لتكن المجالس الحسينية منابر للتوعية والتثقيف بالإسلام

لتكن المجالس الحسينية منابر للتوعية والتثقيف بالإسلام

 لأننا نريد لقضية الحسين(ع) أن تبقى مشرقة في كل الآفاق:
لتكن المجالس الحسينية منابر للتوعية والتثقيف بالإسلام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الثبات على خط الحسين(ع)

في هذا اليوم نلتقي بذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، والحسين (ع) لا يعيش معنا في مناسبة محددة، بل هو معنا في كل وقت، معنا في عقولنا التي انفتحت على كل فكر الحق في فكره، وقلوبنا التي لا تزال تنبض بالعاطفة الصافية الطاهرة في مأساة كربلاء، وخطواتنا التي لا تزال تتحرك في خطى كربلاء، لأن الحسين (ع) ليس مجرد شخص ثائر مصلح في التاريخ، وليس مجرد إمام نلتزم إمامته كما نلتزم إمامة أبيه وأخيه والأئمة التسعة المعصومين من بنيه، ولكن الحسين قضية ورسالة تتصل بكل حركة الإسلام في الواقع.

فشعارات كربلاء هي شعارات الحياة كلها، فإذا واجهنا أية حالة انحراف في المجتمع الإسلامي، فإن كربلاء تحدّثنا عن ثورة الإمام الحسين ضد الانحراف في المجتمع الإسلامي، وإذا واجهنا انحرافاً في القيادة، فإن الحسين (ع) يذكّرنا بأن علينا أن نقوّم القيادة إذا انحرفت، أو نبعدها عن ساحة المسؤولية. وهكذا، إذا واجهنا التحديات الكبرى في داخل المجتمع الإسلامي وفي خارجه، فإن الحسين (ع) يقول لنا: إن علينا أن نختار العزة ولا نسقط أمام حالات الذل، وإن علينا أن نختار الجهاد في كل حركتنا.

انطلاقته من شخصية الرسول وعلي

لقد جمع الحسين (ع) في شخصيته كل عناصر شخصية جده (ص) وأبيه وأمه وأخيه (عليهم السلام) ، فنحن عندما نستمع إلى الكلمة النبوية الشريفة: "حسين مني وأنا من حسين"، نعرف أن الحسين انطلق من عمق شخصية رسول الله (ص)، ليست مسألة النسب فحسب ، بل هي مسألة العناصر الروحية التي زرعها رسول الله (ص) في شخصية الحسين عندما ربّاه طفلاً، والقيم الأخلاقية التي استوحاها الحسين (ع) من جده من كل سيرته عندما كان يعيش طفولته مع جده، كانت عيناه تلتمعان بكل المعاني التي تنفتح على جده عندما يتطلّع إليه، وكان سمعه يلتقط كلماته، وكانت روحه تحتضن روحه.

وعندما قال رسول الله (ص): "وأنا من حسين"، كيف يقول الجد إنه من السبط؟ المسألة ليست مسألة انتساب، ولكنها مسألة أن الحسين (ع) حمل في عقله وقلبه كل رسول الله، وحمل في سيرته كل سيرته، ولذا فإن رسول الله(ص) يعيش داخل الحسين عقلاً وقلباً وشعوراً وحركة. وهكذا عندما كان الحسين (ع) يعيش مع أمه الطاهرة المعصومة، سيدة نساء العالمين، هذه التي كانت بضعة رسول الله وأم أبيها وحبيبته، هذه الإنسانة التي ارتفعت بكل روحانيتها التي أخذتها من رسول الله، وبكل إخلاصها لله، فأرضعت الحسين من تلك الروحية وذلك الإخلاص، وربّته من خلال ما تعلّمته من تربية رسول الله لها، ولذلك عاشت فاطمة (ع) في كل قداستها في شخصية الحسين(ع).

وعاش الحسين(ع) مع أبيه عليّ (ع)، هذه القمة الإسلامية الشامخة التي أحبّها الله ورسوله بقدر ما أحبت الله ورسوله، هذه الشخصية العظيمة التي امتلأت علماً وروحانية وزهداً وشجاعة وإخلاصاً لله ولرسوله وجهاداً في سبيله، لقد ربّى عليّ(ع) الحسين(ع)، فأخذ منه كل خصائصه، وعندما كان يرتجز ويقول:

                        أنا الحسين بن علي             آليت أن لا أنثني

فإنه كان يريد أن يقول للناس: إن علياً كامن ٌ في شخصيتي، وكما كان عليّ (ع) لا ينثني ولا ينهزم ولا يتراجع، فإنني هنا في كربلاء، وبالرغم من كل ضغوط الأعداء، لا أنثني كما لم ينثنِ أبي. وبذلك دخلت شخصية عليّ(ع) في شخصية الإمام الحسين (ع). وعاش الحسين (ع) مع أخيه الحسن (ع)، هذا الإمام العظيم الذي عاش فأفاض بأخلاقه السمحة المنفتحة على المحبة والإحسان وعلى كل العفو على من أساء إليه، هذا الإمام الذي عاش الحسين معه عقلاً مع عقل، وقلباً مع قلب، وحركة مع حركة، وبذلك كان الحسين حسناً في أخلاقه وعناصر شخصيته، كما كان الحسن حسيناً في كل ذلك، لأنهما ـ معاً ـ واحد في أخلاقهما وروحانيتهما وإخلاصهما لله، وقد قالها رسول الله (ص): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

شخصيته(ع) تمثّل الرسالة

وهكذا، رأى الإمام الحسين (ع) في المرحلة التي عاشها بعد غياب جده وأبيه وأمه وأخيه، أنه المسؤول ـ وحده ـ عن كل الرسالة التي حملها هؤلاء الكبار، وأن عليه أن يعطي كل شخصيته للرسالة، كما كان أبوه عليّ (ع) عندما انطلق في جهاده وقال لربه وهو يدعوه: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، وتقام المعطلة من حدودك، فيأمن المظلومون من عبادك"، كانت حركة عليّ (ع) من أجل الوقوف ضد الظالمين لمصلحة المظلومين، ومن أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل.

هكذا كان الإمام الحسين (ع)، فقد وقف وهو يحمل الرسالة بيده ليقول للناس: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ـ في جوّ من السلام الروحي الذي يعطيه للناس، إنه يقول لهم: لم أخرج لأقتل هذا وذاك، ولكني خرجت من أجل الرسالة لأملأ عقول الناس وقلوبهم بها ـ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينه، وهو خير الحاكمين".

الاقتداء بالحسين(ع)

ولهذا، فإن نداء الحسين (ع) الذي أطلقه منذ انطلق من المدينة لا بدّ أن يبقى معنا، أن نخرج جميعاً في كل موقع يفسد فيه الواقع الإسلامي، على مستوى سلوك الناس أو مواقع القيادة أو على مستوى حركة السياسة، كلٌ في موقعه، من أجل طلب الإصلاح في أمة رسول الله (ص)، لأن مسؤوليتنا جميعاً هي أن نصلح الأمة، وذلك هو شعار الأنبياء فيما حدّثنا الله تعالى عن شعيب عندما قال لقومه: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}، فلنعمل جميعاً على أن نطلق الإصلاح فكراً وروحاًُ وحركة في كل مجالات حياتنا، فذلك هو الإخلاص للحسين (ع) في رسالته.

ومرّت السنون ونحن نواجه نفس الموقف، فعلينا أن نتحمّل نفس المسؤولية، فلا ننسحب من حركة الإصلاح في الأمة الإسلامية تحت وطأة ضغطٍ هنا أو خوفٍ هناك. لقد انطلق الإمام الحسين(ع) في مواجهة الذين أرادوا أن يفرضوا عليه النزول على حكم يزيد وابن زياد، ليعطي الشرعية لهما، وهذا الذي رفضه منذ البداية، فكيف يقبل في النهاية، ولذلك قال كلمته الخالدة: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد"، وقال: "ألا وإن الدعّي ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة".

إن هذا النداء لا بدّ أن ينطلق من كل حناجرنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين كلهم، سواء تمثلوا في المواقع المنحرفة في الواقع الإسلامي، أو تمثلوا في مواقع الاستكبار العالمي، لنرفض ذلك كله كما رفضه الإمام الحسين (ع)، إن هذا الموقف لا بدّ أن يتحرك مع كل الأجيال، وهذا هو معنى أن تمتد ثورة الحسين فينا، وهو معنى أن ينطلق عنفوان الرسالة الحسينية في حياتنا، لا أن نحوّل قضية الحسين إلى شيء في المأساة لتكون قضيته دموعاً ولطماً ونزفاً للدماء من الرؤوس والظهور، إن العاطفة أساسية في قضية الإمام الحسين (ع)، ولكن علينا أن نختار من أساليب العاطفة ووسائلها ما يمكن أن يحرّك الإحساس الإنساني، وأن نبتعد عن كل وسائل التخلّف، فليس من الطبيعي أن نحمل السيوف لنضرب بها رؤوسنا، أو لنحمل السلاسل لنضرب بها ظهورنا، إن السيوف تُجرّد من أجل مواجهة العدو كما جرّد الحسين (ع) السيف أمام العدو..

لتكن المجالس منبراً للثقافة والثورة

لذلك، علينا أن نقيم المجالس الحسينية لنجعلها منبراً للثورة والإسلام والثقافة، منبراً من أجل رفع مستوى الناس، لا أن نجعلها مجرد منابر تستنزف فيها الدموع بالروايات الصحيحة وغير الصحيحة، ونترك كل ما تجاوزه الزمن مما يثير سخرية الناس بنا في العالم مما كثر في هذه الأيام، سواء في لبنان أو الشام أو إيران أو العراق، إن المصلحين وقفوا أمام هذه العادات التي لا تعطينا أي عنفوان أو موقع. لذلك علينا أن نتعاون في أن تبقى قضية الحسين مشرقة مضيئة، وأن نعمل لنتوحّد بالحسين، وأن نخطط كما خطط الإمام الحسين(ع)، وأن نكون كما أرادنا الله تعالى في قوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

وعلينا في زيارة الأربعين، عندما نريد أن نزور الإمام الحسين (ع)، فنقف أمام ضريحه أو نتوجه إليه، أن نستعيد في أفكارنا ثورته وشخصيته وروحانيته، فإن الزيارة ليست مجرد كلمات تقولها، ولكنها فكر تستعيده، وعاطفة تعيش في نفسك، وخط تتحرك به في الحياة، أن تجدد بيعتك للإمام الحسين (ع) لتنهض كما نهض، ليقول لك الحسين(ع) من خلال التاريخ كما قال لأصحابه وأهل بيته: {رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً}..

الدعوة إلى كلمة سواء

وفي هذا اليوم، تصادف عند الكنائس الشرقية يوم الجمعة العظيمة، ونحن ـ بحسب عقيدتنا الإسلامية والنص القرآني ـ إذا كنا لا نرى أن السيد المسيح صُلب أو قُتل، ولكنه عانى من التعذيب والآلام الكثير، وواجه من أجل الرسالة الكثير، واضطُهد كما اضطُهد الإمام الحسين، ونادى بمثل ما نادى: {فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله}، وهكذا عندما أحسّ الحسين من كل هؤلاء الذين نكثوا عهودهم معه، قال: "هل من ناصر ينصرنا"، وصاح أنصار الحسين وأهل بيته ليقولوا: نحن معك يابن رسول الله في خط الرسالة، الحواريون هنا هم الحواريون هناك، والرسالة هنا هي الرسالة هناك، والله هنا هو الله هناك.

ولذلك فإننا نعيش آلام السيد المسيح (ع) في ذكرى عذابه الجسدي والآلام التي عاشها، تماماً كما نعيش آلام الإمام الحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه. من هنا، فإننا نقول لأهل الكتاب: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}، ونقول لهم: إذا كنا نختلف معكم في شخصية المسيح الذي تعتبرونه تجسيداً لله، ونحن لا نقول بذلك، وإذا اختلفنا في معنى التوحيد، فإننا لن نختلف في القيم الروحية والأخلاقية، وفي كل الخطوط الرسالية التي جاء بها الإنجيل، كما جاء بها القرآن، ونحن نؤمن بالكتاب كله، ونقول: {آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد}، فتعالوا من أجل أن نقف مع الإيمان بالله في مقابل كل الإلحاد، ونقف ضد المستكبرين لنكون مع المستضعفين، بدلاً من أن نتقاتل ونتحاقد ونتنازع، ولا سيما أننا في هذا البلد الذي تتكامل فيه الطوائف، يحتاج إلى المزيد من التعاون، من أجل أن يعيش الناس فيه أحراراً، متعاونين على ما يجمع كلمتهم.

 
الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في كل هذا التاريخ المضمّخ بالدماء والسائر في خط الرسالة، ولا سيما التاريخ الذي يتمثل في كربلاء وعاشوراء، حيث انطلق الحسين (ع) من أجل أن يصلح الأمة، ولكن الأمة كانت خاضعة للذين انحرفوا عن الخط وعصوا الله، لذلك كان الحسين (ع) شهيد رسالته ، وهو الإنسان الذي وقف موقف القوة في خطّ الرسالة.

وعلينا أن نعيش هذه القوة الرسالية في كل مواقفنا أمام التحديات الكبرى التي تواجهنا في مرحلة من أقسى المراحل التي مرّ بها تاريخ الإسلام والمسلمين، علينا أن نضع الإمام الحسين أمامنا من أجل أن نأخذ منه الرسالية والروحانية والقوة والصبر والصمود، وأن نتحمل مسؤولياتنا في كل قضايانا العامة، وفي كل ما يتصل بسلامة الإسلام والمسلمين، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

صمودٌ فلسطيني بطولي

قبل يومين احتفل العالم بيوم العمل، في وقت يواجه فيه العمّال المشاكل في الداخل والخارج.. فمن الأزمات الاقتصادية، إلى مشكلة البطالة، إلى الأزمات السياسية التي جعلتهم يدفعون الثمن مضاعفاً، ما يؤدي إلى إرباك النمو الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك..

وبهذه المناسبة، لا بدّ أن نذكر العمّال الفلسطينيين الذين عانوا ويعانون أقسى المجازر والمشاكل والجوع والحرمان، من خلال الوحشية الهمجية الصهيونية، من دون أن يسقطوا تحت تأثير ذلك كله، بل واجهوا المرحلة القاسية بالصبر والصمود في أقوى موقف، بالرغم من الصمت العربي والدولي الذي تنكّر لكل حقوق الإنسان، وتحوّل إلى حالة من النفاق السياسي تحت تأثير اللعبة الدولية الاستكبارية بقيادة أمريكا، التي خططت مع إسرائيل للحرب على الشعب الفلسطيني، وأعطت الجيش الصهيوني وحكومته الضوء الأخضر للتنفيذ، والوقت الطويل اللازم لتحقيق الأهداف المرسومة للقتل والتدمير والاعتقال..

الازدواجية في الموقف الأمريكي

وقد لعبت أمريكا ـ في الوقت نفسه ـ لعبة إرسال الدعوات للعد وّ بالانسحاب بدون تأخير، ولكنها تحدثت إليه ـ من موقع آخر ـ بالاستمرار في الاحتلال، مع تقدير سياسي كبير باعتبار رجل المجازر "شارون" "رجل سلام"، وتكريمه بدعوته لزيارة أمريكا بكل احترام، للتخطيط للمرحلة الجديدة في الحرب ضد ما تسميه الإرهاب الفلسطيني بطريقة جديدة، مع الضغط على مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة للامتناع عن إدانة إسرائيل لرفضها استقبال لجنة تقصّي الحقائق في مجزرة "جنين"، بعد إجهاض مشروع لجنة تحقيق في ذلك بالرغم من تمردها على الأمم المتحدة، وحتى عن الاستجابة للرئيس الأمريكي، لأن المسألة هي أن أمريكا تلعب دور الممثل في بطولة الحماية السياسية والأمنية للاحتلال الإسرائيلي، من دون أن تستمع لأي صوت عربي أو مستغيث، بل حاولت أن تلعب لعبتها الدبلوماسية في إعطاء بعض العرب بعض ما يحفظ ماء الوجه في رفع الحصار عن رئيس السلطة الفلسطينية، مع إرسال نداء له بأن يعمل لينال احترام الرئيس الأمريكي بالرضوخ لمطالبه، لأنه ـ حتى الآن ـ لم يحصل على احترامه، لأنه لم يقم بما يجب من قتل واعتقال مجاهدي الانتفاضة بما يكفي، وكأن ما قام به من سجن قتلة الوزير الإسرائيلي في سجن فلسطيني ـ أمريكي ـ بريطاني غير كافٍ..

خطة أمريكية شيطانية

وقد صفّق العرب لهذا الإنجاز، ولم يلتفتوا إلى الخطة الأمريكية الشيطانية الخبيثة التي تهدف إلى تمزيق الصف العربي، حتى صفوف المتحالفين مع السياسة الأمريكية، ما دعا الرئيس المصري إلى يرفع الصوت عالياً بأن "الحملة على ما يُسمى الإرهاب قد أخذت وجهة جديدة تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية لإسرائيل على حساب الدول العربية والإسلامية، واستخدام هذه الحملة لمحاولة القضاء على المقاومة الفلسطينية الشرعية للاحتلال الإسرائيلي، وأن هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية هو إرهاب الشعب الفلسطيني وقمع مقاومة الاحتلال، وأن المقاومة الفلسطينية ستستمر ما استمر الاحتلال"..

إننا نأمل أن يكون هذا الموقف موقفاً ثابتاً في التخطيط للمستقبل الذي يُراد له اللعب بالقضية الفلسطينية، من خلال العبث بالوحدة الشعبية السياسية الجهادية للشعب الفلسطيني، باسم الطلب الجديد ـ القديم من السلطة في ضرب ما يسمونه الإرهاب، وإيقاف الانتفاضة بالضغط على مجاهديها وإيداعهم السجون، من دون أن يكون هناك أيّ مستقبل واضح لفلسطين، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً ـ وربما عربياً ـ أن لا تبقى هناك قوة فاعلة متمردة لدى هذا الشعب المجاهد ليحقق أهدافه، بل أن يقبل بما يُقدَّم له من عروض مهينة مذلّة، لأن القوة في فلسطين وفي المنطقة في دائرة الصراع مع العدو مرفوضة من قِبَل الاستكبار  الأمريكي وحلفائه..

إن على الشعب الفلسطيني وكل فصائل الانتفاضة وقيادة السلطة رصد المخطّط الأمريكي ـ الصهيوني الجديد، الهادف إلى إسقاط حركة التحرير ضد الاحتلال، بالخداع الذي تتحرك به هذه الخطة للمسؤولين العرب، الذين قدّموا ويقدّمون للعدو ولأمريكا كل التنازلات المجانية والتطمينات بأن لا يُستعمل سلاح النفط ولا المقاطعة الاقتصادية..

المرحلة خطيرة.. والمقاطعة هي السبيل

إن المرحلة خطيرة خطيرة، لأن العدو ّ يريد أن يجني ثمار حربه الوحشية التي تهدف إلى استسلام الشعب الفلسطيني وقبوله بكل الشروط الإسرائيلية والضغوط الأمريكية.. إن أمريكا عملت وتعمل على إيجاد تحالف دولي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، لتنفيذ مخططاتها في فلسطين لمصلحة إسرائيل، بعد أن رأت أن أوروبا ربما تميل إلى الوقوف ضد إسرائيل في مجازرها الوحشية.. ولا بدّ لنا من مراقبة ذلك كله، والأخذ بأسباب الحذر من المخططات المستقبلية المشبوهة.

وفي هذا المناخ، لا بدّ للمقاطعة الشعبية للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية أن تقوى وتستمر، بعد أن حققت أكثر من نتيجة إيجابية، لا سيما أن مكتب مقاطعة إسرائيل التابع للجامعة العربية لم يحقق شيئاً على مستوى مؤتمره المنعقد في دمشق، بل اكتفى بحَثّ الدول العربية على تفعيل المقاطعة ضد إسرائيل، في الوقت الذي لم تخطُ فيه أكثر من دولة عربية أية خطوة باتجاه المقاطعة.. إن المقاطعة الشعبية الشاملة في الواقع العربي والإسلامي هي السبيل لمحاصرة العلاقات الاقتصادية الرسمية للعدو ولأمريكا.

إيران ضحية للإرهاب الأمريكي

وفي جانب آخر، فقد سمعنا مستشارة الرئيس الأمريكي تتحدث عن تبرير وضع إيران في ما يسمونه "محور الشر"، بأن سياستها الدولية داعمة "للإرهاب" عبر العالم وفي الشرق الأوسط، وبتخطيطها لإنتاج أسلحة الدمار الشامل.. إن تعليقنا على ذلك أن إيران كانت ضحية الإرهاب الأمريكي والدولي، في الحرب المفروضة عليها وفي أكثر من موقع، في الوقت الذي تدعم فيه إيران حركات التحرر من الاحتلال والتي تعتبرها أمريكا إرهابية، لأن الإرهاب لديها يشمل كل المعارضين للسياسة الأمريكية وللاحتلال الإسرائيلي.. ولا ندري لماذا لم تتحدث أمريكا عن سلاح الدمار الشامل ـ بما في ذلك السلاح النووي الذي تملكه إسرائيل ـ فإذا كانت تحتج بأن إسرائيل في موقع الخطر، فإن إيران تشعر بالخطر من المخطط الأمريكي على أمنها، مع أنها صرّحت أنها لا تخطط لإنتاج السلاح النووي؟!

الارتفاع إلى مستوى المصالحة الحقيقية

أما في لبنان، فإننا نريد للجميع على مستوى السلطة أن يخرجوا من دائرة الخلافات إلى مستوى المصالحة الحقيقية في دائرة التكامل، من أجل حفظ توازن البلد والتعاون على إصلاح الفساد، والسيطرة على الهدر، والتخطيط للوضع الاقتصادي الذي أصبح ينذر بالكارثة، لا سيما أمام الحديث عن أن الدولة أصبحت عاجزة عن تمويل المشاريع الحيوية، فلا تصرف إلا الضرورات من رواتب الموظفين وخدمة الدين العام، من دون أية خطة اقتصادية واضحة..

كما أن هناك أكثر من مسألة شعبية بحاجة إلى معالجة، كمسألة سيارات المازوت التي أصبحت تسيء إلى البيئة، ما يفرض على الدولة وكل الفعاليات أن تتحمّل مسؤوليتها وتعالج هذه المشكلة بما لا يسيء إلى أصحاب السيارات.. ومعالجة مشكلة زيادة بدل التسجيل في الجامعة، والتي لا يتحمّلها الطلاب الفقراء في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وكذلك مسألة جسر الأوزاعي التي ربما تؤدي إلى مشاكل شعبية إنسانية على أكثر من صعيد..

إننا ندعو الدولة إلى أن لا تكون سيفاً مسلّطاً على رؤوس المواطنين، لا سيما الفقراء منهم، بل تكون راعياً رحيماً لهم في كل قضاياهم الحيوية، لتكون الدولة للشعب كله، فينفتح الشعب كله على الدولة الصالحة الراعية لقضاياه الحيوية ومصالحه الأساسية.

 لأننا نريد لقضية الحسين(ع) أن تبقى مشرقة في كل الآفاق:
لتكن المجالس الحسينية منابر للتوعية والتثقيف بالإسلام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الثبات على خط الحسين(ع)

في هذا اليوم نلتقي بذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، والحسين (ع) لا يعيش معنا في مناسبة محددة، بل هو معنا في كل وقت، معنا في عقولنا التي انفتحت على كل فكر الحق في فكره، وقلوبنا التي لا تزال تنبض بالعاطفة الصافية الطاهرة في مأساة كربلاء، وخطواتنا التي لا تزال تتحرك في خطى كربلاء، لأن الحسين (ع) ليس مجرد شخص ثائر مصلح في التاريخ، وليس مجرد إمام نلتزم إمامته كما نلتزم إمامة أبيه وأخيه والأئمة التسعة المعصومين من بنيه، ولكن الحسين قضية ورسالة تتصل بكل حركة الإسلام في الواقع.

فشعارات كربلاء هي شعارات الحياة كلها، فإذا واجهنا أية حالة انحراف في المجتمع الإسلامي، فإن كربلاء تحدّثنا عن ثورة الإمام الحسين ضد الانحراف في المجتمع الإسلامي، وإذا واجهنا انحرافاً في القيادة، فإن الحسين (ع) يذكّرنا بأن علينا أن نقوّم القيادة إذا انحرفت، أو نبعدها عن ساحة المسؤولية. وهكذا، إذا واجهنا التحديات الكبرى في داخل المجتمع الإسلامي وفي خارجه، فإن الحسين (ع) يقول لنا: إن علينا أن نختار العزة ولا نسقط أمام حالات الذل، وإن علينا أن نختار الجهاد في كل حركتنا.

انطلاقته من شخصية الرسول وعلي

لقد جمع الحسين (ع) في شخصيته كل عناصر شخصية جده (ص) وأبيه وأمه وأخيه (عليهم السلام) ، فنحن عندما نستمع إلى الكلمة النبوية الشريفة: "حسين مني وأنا من حسين"، نعرف أن الحسين انطلق من عمق شخصية رسول الله (ص)، ليست مسألة النسب فحسب ، بل هي مسألة العناصر الروحية التي زرعها رسول الله (ص) في شخصية الحسين عندما ربّاه طفلاً، والقيم الأخلاقية التي استوحاها الحسين (ع) من جده من كل سيرته عندما كان يعيش طفولته مع جده، كانت عيناه تلتمعان بكل المعاني التي تنفتح على جده عندما يتطلّع إليه، وكان سمعه يلتقط كلماته، وكانت روحه تحتضن روحه.

وعندما قال رسول الله (ص): "وأنا من حسين"، كيف يقول الجد إنه من السبط؟ المسألة ليست مسألة انتساب، ولكنها مسألة أن الحسين (ع) حمل في عقله وقلبه كل رسول الله، وحمل في سيرته كل سيرته، ولذا فإن رسول الله(ص) يعيش داخل الحسين عقلاً وقلباً وشعوراً وحركة. وهكذا عندما كان الحسين (ع) يعيش مع أمه الطاهرة المعصومة، سيدة نساء العالمين، هذه التي كانت بضعة رسول الله وأم أبيها وحبيبته، هذه الإنسانة التي ارتفعت بكل روحانيتها التي أخذتها من رسول الله، وبكل إخلاصها لله، فأرضعت الحسين من تلك الروحية وذلك الإخلاص، وربّته من خلال ما تعلّمته من تربية رسول الله لها، ولذلك عاشت فاطمة (ع) في كل قداستها في شخصية الحسين(ع).

وعاش الحسين(ع) مع أبيه عليّ (ع)، هذه القمة الإسلامية الشامخة التي أحبّها الله ورسوله بقدر ما أحبت الله ورسوله، هذه الشخصية العظيمة التي امتلأت علماً وروحانية وزهداً وشجاعة وإخلاصاً لله ولرسوله وجهاداً في سبيله، لقد ربّى عليّ(ع) الحسين(ع)، فأخذ منه كل خصائصه، وعندما كان يرتجز ويقول:

                        أنا الحسين بن علي             آليت أن لا أنثني

فإنه كان يريد أن يقول للناس: إن علياً كامن ٌ في شخصيتي، وكما كان عليّ (ع) لا ينثني ولا ينهزم ولا يتراجع، فإنني هنا في كربلاء، وبالرغم من كل ضغوط الأعداء، لا أنثني كما لم ينثنِ أبي. وبذلك دخلت شخصية عليّ(ع) في شخصية الإمام الحسين (ع). وعاش الحسين (ع) مع أخيه الحسن (ع)، هذا الإمام العظيم الذي عاش فأفاض بأخلاقه السمحة المنفتحة على المحبة والإحسان وعلى كل العفو على من أساء إليه، هذا الإمام الذي عاش الحسين معه عقلاً مع عقل، وقلباً مع قلب، وحركة مع حركة، وبذلك كان الحسين حسناً في أخلاقه وعناصر شخصيته، كما كان الحسن حسيناً في كل ذلك، لأنهما ـ معاً ـ واحد في أخلاقهما وروحانيتهما وإخلاصهما لله، وقد قالها رسول الله (ص): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

شخصيته(ع) تمثّل الرسالة

وهكذا، رأى الإمام الحسين (ع) في المرحلة التي عاشها بعد غياب جده وأبيه وأمه وأخيه، أنه المسؤول ـ وحده ـ عن كل الرسالة التي حملها هؤلاء الكبار، وأن عليه أن يعطي كل شخصيته للرسالة، كما كان أبوه عليّ (ع) عندما انطلق في جهاده وقال لربه وهو يدعوه: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، وتقام المعطلة من حدودك، فيأمن المظلومون من عبادك"، كانت حركة عليّ (ع) من أجل الوقوف ضد الظالمين لمصلحة المظلومين، ومن أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل.

هكذا كان الإمام الحسين (ع)، فقد وقف وهو يحمل الرسالة بيده ليقول للناس: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ـ في جوّ من السلام الروحي الذي يعطيه للناس، إنه يقول لهم: لم أخرج لأقتل هذا وذاك، ولكني خرجت من أجل الرسالة لأملأ عقول الناس وقلوبهم بها ـ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينه، وهو خير الحاكمين".

الاقتداء بالحسين(ع)

ولهذا، فإن نداء الحسين (ع) الذي أطلقه منذ انطلق من المدينة لا بدّ أن يبقى معنا، أن نخرج جميعاً في كل موقع يفسد فيه الواقع الإسلامي، على مستوى سلوك الناس أو مواقع القيادة أو على مستوى حركة السياسة، كلٌ في موقعه، من أجل طلب الإصلاح في أمة رسول الله (ص)، لأن مسؤوليتنا جميعاً هي أن نصلح الأمة، وذلك هو شعار الأنبياء فيما حدّثنا الله تعالى عن شعيب عندما قال لقومه: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}، فلنعمل جميعاً على أن نطلق الإصلاح فكراً وروحاًُ وحركة في كل مجالات حياتنا، فذلك هو الإخلاص للحسين (ع) في رسالته.

ومرّت السنون ونحن نواجه نفس الموقف، فعلينا أن نتحمّل نفس المسؤولية، فلا ننسحب من حركة الإصلاح في الأمة الإسلامية تحت وطأة ضغطٍ هنا أو خوفٍ هناك. لقد انطلق الإمام الحسين(ع) في مواجهة الذين أرادوا أن يفرضوا عليه النزول على حكم يزيد وابن زياد، ليعطي الشرعية لهما، وهذا الذي رفضه منذ البداية، فكيف يقبل في النهاية، ولذلك قال كلمته الخالدة: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد"، وقال: "ألا وإن الدعّي ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة".

إن هذا النداء لا بدّ أن ينطلق من كل حناجرنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين كلهم، سواء تمثلوا في المواقع المنحرفة في الواقع الإسلامي، أو تمثلوا في مواقع الاستكبار العالمي، لنرفض ذلك كله كما رفضه الإمام الحسين (ع)، إن هذا الموقف لا بدّ أن يتحرك مع كل الأجيال، وهذا هو معنى أن تمتد ثورة الحسين فينا، وهو معنى أن ينطلق عنفوان الرسالة الحسينية في حياتنا، لا أن نحوّل قضية الحسين إلى شيء في المأساة لتكون قضيته دموعاً ولطماً ونزفاً للدماء من الرؤوس والظهور، إن العاطفة أساسية في قضية الإمام الحسين (ع)، ولكن علينا أن نختار من أساليب العاطفة ووسائلها ما يمكن أن يحرّك الإحساس الإنساني، وأن نبتعد عن كل وسائل التخلّف، فليس من الطبيعي أن نحمل السيوف لنضرب بها رؤوسنا، أو لنحمل السلاسل لنضرب بها ظهورنا، إن السيوف تُجرّد من أجل مواجهة العدو كما جرّد الحسين (ع) السيف أمام العدو..

لتكن المجالس منبراً للثقافة والثورة

لذلك، علينا أن نقيم المجالس الحسينية لنجعلها منبراً للثورة والإسلام والثقافة، منبراً من أجل رفع مستوى الناس، لا أن نجعلها مجرد منابر تستنزف فيها الدموع بالروايات الصحيحة وغير الصحيحة، ونترك كل ما تجاوزه الزمن مما يثير سخرية الناس بنا في العالم مما كثر في هذه الأيام، سواء في لبنان أو الشام أو إيران أو العراق، إن المصلحين وقفوا أمام هذه العادات التي لا تعطينا أي عنفوان أو موقع. لذلك علينا أن نتعاون في أن تبقى قضية الحسين مشرقة مضيئة، وأن نعمل لنتوحّد بالحسين، وأن نخطط كما خطط الإمام الحسين(ع)، وأن نكون كما أرادنا الله تعالى في قوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

وعلينا في زيارة الأربعين، عندما نريد أن نزور الإمام الحسين (ع)، فنقف أمام ضريحه أو نتوجه إليه، أن نستعيد في أفكارنا ثورته وشخصيته وروحانيته، فإن الزيارة ليست مجرد كلمات تقولها، ولكنها فكر تستعيده، وعاطفة تعيش في نفسك، وخط تتحرك به في الحياة، أن تجدد بيعتك للإمام الحسين (ع) لتنهض كما نهض، ليقول لك الحسين(ع) من خلال التاريخ كما قال لأصحابه وأهل بيته: {رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً}..

الدعوة إلى كلمة سواء

وفي هذا اليوم، تصادف عند الكنائس الشرقية يوم الجمعة العظيمة، ونحن ـ بحسب عقيدتنا الإسلامية والنص القرآني ـ إذا كنا لا نرى أن السيد المسيح صُلب أو قُتل، ولكنه عانى من التعذيب والآلام الكثير، وواجه من أجل الرسالة الكثير، واضطُهد كما اضطُهد الإمام الحسين، ونادى بمثل ما نادى: {فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله}، وهكذا عندما أحسّ الحسين من كل هؤلاء الذين نكثوا عهودهم معه، قال: "هل من ناصر ينصرنا"، وصاح أنصار الحسين وأهل بيته ليقولوا: نحن معك يابن رسول الله في خط الرسالة، الحواريون هنا هم الحواريون هناك، والرسالة هنا هي الرسالة هناك، والله هنا هو الله هناك.

ولذلك فإننا نعيش آلام السيد المسيح (ع) في ذكرى عذابه الجسدي والآلام التي عاشها، تماماً كما نعيش آلام الإمام الحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه. من هنا، فإننا نقول لأهل الكتاب: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}، ونقول لهم: إذا كنا نختلف معكم في شخصية المسيح الذي تعتبرونه تجسيداً لله، ونحن لا نقول بذلك، وإذا اختلفنا في معنى التوحيد، فإننا لن نختلف في القيم الروحية والأخلاقية، وفي كل الخطوط الرسالية التي جاء بها الإنجيل، كما جاء بها القرآن، ونحن نؤمن بالكتاب كله، ونقول: {آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد}، فتعالوا من أجل أن نقف مع الإيمان بالله في مقابل كل الإلحاد، ونقف ضد المستكبرين لنكون مع المستضعفين، بدلاً من أن نتقاتل ونتحاقد ونتنازع، ولا سيما أننا في هذا البلد الذي تتكامل فيه الطوائف، يحتاج إلى المزيد من التعاون، من أجل أن يعيش الناس فيه أحراراً، متعاونين على ما يجمع كلمتهم.

 
الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في كل هذا التاريخ المضمّخ بالدماء والسائر في خط الرسالة، ولا سيما التاريخ الذي يتمثل في كربلاء وعاشوراء، حيث انطلق الحسين (ع) من أجل أن يصلح الأمة، ولكن الأمة كانت خاضعة للذين انحرفوا عن الخط وعصوا الله، لذلك كان الحسين (ع) شهيد رسالته ، وهو الإنسان الذي وقف موقف القوة في خطّ الرسالة.

وعلينا أن نعيش هذه القوة الرسالية في كل مواقفنا أمام التحديات الكبرى التي تواجهنا في مرحلة من أقسى المراحل التي مرّ بها تاريخ الإسلام والمسلمين، علينا أن نضع الإمام الحسين أمامنا من أجل أن نأخذ منه الرسالية والروحانية والقوة والصبر والصمود، وأن نتحمل مسؤولياتنا في كل قضايانا العامة، وفي كل ما يتصل بسلامة الإسلام والمسلمين، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

صمودٌ فلسطيني بطولي

قبل يومين احتفل العالم بيوم العمل، في وقت يواجه فيه العمّال المشاكل في الداخل والخارج.. فمن الأزمات الاقتصادية، إلى مشكلة البطالة، إلى الأزمات السياسية التي جعلتهم يدفعون الثمن مضاعفاً، ما يؤدي إلى إرباك النمو الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك..

وبهذه المناسبة، لا بدّ أن نذكر العمّال الفلسطينيين الذين عانوا ويعانون أقسى المجازر والمشاكل والجوع والحرمان، من خلال الوحشية الهمجية الصهيونية، من دون أن يسقطوا تحت تأثير ذلك كله، بل واجهوا المرحلة القاسية بالصبر والصمود في أقوى موقف، بالرغم من الصمت العربي والدولي الذي تنكّر لكل حقوق الإنسان، وتحوّل إلى حالة من النفاق السياسي تحت تأثير اللعبة الدولية الاستكبارية بقيادة أمريكا، التي خططت مع إسرائيل للحرب على الشعب الفلسطيني، وأعطت الجيش الصهيوني وحكومته الضوء الأخضر للتنفيذ، والوقت الطويل اللازم لتحقيق الأهداف المرسومة للقتل والتدمير والاعتقال..

الازدواجية في الموقف الأمريكي

وقد لعبت أمريكا ـ في الوقت نفسه ـ لعبة إرسال الدعوات للعد وّ بالانسحاب بدون تأخير، ولكنها تحدثت إليه ـ من موقع آخر ـ بالاستمرار في الاحتلال، مع تقدير سياسي كبير باعتبار رجل المجازر "شارون" "رجل سلام"، وتكريمه بدعوته لزيارة أمريكا بكل احترام، للتخطيط للمرحلة الجديدة في الحرب ضد ما تسميه الإرهاب الفلسطيني بطريقة جديدة، مع الضغط على مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة للامتناع عن إدانة إسرائيل لرفضها استقبال لجنة تقصّي الحقائق في مجزرة "جنين"، بعد إجهاض مشروع لجنة تحقيق في ذلك بالرغم من تمردها على الأمم المتحدة، وحتى عن الاستجابة للرئيس الأمريكي، لأن المسألة هي أن أمريكا تلعب دور الممثل في بطولة الحماية السياسية والأمنية للاحتلال الإسرائيلي، من دون أن تستمع لأي صوت عربي أو مستغيث، بل حاولت أن تلعب لعبتها الدبلوماسية في إعطاء بعض العرب بعض ما يحفظ ماء الوجه في رفع الحصار عن رئيس السلطة الفلسطينية، مع إرسال نداء له بأن يعمل لينال احترام الرئيس الأمريكي بالرضوخ لمطالبه، لأنه ـ حتى الآن ـ لم يحصل على احترامه، لأنه لم يقم بما يجب من قتل واعتقال مجاهدي الانتفاضة بما يكفي، وكأن ما قام به من سجن قتلة الوزير الإسرائيلي في سجن فلسطيني ـ أمريكي ـ بريطاني غير كافٍ..

خطة أمريكية شيطانية

وقد صفّق العرب لهذا الإنجاز، ولم يلتفتوا إلى الخطة الأمريكية الشيطانية الخبيثة التي تهدف إلى تمزيق الصف العربي، حتى صفوف المتحالفين مع السياسة الأمريكية، ما دعا الرئيس المصري إلى يرفع الصوت عالياً بأن "الحملة على ما يُسمى الإرهاب قد أخذت وجهة جديدة تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية لإسرائيل على حساب الدول العربية والإسلامية، واستخدام هذه الحملة لمحاولة القضاء على المقاومة الفلسطينية الشرعية للاحتلال الإسرائيلي، وأن هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية هو إرهاب الشعب الفلسطيني وقمع مقاومة الاحتلال، وأن المقاومة الفلسطينية ستستمر ما استمر الاحتلال"..

إننا نأمل أن يكون هذا الموقف موقفاً ثابتاً في التخطيط للمستقبل الذي يُراد له اللعب بالقضية الفلسطينية، من خلال العبث بالوحدة الشعبية السياسية الجهادية للشعب الفلسطيني، باسم الطلب الجديد ـ القديم من السلطة في ضرب ما يسمونه الإرهاب، وإيقاف الانتفاضة بالضغط على مجاهديها وإيداعهم السجون، من دون أن يكون هناك أيّ مستقبل واضح لفلسطين، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً ـ وربما عربياً ـ أن لا تبقى هناك قوة فاعلة متمردة لدى هذا الشعب المجاهد ليحقق أهدافه، بل أن يقبل بما يُقدَّم له من عروض مهينة مذلّة، لأن القوة في فلسطين وفي المنطقة في دائرة الصراع مع العدو مرفوضة من قِبَل الاستكبار  الأمريكي وحلفائه..

إن على الشعب الفلسطيني وكل فصائل الانتفاضة وقيادة السلطة رصد المخطّط الأمريكي ـ الصهيوني الجديد، الهادف إلى إسقاط حركة التحرير ضد الاحتلال، بالخداع الذي تتحرك به هذه الخطة للمسؤولين العرب، الذين قدّموا ويقدّمون للعدو ولأمريكا كل التنازلات المجانية والتطمينات بأن لا يُستعمل سلاح النفط ولا المقاطعة الاقتصادية..

المرحلة خطيرة.. والمقاطعة هي السبيل

إن المرحلة خطيرة خطيرة، لأن العدو ّ يريد أن يجني ثمار حربه الوحشية التي تهدف إلى استسلام الشعب الفلسطيني وقبوله بكل الشروط الإسرائيلية والضغوط الأمريكية.. إن أمريكا عملت وتعمل على إيجاد تحالف دولي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، لتنفيذ مخططاتها في فلسطين لمصلحة إسرائيل، بعد أن رأت أن أوروبا ربما تميل إلى الوقوف ضد إسرائيل في مجازرها الوحشية.. ولا بدّ لنا من مراقبة ذلك كله، والأخذ بأسباب الحذر من المخططات المستقبلية المشبوهة.

وفي هذا المناخ، لا بدّ للمقاطعة الشعبية للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية أن تقوى وتستمر، بعد أن حققت أكثر من نتيجة إيجابية، لا سيما أن مكتب مقاطعة إسرائيل التابع للجامعة العربية لم يحقق شيئاً على مستوى مؤتمره المنعقد في دمشق، بل اكتفى بحَثّ الدول العربية على تفعيل المقاطعة ضد إسرائيل، في الوقت الذي لم تخطُ فيه أكثر من دولة عربية أية خطوة باتجاه المقاطعة.. إن المقاطعة الشعبية الشاملة في الواقع العربي والإسلامي هي السبيل لمحاصرة العلاقات الاقتصادية الرسمية للعدو ولأمريكا.

إيران ضحية للإرهاب الأمريكي

وفي جانب آخر، فقد سمعنا مستشارة الرئيس الأمريكي تتحدث عن تبرير وضع إيران في ما يسمونه "محور الشر"، بأن سياستها الدولية داعمة "للإرهاب" عبر العالم وفي الشرق الأوسط، وبتخطيطها لإنتاج أسلحة الدمار الشامل.. إن تعليقنا على ذلك أن إيران كانت ضحية الإرهاب الأمريكي والدولي، في الحرب المفروضة عليها وفي أكثر من موقع، في الوقت الذي تدعم فيه إيران حركات التحرر من الاحتلال والتي تعتبرها أمريكا إرهابية، لأن الإرهاب لديها يشمل كل المعارضين للسياسة الأمريكية وللاحتلال الإسرائيلي.. ولا ندري لماذا لم تتحدث أمريكا عن سلاح الدمار الشامل ـ بما في ذلك السلاح النووي الذي تملكه إسرائيل ـ فإذا كانت تحتج بأن إسرائيل في موقع الخطر، فإن إيران تشعر بالخطر من المخطط الأمريكي على أمنها، مع أنها صرّحت أنها لا تخطط لإنتاج السلاح النووي؟!

الارتفاع إلى مستوى المصالحة الحقيقية

أما في لبنان، فإننا نريد للجميع على مستوى السلطة أن يخرجوا من دائرة الخلافات إلى مستوى المصالحة الحقيقية في دائرة التكامل، من أجل حفظ توازن البلد والتعاون على إصلاح الفساد، والسيطرة على الهدر، والتخطيط للوضع الاقتصادي الذي أصبح ينذر بالكارثة، لا سيما أمام الحديث عن أن الدولة أصبحت عاجزة عن تمويل المشاريع الحيوية، فلا تصرف إلا الضرورات من رواتب الموظفين وخدمة الدين العام، من دون أية خطة اقتصادية واضحة..

كما أن هناك أكثر من مسألة شعبية بحاجة إلى معالجة، كمسألة سيارات المازوت التي أصبحت تسيء إلى البيئة، ما يفرض على الدولة وكل الفعاليات أن تتحمّل مسؤوليتها وتعالج هذه المشكلة بما لا يسيء إلى أصحاب السيارات.. ومعالجة مشكلة زيادة بدل التسجيل في الجامعة، والتي لا يتحمّلها الطلاب الفقراء في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وكذلك مسألة جسر الأوزاعي التي ربما تؤدي إلى مشاكل شعبية إنسانية على أكثر من صعيد..

إننا ندعو الدولة إلى أن لا تكون سيفاً مسلّطاً على رؤوس المواطنين، لا سيما الفقراء منهم، بل تكون راعياً رحيماً لهم في كل قضاياهم الحيوية، لتكون الدولة للشعب كله، فينفتح الشعب كله على الدولة الصالحة الراعية لقضاياه الحيوية ومصالحه الأساسية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية