ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
لقد أراد الله تعالى للإنسان أن يركّز حياته في كل ما يأخذ به أو في كل ما يتركه، في كل معاملاته وعلاقاته ومواقفه، على أساس الانطلاق من قاعدة، من فكر يحكم حركته، ومن خط يحكم سيره في الحياة، بحيث أنه إذا أراد أن يتحرك في أيّ اتجاه، فلا بد أن يقيس حركته على أساس هذه القاعدة.
السير في خط الاستقامة
ولذلك، أرسل الله تعالى رسله منذ آدم(ع) إلى النبي محمد(ص) من أجل أن يرتكز الإنسان في حياته على خط الاستقامة، بحيث يحدد خط سيره، منذ البداية إلى النهاية، وقد تحدث الله تعالى عن الصراط المستقيم، وأراد للناس أن يسيروا عليه: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}، وعلّمنا الله تعالى أن نقول: {اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، وحدّثنا الله تعالى أنه قال لنبيه(ص): {فلذلك فادع واستقم كما أُمرت}، وبيّن لنا أن الناس عندما يستقيمون على طريق الله، فإنه تعالى سينزل عليهم البركات: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}، وعرّفنا الله أن الاستقامة على خط التوحيد هي التي تجعل الإنسان يسمع البشارة عندما يفارق هذه الحياة الدنيا، وتستقبله الملائكة مبشرة له بالجنة وبكل رعاية الله له في الآخرة: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.
اتباع الهوى يفقد التوازن
وعلى ضوء ذلك، فقد حذّر الله تعالى الإنسان من السير على اللاخط، والانطلاق من اللاقاعدة، وعبّر عن ذلك باتباع الهوى، بحيث يتحرك الإنسان في حياته، سلباً أو إيجاباً، تأييداً أو رفضاً، من هوى نفسه، فما يشتهيه هو الذي يحرك موقفه في هذا الاتجاه أو ذاك، ونحن نعرف أن الإنسان الذي يستسلم لهواه هو إنسان لا يملك الانضباط والتوازن، لأن الهوى ليس له ضابطة، فنحن نرى أنفسنا تشتهي شيئاً اليوم وترفضه غداً، تحب إنساناً اليوم وتبغضه غداً، ترفض موقعاً اليوم وتؤيده غداً، لأن قضية الأهواء تماماً كما هي الرياح بين عاصفة ورخية ومعتدلة.
لذلك، حذرنا الله تعالى من اتباع الهوى، لأن الإنسان الذي يجعل حياته تحت رحمة أهوائه وشهواته، هو إنسان يفقد توازنه لا يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، والله تعالى لا يريد منا أن نكبت أهواءنا ونخنق شهواتنا، فالله خلق لنا غرائز وجعل غرائزنا في عمق وجودنا ومن شروط حياتنا، سواء غريزة الأكل أو الشرب أو الجنس وحتى حبّ الحياة وحبّ الذات، ولكن أراد الله تعالى لنا أن نعقّل غرائزنا ونضبطها، ففي الأكل والشرب قال: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا}، وفي مسألة الغريزة الجنسية جعل لها ضوابط من خلال الزواج لكي يبتعد الإنسان عن الزنى وعن اللواط والسحاق: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساءت سبيلاً}، وعندما أراد أن يحصر الغريزة الجنسية في الزواج دعا إلى تسهيل الزواج، ولذلك فإن التعقيدات الموجودة في مجتمعاتنا عقّدت الزواج من خلال غلاء المهور وغير ذلك، وبذلك شجّعنا الانحراف. فالله تعالى لم يرد لنا أن نكبت هذه الغرائز، بل أن نعقّلها وننظمها، لأن كل شيء يخضع لبرنامج يكون في خط التوازن.
لهذا، عندما نريد أن ننطلق في الخط الإسلامي، فإن الإسلام يركّز على قاعدة وهي "أن لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعرف أن ذلك لله رضى"، فعليك أن تسأل عن أي مأكل أو مشرب أو علاقة أو موقف هل يرضى الله تعالى عنه أو لا يرضى، لكي تنطلق من قاعدة تحكم كل حياتك، وإلا فإنك عندما تنطلق مع رغباتك وشهواتك فإنك تنطلق في حياتك من غير قاعدة.
الأهواء طريق إلى الظلم والضلال
ولنستمع إلى كلام الله تعالى وهو يتحدث عن الأهواء، يقول تعالى: {أفمن كان على بيّنة من ربه ـ بحيث يملك وضوح القاعدة التي ينطلق فيها ـ كمن زُيّن له سوء عمله ـ كمن يقوم بالعمل السيّىء وهو يراه حسناً ـ واتبعوا أهواءهم}، {بل اتبع الذين ظلموا ـ سواء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك والمعصية أو ظلموا الناس ـ أهواءهم بغير علم ـ فالظلم انطلق من خلال الأهواء ولم يرتكزوا على قاعدة من الإيمان والتقوى ـ فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين}.
ويروى عن رسول الله (ص) وهو يتحدث عن حديث إبليس أنه قال: "إن إبليس قال: أهلكتهم بالذنوب فأهلكوني بالاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون فلا يستغفرون"، بحيث أبعدهم عن القاعدة التي يلجأون إليها كلما ابتعدوا عن الطريق..
وتتابع الآية الكريمة: {فخلف من بعدهم خَلْف ـ وكلمة الخلف هي عبارة عن الولد غير الصالح ـ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً}، {والله يريد أن يتوب عليكم ـ يريد أن ينصحكم ويسلك بكم الطريق الصحيح ويدلكم على خط التوبة والاستغفار ـ ويريد الذين اتبعوا الشهوات ـ من رفاقكم وأقربائكم وأصدقائكم ـ أن تميلوا ميلاً عظيماً}.
وفي حديث للإمام عليّ(ع) وهو يبيّن لنا طريق الجنة وطريق النار، يقول: "إن الجنة حُفّت بالمكاره ـ فمن يريد الجنة فعليه أن يتحمّل المسؤولية التي تفرض عليه أن يطيع الله حتى فيما هو على خلاف هواه ـ وإن النار حُفّت بالشهوات"، وفي حديث آخر: "اعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا ويأتي في كره ـ فالصلاة والصوم والحج وكثير من الواجبات قد لا تميل لها النفس لأنها تقيّدها ـ وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة".
وفي آية ثانية يقول تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ـ الله تعالى يحدّثنا عن الذي يطيع هواه ويستسلم له ويترك طاعة الله من أجله، هو إنسان يعتبر إلهه هواه، لأن الإله هو الذي يُعبد ويطاع ويخضع له، والإنسان الذي يتحرك في خط هواه فإنه يعبده ـ وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكّرون}. وفي الحديث عن الإمام عليّ(ع) يقول: "الهوى إله معبود والعقل صديق محمود"، فإذا جاءك هواك وأراد لك أن تتحرك معه فاسأل عقلك فإنه صديق لك يريد أن يبعثك إلى ما فيه صلاحك ونجاتك.. وعن رسول الله (ص) فيما روي عنه: "ما تحت ظل السماء من إله يُعبد من دون الله أعظم منه هوى متَّبع"، وهكذا نجد أن الله تعالى كان يخاطب أنبياءه ـ ومن أعظم من الأنبياء ـ ليحتاطوا لأنفسهم ـ وهم المعصومون ـ أن لا يأتيهم الشيطان ليتبعوا أهواءهم في ما يقضون به بين الناس: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}، فإذا كان الله تعالى يذكّر أنبياءه بأن لا يتبعوا الهوى ولا يضلوا عن سبيل الله بنسيانهم للآخرة، وهم الأكثر وعياً وعصمة، فكيف بنا نحن؟
الهوى طريق إلى النار
ويقول الله تعالى وهو يفرّق بين أصحاب النار وأصحاب الجنة: {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، ويحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذي درس العلم فأصبح من العلماء، وعاش الحكمة فأصبح من الحكماء، ولكن الهوى سيطر عليه فانحرف به عن السبيل: {واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون}، فعلى الإنسان أن لا يستسلم لعلمه لأن الشيطان قد يأتي إلى العالِم فيضله عن سبيل الله عندما يسيطر عليه هواه، وقد يأتي إلى التقي لكي يصرفه عن تقاه، ما يفرض على الإنسان دائماً أن يذكر ربه ويحاسب نفسه ويجاهدها، وأن يفزع إلى إيمانه حتى لا يغيب عنه إيمانه، وأن يستنطق عقله عندما تريد عاطفته أن تقوده إلى ما فيه هلاكه.
إن الله تعالى أنعم علينا فكنا من المسلمين، لكن علينا أن لا ننسى هدى الله، والله يريدنا أن نكون واعين لأنفسنا وإيماننا وربنا، وأن لا ينطلق الناس بنا بفعل الأوضاع العاطفية والشهوانية لينحرف بنا عن الخطِّ المستقيم، بل علينا أن نتذكر مقام ربنا وموقفنا غداً بين يديه تعالى، {يوم يقوم الناس لرب العالمين}، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}، وينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون} {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}، {إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في حياتكم من وعي القاعدة الإيمانية التي تحدد لكم مواقفكم، والله أراد لنا ـ كمؤمنين ـ أن نقف عند خط العدل ونرفض كل خطوط الظلم، وأن نتحمّل مسؤولياتنا العامة والخاصة، لا سيما عندما ينطلق الصراع قوياً عنيفاً، حيث يتحرك الكافرون وحلفاؤهم من المستكبرين في كل مكان من أجل أن يكيدوا للإسلام وأهله ويسقطوا كرامتنا وعزتنا، ويصادروا ثرواتنا وكل أوضاعنا، فعلينا أن ننطلق كأمة واحدة في مواجهة هذه التحديات، لا سيما في هذه المرحلة الصعبة التي لم يمر على الإسلام والمسلمين في كل تاريخه وتاريخهم أقسى منها، فماذا هناك؟
محاولات الإجهاز على القضية الفلسطينية
لا تزال فلسطين تتحرك ـ كقضية مصيرية ـ في دوّامة اللعبة الدولية في الأمم المتحدة، التي تصدر بين يوم وآخر ـ وبالإجماع ـ قراراً بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 67، أو بإرسال فريق لتقصي الحقائق في مخيم "جنين"، بعد إجهاض الولايات المتحدة الأمريكية قراراً بالتحقيق في المذبحة، ولكن من دون جدوى، لأن إسرائيل ترفض هذه القرارات أو تتحفّظ عليها، وأمريكا تمنحها الغطاء السياسي للتمرّد، والتصريح تلو التصريح بأن رئيس وزرائها "رجل سلام"، وأنها "تتفهّم حاجتها للدفاع عن نفسها"، ومحاربة ما تسميه الإرهاب، وأنه ليس هناك دليل على وقوع مجزرة في "جنين"؟؟
ثم تقرر أمريكا بأن على الفلسطينيين أولاً، وعلى العرب ثانياً، محاربة ما تسميه الإرهاب، واعتبار الاستشهاديين قتلة لا شهداء.. في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في عدوانها واحتلالها المتحرّك في أكثر من قرية، واعتقالها العشرات، وقتلها الأفراد هنا وهناك، ويبقى الحصار على رئيس السلطة الفلسطينية وعلى كنيسة المهد بالرغم من القرارات والمداخلات الدولية..
وينتقل الجدل من المشكلة الكبرى في الاحتلال إلى القضايا الصغيرة التي تضيع فيها القضايا الحيوية المصيرية، في لعبة الشدّ والجذب الصهيونية التي تلتقي معها أمريكا في إدارة شؤون الخطة الإسرائيلية في إكمال حربها في مرحلتها الأولى، والاستعداد لمرحلة ثانية قد تكون "غزة" ضحيتها الجديدة، لأن حزب الرئيس الأمريكي الجمهوري ينتظر الانتخابات الفرعية التي يأمل النجاح فيها بأصوات اليهود واليمين المسيحي الأمريكي الذي هو أشد يهودية من اليهود، في عقيدته الدينية في دعم الكيان الصهيوني، كما أن الرئيس الأمريكي يطمح لرئاسة ثانية، والحصول على رضى الكونغرس الأمريكي المؤيد لإسرائيل بالمطلق لتمرير بعض القوانين.. وهكذا، تضيع القضية الفلسطينية في متاهات اللعبة الأمريكية الداخلية، على حساب المصالح الفلسطينية والعربية..
العرب يتحركون في مواقع العجز
أما الزيارات العربية إلى أمريكا، فإنها لم تغيّر من الموقف الأمريكي شيئاً، الذي يكرر دعوته إسرائيل للانسحاب من دون تنفيذ، ومن دون أن تحرّك أمريكا ساكناً، ولكنه في الوقت نفسه يتحدث عن الحرب ضد ما يسميه الإرهاب، وعن دعوة الفلسطينيين إلى إيقاف ما يعتبره إرهاباً، في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون ـ ولا يزالون ـ ضحية إرهاب الدولة من خلال المجازر الصهيونية ضدهم.. ويشيد بامتناع العرب ـ ولا سيما السعودية ـ عن استخدام النفط كسلاح، لأنه يرفض أيّ ضغط عربي على السياسة الأمريكية، حتى لا يكون للموقف السياسي العربي أية قوة في الوقت الذي يمنح فيه إسرائيل كل القوة.
إن مشكلة السياسة العربية الرسمية هي أن العرب يملكون الكثير من الأوراق ـ غير النفط ـ كالأرصدة التي تقدّر بالمليارات في الخزانة الأمريكية، والتي يمكن التهديد بسحبها، أو العلاقات الاقتصادية على صعيد المقاطعة أو غير ذلك، ولكنهم لا يفعلون شيئاً، بل إنهم يسقطون أمام الكلمات الطائرة في الهواء التي لا تعني شيئاً، ما يوحي بأنهم لا يزالون يتحركون في مواقع العجز والفشل على جميع المستويات، ليطلقوا مبادرتهم في السلام التي سقطت أمام الرفض الإسرائيلي والتمييع الأمريكي..
ومن الطريف أن رئيس حكومة بعض الدول العربية يطالب بمائة مليار دولار ليحارب، وكأنه يعلن أن المرحلة هي مرحلة الاستسلام لإسرائيل في حربها العسكرية المعلنة على الفلسطينيين، وحربها السياسية المعلنة على العالم العربي، لأن العرب لا يملكون الحرب في الوقت الذي لا يملكون فيه السلم.. والسؤال: ماذا يريدون؟ هل انتهت القضية الفلسطينية إلى مستوى القضية الإنسانية التي تأكل المسألة السياسية؟!
ولعل من الطريف أيضاً أن الرئيس الأمريكي يطالب المسؤول السعودي بوضع القيود على التبرعات الشعبية التي يقودها الإعلام السعودي لحساب الفلسطينيين، حتى لا تذهب إلى الانتفاضة التي يصفها بالإرهاب.. ويتلقى التطمينات على ذلك بأن هذه التبرعات سوف تستخدم في الجانب الإنساني فقط، تماماً كما لو كانت مساعدة المجاهدين جريمة سياسية!!
لقد فشلت كل الزيارات العربية لأمريكا، فلم تغيّر شيئاً في الموقف الأمريكي الذي يصرّ على الدعم المطلق لإسرائيل، كما ضاعت كل التصريحات الرسمية العربية في الفراغ، لأن الكثيرين من المسؤولين العرب خاضعون للضغط الأمريكي الذي يتحرك كما لو كانت إسرائيل هي الدولة العظمى التي تقود السياسة الأمريكية، لتكون أمريكا هي الدولة التابعة لها، وهكذا يتذكّر هؤلاء البيت القائل:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
الموقف الأوروبي حضاري
وننتقل إلى الموقف الأوروبي، لنسجّل له بعض المواقف المتميّزة عن أمريكا. وإننا بهذه المناسبة، نقدّر تصريح وزير الخارجية الفرنسي الذي قال: "من الخطأ تبرير القضاء على السلطة الفلسطينية بمكافحة الإرهاب، ولذلك فإن معركة "شارون" ليست معركتنا"، كما نقدّر تصريح مفوّض العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي الذي قال: "إن أوروبا تريد دولة فلسطينية قابلة للاستمرار لا تسودها ثغرات مثل جبنة سويسرية"..
إننا نريد لأوروبا أن تبقى على هذا الموقف القوي، فلا تسقط أمام اتهامات "شمعون بيريز" للمسؤولين الأوروبيين بأنهم "يمارسون معاداة السامية تجاه دولة إسرائيل"، على حدّ قوله، كنوع من حرب الأعصاب التي تطلقها إسرائيل بين وقت وآخر ضد الحملة الدولية التي تدين المجازر الصهيونية، وتتحدث عن الوحشية الهمجية للجيش الصهيوني الذي يعيد للعالم صورة المجازر النازية ولكن في فلسطين..
إننا نعرف أن أوروبا لا تملك القوة للضغط على إسرائيل بفعل الضغوط الأمريكية، ولكننا نتصوّر أن من مصلحتها أن تبقى على هذا الموقف الحضاري الذي يجعلها في الموقع المتقدّم في علاقات العرب والمسلمين بها.. ولذلك، فإننا ـ مع التحفّظ على مواقف بعض الدول الأوروبية المؤيدة للموقف الأمريكي ـ ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى استبدال البضائع والمنتجات الأمريكية بالمنتجات الأوروبية، بالإضافة إلى المنتجات الوطنية والآسيوية وغيرها، تشجيعاً للدول التي تتخذ مواقف متوازنة.
الشعب الفلسطيني.. صمود بطولي
ونريد للشعب الفلسطيني الجريح أن يبقى على صموده البطولي في مواجهة الوحشية الإسرائيلية، وأن يواصل انتفاضته، حسب إمكاناته، لأن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لا تريد له أن يحصل على حقوقه الشرعية، بل إنهما يريدان له أن يبقى تابعاً للكيان الصهيوني وهامشاً من هوامشه، وتلك هي السياسة الأمريكية التي خططت وتخطط لمساعدة العدو على استكمال خطته في الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من فلسطين، وعلى بسط سيطرته على المنطقة.. إننا ندرك صعوبة المرحلة ودقة التحدي، ولكننا نعتقد أن الشعب الفلسطيني يملك قوة الصلابة والصبر والصمود، حيث لم يعد لديه ما يخسره..
استنفار الطاقات لمواجهة التحدي
إن على الشعوب العربية والإسلامية أن تدرك جيداً بأن التحدي الصهيوني، والموقف الأمريكي المساند لإسرائيل، ليس موجّهاً ضد الفلسطينيين وحدهم، بل ضد الأمة كلها، ما يفرض على الجميع استنفار كل الطاقات لمواجهة ذلك.. وعلى العلماء المسلمين أن يرتفعوا إلى مستوى مسؤولياتهم الإسلامية في الوقوف مع شعوبهم، كما أن على العلماء المسيحيين أن يرتفعوا إلى مستوى القيم المسيحية في مواجهة الوحشية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في كل مقدّساته..
وإننا بهذه المناسبة، نقدّر تصريح بعض رجال الدين المسيحي، تعليقاً على إثارة موضوع كنسية المهد: "إن الإنسان أعظم من المعابد"، فإن هذا الموقف يلتقي بالموقف الإسلامي أن "حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة"، فتعالوا لنقف جميعاً مع الإنسان المستضعف ضد الاستكبار كله، فإن الله تعالى يريدنا أن نكون مع المستضعفين ضد المستكبرين، لتعيش الإنسانية في مستقبل العدل للإنسان كله وللحياة كلها.
وأخيراً، نقول للبنانيين: إننا نريد أن ينطلق البلد كله كموقف واحد بوجه الأخطار التي تتهدده، وخاصة من قِبَل العدو الذي لا يزال يوجّه تهديداته للبنان بين وقت وآخر.. وأن ينطلق الجميع كموقع واحد لمواجهة خطر الأزمة الاقتصادية الذي يتهدد البلد، وقد يؤدي به إلى الإفلاس.. إننا بحاجة إلى الوحدة، والى الخطة المدروسة، ومن ثم الإعلان عن انتهاء المشاكل أو تخفيفها، وتصليب الموقف في الوصول إلى حالة الحوار وإلى الحلول، بعيداً عن لعبة التجاذبات الشخصية في المواقع الرسمية، أو العصبيات الطائفية في المواقف السياسية. |