صِلوا المسلمين وأدّوا حقوقهم وكونوا زيناً لنا

صِلوا المسلمين وأدّوا حقوقهم وكونوا زيناً لنا

من وصية الإمام الحسن العسكري(ع) لشيعته:
صِلوا المسلمين وأدّوا حقوقهم وكونوا زيناً لنا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الأئمة تجسيد للقرآن

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري(ع)، الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت(ع)، والذي تصادف ذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر، وهو خاتمة الأئمة في مرحلة ظهورهم على الناس، حيث كان الأئمة من أهل البيت(ع)، منذ عليّ(ع) إلى الإمام العسكري(ع)، كانوا يعيشون مع الناس ويبلّغون رسالة رسول الله(ص)، ليقوّموا ما انحرف، وليصححوا ما أخطأ الناس فيه، وليؤصّلوا المفاهيم الإسلامية، وليمثلوا القدوة التي يقتدي الناس بها، لأنهم كانوا في علمهم وكل سيرتهم يمثلون التجسيد الحيّ للقرآن الكريم، فكانوا قرآناً ناطقاً يتمثّل الناس فيهم كل قيم القرآن ومفاهيمه، وهذا ما جعلهم الأئمة للإسلام كله، بالرغم من أن الكثيرين لم يعرفوا درجتهم في الإمامة، وعاشوا ـ كما عاش جدهم رسول الله (ص) ـ المعاناة والآلام والكثير من الضغط على حرياتهم، حتى استشهد منهم من استشهد، وسجن من سُجن، واضطُهد من اضطهد.

ونحن عندما نستذكر هؤلاء الأئمة(ع)، نتذكر هؤلاء الذين عصمهم الله بعصمته، وأذهب عنهم الرجس الفكري والعاطفي، ففكرهم فكر الحق، وعاطفتهم عاطفة الحق، وأذهب عنهم رجس الانحراف العملي، فعملهم هو خط الاستقامة الذي أراده الله تعالى في صراطه المستقيم، فإذا كانوا قد مضوا إلى رحاب الله في الزمن، فإن تراثهم وسيرتهم وروحانيتهم لا تزال تفيض علينا بما يملأ حياتنا روحاً وفكراً واستقامة في الحياة.

خاتمة الإمامة الظاهرة

وعلينا أن نقرأ قراءة صحيحة كلِّ تراثهم، كيف قدّموا لنا الإسلام، وكيف أرادوا لنا أن نرتفع إلى المستويات العليا في الحياة، على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، لأنهم أرادوا لنا أن نملأ الحياة إسلاماً، ليكون الإسلام في نفوسنا عقيدة وعملاً، وفي بيوتنا نهجاً وممارسةً، وفي حياتنا وحدة وقانوناً وشريعة، وفي ساحة التحديات قوة وصلابة وثباتاً ومواجهة، كما أراد الله تعالى لنا ـ وله القوة والعزة جميعاً ـ أن تكون لنا العزة كل العزة، والقوة كل القوة، والحكمة كل الحكمة، أن نعرف أهل البيت(ع) في مراتبهم ولا نرتفع بهم إلى درجة الغلوّ، لأن الغلوّ كفرٌ يُخرج المسلم عن إسلامه، ولا بدّ لنا أن نقف بهم حيث عرّفونا، وأن نكون معهم على أساس ما قاله الإمام الباقر(ع) في ما روي عنه: "من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ".

والإمام العسكري(ع) كان خاتمة هذه الإمامة الظاهرة، وكان المقدَّم في مجتمعه، مع أنه لم يتجاوز مرحلة الشباب، حتى أنه كان إذا انطلق في أي موقع ـ حتى في مواقع الدولة ـ كان الناس يقومون له ويعظّمونه ويحترمونه لما له من الهيبة في القلوب والعقول، لأنه فرض نفسه بما أعطى من علم وما اتّصف به من خلق، وبما تحرك به من سيرة، حتى كان المثال الحيّ الناطق للإسلام كله. وكان هذا الامتداد الشعبي في محبة الناس له يخيف الخلفاء في زمانه، ولذا كانوا يضطهدونه بين وقت وآخر، خشية أن يمتد إلى مواقعهم ليسقطهم عن هذه المواقع.

ومن بعده انطلقت الإمامة الغائبة التي اختص الله تعالى بحكمة الغيبة فيها، كما اختص الله ما يأتي من حكمة الظهور فيها، هذه الإمامة التي بدأت بعد وفاة الإمام العسكري(ع) في التاسع من ربيع الأول، الذي هو تاريخ بداية إمامة إمامنا إمام العصر والزمان، حجة الله على خلقه، الإمام المهدي(عج)، والذي غاب غيبة صغرى ثم انطلقت الغيبة الكبرى، وكانت آخر كلماته في آخر توقيع له: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، وهكذا فتح باب الرجوع إلى العلماء الصالحين المجتهدين الواعين المنفتحين على الإسلام كله، المخلصين لله ولرسوله، والذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم ولا بدنياهم، والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، والذين يستقيمون على الخط، كما ورد في حديث النبي(ص): "العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"، قالوا: وكيف يدخلون في الدنيا؟ قال(ص) ـ ما مضمونه ـ هم هؤلاء الذين يتاجرون بدينهم، والذين يبيعون دينهم لسلطان الجور، فيعطونه الفتوى على حسب مصالحه، ويعطون الفتوى على حسب عقدهم النفسية ومصالحهم الشخصية.

في رحاب الوصية

ونحن في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري(ع)، نحاول أن نقرأ وصيته الأخيرة لشيعته، ونحن وجميع المسلمين شيعته، لأن الإمام(ع) لا يمثل حالة شخصية أو مذهبية، بل يمثل حالة إسلامية. قال (ع): "أوصيكم بتقوى الله ـ فإن تقوى الله هي الغاية التي لا بد للمسلم أن يبلغها في قوله وعمله وعلاقاته، لأنها زاده الوحيد إلى الآخرة ليحصل على رضوان الله فيها ـ والورع في دينكم ـ أن تتورعوا بأن تبتعدوا عن كل حرام فلا تفعلوه، وأن تلتزموا بكل واجب لتأتمروا بأوامره ـ والاجتهاد لله ـ أن تجتهدوا لله في توحيده وطاعته والإخلاص في عبادته ـ وصدق الحديث ـ كونوا الصادقين لأن الصدق هو علامة الإيمان، وقد ورد أنه "لا يكذب الإنسان وهو مؤمن"، فإذا كان الإنسان ممن يأخذ بالكذب في حديثه وأوضاعه خرج من الإيمان، لأن الإيمان يعني أنك ترتبط بالله وبالحقيقة، وإذا كنت من الكذّابين فإنك ترتبط بغير الحقيقة ـ وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها من برّ أو فاجر ـ أن تكونوا الأمناء على أموال الناس وعلى أعمالهم وما إلى ذلك، فإن رسول الله(ص) انطلق ليؤكد شخصيته الرسالية قبل أن يُبعث بالرسالة، لتمتد الثقة به في المجتمع كله، فكان الصادق الأمين، حتى غلب ذلك على اسمه.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) عندما قال له بعض أصحابه: إني أريد أن أكون قريباً إليك، فقال: "أنظر إلى ما بلغ به عليّ عند رسول الله من المكانة فافعله، فإن عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة" ـ فقد كان عليّ(ع) الصادق الأمين، كما كان رسول الله(ص) الذي ربّى عليّاً، فارتفعت منزلة عليّ عند رسول الله بصدقه وأمانته ـ وطول السجود ـ إن الإمام العسكري(ع) يريد منا أن نطيل سجودنا لله، لأن السجود هو المظهر الحيّ لإظهار العبودية لله، وقد ورد أن أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه وهو ساجد، ولذلك اسجدوا لله شكراً وتعبداً ومحبة وخوفاً، لا تسجدوا لأيٍّ إنسان حتى لو كان في أعلى مراتب القرب إلى الله، لأن الإنسان عبد لله والسجود هو من خصوصيات العبادة لله، وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن سجود الملائكة لآدم(ع)، فإنه ليس سجوداً لآدم، ولكنه سجود لله تعظيماً لخلقه لآدم، وهكذا عندما سجد يعقوب(ع) وزوجته ليوسف(ع)، فإنه لم يكن سجوداً ليوسف(ع) ولكنه كان سجوداً لله تعالى على ما أعطاه لهم وليوسف من النعم ـ وحسن الجوار ـ فإن رسول الله(ص)، على ما قال عليّ(ع) في وصيته: "ما زال رسول الله يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورّثهم ـ فبهذا جاء محمد(ص)".

ثم اندفع الإمام العسكري(ع) ليتحدث بمثل ما كان يتحدث به الإمام الصادق(ع)، ليبيّن كيف يجب أن تكون علاقتنا بالناس الآخرين الذين يختلفون معنا مذهبياً، ومما قد نختلف معهم في كثير من مفردات الشريعة الإسلامية أو قضايا الخلافة والإمامة، فقال: "صلّوا في عشائرهم ـ صلّوا معهم بحسب الأحكام المعتبرة في الصلاة ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي ـ وكأن الإمام(ع) يريد أن يقول إن الشيعي هو الإنسان الورع في الدين، الصادق في الحديث، المؤدي للأمانة، الذي يكون حسن الخلق مع الناس، بحيث ينفتح على الناس كلهم بالخلق الحسن، ويدخل في قلوبهم من خلال أخلاقه الحسنة ـ فيسرني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيّناً ولا تكونوا شيناً ـ لا تكونوا في أخلاقكم ومعاملاتكم ومظاهركم والتزاماتكم الدينية عيباً عليناـ جرّوا إلينا كل مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدثونهم عن محاسن أخلاقنا وكلامنا وسيرتنا، في خط الاعتدال بعيداً عن كل خط الغلو والسباب والشتائم ـ وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك ـ ادرسوا سيرتنا وتراثنا وما نحن فيه، وتحدثوا فيه إلى الناس، ليعرفوا حقيقة أمرنا بعيداً عما يكذب به الكذّابون، أو ينسبه إلينا الحاقدون ـ لنا حق في كتاب الله وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب. أكثروا ذكر الله ـ لأن الإنسان إذا ذكر الله في كل حالاته، منعه هذا الذكر عن معصية الله ودفعه إلى طاعته ـ وذكر الموت ـ لأنّ الإنسان إذا ذكر الموت ذهب الصدأ عن قلبه، وقد ورد عن رسول الله(ص): "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: "قراءة القرآن وذكر الموت" ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما أوصيتكم به ـ احفظوه لا حفظ الكلمة، بل حفظ العمل في خط الاستقامة ـ وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام".

والسلام عليك أيها الإمام الزكي، يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيّاً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على كل مسؤولياتكم الإسلامية، سواء اتصلت هذه المسؤوليات بحياتكم الخاصة أو العامة، فإن الإنسان المسلم مسؤول بحجم قدراته وأوضاعه وظروفه عن الإسلام كله، لأنّ الله تعالى أراد لنا أن نحفظ الإسلام وأن نحوطه بما لدينا من فكر وجهد وطاقات هنا وهناك، ليس مسلماً من لم يهتم بأمور المسلمين وهو قادر على أن يمنحهم جهداً من جهده، وطاقة من طاقته، ليس مسلماً من يقف على الحياد عندما ينطلق الصراع بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وقد قالها عليّ (ع) لولديه ومن ورائهما لكل المسلمين: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا". ولا نزال نعيش التحديات الكبرى على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وعلينا أن نكون في مستوى مواجهة هذه التحديات بكل ما نملك من قوة، فماذا هناك:

الشعب الفلسطيني يستعيد هويّته

في15 أيار 1948 سقطت فلسطين، لتولد على أنقاضها "دولة إسرائيل"، بفعل المؤامرة الدولية التي قادتها بريطانيا من خلال وعد "بلفور"، الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين، مستغلاً انتدابه لفلسطين في تحقيق هذا الوعد، وبفعل العجز العربي الذي تحوّل إلى تواطؤ سياسي مع البريطانيين بسبب النفوذ الاستعماري آنذاك على السياسة العربية الرسمية.

وقد احتفلت إسرائيل بالذكرى الرابعة والخمسين لاغتصابها الأرض والسلطة، في وقت انطلقت فيه الانتفاضة الفلسطينية بفاعلية جهادية كبيرة، من أجل استعادة فلسطين، في أصعب مرحلة من تاريخها، وقد استعاد الإنسان الفلسطيني هويّته، وبدأ في صنع تاريخ تحريري جديد مضمّخ بالدماء، ومثخن بالجراح.. وربما بدأ التاريخ يعيد نفسه مع المؤامرة الدولية الجديدة التي تقودها أمريكا ضد حرية الشعب الفلسطيني لحساب الشعب اليهودي، لتنفيذ مخططه في تثبيت سيطرته على فلسطين كلها، مع إعطاء الفلسطينيين بعض ملامح الدولة، من دون معنى حقيقي للاستقلال..

العجـز العربـي

أما العجز العربي، فقد تحوّل إلى تواطؤ سياسي لاستكمال المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي، وهو امتداد للعجز التاريخي الذي كان ينتقل من موقع ضعف إلى موقع عجز وفشل في الفوضى السياسية والأمنية، وفي المصادرة الاستخباراتية للشعب كله، بحيث لم يعد له أيّ قرار في حاضره ومستقبله.. وبدأنا نخاف من التخطيط لحركة فلسطينية مشبوهة تنفّذ الخطة الأمريكية بكل دقة، لا سيما بعد أن تسلّمت أمريكا قيادة المحور الدولي كله في مستقبل القضية الفلسطينية، من أجل تحقيق الهدف "الشاروني" في وعد اليهود بالأمن، على أساس إيقاف الانتفاضة، لئلا تبقى للفلسطينيين أية ورقة فاعلة في ساحة المفاوضات.

الانتفاضة.. خطورة المرحلة

وهكذا، رأينا أن الرئيس الأمريكي يخطّط لإنشاء جهاز أمني فلسطيني موحَّد، بإشراف رئيس المخابرات المركزية الأمريكية المتحالفة مع الموساد الإسرائيلي، من أجل تصفية كل العناصر الأمنية الفلسطينية المخلصة، التي اغتالت أو اعتقلت إسرائيل الكثير من أفرادها، والمطلوب ـ إسرائيلياً وأمريكياً ـ تصفية البقية، لتلتقي الخطة الأمنية في الإجهاز على العناصر المجاهدة للانتفاضة، في تنسيق أمريكي ـ إسرائيلي ـ فلسطيني في أكثر من أسلوب، ومن أجل خلط الأوراق السياسية والأمنية التي قد تصنع الفتنة التي تأكل كل الانتفاضة من الداخل، أو تضغط عليها باسم المحافظة على الوحدة، لمصادرة كل انتصارات الشعب الفلسطيني في انتفاضته من خلال حركة المقاومة، والصمود في مواجهة التحدي، والصبر على الآلام..

ويتحرك شعار الإصلاح والوعد بانتخابات جديدة، من أجل أن يتحوّل إلى ملهاة شعبية تشغل الناس عن الانتفاضة، لتعيدهم إلى حساسياتهم الداخلية وتناقضاتهم الحزبية.. وينطلق الحديث من جديد لإدانة العمليات الاستشهادية ضد اليهود، تماماً كما لو كان ذلك جريمة إنسانية يستنكرها الزعماء العرب، بما فيهم سلطة الحكم الذاتي، استجابة للضغط الأمريكي في اعتبار الاستشهاديين قتلة لا شهداء؟!

إن المرحلة الآن هي من أكثر المراحل دقة وخطورة في القضية الفلسطينية، لإدخالها ـ من جديد ـ في ضباب المواقف ومتاهات المفاوضات وتمييع الحلول، لأن أمريكا ليست مستعدة للضغط على إسرائيل في أيّ موقف سلبي، بل هي تدعمها بألف طريقة وطريقة، فهذا هو دورها التاريخي، في الوقت الذي تدعو فيه الزعماء العرب إلى القيام بضغط على الفلسطينيين، إضافة إلى ضغطها المادي والمعنوي عليهم..

إننا ـ من خلال هذه الخطورة ـ ندعو المجاهدين من قادة الانتفاضة إلى التدقيق في عناصر المرحلة ومجرياتها، وخلفيات المواقف المحلية والعربية والدولية، لأن الخطة هي دفع الساحة إلى أكثر من خطأ قاتل.. إننا لا نتحدث عن المغامرة، ولكن عن الخطة التي تراقب التطورات، وتلاحق المتغيّرات، لتحدد المواقف، لأن لكل مرحلة مواقفها ومواقعها وأساليبها ووسائلها..

التخطيط لإبقاء العدو داخل المأزق..

ولا بد من مراقبة الوضع الصهيوني الداخلي، في عملية توزيع الأدوار فيما بينهم، ولا بد من التخطيط لإبقاء الواقع الأمني لديهم في داخل المأزق، ولإفشال عملية "السور الواقي" التي يتحدثون عن نجاحها المتحرك في اتجاه القضاء على الانتفاضة، فإذا كان العدوّ قد احتفل بما يسمّيه الاستقلال في ذكرى الاغتصاب، فإن علينا أن نفكر بالاحتفال القريب في موعد الاستقلال في حركة الانتصار، فلن تخسروا إلا الاحتلال وإلا القيود المفروضة عليكم.

وعلى العرب والمسلمين أن يواجهوا المرحلة بالبقاء في حالة التوتر السياسي، الذي لا يترك أية فرصة للذين يصطادون في الماء العكر لتدجين الشارع العربي والإسلامي، وإخماد شعلة الحرية في داخله، لأن القضية الفلسطينية هي قضية المستقبل العربي والإسلامي كله.

لبنان.. الاستعداد لمواجهة الأخطار المحتملة

أما في لبنان، الذي يستمع لتهديدات جديدة من رئيس حكومة العدو، الذي قال: "إننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي عندما تتواصل العمليات الإرهابية ضد مواطنينا في الشمال".. إن هذا الكلام يفرض علينا المزيد من الحذر والاستعداد لمواجهة الأخطار المحتملة، لا سيما أننا نقترب من موعد ذكرى التحرير، التي قد تدفع العدو إلى القيام باستعراض للقوة في عملية عرض للعضلات.. كما يجب علينا التأكيد على الوحدة الداخلية التي تحدّق بالمعركة المستمرة في مواجهة الاحتلال، ولا تحدّق بغيرها من القضايا الهامشية..

وإذا كان الحديث التقليدي في لبنان هو التعايش بين الطوائف، فقد نجد ـ في هذه المرحلة ـ ضرورة في الحديث عن التعايش بين المسؤولين الكبار في الدولة، لأن الخلافات الموسمية التي تتحرك بين وقت وآخر، في بعض القضايا الحيوية المرتبطة بالواقع الاقتصادي الذي يزداد صعوبة وخطورة، قد تجعل البلد في حالة اهتزاز يترك تأثيره على الثقة الشعبية بالدولة، وبسلامة الاقتصاد، بالدرجة التي بدأ الحديث فيها عن سحب المدّخرات من المصارف، لأن هناك إشاعات قد لا تبتعد عن الواقع بأن هناك كارثة تنتظر الناس في لبنان..

المشكلة.. انعدام الثقة

إننا نأمل أن لا تكون هذه الإشاعات صحيحة، ونرجو أن تكون تطمينات المسؤولين حقيقية، ولكن القضية هي أن عليهم إعادة الثقة الشعبية بالدولة وبقيادتها ومؤسساتها، في سياستها واقتصادها وأمنها، ليرى الناس أن المؤسسات هي التي تحكم البلد وليس الأشخاص، فلا يكون الشخص هو ضمانة البلد بل المؤسسة.. إن المشكلة هي انعدام الثقة، والسؤال: من الذي سوف يعيدها إلى الشعب، فهل من جواب؟

من وصية الإمام الحسن العسكري(ع) لشيعته:
صِلوا المسلمين وأدّوا حقوقهم وكونوا زيناً لنا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الأئمة تجسيد للقرآن

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري(ع)، الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت(ع)، والذي تصادف ذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر، وهو خاتمة الأئمة في مرحلة ظهورهم على الناس، حيث كان الأئمة من أهل البيت(ع)، منذ عليّ(ع) إلى الإمام العسكري(ع)، كانوا يعيشون مع الناس ويبلّغون رسالة رسول الله(ص)، ليقوّموا ما انحرف، وليصححوا ما أخطأ الناس فيه، وليؤصّلوا المفاهيم الإسلامية، وليمثلوا القدوة التي يقتدي الناس بها، لأنهم كانوا في علمهم وكل سيرتهم يمثلون التجسيد الحيّ للقرآن الكريم، فكانوا قرآناً ناطقاً يتمثّل الناس فيهم كل قيم القرآن ومفاهيمه، وهذا ما جعلهم الأئمة للإسلام كله، بالرغم من أن الكثيرين لم يعرفوا درجتهم في الإمامة، وعاشوا ـ كما عاش جدهم رسول الله (ص) ـ المعاناة والآلام والكثير من الضغط على حرياتهم، حتى استشهد منهم من استشهد، وسجن من سُجن، واضطُهد من اضطهد.

ونحن عندما نستذكر هؤلاء الأئمة(ع)، نتذكر هؤلاء الذين عصمهم الله بعصمته، وأذهب عنهم الرجس الفكري والعاطفي، ففكرهم فكر الحق، وعاطفتهم عاطفة الحق، وأذهب عنهم رجس الانحراف العملي، فعملهم هو خط الاستقامة الذي أراده الله تعالى في صراطه المستقيم، فإذا كانوا قد مضوا إلى رحاب الله في الزمن، فإن تراثهم وسيرتهم وروحانيتهم لا تزال تفيض علينا بما يملأ حياتنا روحاً وفكراً واستقامة في الحياة.

خاتمة الإمامة الظاهرة

وعلينا أن نقرأ قراءة صحيحة كلِّ تراثهم، كيف قدّموا لنا الإسلام، وكيف أرادوا لنا أن نرتفع إلى المستويات العليا في الحياة، على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، لأنهم أرادوا لنا أن نملأ الحياة إسلاماً، ليكون الإسلام في نفوسنا عقيدة وعملاً، وفي بيوتنا نهجاً وممارسةً، وفي حياتنا وحدة وقانوناً وشريعة، وفي ساحة التحديات قوة وصلابة وثباتاً ومواجهة، كما أراد الله تعالى لنا ـ وله القوة والعزة جميعاً ـ أن تكون لنا العزة كل العزة، والقوة كل القوة، والحكمة كل الحكمة، أن نعرف أهل البيت(ع) في مراتبهم ولا نرتفع بهم إلى درجة الغلوّ، لأن الغلوّ كفرٌ يُخرج المسلم عن إسلامه، ولا بدّ لنا أن نقف بهم حيث عرّفونا، وأن نكون معهم على أساس ما قاله الإمام الباقر(ع) في ما روي عنه: "من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ".

والإمام العسكري(ع) كان خاتمة هذه الإمامة الظاهرة، وكان المقدَّم في مجتمعه، مع أنه لم يتجاوز مرحلة الشباب، حتى أنه كان إذا انطلق في أي موقع ـ حتى في مواقع الدولة ـ كان الناس يقومون له ويعظّمونه ويحترمونه لما له من الهيبة في القلوب والعقول، لأنه فرض نفسه بما أعطى من علم وما اتّصف به من خلق، وبما تحرك به من سيرة، حتى كان المثال الحيّ الناطق للإسلام كله. وكان هذا الامتداد الشعبي في محبة الناس له يخيف الخلفاء في زمانه، ولذا كانوا يضطهدونه بين وقت وآخر، خشية أن يمتد إلى مواقعهم ليسقطهم عن هذه المواقع.

ومن بعده انطلقت الإمامة الغائبة التي اختص الله تعالى بحكمة الغيبة فيها، كما اختص الله ما يأتي من حكمة الظهور فيها، هذه الإمامة التي بدأت بعد وفاة الإمام العسكري(ع) في التاسع من ربيع الأول، الذي هو تاريخ بداية إمامة إمامنا إمام العصر والزمان، حجة الله على خلقه، الإمام المهدي(عج)، والذي غاب غيبة صغرى ثم انطلقت الغيبة الكبرى، وكانت آخر كلماته في آخر توقيع له: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، وهكذا فتح باب الرجوع إلى العلماء الصالحين المجتهدين الواعين المنفتحين على الإسلام كله، المخلصين لله ولرسوله، والذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم ولا بدنياهم، والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، والذين يستقيمون على الخط، كما ورد في حديث النبي(ص): "العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"، قالوا: وكيف يدخلون في الدنيا؟ قال(ص) ـ ما مضمونه ـ هم هؤلاء الذين يتاجرون بدينهم، والذين يبيعون دينهم لسلطان الجور، فيعطونه الفتوى على حسب مصالحه، ويعطون الفتوى على حسب عقدهم النفسية ومصالحهم الشخصية.

في رحاب الوصية

ونحن في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري(ع)، نحاول أن نقرأ وصيته الأخيرة لشيعته، ونحن وجميع المسلمين شيعته، لأن الإمام(ع) لا يمثل حالة شخصية أو مذهبية، بل يمثل حالة إسلامية. قال (ع): "أوصيكم بتقوى الله ـ فإن تقوى الله هي الغاية التي لا بد للمسلم أن يبلغها في قوله وعمله وعلاقاته، لأنها زاده الوحيد إلى الآخرة ليحصل على رضوان الله فيها ـ والورع في دينكم ـ أن تتورعوا بأن تبتعدوا عن كل حرام فلا تفعلوه، وأن تلتزموا بكل واجب لتأتمروا بأوامره ـ والاجتهاد لله ـ أن تجتهدوا لله في توحيده وطاعته والإخلاص في عبادته ـ وصدق الحديث ـ كونوا الصادقين لأن الصدق هو علامة الإيمان، وقد ورد أنه "لا يكذب الإنسان وهو مؤمن"، فإذا كان الإنسان ممن يأخذ بالكذب في حديثه وأوضاعه خرج من الإيمان، لأن الإيمان يعني أنك ترتبط بالله وبالحقيقة، وإذا كنت من الكذّابين فإنك ترتبط بغير الحقيقة ـ وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها من برّ أو فاجر ـ أن تكونوا الأمناء على أموال الناس وعلى أعمالهم وما إلى ذلك، فإن رسول الله(ص) انطلق ليؤكد شخصيته الرسالية قبل أن يُبعث بالرسالة، لتمتد الثقة به في المجتمع كله، فكان الصادق الأمين، حتى غلب ذلك على اسمه.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) عندما قال له بعض أصحابه: إني أريد أن أكون قريباً إليك، فقال: "أنظر إلى ما بلغ به عليّ عند رسول الله من المكانة فافعله، فإن عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة" ـ فقد كان عليّ(ع) الصادق الأمين، كما كان رسول الله(ص) الذي ربّى عليّاً، فارتفعت منزلة عليّ عند رسول الله بصدقه وأمانته ـ وطول السجود ـ إن الإمام العسكري(ع) يريد منا أن نطيل سجودنا لله، لأن السجود هو المظهر الحيّ لإظهار العبودية لله، وقد ورد أن أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه وهو ساجد، ولذلك اسجدوا لله شكراً وتعبداً ومحبة وخوفاً، لا تسجدوا لأيٍّ إنسان حتى لو كان في أعلى مراتب القرب إلى الله، لأن الإنسان عبد لله والسجود هو من خصوصيات العبادة لله، وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن سجود الملائكة لآدم(ع)، فإنه ليس سجوداً لآدم، ولكنه سجود لله تعظيماً لخلقه لآدم، وهكذا عندما سجد يعقوب(ع) وزوجته ليوسف(ع)، فإنه لم يكن سجوداً ليوسف(ع) ولكنه كان سجوداً لله تعالى على ما أعطاه لهم وليوسف من النعم ـ وحسن الجوار ـ فإن رسول الله(ص)، على ما قال عليّ(ع) في وصيته: "ما زال رسول الله يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورّثهم ـ فبهذا جاء محمد(ص)".

ثم اندفع الإمام العسكري(ع) ليتحدث بمثل ما كان يتحدث به الإمام الصادق(ع)، ليبيّن كيف يجب أن تكون علاقتنا بالناس الآخرين الذين يختلفون معنا مذهبياً، ومما قد نختلف معهم في كثير من مفردات الشريعة الإسلامية أو قضايا الخلافة والإمامة، فقال: "صلّوا في عشائرهم ـ صلّوا معهم بحسب الأحكام المعتبرة في الصلاة ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي ـ وكأن الإمام(ع) يريد أن يقول إن الشيعي هو الإنسان الورع في الدين، الصادق في الحديث، المؤدي للأمانة، الذي يكون حسن الخلق مع الناس، بحيث ينفتح على الناس كلهم بالخلق الحسن، ويدخل في قلوبهم من خلال أخلاقه الحسنة ـ فيسرني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيّناً ولا تكونوا شيناً ـ لا تكونوا في أخلاقكم ومعاملاتكم ومظاهركم والتزاماتكم الدينية عيباً عليناـ جرّوا إلينا كل مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدثونهم عن محاسن أخلاقنا وكلامنا وسيرتنا، في خط الاعتدال بعيداً عن كل خط الغلو والسباب والشتائم ـ وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك ـ ادرسوا سيرتنا وتراثنا وما نحن فيه، وتحدثوا فيه إلى الناس، ليعرفوا حقيقة أمرنا بعيداً عما يكذب به الكذّابون، أو ينسبه إلينا الحاقدون ـ لنا حق في كتاب الله وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب. أكثروا ذكر الله ـ لأن الإنسان إذا ذكر الله في كل حالاته، منعه هذا الذكر عن معصية الله ودفعه إلى طاعته ـ وذكر الموت ـ لأنّ الإنسان إذا ذكر الموت ذهب الصدأ عن قلبه، وقد ورد عن رسول الله(ص): "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: "قراءة القرآن وذكر الموت" ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما أوصيتكم به ـ احفظوه لا حفظ الكلمة، بل حفظ العمل في خط الاستقامة ـ وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام".

والسلام عليك أيها الإمام الزكي، يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيّاً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على كل مسؤولياتكم الإسلامية، سواء اتصلت هذه المسؤوليات بحياتكم الخاصة أو العامة، فإن الإنسان المسلم مسؤول بحجم قدراته وأوضاعه وظروفه عن الإسلام كله، لأنّ الله تعالى أراد لنا أن نحفظ الإسلام وأن نحوطه بما لدينا من فكر وجهد وطاقات هنا وهناك، ليس مسلماً من لم يهتم بأمور المسلمين وهو قادر على أن يمنحهم جهداً من جهده، وطاقة من طاقته، ليس مسلماً من يقف على الحياد عندما ينطلق الصراع بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وقد قالها عليّ (ع) لولديه ومن ورائهما لكل المسلمين: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا". ولا نزال نعيش التحديات الكبرى على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وعلينا أن نكون في مستوى مواجهة هذه التحديات بكل ما نملك من قوة، فماذا هناك:

الشعب الفلسطيني يستعيد هويّته

في15 أيار 1948 سقطت فلسطين، لتولد على أنقاضها "دولة إسرائيل"، بفعل المؤامرة الدولية التي قادتها بريطانيا من خلال وعد "بلفور"، الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين، مستغلاً انتدابه لفلسطين في تحقيق هذا الوعد، وبفعل العجز العربي الذي تحوّل إلى تواطؤ سياسي مع البريطانيين بسبب النفوذ الاستعماري آنذاك على السياسة العربية الرسمية.

وقد احتفلت إسرائيل بالذكرى الرابعة والخمسين لاغتصابها الأرض والسلطة، في وقت انطلقت فيه الانتفاضة الفلسطينية بفاعلية جهادية كبيرة، من أجل استعادة فلسطين، في أصعب مرحلة من تاريخها، وقد استعاد الإنسان الفلسطيني هويّته، وبدأ في صنع تاريخ تحريري جديد مضمّخ بالدماء، ومثخن بالجراح.. وربما بدأ التاريخ يعيد نفسه مع المؤامرة الدولية الجديدة التي تقودها أمريكا ضد حرية الشعب الفلسطيني لحساب الشعب اليهودي، لتنفيذ مخططه في تثبيت سيطرته على فلسطين كلها، مع إعطاء الفلسطينيين بعض ملامح الدولة، من دون معنى حقيقي للاستقلال..

العجـز العربـي

أما العجز العربي، فقد تحوّل إلى تواطؤ سياسي لاستكمال المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي، وهو امتداد للعجز التاريخي الذي كان ينتقل من موقع ضعف إلى موقع عجز وفشل في الفوضى السياسية والأمنية، وفي المصادرة الاستخباراتية للشعب كله، بحيث لم يعد له أيّ قرار في حاضره ومستقبله.. وبدأنا نخاف من التخطيط لحركة فلسطينية مشبوهة تنفّذ الخطة الأمريكية بكل دقة، لا سيما بعد أن تسلّمت أمريكا قيادة المحور الدولي كله في مستقبل القضية الفلسطينية، من أجل تحقيق الهدف "الشاروني" في وعد اليهود بالأمن، على أساس إيقاف الانتفاضة، لئلا تبقى للفلسطينيين أية ورقة فاعلة في ساحة المفاوضات.

الانتفاضة.. خطورة المرحلة

وهكذا، رأينا أن الرئيس الأمريكي يخطّط لإنشاء جهاز أمني فلسطيني موحَّد، بإشراف رئيس المخابرات المركزية الأمريكية المتحالفة مع الموساد الإسرائيلي، من أجل تصفية كل العناصر الأمنية الفلسطينية المخلصة، التي اغتالت أو اعتقلت إسرائيل الكثير من أفرادها، والمطلوب ـ إسرائيلياً وأمريكياً ـ تصفية البقية، لتلتقي الخطة الأمنية في الإجهاز على العناصر المجاهدة للانتفاضة، في تنسيق أمريكي ـ إسرائيلي ـ فلسطيني في أكثر من أسلوب، ومن أجل خلط الأوراق السياسية والأمنية التي قد تصنع الفتنة التي تأكل كل الانتفاضة من الداخل، أو تضغط عليها باسم المحافظة على الوحدة، لمصادرة كل انتصارات الشعب الفلسطيني في انتفاضته من خلال حركة المقاومة، والصمود في مواجهة التحدي، والصبر على الآلام..

ويتحرك شعار الإصلاح والوعد بانتخابات جديدة، من أجل أن يتحوّل إلى ملهاة شعبية تشغل الناس عن الانتفاضة، لتعيدهم إلى حساسياتهم الداخلية وتناقضاتهم الحزبية.. وينطلق الحديث من جديد لإدانة العمليات الاستشهادية ضد اليهود، تماماً كما لو كان ذلك جريمة إنسانية يستنكرها الزعماء العرب، بما فيهم سلطة الحكم الذاتي، استجابة للضغط الأمريكي في اعتبار الاستشهاديين قتلة لا شهداء؟!

إن المرحلة الآن هي من أكثر المراحل دقة وخطورة في القضية الفلسطينية، لإدخالها ـ من جديد ـ في ضباب المواقف ومتاهات المفاوضات وتمييع الحلول، لأن أمريكا ليست مستعدة للضغط على إسرائيل في أيّ موقف سلبي، بل هي تدعمها بألف طريقة وطريقة، فهذا هو دورها التاريخي، في الوقت الذي تدعو فيه الزعماء العرب إلى القيام بضغط على الفلسطينيين، إضافة إلى ضغطها المادي والمعنوي عليهم..

إننا ـ من خلال هذه الخطورة ـ ندعو المجاهدين من قادة الانتفاضة إلى التدقيق في عناصر المرحلة ومجرياتها، وخلفيات المواقف المحلية والعربية والدولية، لأن الخطة هي دفع الساحة إلى أكثر من خطأ قاتل.. إننا لا نتحدث عن المغامرة، ولكن عن الخطة التي تراقب التطورات، وتلاحق المتغيّرات، لتحدد المواقف، لأن لكل مرحلة مواقفها ومواقعها وأساليبها ووسائلها..

التخطيط لإبقاء العدو داخل المأزق..

ولا بد من مراقبة الوضع الصهيوني الداخلي، في عملية توزيع الأدوار فيما بينهم، ولا بد من التخطيط لإبقاء الواقع الأمني لديهم في داخل المأزق، ولإفشال عملية "السور الواقي" التي يتحدثون عن نجاحها المتحرك في اتجاه القضاء على الانتفاضة، فإذا كان العدوّ قد احتفل بما يسمّيه الاستقلال في ذكرى الاغتصاب، فإن علينا أن نفكر بالاحتفال القريب في موعد الاستقلال في حركة الانتصار، فلن تخسروا إلا الاحتلال وإلا القيود المفروضة عليكم.

وعلى العرب والمسلمين أن يواجهوا المرحلة بالبقاء في حالة التوتر السياسي، الذي لا يترك أية فرصة للذين يصطادون في الماء العكر لتدجين الشارع العربي والإسلامي، وإخماد شعلة الحرية في داخله، لأن القضية الفلسطينية هي قضية المستقبل العربي والإسلامي كله.

لبنان.. الاستعداد لمواجهة الأخطار المحتملة

أما في لبنان، الذي يستمع لتهديدات جديدة من رئيس حكومة العدو، الذي قال: "إننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي عندما تتواصل العمليات الإرهابية ضد مواطنينا في الشمال".. إن هذا الكلام يفرض علينا المزيد من الحذر والاستعداد لمواجهة الأخطار المحتملة، لا سيما أننا نقترب من موعد ذكرى التحرير، التي قد تدفع العدو إلى القيام باستعراض للقوة في عملية عرض للعضلات.. كما يجب علينا التأكيد على الوحدة الداخلية التي تحدّق بالمعركة المستمرة في مواجهة الاحتلال، ولا تحدّق بغيرها من القضايا الهامشية..

وإذا كان الحديث التقليدي في لبنان هو التعايش بين الطوائف، فقد نجد ـ في هذه المرحلة ـ ضرورة في الحديث عن التعايش بين المسؤولين الكبار في الدولة، لأن الخلافات الموسمية التي تتحرك بين وقت وآخر، في بعض القضايا الحيوية المرتبطة بالواقع الاقتصادي الذي يزداد صعوبة وخطورة، قد تجعل البلد في حالة اهتزاز يترك تأثيره على الثقة الشعبية بالدولة، وبسلامة الاقتصاد، بالدرجة التي بدأ الحديث فيها عن سحب المدّخرات من المصارف، لأن هناك إشاعات قد لا تبتعد عن الواقع بأن هناك كارثة تنتظر الناس في لبنان..

المشكلة.. انعدام الثقة

إننا نأمل أن لا تكون هذه الإشاعات صحيحة، ونرجو أن تكون تطمينات المسؤولين حقيقية، ولكن القضية هي أن عليهم إعادة الثقة الشعبية بالدولة وبقيادتها ومؤسساتها، في سياستها واقتصادها وأمنها، ليرى الناس أن المؤسسات هي التي تحكم البلد وليس الأشخاص، فلا يكون الشخص هو ضمانة البلد بل المؤسسة.. إن المشكلة هي انعدام الثقة، والسؤال: من الذي سوف يعيدها إلى الشعب، فهل من جواب؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية