لنملأ قلوبنا بالصبر وقيم الروح والعدل والحق

لنملأ قلوبنا بالصبر وقيم الروح والعدل والحق

في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):
لنملأ قلوبنا بالصبر وقيم الروح والعدل والحق


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :  

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. هذه الآية نزلت في أهل البيت(ع) وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وهم بين يدي رسول الله(ص) يغطيهم كساء واحد ويجمعهم دين واحد، ويحلّق بهم في رحاب الله حبٌ واحد لله وإخلاص لعباد الله، وحركة في رسالة الله. وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على عصمة أهل البيت(ع)، فقد طهّرهم الله من كل رجس الخطأ في الفكر والقول والعمل، وأذهب عنهم كل قذارة معنوية أو مادية فيما يثقل حياة الإنسان.

الحسن(ع) في حضانة رسول الله(ص)

ومن أهل هذا البيت الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته غداً في السابع من شهر صفر، وهذا الإمام هو أول وليد كان لعليّ وفاطمة(ع) بعد الهجرة، وأول سبط لرسول الله(ص)، وقد عاش مع أخيه الحسين في حضانة من أروع ما عرفت البشرية من حضانة، لأنها حضانة لا تمنح الطفل حضانة جسدية أو حناناً وعاطفة فحسب، بل كانت حضانة العقل والروح والخلق.

وقد حضن رسول الله(ص) سبطيه كما حضن قبل ذلك أباهما عليّاً(ع) في طفولته الأولى، وكما حضن أمهما الزهراء(ع)، فكانت حضانة رسول الله(ص) للحسن والحسين(ع) تمتد من حضانته لأمهما وأبيهما، وهكذا أخذا الوراثة من الحضانة الأولى والرعاية المباشرة من الحضانة الثانية. المرحلة الأولى عاشاها مع رسول الله (ص)، ولأول مرة يجد المسلمون رسول الله يلاعب طفلين، ولم يعرف منه حتى في حضانته لابنته الزهراء(ع) وبناته الأخريات أي نوع من هذا الأسلوب، كان يحملهما على ظهره ويلاعبهما، كان يتحدث للمسلمين عن أنه يحبهما، وكان يقول وهو يدعو ربه: "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما". وفي البيت كانت حضانة عليّ وفاطمة(ع)، إنها حضانة طهر مع طهر تحت رعاية النبوة، ونحن نعرف كيف تنطلق التربية الأولى في البذور التي يضعها المربي في دور الحضانة للطفل كيف تعطيه العناصر العميقة في جذور شخصيته، ولذلك انطلقت العناصر الأولى لشخصية الحسنين(ع) من خلال ما أعطاهما رسول الله(ص) من بذور الحق والخير وكل القيم الروحية، التي ترعرعت ونمت في حضانة علوية وفاطمية.

في الرعاية العلوية

وعاش الإمام الحسن(ع) كل الأحداث والمآسي والآلام التي أحاطت بأمه الزهراء(ع) بعد رسول الله(ص)، واختزن ذلك في نفسه، ولكن ذلك لم يسقطه، بل أعطاه وعياً للسلبيات التي يعيشها المسلمون آنذاك. ثم كانت رعاية عليّ(ع) المرحلة الثانية من حياته، وهي مرحلة امتدت بعد وفاة أمه الزهراء(ع) إلى شهادة أبيه. كان عليّ(ع) يحوطه مع أخيه، فيملأ عقليهما علماً من علمه وعقلاً من عقله، ويملأ قلبيهما المحبة لله ولرسوله وللناس، كما كان عليّ(ع) يحب الله ورسوله والناس، وملأ قلبيهما بكل قيم الروح والعدل والحق، وحرّك طاقاتهما نحو حركة الرسالة، فكان الحسن(ع) صورة عن رسول الله(ص)، وكان يُقال إنه "أشبه الناس خلقاً وهدياً وسؤدداً برسول الله"، وكان صورة عن عليّ(ع)، لأن علياً أعطى الحسن(ع) كل عناصر شخصيته، فكان القوي بالله، وكان العالم برسالة الله، وكان الصلب في المواقف، حتى أنه عندما نفي أبو ذر إلى الربذة ومنع الخليفة آنذاك المسلمين من وداعه، كان الحسن(ع) ممن تحدث معه وأعطاه الكلمات التي تملأ قلبه وتصلّب موقفه.

رجل المهمات الصعبة

وهكذا عندما وصلت الخلافة إلى عليّ(ع) وتحرك المخالفون المعقّدون ضده، أرسل الإمام عليّ(ع) ولده الحسن(ع) إلى الكوفة ليعالج المشكلة، وكانت له مواقف صلبة في هذا الشأن، وكانت له معالجات من أكثر المعالجات حكمة، وكانت له مواعظ هي من أكثر المواعظ أصالة. ورأيناه مع أبيه يساعده في كل قضاياه، وينطلق معه في كل حروبه ومواقع حكمه، وكان عليّ(ع) يشير إليه ليعرّف الناس أنه المرجع والإمام من بعده. وعندما استشهد الإمام عليّ(ع) كان الإمام الحسن(ع) الخليفة من بعده، الخليفة من خلال إمامته التي فرضها الله والتي تحدث عنها رسول الله(ص) فيما روي عنه: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

وأنا أتساءل: أية شخصية من المسلمين في ذلك العصر تملك هذا الوسام النبوي، والنبي (ص) {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}، فهو لا يتحدث عن عاطفة، لا سيما إذا كان يتحدث عن قيمة في الآخرة تمثل درجة رفيعة بين كل أهل الجنة وهو الصادق المصدّق؟ أية شخصية تملك هذا الوسام بأنه سيد شباب أهل الجنة؟ ولكن الواقع الإسلامي كان قد دخل في متاهات وتعقيدات وعصبيات وإغراءات وترهيبات من خلال بني أمية بقيادة معاوية الذي أربك حكم عليّ(ع) بحروبه المتنوعة، حرب المال والسلاح والخداع، وواصل حربه مع الحسن(ع) بمختلف الوسائل، حتى أربك توازن جيش الإمام الحسن(ع) من خلال الخوارج وضعفاء النفوس المنتفعين ورؤساء العشائر والقبائل الذين استمالهم معاوية بالمال، فكتب إليه بعضهم يقول له: "إن شئنا سلّمناك الحسن ميتاً أو حياً"، حتى تعرّض لبعض محاولات الاغتيال كما ينقل التاريخ. ودرس الإمام الحسن(ع) المسألة، ورأى أن الظروف لا تساعد على قيام حركة كالتي قام بها الإمام الحسين(ع) فيما بعد، ورأى أن الامتداد في حرب بجيش مثل هذا الجيش سوف يعطي معاوية نصراً يستغله لتصفية كل رموز المعارضة من أصحاب عليّ(ع)، حتى لا يبقى هناك صوت للحق، وكان(ع) يريد أن يمهّد للإمام الحسين حركته، فثورة الحسين صدى لصلح الحسن(ع) الذي صالح، لا صلح اعتراف بالشرعية، ولكنه صلح هدنة، فرض فيها على معاوية شروطاً، ولكن معاوية لم يلتزم بها، وكان من الشروط أن تكون الخلافة له بعد معاوية، ولذلك عندما فكر معاوية في البيعة لولده يزيد خطط لاغتيال الإمام الحسن(ع)، فأغرى زوجة الإمام الحسن(ع) بالمال ووعدها بأن يزوّجها من ابنه يزيد، ودسّت للإمام الحسن(ع) السم، واستشهد من خلال ذلك مسموماً.

الحرص على الأمة

وأراد الإمام الحسن(ع) أن لا يراق في تشييع جسده الشريف أية قطرة دم، فأوصى الإمام الحسين(ع) أن لا يراق في أمره ملء محجمة دماً، وعرّفه أن بني أمية سوف يمنعون دفنه عند جده رسول الله(ص)، ولذلك أوصاه أن يُدفن في البقيع، ولكنه أراد أن يزور جده بجسده، فخرجت أم المؤمنين ومعها جماعات وصاحوا: لا يُدفن الحسن عند جده، وحاول بنو هاشم أن يدخلوا معهم في معركة فمنعهم الإمام الحسين(ع) تنفيذاً لوصية أخيه الحسن(ع). وكان الإمام الحسن(ع) المثل الأعلى في حسن الخلق والكرم والهيبة، وقد حجّ ماشياً خمساً وعشرين مرة، وأخرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله، وقد أعطى(ع) الكثير من مواعظه ونصائحه وتوجيهاته بقدر ما كان يتوفر له من فرص في هذا المجال.

الإنسان النموذج

ونحن في هذه الوقفة، نحاول أن نأخذ من حديث الإمام الحسن(ع) نصاً يتحدث فيه عن العناصر الشخصية للإنسان النموذج، ليعطينا درساً نصوغ من خلاله شخصيتنا. قال(ع) في وصف أخ صالح له: "كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه ـ كانت الدنيا مبسوطة أمامه وواسعة بين يديه، ولكنه لم يجعل الدنيا لنفسه ثمناً،  كان يعتبر الدنيا حاجة تسد حاجاته، ولم يعتبرها رسالة وطموحاً يسعى إليه، بل كانت الآخرة كل همه وكان يأخذ من الدنيا ما يرفع موقعه في الآخرة ـ كان لا يشتكي ـ إذا أصابه البلاء بل يصبر عليه ـ ولا يسخط، ولا يتبرّم ـ يتأفف ـ كان أكثر دهره صامتاً ـ ولكن صمته لم يكن من عجز عن الكلام، ولكنه كان يصمت عندما يكون الصمت فكراً وعندما لا يكون الكلام حاجة ـ فإذا قال بذّ القائلين، كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول، كان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت، كان لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه نظر أقربهما من هواه فخالفه، كان لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر في مثله".

ويروى عن الإمام الحسن(ع) أنه قال وهو يشير إلى الشورى، أن لا يستبد الإنسان برأيه: "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، لأن تلاقح الأفكار وتداخل العقول هو الذي يرشد الجميع إلى النتائج الصحيحة، وقد جاء في القرآن الكريم أن الله أراد لرسوله(ص)، وهو المعصوم، أن يستشير أصحابه: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وقال عن المجتمع المؤمن: {وأمرهم شورى بينهم}. وجاء في بعض الأحاديث: "من شاور الرجال شاركها في عقولها". وكان(ع) يريد للناس أن يشكروا نعمة الخالق ونعمة المخلوق، لأن شكر النعمة يزيدها: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ولأن شكر النعمة للمخلوق يشجعه على أن يزيد من إحسانه للناس، فيقول: "اللؤم أن لا تشكر النعمة".

ويروى عنه(ع) أنه قال: "من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته"، كن العزيز بطاعتك لربك والتزامك خط ربك، كن العزيز بأن تستمد العزة من ربك. وقد أخذ هذه الفكرة ابن أخيه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك"، والسلام على الإمام الحسن (ع) يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، رزقنا الله تعالى الثبات على ولايته في الدنيا وشفاعته في الآخرة، إنه سميع مجيب.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على كل وصايا الله ورسله وأوليائه، ومن وصايا عليّ(ع) لولديه الإمامين الحسنين(ع) ولجميع أهله ولكل من بلغه كتابه: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أن نقف أمام حالات الظلم الفردي والاجتماعي والسياسي والدولي لنرفض الظلم كله، ولنكون مع المظلوم لننقذه من ظالمه، ولنكون ضد الظالم لنسقط ظلمه ونمنعه من أن يظلم، لأن الناس إذا انطلقوا جميعاً في مواجهة الظالم فإنه لن يستطيع أن يمتد في ظلمه.. ونحن نعيش الآن ظلامة ولا أقسى منها وهي ظلامة الشعب الفلسطيني، وظلامة المسلمين من خلال الاستكبار العالمي الذي يتقدمه الاستكبار الأمريكي والصهيوني، فتعالوا لنعرف ماذا هناك ونحدد مواقفنا على هذا الأساس:

حكومات مجازر متعاقبة

من مجزرة "دير ياسين" إلى مجزرة "حولا" إلى مجزرة "قانا" وأخواتها، وانتهاء بمجزرة "جنين" و"نابلس"، تتحرك حكومات الجزّارين في الكيان الصهيوني الذي قام على الإرهاب على مستوى المنظمات قبل ولادة الدولة العبرية، وعلى مستوى الدولة بعد ولادتها.. أما أمريكا، فقد حمّلت ـ في السابق ـ الضحايا مسؤولية مجزرة "قانا"، وهي تحمّل ـ الآن ـ الفلسطينيين مسؤولية مجزرة "جنين"، من دون أن تتحدث حتى بلغة الأسف الإنساني، لأن هؤلاء الضحايا الشهداء في نظر أمريكا هم القتلة المجرمون الذين يُراد من الحكّام العرب ـ في خطاب "بوش" ـ أن لا يسمّوهم شهداء بل قتلة، لأن أمريكا لا ترى لهم حقاً في الدفاع عن أنفسهم وعن أرضهم في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وحدهم اليهود لهم كل الحق ـ عند أمريكا ـ في الدفاع عن أنفسهم، بتدمير كل البنية التحتية للشعب الفلسطيني، وجرف البيوت وهدمها على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ..

أمريكا تشارك إسرائيل جرائمها

إن القضية هي أن أمريكا تشارك إسرائيل في كل هذه المجازر التي يتحدث رئيسها عن "شارون" الذي قام بها إنه "بطل سلام"، لأن السلام في نظره يتوقف على إسقاط كل قوة للفلسطينيين وإيقاف الانتفاضة، لأن الأمن الإسرائيلي الذي تلتزمه أمريكا بالمطلق لا يتحقق إلا بالاستسلام الشامل من الشعب الفلسطيني، لتكون له ـ في النهاية ـ دولة فلسطينية خاضعة لإسرائيل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من دون أن تكون لها سلطات الدولة في مقوِّماتها العامة، وهذه هي الدولة التي يريدها "شارون" ويؤيدها "بوش" الذي يتحدث عما يسميه الإرهاب الفلسطيني المتمثّل في الانتفاضة التحريرية، ويريد من الدول العربية السائرة في فلكه أن تحاربه بكل قوتها، ويهدد بأن تكون الحرب ضد الانتفاضة، وحتى ضد السلطة الفلسطينية، هي المقدّمة للحرب الثانية ضد ما يسميه الإرهاب التي سوف تمتد من فلسطين إلى العراق وإلى أكثر من بلد عربي أو إسلامي، مجدداً معادلته السياسية "إما أن تكونوا معنا وإما أن تكونوا مع الإرهاب"..

لقد جاء وزير خارجية أمريكا إلى المنطقة ليهدد ويتوعد بطريقة دبلوماسية، ولينقل أكثر من رسالة إسرائيلية تهديدية إلى لبنان وسوريا إذا لم تتوقف المقاومة ضد الاحتلال، وليخوّف الفلسطينيين بمجازر أخرى إذا لم يقدّموا التنازلات المهينة وليمتنعوا عن السير في انتفاضة التحرير، ولا ندري هل هناك في الكواليس خطة خفيّة لأكثر من لعبة سياسية أمريكية تملك بعض الغطاء العربي، مما يتحدث به "باول" ورئيسه "بوش" عن التقدّم في جولته..

ومن المضحك المبكي أن أمريكا تتحدث بلسان رئيسها عن الانسحاب الإسرائيلي الذي يحاول خديعة العالم به، لأن الجميع يعرفون أن إسرائيل لا تزال تحتل في كل يوم قرية جديدة، وإذا انسحبت من بلدة معينة في الصباح فإنها تعود إليها في المساء، أو تطوّقها من جميع جهاتها لتتحوّل إلى سجن كبير لأهلها.. وإذا كانت تتحدث عن جدول زمني، فإنه يمثل الجدول الذي يُراد للعدو أن يحقق كل أهدافه التدميرية وكل اعتقالاته ومجازره، بالتنسيق مع أمريكا..

فضيحة سياسية عربية

إن الفضيحة السياسية العربية هي هذه الرحلات المتتابعة لأمريكا، لتوحي للعالم بأن العلاقات العربية ـ الأمريكية لا تزال قوية حميمة بالرغم من هذه المشاركة الأمريكية لإسرائيل في تدمير الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع بأن أمريكا سوف تبيع كل هؤلاء المسؤولين العرب كلاماً وتمنح إسرائيل المواقف، وتدعو العرب إلى متابعة حربهم ضد كل المعارضين للسياسة الأمريكية تحت شعار "الحرب ضد الإرهاب"، تماماً كما هي المبادرة العربية التي لم تحترمها أمريكا وإسرائيل واستبدلتها بمبادرة "شارون"، التي أُريد لها أن تمنح هذا الجزّار المجرم صفة بطل السلام، مع حفظ ماء الوجه العربي ـ لبعض الدول ـ بأنهم يأخذون من مبادرتهم اعترافهم بإسرائيل من دون الدخول في التفاصيل.. وهكذا، تقفز بهم أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ من تنازلٍ إلى تنازلٍ لتجديد الهزيمة العربية التاريخية في الاحتفالات القادمة بما يُسمى استقلال إسرائيل..

الانتفاضة تصنع تاريخاً جديداً

إننا نعتقد أن الشعب الفلسطيني الذي صنع للعرب والمسلمين تاريخاً جديداً في الجهاد والصبر والصمود والإصرار على مواصلة السير نحو هدف التحرير، بالرغم من كل الجراحات العميقة النازفة باستمرار، ومن كل الضغوط الهائلة كمثل الجبال، إن هذا الشعب سوف يتابع الانتفاضة معتمداً على الله وعلى شبابه المجاهدين، لأن التحرير لن ينفتح له على المستقبل الكبير إلا من خلال ذلك، والمعركة هي معركة عضّ أصابع، ينتظر العدو من هذا الشعب أن يصرخ طالباً منه وقف إطلاق النار ليعلن استسلامه، ولن يصرخ.

حذار من الفتنـة

ونقول للعرب وللمسلمين وللأحرار في كل مكان: تابعوا الضغوط على الأنظمة لتتخذ موقفاً فاعلاً لنصرة هذا الشعب الجريح، واستمروا في مظاهراتكم الاحتجاجية ضد أمريكا المساندة للعدوّ، وقاطعوا بضائعها ما أمكنكم ذلك، حتى تعرف أمريكا أن الشعوب تعاقب ـ بحجم قدرتها ـ الذين يقفون مع أعدائها ضد قضاياها المصيرية، فإن المرحلة تمثل فاصلاً تاريخياً يتحدد فيه مستقبل الأمة كلها، فكونوا في مستوى المرحلة.

ونقول للبنانيين ـ جميعاً ـ لتكن لكم العيون التي تحدّق في اللعبة السياسية الدولية، ولا سيما اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية، التي تحاول إثارة الفتنة بينكم حول المقاومة والانتفاضة ولعبة المؤتمرات والمبادرات الملغومة، فإن وفد المخابرات الأمريكية الذي يزور لبنان مؤخراً سوف يخطط لإثارة الفتنة بمختلف وسائله، وهناك سمّاعون لهم فاحذروهم بكل يقظة ووعي.. ثم، انفتحوا ـ بعيونكم ـ على الواقع الداخلي الذي ربما ينذر بالكارثة الاقتصادية، في الوقت الذي يغرق فيه الناس بالأحلام الوهمية.

وعلينا ـ في الواقع اللبناني والعربي ـ أن نتحرك مع المواقف ولا نسقط أمام الأشخاص، فإن اللعبة السياسية والأمنية قد تضخّم بعض الأحجام من أجل أن تؤدي دوراً معيناً باسم الوطنية أو الثورية، ولكن لحسابات بعيدة عن الوطن والثورة، فإن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.

في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):
لنملأ قلوبنا بالصبر وقيم الروح والعدل والحق


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :  

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. هذه الآية نزلت في أهل البيت(ع) وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وهم بين يدي رسول الله(ص) يغطيهم كساء واحد ويجمعهم دين واحد، ويحلّق بهم في رحاب الله حبٌ واحد لله وإخلاص لعباد الله، وحركة في رسالة الله. وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على عصمة أهل البيت(ع)، فقد طهّرهم الله من كل رجس الخطأ في الفكر والقول والعمل، وأذهب عنهم كل قذارة معنوية أو مادية فيما يثقل حياة الإنسان.

الحسن(ع) في حضانة رسول الله(ص)

ومن أهل هذا البيت الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته غداً في السابع من شهر صفر، وهذا الإمام هو أول وليد كان لعليّ وفاطمة(ع) بعد الهجرة، وأول سبط لرسول الله(ص)، وقد عاش مع أخيه الحسين في حضانة من أروع ما عرفت البشرية من حضانة، لأنها حضانة لا تمنح الطفل حضانة جسدية أو حناناً وعاطفة فحسب، بل كانت حضانة العقل والروح والخلق.

وقد حضن رسول الله(ص) سبطيه كما حضن قبل ذلك أباهما عليّاً(ع) في طفولته الأولى، وكما حضن أمهما الزهراء(ع)، فكانت حضانة رسول الله(ص) للحسن والحسين(ع) تمتد من حضانته لأمهما وأبيهما، وهكذا أخذا الوراثة من الحضانة الأولى والرعاية المباشرة من الحضانة الثانية. المرحلة الأولى عاشاها مع رسول الله (ص)، ولأول مرة يجد المسلمون رسول الله يلاعب طفلين، ولم يعرف منه حتى في حضانته لابنته الزهراء(ع) وبناته الأخريات أي نوع من هذا الأسلوب، كان يحملهما على ظهره ويلاعبهما، كان يتحدث للمسلمين عن أنه يحبهما، وكان يقول وهو يدعو ربه: "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما". وفي البيت كانت حضانة عليّ وفاطمة(ع)، إنها حضانة طهر مع طهر تحت رعاية النبوة، ونحن نعرف كيف تنطلق التربية الأولى في البذور التي يضعها المربي في دور الحضانة للطفل كيف تعطيه العناصر العميقة في جذور شخصيته، ولذلك انطلقت العناصر الأولى لشخصية الحسنين(ع) من خلال ما أعطاهما رسول الله(ص) من بذور الحق والخير وكل القيم الروحية، التي ترعرعت ونمت في حضانة علوية وفاطمية.

في الرعاية العلوية

وعاش الإمام الحسن(ع) كل الأحداث والمآسي والآلام التي أحاطت بأمه الزهراء(ع) بعد رسول الله(ص)، واختزن ذلك في نفسه، ولكن ذلك لم يسقطه، بل أعطاه وعياً للسلبيات التي يعيشها المسلمون آنذاك. ثم كانت رعاية عليّ(ع) المرحلة الثانية من حياته، وهي مرحلة امتدت بعد وفاة أمه الزهراء(ع) إلى شهادة أبيه. كان عليّ(ع) يحوطه مع أخيه، فيملأ عقليهما علماً من علمه وعقلاً من عقله، ويملأ قلبيهما المحبة لله ولرسوله وللناس، كما كان عليّ(ع) يحب الله ورسوله والناس، وملأ قلبيهما بكل قيم الروح والعدل والحق، وحرّك طاقاتهما نحو حركة الرسالة، فكان الحسن(ع) صورة عن رسول الله(ص)، وكان يُقال إنه "أشبه الناس خلقاً وهدياً وسؤدداً برسول الله"، وكان صورة عن عليّ(ع)، لأن علياً أعطى الحسن(ع) كل عناصر شخصيته، فكان القوي بالله، وكان العالم برسالة الله، وكان الصلب في المواقف، حتى أنه عندما نفي أبو ذر إلى الربذة ومنع الخليفة آنذاك المسلمين من وداعه، كان الحسن(ع) ممن تحدث معه وأعطاه الكلمات التي تملأ قلبه وتصلّب موقفه.

رجل المهمات الصعبة

وهكذا عندما وصلت الخلافة إلى عليّ(ع) وتحرك المخالفون المعقّدون ضده، أرسل الإمام عليّ(ع) ولده الحسن(ع) إلى الكوفة ليعالج المشكلة، وكانت له مواقف صلبة في هذا الشأن، وكانت له معالجات من أكثر المعالجات حكمة، وكانت له مواعظ هي من أكثر المواعظ أصالة. ورأيناه مع أبيه يساعده في كل قضاياه، وينطلق معه في كل حروبه ومواقع حكمه، وكان عليّ(ع) يشير إليه ليعرّف الناس أنه المرجع والإمام من بعده. وعندما استشهد الإمام عليّ(ع) كان الإمام الحسن(ع) الخليفة من بعده، الخليفة من خلال إمامته التي فرضها الله والتي تحدث عنها رسول الله(ص) فيما روي عنه: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

وأنا أتساءل: أية شخصية من المسلمين في ذلك العصر تملك هذا الوسام النبوي، والنبي (ص) {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}، فهو لا يتحدث عن عاطفة، لا سيما إذا كان يتحدث عن قيمة في الآخرة تمثل درجة رفيعة بين كل أهل الجنة وهو الصادق المصدّق؟ أية شخصية تملك هذا الوسام بأنه سيد شباب أهل الجنة؟ ولكن الواقع الإسلامي كان قد دخل في متاهات وتعقيدات وعصبيات وإغراءات وترهيبات من خلال بني أمية بقيادة معاوية الذي أربك حكم عليّ(ع) بحروبه المتنوعة، حرب المال والسلاح والخداع، وواصل حربه مع الحسن(ع) بمختلف الوسائل، حتى أربك توازن جيش الإمام الحسن(ع) من خلال الخوارج وضعفاء النفوس المنتفعين ورؤساء العشائر والقبائل الذين استمالهم معاوية بالمال، فكتب إليه بعضهم يقول له: "إن شئنا سلّمناك الحسن ميتاً أو حياً"، حتى تعرّض لبعض محاولات الاغتيال كما ينقل التاريخ. ودرس الإمام الحسن(ع) المسألة، ورأى أن الظروف لا تساعد على قيام حركة كالتي قام بها الإمام الحسين(ع) فيما بعد، ورأى أن الامتداد في حرب بجيش مثل هذا الجيش سوف يعطي معاوية نصراً يستغله لتصفية كل رموز المعارضة من أصحاب عليّ(ع)، حتى لا يبقى هناك صوت للحق، وكان(ع) يريد أن يمهّد للإمام الحسين حركته، فثورة الحسين صدى لصلح الحسن(ع) الذي صالح، لا صلح اعتراف بالشرعية، ولكنه صلح هدنة، فرض فيها على معاوية شروطاً، ولكن معاوية لم يلتزم بها، وكان من الشروط أن تكون الخلافة له بعد معاوية، ولذلك عندما فكر معاوية في البيعة لولده يزيد خطط لاغتيال الإمام الحسن(ع)، فأغرى زوجة الإمام الحسن(ع) بالمال ووعدها بأن يزوّجها من ابنه يزيد، ودسّت للإمام الحسن(ع) السم، واستشهد من خلال ذلك مسموماً.

الحرص على الأمة

وأراد الإمام الحسن(ع) أن لا يراق في تشييع جسده الشريف أية قطرة دم، فأوصى الإمام الحسين(ع) أن لا يراق في أمره ملء محجمة دماً، وعرّفه أن بني أمية سوف يمنعون دفنه عند جده رسول الله(ص)، ولذلك أوصاه أن يُدفن في البقيع، ولكنه أراد أن يزور جده بجسده، فخرجت أم المؤمنين ومعها جماعات وصاحوا: لا يُدفن الحسن عند جده، وحاول بنو هاشم أن يدخلوا معهم في معركة فمنعهم الإمام الحسين(ع) تنفيذاً لوصية أخيه الحسن(ع). وكان الإمام الحسن(ع) المثل الأعلى في حسن الخلق والكرم والهيبة، وقد حجّ ماشياً خمساً وعشرين مرة، وأخرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله، وقد أعطى(ع) الكثير من مواعظه ونصائحه وتوجيهاته بقدر ما كان يتوفر له من فرص في هذا المجال.

الإنسان النموذج

ونحن في هذه الوقفة، نحاول أن نأخذ من حديث الإمام الحسن(ع) نصاً يتحدث فيه عن العناصر الشخصية للإنسان النموذج، ليعطينا درساً نصوغ من خلاله شخصيتنا. قال(ع) في وصف أخ صالح له: "كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه ـ كانت الدنيا مبسوطة أمامه وواسعة بين يديه، ولكنه لم يجعل الدنيا لنفسه ثمناً،  كان يعتبر الدنيا حاجة تسد حاجاته، ولم يعتبرها رسالة وطموحاً يسعى إليه، بل كانت الآخرة كل همه وكان يأخذ من الدنيا ما يرفع موقعه في الآخرة ـ كان لا يشتكي ـ إذا أصابه البلاء بل يصبر عليه ـ ولا يسخط، ولا يتبرّم ـ يتأفف ـ كان أكثر دهره صامتاً ـ ولكن صمته لم يكن من عجز عن الكلام، ولكنه كان يصمت عندما يكون الصمت فكراً وعندما لا يكون الكلام حاجة ـ فإذا قال بذّ القائلين، كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول، كان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت، كان لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه نظر أقربهما من هواه فخالفه، كان لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر في مثله".

ويروى عن الإمام الحسن(ع) أنه قال وهو يشير إلى الشورى، أن لا يستبد الإنسان برأيه: "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، لأن تلاقح الأفكار وتداخل العقول هو الذي يرشد الجميع إلى النتائج الصحيحة، وقد جاء في القرآن الكريم أن الله أراد لرسوله(ص)، وهو المعصوم، أن يستشير أصحابه: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وقال عن المجتمع المؤمن: {وأمرهم شورى بينهم}. وجاء في بعض الأحاديث: "من شاور الرجال شاركها في عقولها". وكان(ع) يريد للناس أن يشكروا نعمة الخالق ونعمة المخلوق، لأن شكر النعمة يزيدها: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ولأن شكر النعمة للمخلوق يشجعه على أن يزيد من إحسانه للناس، فيقول: "اللؤم أن لا تشكر النعمة".

ويروى عنه(ع) أنه قال: "من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته"، كن العزيز بطاعتك لربك والتزامك خط ربك، كن العزيز بأن تستمد العزة من ربك. وقد أخذ هذه الفكرة ابن أخيه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك"، والسلام على الإمام الحسن (ع) يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، رزقنا الله تعالى الثبات على ولايته في الدنيا وشفاعته في الآخرة، إنه سميع مجيب.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على كل وصايا الله ورسله وأوليائه، ومن وصايا عليّ(ع) لولديه الإمامين الحسنين(ع) ولجميع أهله ولكل من بلغه كتابه: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أن نقف أمام حالات الظلم الفردي والاجتماعي والسياسي والدولي لنرفض الظلم كله، ولنكون مع المظلوم لننقذه من ظالمه، ولنكون ضد الظالم لنسقط ظلمه ونمنعه من أن يظلم، لأن الناس إذا انطلقوا جميعاً في مواجهة الظالم فإنه لن يستطيع أن يمتد في ظلمه.. ونحن نعيش الآن ظلامة ولا أقسى منها وهي ظلامة الشعب الفلسطيني، وظلامة المسلمين من خلال الاستكبار العالمي الذي يتقدمه الاستكبار الأمريكي والصهيوني، فتعالوا لنعرف ماذا هناك ونحدد مواقفنا على هذا الأساس:

حكومات مجازر متعاقبة

من مجزرة "دير ياسين" إلى مجزرة "حولا" إلى مجزرة "قانا" وأخواتها، وانتهاء بمجزرة "جنين" و"نابلس"، تتحرك حكومات الجزّارين في الكيان الصهيوني الذي قام على الإرهاب على مستوى المنظمات قبل ولادة الدولة العبرية، وعلى مستوى الدولة بعد ولادتها.. أما أمريكا، فقد حمّلت ـ في السابق ـ الضحايا مسؤولية مجزرة "قانا"، وهي تحمّل ـ الآن ـ الفلسطينيين مسؤولية مجزرة "جنين"، من دون أن تتحدث حتى بلغة الأسف الإنساني، لأن هؤلاء الضحايا الشهداء في نظر أمريكا هم القتلة المجرمون الذين يُراد من الحكّام العرب ـ في خطاب "بوش" ـ أن لا يسمّوهم شهداء بل قتلة، لأن أمريكا لا ترى لهم حقاً في الدفاع عن أنفسهم وعن أرضهم في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وحدهم اليهود لهم كل الحق ـ عند أمريكا ـ في الدفاع عن أنفسهم، بتدمير كل البنية التحتية للشعب الفلسطيني، وجرف البيوت وهدمها على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ..

أمريكا تشارك إسرائيل جرائمها

إن القضية هي أن أمريكا تشارك إسرائيل في كل هذه المجازر التي يتحدث رئيسها عن "شارون" الذي قام بها إنه "بطل سلام"، لأن السلام في نظره يتوقف على إسقاط كل قوة للفلسطينيين وإيقاف الانتفاضة، لأن الأمن الإسرائيلي الذي تلتزمه أمريكا بالمطلق لا يتحقق إلا بالاستسلام الشامل من الشعب الفلسطيني، لتكون له ـ في النهاية ـ دولة فلسطينية خاضعة لإسرائيل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من دون أن تكون لها سلطات الدولة في مقوِّماتها العامة، وهذه هي الدولة التي يريدها "شارون" ويؤيدها "بوش" الذي يتحدث عما يسميه الإرهاب الفلسطيني المتمثّل في الانتفاضة التحريرية، ويريد من الدول العربية السائرة في فلكه أن تحاربه بكل قوتها، ويهدد بأن تكون الحرب ضد الانتفاضة، وحتى ضد السلطة الفلسطينية، هي المقدّمة للحرب الثانية ضد ما يسميه الإرهاب التي سوف تمتد من فلسطين إلى العراق وإلى أكثر من بلد عربي أو إسلامي، مجدداً معادلته السياسية "إما أن تكونوا معنا وإما أن تكونوا مع الإرهاب"..

لقد جاء وزير خارجية أمريكا إلى المنطقة ليهدد ويتوعد بطريقة دبلوماسية، ولينقل أكثر من رسالة إسرائيلية تهديدية إلى لبنان وسوريا إذا لم تتوقف المقاومة ضد الاحتلال، وليخوّف الفلسطينيين بمجازر أخرى إذا لم يقدّموا التنازلات المهينة وليمتنعوا عن السير في انتفاضة التحرير، ولا ندري هل هناك في الكواليس خطة خفيّة لأكثر من لعبة سياسية أمريكية تملك بعض الغطاء العربي، مما يتحدث به "باول" ورئيسه "بوش" عن التقدّم في جولته..

ومن المضحك المبكي أن أمريكا تتحدث بلسان رئيسها عن الانسحاب الإسرائيلي الذي يحاول خديعة العالم به، لأن الجميع يعرفون أن إسرائيل لا تزال تحتل في كل يوم قرية جديدة، وإذا انسحبت من بلدة معينة في الصباح فإنها تعود إليها في المساء، أو تطوّقها من جميع جهاتها لتتحوّل إلى سجن كبير لأهلها.. وإذا كانت تتحدث عن جدول زمني، فإنه يمثل الجدول الذي يُراد للعدو أن يحقق كل أهدافه التدميرية وكل اعتقالاته ومجازره، بالتنسيق مع أمريكا..

فضيحة سياسية عربية

إن الفضيحة السياسية العربية هي هذه الرحلات المتتابعة لأمريكا، لتوحي للعالم بأن العلاقات العربية ـ الأمريكية لا تزال قوية حميمة بالرغم من هذه المشاركة الأمريكية لإسرائيل في تدمير الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع بأن أمريكا سوف تبيع كل هؤلاء المسؤولين العرب كلاماً وتمنح إسرائيل المواقف، وتدعو العرب إلى متابعة حربهم ضد كل المعارضين للسياسة الأمريكية تحت شعار "الحرب ضد الإرهاب"، تماماً كما هي المبادرة العربية التي لم تحترمها أمريكا وإسرائيل واستبدلتها بمبادرة "شارون"، التي أُريد لها أن تمنح هذا الجزّار المجرم صفة بطل السلام، مع حفظ ماء الوجه العربي ـ لبعض الدول ـ بأنهم يأخذون من مبادرتهم اعترافهم بإسرائيل من دون الدخول في التفاصيل.. وهكذا، تقفز بهم أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ من تنازلٍ إلى تنازلٍ لتجديد الهزيمة العربية التاريخية في الاحتفالات القادمة بما يُسمى استقلال إسرائيل..

الانتفاضة تصنع تاريخاً جديداً

إننا نعتقد أن الشعب الفلسطيني الذي صنع للعرب والمسلمين تاريخاً جديداً في الجهاد والصبر والصمود والإصرار على مواصلة السير نحو هدف التحرير، بالرغم من كل الجراحات العميقة النازفة باستمرار، ومن كل الضغوط الهائلة كمثل الجبال، إن هذا الشعب سوف يتابع الانتفاضة معتمداً على الله وعلى شبابه المجاهدين، لأن التحرير لن ينفتح له على المستقبل الكبير إلا من خلال ذلك، والمعركة هي معركة عضّ أصابع، ينتظر العدو من هذا الشعب أن يصرخ طالباً منه وقف إطلاق النار ليعلن استسلامه، ولن يصرخ.

حذار من الفتنـة

ونقول للعرب وللمسلمين وللأحرار في كل مكان: تابعوا الضغوط على الأنظمة لتتخذ موقفاً فاعلاً لنصرة هذا الشعب الجريح، واستمروا في مظاهراتكم الاحتجاجية ضد أمريكا المساندة للعدوّ، وقاطعوا بضائعها ما أمكنكم ذلك، حتى تعرف أمريكا أن الشعوب تعاقب ـ بحجم قدرتها ـ الذين يقفون مع أعدائها ضد قضاياها المصيرية، فإن المرحلة تمثل فاصلاً تاريخياً يتحدد فيه مستقبل الأمة كلها، فكونوا في مستوى المرحلة.

ونقول للبنانيين ـ جميعاً ـ لتكن لكم العيون التي تحدّق في اللعبة السياسية الدولية، ولا سيما اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية، التي تحاول إثارة الفتنة بينكم حول المقاومة والانتفاضة ولعبة المؤتمرات والمبادرات الملغومة، فإن وفد المخابرات الأمريكية الذي يزور لبنان مؤخراً سوف يخطط لإثارة الفتنة بمختلف وسائله، وهناك سمّاعون لهم فاحذروهم بكل يقظة ووعي.. ثم، انفتحوا ـ بعيونكم ـ على الواقع الداخلي الذي ربما ينذر بالكارثة الاقتصادية، في الوقت الذي يغرق فيه الناس بالأحلام الوهمية.

وعلينا ـ في الواقع اللبناني والعربي ـ أن نتحرك مع المواقف ولا نسقط أمام الأشخاص، فإن اللعبة السياسية والأمنية قد تضخّم بعض الأحجام من أجل أن تؤدي دوراً معيناً باسم الوطنية أو الثورية، ولكن لحسابات بعيدة عن الوطن والثورة، فإن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية