يرى شغل البيت عاراً، فعمل الرجل ليس عيباً.. وكان للزهراء(ع) دور في تعليم المجتمع، فكانت (ع) تجمع نساء المهاجرين والأنصار لتلقي عليهم الدروس على الرغم من أتعابها البيتية ورعايتها لرسول الله وعليّ وأولادها، فمن بين تلك الروايات التي روتها عن رسول الله: "ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه ـ الإنسان الذي يعيش مع جيرانه وهم لا يأمنون أذاه فليس مؤمناً ـ ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت. إن الله تعالى خير ويحب الخيّر الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش البذاء، السئّال الملحف، إن الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء والبذاء في النار".

وكانت الزهراء(ع) العابدة التي يحدّث عنها ابنها الإمام الحسن (ع) أنها كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها في ليلة جمعة، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقال لها ولدها: "لما لا تدعين لنفسك"؟ قالت: "يا بني الجار ثم الدار". كانت الصادقة، العابدة، العالمة، الزاهدة، والمجاهدة التي جاهدت بالكلمة ودافعت عن عليّ(ع)، لا بصفته ابن عمها، ولكن بصفته إمامها وخليفة رسول الله بالحق. دافعت عنه في خطبتها في المسجد وفي حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ورجالهم، وكانت تتحرك مع المسلمين لتحدثهم عن عليّ(ع)، وقد جاء في بعض كلماتها: "وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه سيفه وقلة مبالاته بحتفه"، نقموا منه هذا الجهاد والتضحية في سبيل الله.

وهكذا تكون الزهراء (ع) القدوة التي يقتدي بها الرجال والنساء، فلا تستغرقوا في الزهراء لتكون مجرد دمعة يستهلكها الناس، ولكن الزهراء عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة، ومشكلتنا أننا أدمنا الشخصية البكائية حتى أصبحنا نتنازع في أسباب البكاء، ولم ندمن الشخصية القيادية التي تريد للمرأة والرجل أن يكونا مشروع قيادة، وهذا ما نقرأه: "وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك". مشكلتنا أننا لا نزال نتخبط في وحول التخلّف، ورسول الله (ص) وعليّ (ع) والزهراء (ع) والأئمة من أهل البيت (ع) يريدون لنا أن نكون الواعين الذين ننفتح على الفضاء بكل سعته، من أجل عقل يفكر، ووعي ينفتح، وحركة تخطط.

سلام الله على الزهراء(ع) يوم ولدت، ويوم توفيت، ويوم تبعث عند الله حيّة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وسيروا في خط أهل البيت (ع) الذين جاهدوا فى الله حق جهاده، وواجهوا الكفر كله والشرك كله والاستكبار كله. كونوا في خطهم لأنهم يريدون لنا أن نكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، لأن الله يريدنا أن ننصر المظلومين على الظالمين، وقد كانت مأساة أهل البيت (ع) أنهم وقفوا في الموقف الصلب ضد الذين أرادوا أن يتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولاً، ولذلك كانوا المظلومين الذين وقف الظالمون والمستكبرون ليمنعوهم من إكمال الرسالة، وعلينا أن نقف ضد الظالمين والمستكبرين على أيّ مستوى، لا سيما وأننا نواجه ظلماً واستكباراً على مستوى العالم والدول الكبرى، وأصبحت الأرض تهتز من تحت أقدامنا من خلال ما يخطط له المستكبرون من السيطرة علينا، فتعالوا لنرى ماذا هناك، ليكون لنا الوعي السياسي الذي يعرّفنا كيف نقف وكيف نتحرك، وكيف نجد السبيل إلى وحدتنا بعد أن وقف المستكبرون في وحدتهم ضد المستضعفين:

المنطق الخاطىء إزاء واشنطن

لا تزال أمريكا ترشّ القلق في المنطقة، بالدقّ على طبول الحرب تارة، وباللعب على الألفاظ الضبابية التي تولّد الغموض في الخطة الأمريكية للحرب تارة أخرى.. وهي في مجال آخر تحاول تخدير بعض الزعماء العرب بالكلمات المعسولة التي تتحدث عن "الصداقة الأبدية"، و"الثقة المتبادلة"، بالرغم من اختلاف الرأي في بعض المواقف، في الوقت الذي تمنح فيه إسرائيل التأييد المطلق في نطاق التحالف الاستراتيجي بينهما في شؤون المنطقة، لا سيما أن السياسة الأمريكية في العلاقات العربية والإسلامية خاضعة للمدرسة الصهيونية التي يتوزّع فيها الأدوار الأشخاص المؤيدون لإسرائيل بأكثر من التأييد لأمريكا، في داخل الإدارة وخارجها..

وتلك هي المسيرة الأمريكية لأية إدارة حكومية في إعطاء العرب الكلمات ومنح إسرائيل المواقف، من خلال أن السياسة الصهيونية تتعامل معها بمنطق القوة، بينما السياسة العربية تتعامل معها بمنطق الضعف والعجز والفشل. هذا، مع ملاحظة مهمة، وهي أن السياسة الإسرائيلية تضغط على الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأمريكية من خلال أصوات اليهود، بينما لا يملك العرب والمسلمون المتواجدون في أمريكا أية خطة للضغط على هذا الجانب من الواقع الانتخابي الأمريكي، حتى أن الرئيس "بوش" نجح بالأصوات العربية والإسلامية، ولكنه لم يقدّم لهم أيّ شيء، بل إنه ازداد دعماً لإسرائيل وضغطاً على العرب والمسلمين في أمريكا، وعلى قضاياهم في المنطقة.

لذلك، لا بدّ لنا من تغيير الذهنية في التعامل السياسي والاقتصادي والأمني مع أمريكا، ولا سيما من خلال سحب الأرصدة العربية والإسلامية من الاستثمارات الأمريكية، لأن القوانين الجديدة هناك بدأت تمثّل موقع الخطورة لأكثر من حالة تجميد للأرصدة أو مصادرتها أو غير ذلك، تحت قرارات مفاعيل الحادي عشر من أيلول.

البقاء في ساحة التحدي

أما في فلسطين، فإن الغطاء الأمريكي للاجتياح الإسرائيلي لأراضيها ومدنها وقراها لا يزال واسعاً قوياً، وكذا الدعم المالي لعملياتها العسكرية ضد الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للقتل اليومي المنظَّم، بما في ذلك قتل الأطفال، والذي تسارع إسرائيل إلى الحديث عن أنه خطأ تأسف له، والاعتقال العشوائي بما في ذلك اعتقال المدنيين الذين لا علاقة لهم بأيّ عمل عسكري، والعقاب الجماعي المتمثّل في تهديم الدور وجرف المزارع، والحصار التجويعي الشامل للمواطنين... ولا صوت يرتفع من أمريكا ولا من أوروبا ولا من الأمم المتحدة، حتى أن الأصوات العربية والإسلامية أصبحت خافتة حييّة خجولة بشكل مهين..

إننا نتابع ضربات المجاهدين في الانتفاضة بالرغم من الصعوبات الهائلة التي تواجههم، بفعل وحشية الاحتلال وألاعيبه الأمنية والسياسية، وخديعة المبعوث الأمريكي الذي جاء ليبيع العرب والفلسطينيين كلاماً، وليقوم بالتنسيق مع الصهاينة لتشديد الضغط على الانتفاضة، ولتشتيت قوى السلطة..

لقد بقي للشعب الفلسطيني هذا الصمود الرائع القوي، وهذه الإرادة المتحدّية، وهذه الوحدة الشعبية التي تمثّل حدثاً سياسياً جهادياً في التجربة الحرّة لمواجهة الاحتلال، حيث تلتقي كل فصائل هذا الشعب في حركة التحدي وفي فاعلية الإرادة.. وعلى الأمة أن تقف معه تأكيداً لوحدتها في جميع الساحات، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

لا حدود للسيطرة الأمريكية

أما المسألة العراقية، فإنها لا تزال في دائرة التجاذب الدولي، والاهتزاز الإقليمي، والدوّامة السياسية في ساحة المعارضة، وضبابية القرار، والخطة الأمريكية في الحصول على شرعية دولية وعربية وشعبية عراقية علمانية وإسلامية، من أجل استكمال عناصرها الأمنية والسياسية والاقتصادية في السيطرة على العراق بكل مقدّراته..

ويبقى للشعوب العربية والإسلامية أن تدرس الخلفيات الكامنة وراء التحرك الأمريكي الذي لن يقف عند الأرض العراقية، بل سوف يمتد لتطويق ما يمكن تطويقه، ولاحتواء من يُراد احتواؤه، وللسيطرة على مواقع القوة واستكمال القواعد العسكرية، من أجل التأكيد على الزعامة الأمريكية لمنابع النفط في المنطقة، امتداداً إلى المنابع الأخرى في العالم، ولإسقاط كل مواقع القوة في العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، تحت تأثير التحالف الاستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي.. والسؤال: هل يبقى هذا البيت من الشعر يصيح في الوادي من دون جواب:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادي

لا ثقة بالواقع الرسمي اللبناني

أما في لبنان، فلا يزال التخبط السياسي والاقتصادي يحكم مسيرة الدولة في اجتماعاتها ولقاءاتها، على مستوى تقرير الموازنة التي ربما تختزن في داخلها أكثر من ثغرة تتصل بالخدمات والضرورات الحيوية للشعب اللبناني، ثم على مستوى البحث في لقاءات وحوارات ومشاورات تتحرك من خلال ذهنية ردود الفعل، بعيداً عن العمق في دراسة المشكلة، أو من خلال الخوف من وضع اليد على الجرح أو كشف المستور عن جذور الواقع السيىء..

وتبقى الأسئلة التي ينتظر الشعب أجوبتها في كل عهد وفي كل مرحلة: لماذا هذا الفشل المتواصل لمشاريع الإصلاح الإداري في الدولة؟ ومن هو الذي يضع العصي في دواليب المحاسبة عن الثراء غر المشروع، وعن الهدر في الإنفاق، وعن الفساد في مفاصل الواقع الإداري؟ ولماذا يفقد الشعب ثقته بالأسماء الكبيرة التي تضخّمت ثرواتها وانتفخت مواقعها؟ وكيف نفسّر الحديث الهامس بين الناس والذي يشير إلى كثير من الصفقات القانونية في ترتيب وضع لشركة هنا أو هناك، أو في إصدار قرار لمصلحة هذا أو ذاك، لتتحرك بالحسابات المالية في هذا الموقع أو ذاك؟ وهل يسمع المعنيون ذلك الهمس الشعبي، وكيف يواجهونه، وبم يجيبون عنه؟؟

إننا نحب التفاؤل ونكره التشاؤم، ولكن ما هي العناصر الواقعية لصنع الحالة المفتوحة التي يشرق فيها النور من قلب الظلام؟ إن الشعب يعيش مأساة الحاضر، وحيرة المستقبل، ويردد قول الشاعر عن الماضي:

رُبَّ يوم بكيت منه فلما          صرت في غيره بكيت عليه

في رحاب الصدّيقة المعصومة.. صلة الوصل بين النبوة والإمامة:
الزهراء(ع) ليست مجرد دمعة يستهلكها الناس بل هي عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت ومن قلبه فاطمة الزهراء (ع)، سيدة نساء العالمين، التي نلتقي بذكرى مولدها في هذه الأيام. هي بضعة رسول الله (ص) وزوجة عليّ (ع) وأم الحسن والحسين (ع)، وبذلك كانت الرابط بين النبوة والإمامة، فهي التي اختزنت في شخصيتها وعلاقتها معنى النبوّة في نسبها، ومعنى الإمامة في زوجيتها وأمومتها.

سرّ فاطمة(ع)

وعندما ندرس شخصية هذه الإنسانة التي طهّرها الله تعالى وأذهب عنها الرجس، وجعلها المثل والنموذج الأعلى للمرأة المسلمة، فإننا نرى أنها المعصومة بنصّ آية التطهير التي تدل على عصمة هؤلاء الخمسة من أهل البيت(ع)، لم يقترب الرجس من قولها ولا من عملها وفكرها، كانت الطهارة كلها والعصمة كلها، وكانت الخير كله، وقد تحدث القرآن عنها في ثلاثة مواضع: في آية التطهير، وفي سورة الإنسان عندما تحدث الله تعالى عن روحية العطاء التي عاشتها مع زوجها وإمامها الإمام عليّ (ع) عندما كانا صائمين عن نذر نذراه في شفاء الحسنين (ع)، وجاءهما مسكين ويتيم وأسير متتابعين، وأعطياهم فطورهما وبقيا في حالة صيام، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.

وقد أكدت هاتان الآيتان معنى كبيراً عميقاً في سرّ علي وفاطمة(ع) لجهة أنهما يعيشان العطاء من أجل الله، لا من أجل أيّ شيء مما يقدّمه الناس للمعطي {إنما نطعمكم لوجه الله}، فهم لا ينتظرون ممن يعطونه أيّ جزاء أو شكر أو مدح، لأنهم يفعلون ما يفعلونه قربة إلى الله، وذلك هو سرّ عليّ وفاطمة (ع) وسرّ أبنائهما؛ هو سرّ رسول الله (ص)، أنهم عاشوا لله وعملوا لله وماتوا في سبيل الله، فكانت حياتهم كلها لله تعالى، وهذه هي حركة القدوة في أهل البيت (ع).

وهذا هو ما نتمثّله في معنى الموالاة لأهل البيت(ع)، فالموالاة لهم ليست مجرد نبضة قلب وخفقة شعور، بل الموالاة لهم هي السير على نهجهم والتحرك في خطهم، كما قال عليّ (ع) وهو يخاطب أصحابه ونحن من أصحابه: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ـ بأن تلبسوا ما ألبس من خشن الثياب، وتأكلوا ما آكل من جشوبة الطعام. فماذا تريد منا يا أمير المؤمنين وأنت قدوتنا وإمامنا؟ ـ ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفّة ـ عن كل ما يغضب الله ـ وسداد"، أن يكون لكم العقل المفتوح العميق الذي إذا فكّر كان سديداً في فكره. هذه هي مسألتهم معنا.

وفي الآية الثالثة عندما جاء نصارى نجران يحاجُّون النبي(ص) في عيسى(ع)، وكانوا يدّعون له الألوهية وأن الله تجسّد فيه، فدعاهم النبي (ص) بعد أن استنفد حجته التي يردُّ بها على مقولتهم، فدعاهم إلى المباهلة، ويُقال إن المباهلة إذا كانت بشروطها فإن العذاب ينزل على الكاذب، قال تعالى: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك به من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. فالنبي(ص) دعاهم إلى المباهلة، ولكن رئيس الوفد أمر أصحابه أنه إذا جاء النبي (ص) بأشخاص عاديين من أصحابه فباهلوه، ولكن إذا جاء بأهل بيته فلا تباهلوه، لأنه إذا كان ـ والعياذ بالله ـ كاذباً في دعواه، فإن العذاب سوف ينزل على أهل بيته، فلا يمكن أن يضحّي بهم، وإذا جاء بأهل بيته فمعنى ذلك أنه صادق في دعواه، وعندما جاء النبي (ص) ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، امتنع نصارى نجران عن المباهلة، وعقدوا مع النبي(ص) معاهدة، ولذلك كانت آية المباهلة دليلاً على أن هؤلاء الأربعة أحبّ الناس إلى رسول الله وأقربهم إليه.

استحقاقها(ع) للوسام النبوي

وعندما نأتي إلى أحاديث النبي (ص) عن السيدة الزهراء (ع)، فإننا نجد الكثير من الروايات التي لا يرويها المسلمون الشيعة فحسب، بل روايات إخواننا من أهل السنّة، فقد ورد في صحيح البخاري عن رسول الله(ص) أنها "سيدة نساء أهل الجنة"، وفي رواية أخرى: "إنها سيدة نساء هذه الأمة"، وفي صحيح مسلم أنها "سيدة نساء المؤمنين"، وفي مسند أبي داود أنها "سيدة نساء العالمين".

ونحن نعرف قيمة هذا الوسام النبوي، وهو الذي {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}. وهذه الأحاديث الشريفة تختصر لنا سموّ الزهراء (ع) ورفعة قدرها عند الله تعالى، فنحن نعرف أن الجنة تشمل نساءً في الدرجة العليا، منهم مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكثير من المؤمنات، فعندما تكون الزهراء (ع) سيدة نساء أهل الجنة، فأي مرتبة عالية هي مرتبتها في الجنة، كذلك "سيدة نساء هذه الأمة"، و"سيدة نساء العالمين". والنبي(ص) لا يتكلم كلاماً عاطفياً، بل يتكلم من خلال ما ألهمه الله من الحقائق، سواء كان ذلك في التشريع أو في المفاهيم العامة أو في تقويم الأشخاص، ولذلك نحن نعتبر أن النبي(ص) عندما تحدث عن عليّ(ع) قائلاً: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، كان يتكلم عن الله في ذلك، ولذلك قال له الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}، لأن النبي لا يتكلم بما يتكلم به في الجوانب الرسالية بصفته الشخصية، بل بصفته الرسالية.

وفي الحديث أيضاً عن رسول الله (ص): "ابنتي فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني"، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها "، "إنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها"، هذه الأحاديث هي أحاديث النبي (ص) عنها، وهو يتكلم من قلب الحقيقة.

وفي الروايات عن بعض النساء المعاصرين لها، عن عائشة تقول: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلته وأجلسته في مجلسها". وفي كتاب الاستيعاب وردت هذه الرواية: سألت عائشة أم المؤمنين: أيّ النساء كان أحبّ إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة، قلت: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمته صوّاماً قوّاماً"، وتقول عائشة: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المجال.

وعن الإمام الكاظم (ع): "إن فاطمة كانت صدّيقة شهيدة"، وبعض الناس يحملون كلمة الشهيدة على الشهادة وهي القتل، لكن الظاهر أن المقصود بها أنها تشهد على الناس، والله تعالى تحدث في القرآن الكريم عن الصدّيقين والشهداء، والله تعالى جعل النبي (ص) شهيداً على الناس، فكما أن الأنبياء هم شهداء على الناس، بحيث يقدّمون شهادتهم لله على الأمة التي عاشوا معها في إيجابياتها وسلبياتها، فالزهراء (ع) هي شهيدة بهذا المعنى، وهي الصدّيقة كما كان الأنبياء من الصدّيقين.

أما طفولتها فكانت طفولة مثقلة بالآلام، لأنها فقدت أمها في بداية حياتها، ولأنها عاشت آلام رسول الله (ص) عندما كانت ترى إيذاء المشركين له. وينقل لنا التاريخ كيف كانت السيدة الزهراء (ع) ترعى رسول الله حتى وهي طفلة، فقد ورد في صحيحي مسلم وبخاري هذه الرواية: "بينا رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نُحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلل جزور بني فلان ـ أمعاء وأوساخ الذبيحة ـ فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كان لي منعة، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية ـ طفلة ـ فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم"، وهذه الرواية تدل على أن الزهراء(ع) كانت وهي في طفولتها الأولى تتحمّل مسؤولية رعاية أبيها، بحيث إن الناس إذا أصيب النبي بشيء من هذا القبيل يذهبون إلى فاطمة ـ وهي طفلة ـ حتى تأتي وتدافع عنه، ولم تكتفِ أنها رفعت الأوساخ عن ظهره، بل وقفت أمام كبار قريش وأخذت تشتمهم، فكم هو وعي الزهراء في ذلك الوقت.

وكانت الزهراء (ع) الراعية لرسول الله (ص) في بيته، فأعطته من حنانها وعاطفتها ما عوّضه ما خسره من حنان أمه وعاطفتها، فقال عن تلك العظيمة: "إنها أمّ أبيها". وكأنه (ص) أراد أن يقول: إن الزهراء أعطتني في أمومتها الروحية ما فقدته من أمومة والدتي عندما فقدتها في بداية حياتي.

لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ

وعندما تزوّجت علياً(ع) ـ وكانت قد خُطبت من عظماء المسلمين كان جواب الرسول(ص): "إني أنتظر أمر ربي" ـ وعندما جاءه عليّ (ع) وكان من أفقر الناس مادياً، إذ لم يكن يملك إلا الدرع والسيف، ابتسم النبي (ص) في وجهه، وقال الكلمة المعروفة: "لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ"، ونحن نقول: لو كانت الكفاءة من خلال النسب فما أكثر أبناء عم النبي، فالكفاءة هي بالوعي والعلم والتقوى وقوة الشخصية، لأن علياً وفاطمة تعلما معاً في بيت رسول الله (ص)، لذلك كانت شخصية الزهراء (ع) تمثّل شخصية عليّ، وكانا يمثلان معاً شخصية رسول الله (ص)، فكان عقلهما من عقله، وروحاهما من روحه، وكانت سيرتهما تبعاً لسيرته.

هنا في هذه الصورة نرى كيف كان التعامل بين الإمام عليّ (ع) والزهراء(ع)، حتى يتعلّم النساء والرجال كيف تكون الحياة الزوجية. ففي آخر حياتها أوصت الإمام بعدة وصايا، وقالت له: "ما عهدتني كاذبة لا خائنة وما خالفتك مذ عرفتك"، فقال لها الإمام (ع): "أنت أبرّ بالله وأعلم وأتقى من أن أوبخك بمخالفة". وقال عليّ (ع): "ما أغضبتها مدة حياتي معها، ولم تغضبني ولم تعصِ أمري مدة حياتها معي"، ولذلك كان هذا النوع من الانسجام الروحي والتكامل الأخلاقي والسلوك الإنساني، ومن مراعاة كل منهما مشاعر الآخر. في هذا الجو تربى الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، فعندما يكون الأبوان صالحين متفاهمين منسجمين، لا يسيء أحدهما إلى الآخر، فمن الطبيعي أن ينشأ الأولاد نشأة طبيعية صالحة.

ولعل أكثر العقد النفسية التي تصيب الأولاد ـ وهذا أمر يؤكده علماء الاجتماع ـ إنما هي نتيجة الخلافات الزوجية، لأن هذه الخلافات تترك تأثيرات سلبية عميقة على نفسية الأولاد في المستقبل. ولذلك، نحن مسؤولون عن نفسية أولادنا بقدر ما نحن مسؤولون عن مستقبلهم المادي، فلا تجعلوا أولادكم معقّدين نتيجة الخلافات داخل البيت، وهذا ما ينبغي لنا أن نفهمه.

ثم كيف كان التعاون بين الزهراء(ع) وعليّ(ع)؟ تقول الرواية إنهما تقاضيا عند رسول الله ـ تقاضي محبة وليس خلافاً ـ فقسّم الجهد بينهما، فكانت الزهراء(ع) "تطحن وتعجن وتخبز، وكان عليّ يستقي ويحتطب ويكنس البيت"، وهذا عليّ (ع) وليس أنا وأنت، ومع ذلك فإنه لا يرى شغل البيت عاراً، فعمل الرجل ليس عيباً.. وكان للزهراء(ع) دور في تعليم المجتمع، فكانت (ع) تجمع نساء المهاجرين والأنصار لتلقي عليهم الدروس على الرغم من أتعابها البيتية ورعايتها لرسول الله وعليّ وأولادها، فمن بين تلك الروايات التي روتها عن رسول الله: "ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه ـ الإنسان الذي يعيش مع جيرانه وهم لا يأمنون أذاه فليس مؤمناً ـ ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت. إن الله تعالى خير ويحب الخيّر الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش البذاء، السئّال الملحف، إن الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء والبذاء في النار".

وكانت الزهراء(ع) العابدة التي يحدّث عنها ابنها الإمام الحسن (ع) أنها كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها في ليلة جمعة، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقال لها ولدها: "لما لا تدعين لنفسك"؟ قالت: "يا بني الجار ثم الدار". كانت الصادقة، العابدة، العالمة، الزاهدة، والمجاهدة التي جاهدت بالكلمة ودافعت عن عليّ(ع)، لا بصفته ابن عمها، ولكن بصفته إمامها وخليفة رسول الله بالحق. دافعت عنه في خطبتها في المسجد وفي حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ورجالهم، وكانت تتحرك مع المسلمين لتحدثهم عن عليّ(ع)، وقد جاء في بعض كلماتها: "وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه سيفه وقلة مبالاته بحتفه"، نقموا منه هذا الجهاد والتضحية في سبيل الله.

وهكذا تكون الزهراء (ع) القدوة التي يقتدي بها الرجال والنساء، فلا تستغرقوا في الزهراء لتكون مجرد دمعة يستهلكها الناس، ولكن الزهراء عقل ووعي وجهاد وإرادة وقوة، ومشكلتنا أننا أدمنا الشخصية البكائية حتى أصبحنا نتنازع في أسباب البكاء، ولم ندمن الشخصية القيادية التي تريد للمرأة والرجل أن يكونا مشروع قيادة، وهذا ما نقرأه: "وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك". مشكلتنا أننا لا نزال نتخبط في وحول التخلّف، ورسول الله (ص) وعليّ (ع) والزهراء (ع) والأئمة من أهل البيت (ع) يريدون لنا أن نكون الواعين الذين ننفتح على الفضاء بكل سعته، من أجل عقل يفكر، ووعي ينفتح، وحركة تخطط.

سلام الله على الزهراء(ع) يوم ولدت، ويوم توفيت، ويوم تبعث عند الله حيّة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وسيروا في خط أهل البيت (ع) الذين جاهدوا فى الله حق جهاده، وواجهوا الكفر كله والشرك كله والاستكبار كله. كونوا في خطهم لأنهم يريدون لنا أن نكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، لأن الله يريدنا أن ننصر المظلومين على الظالمين، وقد كانت مأساة أهل البيت (ع) أنهم وقفوا في الموقف الصلب ضد الذين أرادوا أن يتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولاً، ولذلك كانوا المظلومين الذين وقف الظالمون والمستكبرون ليمنعوهم من إكمال الرسالة، وعلينا أن نقف ضد الظالمين والمستكبرين على أيّ مستوى، لا سيما وأننا نواجه ظلماً واستكباراً على مستوى العالم والدول الكبرى، وأصبحت الأرض تهتز من تحت أقدامنا من خلال ما يخطط له المستكبرون من السيطرة علينا، فتعالوا لنرى ماذا هناك، ليكون لنا الوعي السياسي الذي يعرّفنا كيف نقف وكيف نتحرك، وكيف نجد السبيل إلى وحدتنا بعد أن وقف المستكبرون في وحدتهم ضد المستضعفين:

المنطق الخاطىء إزاء واشنطن

لا تزال أمريكا ترشّ القلق في المنطقة، بالدقّ على طبول الحرب تارة، وباللعب على الألفاظ الضبابية التي تولّد الغموض في الخطة الأمريكية للحرب تارة أخرى.. وهي في مجال آخر تحاول تخدير بعض الزعماء العرب بالكلمات المعسولة التي تتحدث عن "الصداقة الأبدية"، و"الثقة المتبادلة"، بالرغم من اختلاف الرأي في بعض المواقف، في الوقت الذي تمنح فيه إسرائيل التأييد المطلق في نطاق التحالف الاستراتيجي بينهما في شؤون المنطقة، لا سيما أن السياسة الأمريكية في العلاقات العربية والإسلامية خاضعة للمدرسة الصهيونية التي يتوزّع فيها الأدوار الأشخاص المؤيدون لإسرائيل بأكثر من التأييد لأمريكا، في داخل الإدارة وخارجها..

وتلك هي المسيرة الأمريكية لأية إدارة حكومية في إعطاء العرب الكلمات ومنح إسرائيل المواقف، من خلال أن السياسة الصهيونية تتعامل معها بمنطق القوة، بينما السياسة العربية تتعامل معها بمنطق الضعف والعجز والفشل. هذا، مع ملاحظة مهمة، وهي أن السياسة الإسرائيلية تضغط على الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأمريكية من خلال أصوات اليهود، بينما لا يملك العرب والمسلمون المتواجدون في أمريكا أية خطة للضغط على هذا الجانب من الواقع الانتخابي الأمريكي، حتى أن الرئيس "بوش" نجح بالأصوات العربية والإسلامية، ولكنه لم يقدّم لهم أيّ شيء، بل إنه ازداد دعماً لإسرائيل وضغطاً على العرب والمسلمين في أمريكا، وعلى قضاياهم في المنطقة.

لذلك، لا بدّ لنا من تغيير الذهنية في التعامل السياسي والاقتصادي والأمني مع أمريكا، ولا سيما من خلال سحب الأرصدة العربية والإسلامية من الاستثمارات الأمريكية، لأن القوانين الجديدة هناك بدأت تمثّل موقع الخطورة لأكثر من حالة تجميد للأرصدة أو مصادرتها أو غير ذلك، تحت قرارات مفاعيل الحادي عشر من أيلول.

البقاء في ساحة التحدي

أما في فلسطين، فإن الغطاء الأمريكي للاجتياح الإسرائيلي لأراضيها ومدنها وقراها لا يزال واسعاً قوياً، وكذا الدعم المالي لعملياتها العسكرية ضد الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للقتل اليومي المنظَّم، بما في ذلك قتل الأطفال، والذي تسارع إسرائيل إلى الحديث عن أنه خطأ تأسف له، والاعتقال العشوائي بما في ذلك اعتقال المدنيين الذين لا علاقة لهم بأيّ عمل عسكري، والعقاب الجماعي المتمثّل في تهديم الدور وجرف المزارع، والحصار التجويعي الشامل للمواطنين... ولا صوت يرتفع من أمريكا ولا من أوروبا ولا من الأمم المتحدة، حتى أن الأصوات العربية والإسلامية أصبحت خافتة حييّة خجولة بشكل مهين..

إننا نتابع ضربات المجاهدين في الانتفاضة بالرغم من الصعوبات الهائلة التي تواجههم، بفعل وحشية الاحتلال وألاعيبه الأمنية والسياسية، وخديعة المبعوث الأمريكي الذي جاء ليبيع العرب والفلسطينيين كلاماً، وليقوم بالتنسيق مع الصهاينة لتشديد الضغط على الانتفاضة، ولتشتيت قوى السلطة..

لقد بقي للشعب الفلسطيني هذا الصمود الرائع القوي، وهذه الإرادة المتحدّية، وهذه الوحدة الشعبية التي تمثّل حدثاً سياسياً جهادياً في التجربة الحرّة لمواجهة الاحتلال، حيث تلتقي كل فصائل هذا الشعب في حركة التحدي وفي فاعلية الإرادة.. وعلى الأمة أن تقف معه تأكيداً لوحدتها في جميع الساحات، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

لا حدود للسيطرة الأمريكية

أما المسألة العراقية، فإنها لا تزال في دائرة التجاذب الدولي، والاهتزاز الإقليمي، والدوّامة السياسية في ساحة المعارضة، وضبابية القرار، والخطة الأمريكية في الحصول على شرعية دولية وعربية وشعبية عراقية علمانية وإسلامية، من أجل استكمال عناصرها الأمنية والسياسية والاقتصادية في السيطرة على العراق بكل مقدّراته..

ويبقى للشعوب العربية والإسلامية أن تدرس الخلفيات الكامنة وراء التحرك الأمريكي الذي لن يقف عند الأرض العراقية، بل سوف يمتد لتطويق ما يمكن تطويقه، ولاحتواء من يُراد احتواؤه، وللسيطرة على مواقع القوة واستكمال القواعد العسكرية، من أجل التأكيد على الزعامة الأمريكية لمنابع النفط في المنطقة، امتداداً إلى المنابع الأخرى في العالم، ولإسقاط كل مواقع القوة في العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، تحت تأثير التحالف الاستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي.. والسؤال: هل يبقى هذا البيت من الشعر يصيح في الوادي من دون جواب:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادي

لا ثقة بالواقع الرسمي اللبناني

أما في لبنان، فلا يزال التخبط السياسي والاقتصادي يحكم مسيرة الدولة في اجتماعاتها ولقاءاتها، على مستوى تقرير الموازنة التي ربما تختزن في داخلها أكثر من ثغرة تتصل بالخدمات والضرورات الحيوية للشعب اللبناني، ثم على مستوى البحث في لقاءات وحوارات ومشاورات تتحرك من خلال ذهنية ردود الفعل، بعيداً عن العمق في دراسة المشكلة، أو من خلال الخوف من وضع اليد على الجرح أو كشف المستور عن جذور الواقع السيىء..

وتبقى الأسئلة التي ينتظر الشعب أجوبتها في كل عهد وفي كل مرحلة: لماذا هذا الفشل المتواصل لمشاريع الإصلاح الإداري في الدولة؟ ومن هو الذي يضع العصي في دواليب المحاسبة عن الثراء غر المشروع، وعن الهدر في الإنفاق، وعن الفساد في مفاصل الواقع الإداري؟ ولماذا يفقد الشعب ثقته بالأسماء الكبيرة التي تضخّمت ثرواتها وانتفخت مواقعها؟ وكيف نفسّر الحديث الهامس بين الناس والذي يشير إلى كثير من الصفقات القانونية في ترتيب وضع لشركة هنا أو هناك، أو في إصدار قرار لمصلحة هذا أو ذاك، لتتحرك بالحسابات المالية في هذا الموقع أو ذاك؟ وهل يسمع المعنيون ذلك الهمس الشعبي، وكيف يواجهونه، وبم يجيبون عنه؟؟

إننا نحب التفاؤل ونكره التشاؤم، ولكن ما هي العناصر الواقعية لصنع الحالة المفتوحة التي يشرق فيها النور من قلب الظلام؟ إن الشعب يعيش مأساة الحاضر، وحيرة المستقبل، ويردد قول الشاعر عن الماضي:

رُبَّ يوم بكيت منه فلما          صرت في غيره بكيت عليه

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية