لبناء شخصية إسلامية متوازنة

لبناء شخصية إسلامية متوازنة

 لبناء شخصية إسلامية متوازنة
الالتزام بطاعة الله وطاعة الرسول(ص)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

 الإسلام أطروحة شاملة

كيف يكون الإنسان مسلماً كما يريد الله تعالى، وكيف يكون المجتمع مجتمعاً مسلماً؟ إن الله تعالى أكد الإسلام من خلال الأصول العقيدية التي بها يدخل الإنسان الإسلام، وبإنكار بعضها يخرج منه، وهي الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر وما يتبعه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، {لا نفرّق بين أحد من رسله}، وأكد في خط الالتزام الإسلامي للمسلم الالتزام بالشريعة: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}.

وفي هذا الإطار، في إطار العقيدة والشريعة، وضع الله تعالى عدة خطوط عامة تتصل بالمناهج الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، للإنسان الفرد والمجتمع. فالإسلام هو كل لا يتجزأ، والله يريد منا أن نؤمن بالإسلام كله وأن نلتزم به كله، حتى يتحوّل الإنسان إلى مسلم يطبق الإسلام على حياته الخاصة فيما يأكل ويشرب ويتحدث ويسكن ويشتهي ويتلذذ، وفي بيته مع عائلته، سواء مع أولاده وزوجته، أو الزوجة مع زوجها وأولادها، والأخوة مع أخوتهم، ثم تمتد المسألة إلى كل دوائر المجتمع الصغيرة والكبيرة، ليتعامل الناس مع بعضهم البعض على أساس الإسلام، من خلال مراقبة رضى الله في كل أفعالهم وأقوالهم.

وعلى ضوء هذا، فإن علينا أن نراقب أنفسنا من خلال ذلك، لأننا في كثير من الحالات، قد نفكر بأن الذي يجعل الإنسان مؤمناً، هو الالتزام بالعبادات من الصلاة والصيام والحج وما إلى ذلك، أما علاقته مع عياله فإن أشقى الناس به عياله، وعلاقته مع الناس سيئة جداً، وتجارته يغش فيها ويخون ويأكل أموال الناس بالباطل، ومع ذلك فإنه يصلي ويصوم ويحج. بعض الناس قد يتصوّر الإيمان على هذه الصورة، وبعض الناس لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولكنه لا يتكلم إلا الصدق ولا يخون، ويعتبره الناس طيباً. الله تعالى يقول: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، الله تعالى أرسل الكتاب كله وأرسل الرسول ليُطاع بإذن الله، ولذلك على الإنسان أن يظل في عملية مراقبة لنفسه وبيته ومحل عمله ولعلاقاته المجتمعية، حتى نحقق لنفسنا الشخصية الإسلامية التي سوف نقف غداً من خلالها بين يدي الله تعالى، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}. أن نعيش هذا الجو كما ورد في بعض الأحاديث: "ثلاث يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"، من بين هؤلاء "شخص لا يقدّم رِجْلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى"، المهم أن يرضى الله لا أن يرضى الناس، لأنه عندما تعمر بيننا وبين الله فلا مشكلة بعد ذلك، لأن المصير في النهاية إليه سبحانه، أما الناس فإنهم سيموتون كما سنموت، فإذا غضبوا علينا أو رضوا فإن ذلك لا يؤثر في مصيرنا، وهدانا في ذلك هو رسول الله(ص) عندما رجمه أهل الطائف بالحجارة وطردوه، استند إلى شجرة وكان من بين كلماته: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي"، لأن غضب الله لا يُحتمل، وهو ـ كما يقول أمير المؤمنين (ع) ـ ما "لا تقوم له السموات والأرض"..

لله القوة جميعاً

ومشكلتنا عندما ننحرف عن طريق الله، أننا نخضع للأجواء الاجتماعية التي تضغط على تفكيرنا وسلوكنا، لأننا نتصوّر أن مواقع القوة الموجودة في المجتمع هي التي تقرر مصيرنا، والله تعالى يقول: {أن القوة لله جميعاً}، فالإنسان مهما بلغت قوته فإن القوة والعزة لله جميعاً. لذلك، لا بد أن يفكر الإنسان بالله قبل أن يفكر بالناس، ويفكر بالآخرة قبل أن يفكر بالدنيا، ومن يفكر بالآخرة فإن الله سيعطيه الدنيا. وهذا هو الخط المتوازن الذي بيّنه الله تعالى للإنسان المؤمن: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ـ من نصيب ـ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، بأن ينظر إلى الدنيا بعين وللآخرة بعين، عندما ننظر هذه النظرة فإن عملنا يتوازن، لأننا سوف نحسب حساب الدنيا من خلال طاعة الله، كما نحسب حساب الآخرة.

هذا البرنامج يساعدنا لكي نحوّل شخصيتنا وبيوتنا إلى شخصيات وبيوت إسلامية، لكي نصل إلى الأمة الإسلامية التي تقف أمام العالم فيرى صورة الإسلام متجسّدة فيها، ولا يقول كما قال ذاك المستشرق الألماني الذي درس الإسلام ونظر إلى المسلمين، فقال: الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر. لذلك، لا بد لنا إذا كنا مخلصين لانتمائنا الإسلامي، ومخلصين لمسؤوليتنا عن الإسلام أن يتجسّد في الواقع، هو أن نعمل على الالتزام بالإسلام كله، وقد عالج الله تعالى هذه المسألة في عدة نصوص من القرآن الكريم، يقول تعالى:

الالتزام بالله وبرسوله

{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، عندما تلتزم بالإيمان، فإن هذا الإيمان يقيّدك من خلال عقيدتك، وإلا لماذا نحن مثلاً نلزم أنفسنا ببعض الأشياء في تجارتنا وعلاقاتنا؟ والجواب: لأننا مقتنعين بها، فعندما يلتزم الإنسان بأي التزام يتعلق بفكره وعمله فإنه يفقد حريته، حتى الزواج فإنه يقيّد المرأة والرجل في زوجيتهما لبعضهما البعض، فالإنسان يفقد حريته من خلال التزاماته التي لها شروط معينة في الحياة. من هنا، فإنك عندما تلتزم بطاعة الله وطاعة رسوله، فإنه لا يحق لك أن تعترض ولا تلتزم، لأنك فقدت حريتك عندما التزمت بما يفرضه عليك هذا العمل أو ذاك.

ويقول تعالى: {فلا وربك ـ وهذه من النقاط المهمة التي يقسم الله فيها بنفسه ـ لا يؤمنون ـ لا يصدق عليهم اسم الإيمان ـ حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ـ عندما يتنازعون في أي شيء من أمورهم العامة أو الخاصة ـ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.

وفي مجتمعاتنا، نلاحظ أن هناك الكثير من التعقيدات والمشاكل والنزاعات التي يدعو فيها طرف الطرف الآخر للتحاكم عند الشرع، عند من يملك الأهلية والخبرة والعدالة، فإنه يسأل إن كان الشرع معه فإنه يبادر إليه، أما إذا عرف أن الشرع ليس معه فإنه يحتكم إلى القانون الوضعي وما إلى ذلك. وقد عالج الله تعالى هذه المسألة، فقال عزّ وجلّ: {ويقولون آمنا بالله ورسوله وأطعنا ـ يعلنون إيمانهم والتزامهم بالطاعة ـ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ـ يعرضون ويتركون الإيمان والطاعة وراء ظهورهم ـ وما أولئك بالمؤمنين ـ لأن الإيمان عقيدة واعتراف وعمل ـ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ـ من خلال الشرع ـ إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق ـ عرفوا أن الشرع سوف يحكم لهم ـ يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض ـ المرض الروحي والعقيدي ـ أم ارتابوا ـ صار عندهم شك ـ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ـ وحاشا لله ورسوله أن يظلما الناس ـ بل أولئك هم الظالمون ـ ثم يبيّن الله شعار المؤمن ـ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ـ ثم يبين الله تعالى الخط العام الذي يؤدي إلى سلامة المصير ـ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.

هذه هي الخطوط الإسلامية العامة لكل مؤمن ومؤمنة إذا كان يلتزم بالله ورسوله، وينطلق من عمق إيمانه، وذلك هو الذي يؤدي بالإنسان إلى رضوان الله ونعيمه في جنته، فعلينا أن نكون الواعين لذلك قبل أن يأتي يوم الحساب، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط الإسلام الأصيل، من أجل أن لا يجدكم الله حيث نهاكم ولا يفقدكم حيث أمركم، كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، واجهوا مسؤولياتكم في الحياة أمام من يتحدى الإسلام والمسلمين من أجل إسقاط قوتهم وإثارة الفتن في داخلهم، ومصادرة ثرواتهم وإرباك إنتاجهم وأسواقهم، لأن على المسلمين أن يعيشوا أمام الأمم الأخرى كأمة تشعر بوجودها في العالم، وبرسالتها في مواجهة كل الكفر والاستكبار في العالم، لأن الله تعالى أراد للمسلمين من خلال رسوله(ص) الذي أرسله رحمة للعالمين، أن يعملوا على أسلمة العالم ليتسلموا ـ ولو في المستقبل البعيد ـ قيادة العالم.

وهذا ما أرادنا الإسلام أن ننفتح عليه، وهو الانفتاح على المستقبل من خلال ما وعدنا الله تعالى به: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}، لكي يأتي في نهاية المطاف من يملأ العالم قسطاً وعدلاً بالإسلام، كما ملئت ظلماً وجوراً بالكفر والانحراف والضلال، وعلينا عندما ننتظر الإمام المهدي(عج)، أن لا نجلس في حالة استرخاء، بل أن نعد له الأرض التي يتوحّد فيها المسلمون، والتي يعملون فيها على صنع القوة وتحريك الإسلام في الواقع كله، لأن مسؤوليتنا هي أن نكون جمهوره وجنوده وجيشه، وأن نكون الأمة التي ينهض بها ليركز قواعد العدل في العالم كله ضد الظلم في العالم كله. وعلينا أن ندرس في كل مرحلة من مراحل حياتنا كل قضايا الإسلام والمسلمين، وأن نعيش همّ ذلك، مسؤوليتنا هي مسؤولية رسول الله(ص) والذين أخلصوا له، ومسؤولية أهل البيت(ع)، كلٌ بحسب إمكاناته وطاقته، لأن المسلم لا يمكن أن يعيش الحياد بين الظلم والعدل، وبين الاستضعاف والاستكبار. فتعالوا لنواجه قضايا مرحلتنا حتى نحدد الموقف، فماذا هناك:

اللعب بالقضية الفلسطينية

لا تزال أمريكا تلعب بالعالم العربي والإسلامي من خلال اللعب بالقضية الفلسطينية، ومطالبته بدفع تهمة الإرهاب عن شعوبه، وذلك بالقضاء على الانتفاضة، فلا يبقى هناك للمقاومة روح في فلسطين، لحماية المحتل الإسرائيلي في أمنه، ولمساعدته على الاستمرار في احتلاله، فيبقى الفلسطينيون تحت رحمة الاحتلال، ويحصل العرب على الاعتراف الصهيوني بهم، وهو ما يسعون إليه لاعتقادهم بأنهم بحاجة إلى هذا الاعتراف، في الوقت الذي صرّح فيه "شارون" في أمريكا بأن إسرائيل "ليست بحاجة إلى اعتراف العرب بها لأنها الأقوى"..

ثم تبادر أمريكا في مقترحاتها من خلال مدير مخابراتها المركزية إلى إنشاء هيئة رعاية أو وصاية عربية، تشارك فيها مصر والسعودية والأردن، تحت الإشراف الأمريكي المباشر، لتوجيه عمل أمن السلطة في فلسطين ومتابعة حُسْن أدائها لمهمتها بتدمير روح المقاومة من صدور الناس، و"تدجينهم" إلى المستوى الذي يبعث على الاطمئنان بانطفاء روح الانتفاضة إلى الأبد.. لتبدأ المفاوضات بعد تحقيق الشعار "الشاروني" في حكومته، وهو "الأمن المطلق لإسرائيل"، وحصول السلطة الفلسطينية على شهادة حسن السلوك في امتحان الإصلاح والديمقراطية ونزاهة القضاء وسلامة برامج التعليم من أيّ ثقافة إرهابية دينية أو سياسية، كل ذلك على الشروط الأمريكية ـ الإسرائيلية التي تريد إسقاط كل قوة الشعب الفلسطيني في تطلعاته التحررية للاستقلال ولتقرير المصير..

إن ما تخطط له أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ هو نقل المسؤولية من الجانب الفلسطيني إلى الجانب العربي في حماية الأمن الإسرائيلي، تحت الرقابة الأمريكية ـ الإسرائيلية، من أجل درء التهمة عن العرب بأنهم إرهابيون.. وتبقى مسألة زوال الاحتلال ومسألة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية وحلم اللاجئين بالعودة مسألة خاضعة للتطورات السياسية، ابتداءً من اللجنة الرباعية التي تعمل على إضاعة الوقت، وعلى إخماد كل صوت للاحتجاج على الوحشية الصهيونية، مروراً بالمؤتمر الدولي الذي لا يملك أية ملامح واضحة في ضبابيته السياسية بين الصفة الدولية والإقليمية، وفي علاقة سوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية..

الاستعداد لحربٍ استراتيجية

أما الزيارات العربية لأمريكا، والمبادرات السياسية التنازلية السلمية الاستسلامية التي لم توافق عليها إسرائيل وأمريكا، فإنها تتساقط أمام زيارة "شارون" الذي حصل من الرئيس الأمريكي على كل ما يريد، في رفض المطالب العربية في جدولة الحل السياسي، وفي إعلان الدولة الفلسطينية، وفي إقرار المفاوضات السياسية للحل النهائي، وفي اعتبار "شارون" رجل سلام، وفي تقدير اجتياحه للمدن والمخيمات الفلسطينية باعتباره دفاعاً عن النفس ضد "القتلة الإرهابيين الفلسطينيين" ـ على حدّ تعبيره ـ وفي خيبة الأمل في السلطة الفلسطينية ورئيسها وحكومته..

إن هذه المواقف الأمريكية التي حصل عليها "شارون" في زيارته إلى أمريكا، هي تحقير لكل مسؤول عربي، وإسقاط لكل أحاديثهم مع الرئيس الأمريكي الذي يحاول وزير خارجيته تلميع صورة تصريحاته بكلام مبهم يترك لبعض المسؤولين العرب تفسيره بما يحفظ لهم ماء الوجه الذي بقي بدون ماء.. وهكذا، حصل "شارون" في زيارته لأمريكا على التأييد المطلق من قِبَل مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيَين، ما يوحي بأن أمريكا السياسية هي مع إسرائيل بدون قيد أو شرط، وأنها ضد تطلعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، ولا سيما بما يتصل بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، التي بدأ "شارون" يتحدث عن رفضها بالمطلق لأنها تمثل الخطر الأكبر على كيانه الصهيوني، وبدأت أمريكا تتحدث عن دولة مؤقتة كمقدمة للدولة الدائمة التي تدخل في متاهات الزمن الضائع من دون حدود.

إن على العرب والمسلمين ـ والشعب الفلسطيني ـ أن يبتعدوا عن كل الأحلام الخيالية في اللهاث وراء أمريكا للحل العادل، لأن الحل الأمريكي لفلسطين لن يكون إلا على قياس إسرائيل "الشارونية" التي لن تمنحهم أيّ شيء للتحرير الذي يملكون به أمرهم، ويقررون به مصيرهم بشكل مستقل..

وإن علينا أن نستعدّ لحرب طويلة على مستوى الأجيال، لأن الصهاينة قد قرروا الاستعداد لذلك على أساس الاستراتيجية الواسعة في الاستيلاء على فلسطين كلها جغرافياً، وعلى المنطقة كلها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في استغلال لكل عناصر العجز العربي، بالتنسيق مع أمريكا التي صادرت أكثر الأنظمة العربية ووضعتها في قفص الاتهام بالإرهاب، لتبقى في عملية تنازل لتبرئة نفسها من ذلك.. إننا لسنا دعاة حرب، ولكننا دعاة تحرر واستقلال وحماية لأمن الشعوب العربية والإسلامية من كل تهديد عدواني أمريكي وإسرائيلي.

وإننا في الوقت نفسه، نحيّي بكل تقدير واحترام وإكبار الانتفاضة الفلسطينية المجاهدة الصامدة، بالرغم من كل أوضاع الاجتياح والاغتيال والاعتقال التي لن تحقق أيّ نجاح، لأنهم لا يستطيعون اعتقال الشعب الفلسطيني كله الذي يعيش روح المقاومة والتحدي الجهادي، والهجوم الاستشهادي الذي يشب فيه الصغير ويشيب فيه الكبير، وتنطلق فيه الأمهات ليلدن في كل يوم مجاهداً صامداً واستشهادياً متحدياً، في عملية انفتاحٍ على المستقبل الذي سوف يأتي بالنصر بإذن الله.

إزالة التلوّث السياسي

أما في لبنان، فبعد حصول توافقٍ بين المسؤولين على وقف السيارات العاملة على المازوت، بقي للناس أن تسأل عن التوافق السياسي الذي لا بد أن تعقبه خطة اقتصادية لمعالجة المشاكل الكثيرة، فلا يكفي أن يقال للناس بأن عليهم أن لا يسمموا الهواء في لبنان ـ وفوق العاصمة بالتحديد ـ لأن الطامة الكبرى تكمن في المناخ السياسي المسموم الذي طاول كل شيء، وبات يهدد مصير البلد.

إننا نقول للمسؤولين: أعيدوا للناس حقوقهم التي منحتموهم إياها من قبل ثم عملتم على سلبها من خلال قوانين جديدة، ولا يكون ذلك إلا من خلال تأمين البدائل الطبيعية لهم التي تجعلهم يستطيعون الاستمرار.. إعملوا للتوافق على كل ما يخدم مصلحة البلد، لا أن يكون التوافق وقفاً على الضرائب وكل ما يطال الطبقات الفقيرة والمحرومة، ولا يصل إلى القضايا الكبرى التي تتحدد من خلالها مصلحة البلاد في مواجهة الأخطار السياسية والاقتصادية المحدقة بها.. إننا مع إزالة التلوّث في الهواء والتلوّث السياسي والاقتصادي في آن.

 لبناء شخصية إسلامية متوازنة
الالتزام بطاعة الله وطاعة الرسول(ص)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

 الإسلام أطروحة شاملة

كيف يكون الإنسان مسلماً كما يريد الله تعالى، وكيف يكون المجتمع مجتمعاً مسلماً؟ إن الله تعالى أكد الإسلام من خلال الأصول العقيدية التي بها يدخل الإنسان الإسلام، وبإنكار بعضها يخرج منه، وهي الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر وما يتبعه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، {لا نفرّق بين أحد من رسله}، وأكد في خط الالتزام الإسلامي للمسلم الالتزام بالشريعة: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}.

وفي هذا الإطار، في إطار العقيدة والشريعة، وضع الله تعالى عدة خطوط عامة تتصل بالمناهج الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، للإنسان الفرد والمجتمع. فالإسلام هو كل لا يتجزأ، والله يريد منا أن نؤمن بالإسلام كله وأن نلتزم به كله، حتى يتحوّل الإنسان إلى مسلم يطبق الإسلام على حياته الخاصة فيما يأكل ويشرب ويتحدث ويسكن ويشتهي ويتلذذ، وفي بيته مع عائلته، سواء مع أولاده وزوجته، أو الزوجة مع زوجها وأولادها، والأخوة مع أخوتهم، ثم تمتد المسألة إلى كل دوائر المجتمع الصغيرة والكبيرة، ليتعامل الناس مع بعضهم البعض على أساس الإسلام، من خلال مراقبة رضى الله في كل أفعالهم وأقوالهم.

وعلى ضوء هذا، فإن علينا أن نراقب أنفسنا من خلال ذلك، لأننا في كثير من الحالات، قد نفكر بأن الذي يجعل الإنسان مؤمناً، هو الالتزام بالعبادات من الصلاة والصيام والحج وما إلى ذلك، أما علاقته مع عياله فإن أشقى الناس به عياله، وعلاقته مع الناس سيئة جداً، وتجارته يغش فيها ويخون ويأكل أموال الناس بالباطل، ومع ذلك فإنه يصلي ويصوم ويحج. بعض الناس قد يتصوّر الإيمان على هذه الصورة، وبعض الناس لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولكنه لا يتكلم إلا الصدق ولا يخون، ويعتبره الناس طيباً. الله تعالى يقول: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، الله تعالى أرسل الكتاب كله وأرسل الرسول ليُطاع بإذن الله، ولذلك على الإنسان أن يظل في عملية مراقبة لنفسه وبيته ومحل عمله ولعلاقاته المجتمعية، حتى نحقق لنفسنا الشخصية الإسلامية التي سوف نقف غداً من خلالها بين يدي الله تعالى، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}. أن نعيش هذا الجو كما ورد في بعض الأحاديث: "ثلاث يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"، من بين هؤلاء "شخص لا يقدّم رِجْلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى"، المهم أن يرضى الله لا أن يرضى الناس، لأنه عندما تعمر بيننا وبين الله فلا مشكلة بعد ذلك، لأن المصير في النهاية إليه سبحانه، أما الناس فإنهم سيموتون كما سنموت، فإذا غضبوا علينا أو رضوا فإن ذلك لا يؤثر في مصيرنا، وهدانا في ذلك هو رسول الله(ص) عندما رجمه أهل الطائف بالحجارة وطردوه، استند إلى شجرة وكان من بين كلماته: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي"، لأن غضب الله لا يُحتمل، وهو ـ كما يقول أمير المؤمنين (ع) ـ ما "لا تقوم له السموات والأرض"..

لله القوة جميعاً

ومشكلتنا عندما ننحرف عن طريق الله، أننا نخضع للأجواء الاجتماعية التي تضغط على تفكيرنا وسلوكنا، لأننا نتصوّر أن مواقع القوة الموجودة في المجتمع هي التي تقرر مصيرنا، والله تعالى يقول: {أن القوة لله جميعاً}، فالإنسان مهما بلغت قوته فإن القوة والعزة لله جميعاً. لذلك، لا بد أن يفكر الإنسان بالله قبل أن يفكر بالناس، ويفكر بالآخرة قبل أن يفكر بالدنيا، ومن يفكر بالآخرة فإن الله سيعطيه الدنيا. وهذا هو الخط المتوازن الذي بيّنه الله تعالى للإنسان المؤمن: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ـ من نصيب ـ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، بأن ينظر إلى الدنيا بعين وللآخرة بعين، عندما ننظر هذه النظرة فإن عملنا يتوازن، لأننا سوف نحسب حساب الدنيا من خلال طاعة الله، كما نحسب حساب الآخرة.

هذا البرنامج يساعدنا لكي نحوّل شخصيتنا وبيوتنا إلى شخصيات وبيوت إسلامية، لكي نصل إلى الأمة الإسلامية التي تقف أمام العالم فيرى صورة الإسلام متجسّدة فيها، ولا يقول كما قال ذاك المستشرق الألماني الذي درس الإسلام ونظر إلى المسلمين، فقال: الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر. لذلك، لا بد لنا إذا كنا مخلصين لانتمائنا الإسلامي، ومخلصين لمسؤوليتنا عن الإسلام أن يتجسّد في الواقع، هو أن نعمل على الالتزام بالإسلام كله، وقد عالج الله تعالى هذه المسألة في عدة نصوص من القرآن الكريم، يقول تعالى:

الالتزام بالله وبرسوله

{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، عندما تلتزم بالإيمان، فإن هذا الإيمان يقيّدك من خلال عقيدتك، وإلا لماذا نحن مثلاً نلزم أنفسنا ببعض الأشياء في تجارتنا وعلاقاتنا؟ والجواب: لأننا مقتنعين بها، فعندما يلتزم الإنسان بأي التزام يتعلق بفكره وعمله فإنه يفقد حريته، حتى الزواج فإنه يقيّد المرأة والرجل في زوجيتهما لبعضهما البعض، فالإنسان يفقد حريته من خلال التزاماته التي لها شروط معينة في الحياة. من هنا، فإنك عندما تلتزم بطاعة الله وطاعة رسوله، فإنه لا يحق لك أن تعترض ولا تلتزم، لأنك فقدت حريتك عندما التزمت بما يفرضه عليك هذا العمل أو ذاك.

ويقول تعالى: {فلا وربك ـ وهذه من النقاط المهمة التي يقسم الله فيها بنفسه ـ لا يؤمنون ـ لا يصدق عليهم اسم الإيمان ـ حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ـ عندما يتنازعون في أي شيء من أمورهم العامة أو الخاصة ـ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.

وفي مجتمعاتنا، نلاحظ أن هناك الكثير من التعقيدات والمشاكل والنزاعات التي يدعو فيها طرف الطرف الآخر للتحاكم عند الشرع، عند من يملك الأهلية والخبرة والعدالة، فإنه يسأل إن كان الشرع معه فإنه يبادر إليه، أما إذا عرف أن الشرع ليس معه فإنه يحتكم إلى القانون الوضعي وما إلى ذلك. وقد عالج الله تعالى هذه المسألة، فقال عزّ وجلّ: {ويقولون آمنا بالله ورسوله وأطعنا ـ يعلنون إيمانهم والتزامهم بالطاعة ـ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ـ يعرضون ويتركون الإيمان والطاعة وراء ظهورهم ـ وما أولئك بالمؤمنين ـ لأن الإيمان عقيدة واعتراف وعمل ـ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ـ من خلال الشرع ـ إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق ـ عرفوا أن الشرع سوف يحكم لهم ـ يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض ـ المرض الروحي والعقيدي ـ أم ارتابوا ـ صار عندهم شك ـ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ـ وحاشا لله ورسوله أن يظلما الناس ـ بل أولئك هم الظالمون ـ ثم يبيّن الله شعار المؤمن ـ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ـ ثم يبين الله تعالى الخط العام الذي يؤدي إلى سلامة المصير ـ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.

هذه هي الخطوط الإسلامية العامة لكل مؤمن ومؤمنة إذا كان يلتزم بالله ورسوله، وينطلق من عمق إيمانه، وذلك هو الذي يؤدي بالإنسان إلى رضوان الله ونعيمه في جنته، فعلينا أن نكون الواعين لذلك قبل أن يأتي يوم الحساب، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط الإسلام الأصيل، من أجل أن لا يجدكم الله حيث نهاكم ولا يفقدكم حيث أمركم، كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، واجهوا مسؤولياتكم في الحياة أمام من يتحدى الإسلام والمسلمين من أجل إسقاط قوتهم وإثارة الفتن في داخلهم، ومصادرة ثرواتهم وإرباك إنتاجهم وأسواقهم، لأن على المسلمين أن يعيشوا أمام الأمم الأخرى كأمة تشعر بوجودها في العالم، وبرسالتها في مواجهة كل الكفر والاستكبار في العالم، لأن الله تعالى أراد للمسلمين من خلال رسوله(ص) الذي أرسله رحمة للعالمين، أن يعملوا على أسلمة العالم ليتسلموا ـ ولو في المستقبل البعيد ـ قيادة العالم.

وهذا ما أرادنا الإسلام أن ننفتح عليه، وهو الانفتاح على المستقبل من خلال ما وعدنا الله تعالى به: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}، لكي يأتي في نهاية المطاف من يملأ العالم قسطاً وعدلاً بالإسلام، كما ملئت ظلماً وجوراً بالكفر والانحراف والضلال، وعلينا عندما ننتظر الإمام المهدي(عج)، أن لا نجلس في حالة استرخاء، بل أن نعد له الأرض التي يتوحّد فيها المسلمون، والتي يعملون فيها على صنع القوة وتحريك الإسلام في الواقع كله، لأن مسؤوليتنا هي أن نكون جمهوره وجنوده وجيشه، وأن نكون الأمة التي ينهض بها ليركز قواعد العدل في العالم كله ضد الظلم في العالم كله. وعلينا أن ندرس في كل مرحلة من مراحل حياتنا كل قضايا الإسلام والمسلمين، وأن نعيش همّ ذلك، مسؤوليتنا هي مسؤولية رسول الله(ص) والذين أخلصوا له، ومسؤولية أهل البيت(ع)، كلٌ بحسب إمكاناته وطاقته، لأن المسلم لا يمكن أن يعيش الحياد بين الظلم والعدل، وبين الاستضعاف والاستكبار. فتعالوا لنواجه قضايا مرحلتنا حتى نحدد الموقف، فماذا هناك:

اللعب بالقضية الفلسطينية

لا تزال أمريكا تلعب بالعالم العربي والإسلامي من خلال اللعب بالقضية الفلسطينية، ومطالبته بدفع تهمة الإرهاب عن شعوبه، وذلك بالقضاء على الانتفاضة، فلا يبقى هناك للمقاومة روح في فلسطين، لحماية المحتل الإسرائيلي في أمنه، ولمساعدته على الاستمرار في احتلاله، فيبقى الفلسطينيون تحت رحمة الاحتلال، ويحصل العرب على الاعتراف الصهيوني بهم، وهو ما يسعون إليه لاعتقادهم بأنهم بحاجة إلى هذا الاعتراف، في الوقت الذي صرّح فيه "شارون" في أمريكا بأن إسرائيل "ليست بحاجة إلى اعتراف العرب بها لأنها الأقوى"..

ثم تبادر أمريكا في مقترحاتها من خلال مدير مخابراتها المركزية إلى إنشاء هيئة رعاية أو وصاية عربية، تشارك فيها مصر والسعودية والأردن، تحت الإشراف الأمريكي المباشر، لتوجيه عمل أمن السلطة في فلسطين ومتابعة حُسْن أدائها لمهمتها بتدمير روح المقاومة من صدور الناس، و"تدجينهم" إلى المستوى الذي يبعث على الاطمئنان بانطفاء روح الانتفاضة إلى الأبد.. لتبدأ المفاوضات بعد تحقيق الشعار "الشاروني" في حكومته، وهو "الأمن المطلق لإسرائيل"، وحصول السلطة الفلسطينية على شهادة حسن السلوك في امتحان الإصلاح والديمقراطية ونزاهة القضاء وسلامة برامج التعليم من أيّ ثقافة إرهابية دينية أو سياسية، كل ذلك على الشروط الأمريكية ـ الإسرائيلية التي تريد إسقاط كل قوة الشعب الفلسطيني في تطلعاته التحررية للاستقلال ولتقرير المصير..

إن ما تخطط له أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ هو نقل المسؤولية من الجانب الفلسطيني إلى الجانب العربي في حماية الأمن الإسرائيلي، تحت الرقابة الأمريكية ـ الإسرائيلية، من أجل درء التهمة عن العرب بأنهم إرهابيون.. وتبقى مسألة زوال الاحتلال ومسألة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية وحلم اللاجئين بالعودة مسألة خاضعة للتطورات السياسية، ابتداءً من اللجنة الرباعية التي تعمل على إضاعة الوقت، وعلى إخماد كل صوت للاحتجاج على الوحشية الصهيونية، مروراً بالمؤتمر الدولي الذي لا يملك أية ملامح واضحة في ضبابيته السياسية بين الصفة الدولية والإقليمية، وفي علاقة سوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية..

الاستعداد لحربٍ استراتيجية

أما الزيارات العربية لأمريكا، والمبادرات السياسية التنازلية السلمية الاستسلامية التي لم توافق عليها إسرائيل وأمريكا، فإنها تتساقط أمام زيارة "شارون" الذي حصل من الرئيس الأمريكي على كل ما يريد، في رفض المطالب العربية في جدولة الحل السياسي، وفي إعلان الدولة الفلسطينية، وفي إقرار المفاوضات السياسية للحل النهائي، وفي اعتبار "شارون" رجل سلام، وفي تقدير اجتياحه للمدن والمخيمات الفلسطينية باعتباره دفاعاً عن النفس ضد "القتلة الإرهابيين الفلسطينيين" ـ على حدّ تعبيره ـ وفي خيبة الأمل في السلطة الفلسطينية ورئيسها وحكومته..

إن هذه المواقف الأمريكية التي حصل عليها "شارون" في زيارته إلى أمريكا، هي تحقير لكل مسؤول عربي، وإسقاط لكل أحاديثهم مع الرئيس الأمريكي الذي يحاول وزير خارجيته تلميع صورة تصريحاته بكلام مبهم يترك لبعض المسؤولين العرب تفسيره بما يحفظ لهم ماء الوجه الذي بقي بدون ماء.. وهكذا، حصل "شارون" في زيارته لأمريكا على التأييد المطلق من قِبَل مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيَين، ما يوحي بأن أمريكا السياسية هي مع إسرائيل بدون قيد أو شرط، وأنها ضد تطلعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، ولا سيما بما يتصل بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، التي بدأ "شارون" يتحدث عن رفضها بالمطلق لأنها تمثل الخطر الأكبر على كيانه الصهيوني، وبدأت أمريكا تتحدث عن دولة مؤقتة كمقدمة للدولة الدائمة التي تدخل في متاهات الزمن الضائع من دون حدود.

إن على العرب والمسلمين ـ والشعب الفلسطيني ـ أن يبتعدوا عن كل الأحلام الخيالية في اللهاث وراء أمريكا للحل العادل، لأن الحل الأمريكي لفلسطين لن يكون إلا على قياس إسرائيل "الشارونية" التي لن تمنحهم أيّ شيء للتحرير الذي يملكون به أمرهم، ويقررون به مصيرهم بشكل مستقل..

وإن علينا أن نستعدّ لحرب طويلة على مستوى الأجيال، لأن الصهاينة قد قرروا الاستعداد لذلك على أساس الاستراتيجية الواسعة في الاستيلاء على فلسطين كلها جغرافياً، وعلى المنطقة كلها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في استغلال لكل عناصر العجز العربي، بالتنسيق مع أمريكا التي صادرت أكثر الأنظمة العربية ووضعتها في قفص الاتهام بالإرهاب، لتبقى في عملية تنازل لتبرئة نفسها من ذلك.. إننا لسنا دعاة حرب، ولكننا دعاة تحرر واستقلال وحماية لأمن الشعوب العربية والإسلامية من كل تهديد عدواني أمريكي وإسرائيلي.

وإننا في الوقت نفسه، نحيّي بكل تقدير واحترام وإكبار الانتفاضة الفلسطينية المجاهدة الصامدة، بالرغم من كل أوضاع الاجتياح والاغتيال والاعتقال التي لن تحقق أيّ نجاح، لأنهم لا يستطيعون اعتقال الشعب الفلسطيني كله الذي يعيش روح المقاومة والتحدي الجهادي، والهجوم الاستشهادي الذي يشب فيه الصغير ويشيب فيه الكبير، وتنطلق فيه الأمهات ليلدن في كل يوم مجاهداً صامداً واستشهادياً متحدياً، في عملية انفتاحٍ على المستقبل الذي سوف يأتي بالنصر بإذن الله.

إزالة التلوّث السياسي

أما في لبنان، فبعد حصول توافقٍ بين المسؤولين على وقف السيارات العاملة على المازوت، بقي للناس أن تسأل عن التوافق السياسي الذي لا بد أن تعقبه خطة اقتصادية لمعالجة المشاكل الكثيرة، فلا يكفي أن يقال للناس بأن عليهم أن لا يسمموا الهواء في لبنان ـ وفوق العاصمة بالتحديد ـ لأن الطامة الكبرى تكمن في المناخ السياسي المسموم الذي طاول كل شيء، وبات يهدد مصير البلد.

إننا نقول للمسؤولين: أعيدوا للناس حقوقهم التي منحتموهم إياها من قبل ثم عملتم على سلبها من خلال قوانين جديدة، ولا يكون ذلك إلا من خلال تأمين البدائل الطبيعية لهم التي تجعلهم يستطيعون الاستمرار.. إعملوا للتوافق على كل ما يخدم مصلحة البلد، لا أن يكون التوافق وقفاً على الضرائب وكل ما يطال الطبقات الفقيرة والمحرومة، ولا يصل إلى القضايا الكبرى التي تتحدد من خلالها مصلحة البلاد في مواجهة الأخطار السياسية والاقتصادية المحدقة بها.. إننا مع إزالة التلوّث في الهواء والتلوّث السياسي والاقتصادي في آن.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية