يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، ويقول سبحانه في آية أخرى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، ويقول تعالى عن المؤمنين: "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين".
الأهل ومسؤولية الرعاية الدينية
في هذه الآيات الكريمة، يريد الله تعالى أن يحصّن المجتمع الإسلامي من الانحراف، فيحمّل كل مسلم ومسلمة مسؤولية مواجهة كل انحرافات الواقع، في البيت والسوق والنادي والمجتمع الخاص والعام، بحيث يجب على كل مسلم يحترم إسلامه أن يدعو إلى الخير كل من التقى به وعاش معه، أن يدعو أهله إلى الخير، وقد أمر الله تعالى رسوله (ص) في بداية الدعوة بقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، أن يتحمّل كل من الأب والأم مسؤولية الرعاية الدينية لعائلته، ولا يكفي أن يتحمّل مسؤولية الجانب المادي الغذائي فقط، بل أن يتحمل مسؤولية كل الجوانب الأخرى ليكون بيته بيتاً مسلماً يؤمن أفراده بالإسلام كما يؤمنون بالخير كله ويعملون له، وقد ورد في قوله تعالى: {واؤمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}.. وهذا الأمر لا يقتصر على الأب والأم، بل يشمل أيضاً الأولاد، فيتحملون مسؤولية أن يعظوا آباءهم وأمهاتهم إذا كانوا لا يصلُّون ولا يصومون، بالحكمة والموعظة الحسنة. وهكذا تمتد المسألة إلى المجتمع كله، بحيث يتحمّل كل واحد منا هذه المسؤولية في كل علاقاته الاجتماعية، بأن يكون له شخصية الداعية..
والمعروف الذي أمرنا الله تعالى أن نأمر به يتسع لكل ما يرفع مستوى الناس ويوحّد صفوفهم وينمّي طاقاتهم ويقرّبهم إلى ربهم ويؤكد حريتهم وتوازنهم بما يرضي الله، وهذه الكلمة يدخل ضمنها الجانب العبادي والسياسي والاقتصادي، والمنكر هو كل ما لا يرضي الله بما يربك حياة الفرد والمجتمع وينتهي به إلى الفساد والضلال والانهيار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان الرقابة الاجتماعية، وهو ما يحمي المجتمع. ولا يعتقدن أحد أن هذه تقتصر على علماء الدين فحسب، بل كل مؤمن هو معني بذلك، والله تعالى في الآية الكريمة تحدث عن الأمة: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس}، والأساس في هذا التفضيل للأمة هو أنها أمة تتحمّل مسؤولية الإيمان بالله وإقامة المعروف وإسقاط المنكر.
الدعوة إلى الله مسؤولية الجميع
نعم، نحن نقول إن العلماء هم أكثر مسؤولية لأنهم أكثر معرفة وعلماً، وعليهم أن يقوموا بمسؤولياتهم في التبليغ والدعوة إلى الله، ولكن لا بدّ لكل إنسان أن ينمّي ثقافته حتى يواجه الفساد في المجتمع، لأن الكثير من الناس قد يتحركون في حياتهم وعلاقاتهم وأوضاعهم نتيجة جهلهم بالخطوط الشرعية، مثلاً كثير من الناس لا يشترطون في الشخصية السياسية أو الاجتماعية أن تكون شخصية متديّنة، ولكن السياسة لا بدّ أن تكون في خط الدين، والدين لا بدّ أن يتحمّل مسؤولية السياسة، والسياسة ليست خداعاً وكذباً ونفاقاً، بل هي أن تسوس أمور الناس وتدبّرها وتنظمها وتعمل من أجل أن يكون العدل هو العنوان الكبير الذي يعيش في المجتمع، والسياسة هي أن تقف ضد الظلم، هذه هي سياسة النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع)، وهذا ما نلاحظه في خطاب الإمام الحسين (ع) عندما طالبه والي المدينة بأن يبايع يزيد، قال له: "إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله"، معنى ذلك أن كل من يتصف بهذه الصفات لا يصلح أن يكون في موقع المسؤولية الصغيرة أو الكبيرة، ومشكلتنا أننا نلعن يزيد ونبكي على الحسين(ع)، ولكننا نتّبع أكثر من يزيد ممن يحملون هذه الصفات. لذلك، عندما نلتزم مبدأ فعلينا أن نجعل كل حياتنا تسير في خط هذا المبدأ، فأنت مسلم، فلا بدّ أن تكون مسلماً في العبادة والحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي والسياسي، ومسلماً في بيتك وفي السوق وفي النادي، وقد روي أن "من الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظل، رجل لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن لله في ذلك رضى"..
أجر عظيم لمبتغي مرضاة الله
والنقطة التي يجب أن نضعها في أذهاننا دائماً، هي أن كل عمل نعمله مكتوب، {إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}، لأنك في الدنيا تجد معك عشيرتك وحزبك وجماعتك، ولكن عندما تنزل إلى القبر هل ينزل أحد معك، لذلك علينا أن ندبّر أمورنا في الدنيا، لأن في ذلك اليوم "حساب ولا عمل"، ولكن ـ ومع كل أسف ـ أصبحت اهتماماتنا اهتمامات مادية، وأغلبنا لا يهتم أن يكون أولاده وأقاربه مؤمنين أو غير مؤمنين، والبعض إذا أرادت إحدى بناته أن تتحجّب فإنه يضطهدها، بحجة أنها إذا تحجّبت فإنها لن تتزوّج؟! أين تقاك؟ أين توكلك على الله؟
وقد حدّثنا الله تعالى عن سبب لعنة بني إسرائيل: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}، ويبيّن الله تعالى جائزة الذين يأمرون بالخير والمعروف: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة ـ الذين يحثّ الناس على إعانة الفقراء والمساكين والمجاهدين والأيتام ـ أو معروف ـ مما يشجّع الناس على طاعة الله ـ أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}، وقد جعل الله تعالى مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية الرجال والنساء: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، فلا يجوز أن نعزل المرأة عن الأعمال التي تنقذ المجتمع، لأنها تملك طاقة كما يملك الرجل طاقة.
محاربة الفساد وتوعية الناس
وعلى ضوء هذا، لا بدّ لنا ـ كمسلمين ومسلمات ـ أن نتحمّل مسؤوليتنا في داخل المجتمع الإسلامي بإصلاح كل ما فسد فيه، وتوعية الناس عن معاصيهم إذا عصوا، أن نذكّر بعضنا بعضاً بالالتزام بالحق والصبر، وهذا هو الذي ينقذ المجتمع. ويروى عن النبي (ص) في النتائج السلبية التي تترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال (ص): "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم"، قالوا: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: "كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قالوا: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: "كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً"، قالوا: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: "كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فإذا كان ذلك سلّط الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم".
والظلم هو أعلى أنواع المنكر، والعدل هو أعلى أنواع المعروف، فعندما يسود الظلم على كل المستويات، فلا بد لكل المجتمع أن يستنفر كل طاقاته من أجل أن يؤكد العدل ويزهق الظلم، بهذا نستطيع أن نجعل من دنيانا آخرة، ونعيش بعض أخلاق أهل الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين}، هذه هي صورة الجنة، فكم عندنا من صورة الجنة في بيوتنا ومساجدنا ونوادينا؟ لذلك، لندرّب أنفسنا على أخلاق أهل الجنة، ولندعُ الله دائماً بهذا الدعاء: اللهم أعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل ما تقبلون عليه من أوضاع تسير بكم في اتجاه الخضوع للاستكبار وللظلم ولكل الذين يصنعون المأساة في حياة الإنسان، اتقوا الله، ولتكن وقفتكم في مواجهة ذلك وقفة حق وعدل يرتكز على أساس القوة التي لا بد أن ننميها حتى نكون الأمة القوية التي لا يستطيع الآخرون أن يهزموها أو يضعفوها أو يسقطوها، لأن العالم المستكبر قد قرر أن يجتاح كل قوة إسلامية، وأن يُضعف كل موقع إسلامي، ولذلك فلا بد للأمة كلها في شرق العالم الإسلامي وغربه أن تجمّد كل خلافاتها ومنازعاتها الهامشية، وأن تعمل على إسكات كل صوت للفتنة وكل عمل للإرباك الاجتماعي والسياسي، لأن العدو ينطلق من موقف واحد وموقع واحد ليحارب الإسلام كله والاستضعاف كله، وعلينا أن نواجهه من موقع واحد: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}..
ونحن نواجه عدوّاً في حجم العالم، وهو أمريكا التي ركّزت قواعد عدوّ آخر في فلسطين، ومنذ أن ركّز هذا العدو قاعدته في فلسطين لم تهدأ المنطقة العربية، بل امتدّ شررها إلى أكثر من منطقة إسلامية، لم تهدأ لا في سياستها ولا في أمنها ولا في اقتصادها، بل إننا ننتقل من حالة اهتزاز إلى حالة اهتزاز ومن فتنة إلى فتنة، والعدوّ ينمو ويقوى ويصل إلى درجات عليا من مواقع التحدي لنا، ونحن لا شغل لنا إلا أن يهدم بعضنا كيان بعض، وأن يعيش بعضنا على أساس الأحقاد ضد البعض الآخر، والله تعالى حذّرنا من هذا الواقع: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.. ولا نزال مع العنفوان والمأساة في فلسطين، فماذا هناك:
المجازر الإسرائيلية تجتاح كل فلسطين
المجازر الإسرائيلية تجتاح الأطفال والنساء والشيوخ والشباب من المدنيين، بالطائرات الأمريكية والدبابات والمدافع والجرافات التي تهدم البيوت على رؤوس أصحابها، ثم تقوم بدفن الشهداء في مقابر جماعية حتى تخفي جريمتها عن الأنظار.. ولم يصدر أيّ استنكار من أيّ مسؤول أمريكي، في الوقت الذي يتطوّع فيه الرئيس الأمريكي وإدارته ويتحمّسون لاستنكار العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون للدفاع عن أنفسهم، تحت شعار اتهامها بـ"الإرهاب"؟؟
أمريكا تساوي بين المجرم والضحية
وقد جاء وزير الخارجية الأمريكي الذي لم يجد هناك أيّ ضغط عربي على الموقف الأمريكي، فلم نسمع أيّ صوت قويّ في مواجهة السياسة الأمريكية في لقاءاته مع المسؤولين العرب، كما أنه عقد اجتماعاً في "مدريد" ليضغط على الاتحاد الأوروبي الذي حاول فرض عقوبات على إسرائيل، وليضغط على الأمم المتحدة وعلى روسيا التي فقدت ـ حتى في الشكل ـ كل دور لها في المسألة الفلسطينية، وليستصدر قراراً يساوي بين المجرم والضحية، وليتحدث عن انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بلهجة باردة لا أثر فيها لأيّ ضغط على إسرائيل، وليتحدث عن إيقاف عمليات المقاومة في لبنان من دون أن يطلب من إسرائيل الانسحاب من المناطق المحتلة، أو الامتناع عن خرق المجال الجوي اللبناني، الأمر الذي جعل أمريكا تقود الموقف الدولي لمصلحة إسرائيل، في إخراجها من المأزق السياسي والأمني على حساب الشعب الفلسطيني..
ومن المضحك المبكي أن أمريكا تصف "شارون" بأنه "رجل سلام"، بالرغم من كل عمليات الإبادة التي قام ويقوم بها في الضفة الغربية!! والسؤال: إذا كانت كل هذه الحرب الوحشية المجنونة صورة سلام، فما هي صورة الحرب؟ إننا نجد أن الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني تشبه حرب أمريكا في أفغانستان، في كل الوسائل اللاإنسانية في قصف المدنيين وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها ودفنهم تحت الأنقاض، تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"..
الارتفاع إلى مستوى التحدي
إننا نرى في هذه الحرب الوحشية التي تقودها أمريكا، بالسلاح الذي تقدّمه للجيش الصهيوني، والخطة المشتركة بينها وبين إسرائيل، حرباً على العرب كلهم، وعلى المسلمين كلهم. ولذلك، فلا بدّ للأمة أن ترتفع إلى مستوى وعي هذا التحدي الكبير، في إعلان الحرب على الاحتلال الصهيوني وعلى المصالح الأمريكية، ولا سيما مقاطعة البضائع الأمريكية بقدر الإمكان، لأننا نلاحظ أن هذين الحليفين الاستراتيجيين قد وضعا في خطتهما تدمير البنية التحتية الاقتصادية والسياسية للعرب والمسلمين، من أجل تحقيق مشروع صراع الحضارات..
إن المؤتمرات العربية والإسلامية قد سقطت في الامتحان، حيث لم تقم بأيّ موقف ضاغط في مستوى المرحلة، في الوقت الذي نعرف فيه أنها تملك الكثير من مواقع الضغط على أمريكا، كما نطالب شعوب هذه الأنظمة أن تقوم بمسؤولياتها الكبرى في هذا الاتجاه.
الصمود الفلسطيني حتى الاستشهاد
وإننا ندعو السلطة الفلسطينية إلى البقاء في نطاق الموقف المميَّز في الصمود حتى الاستشهاد، ليبقى هذا التكامل الشعبي بينها وبين الشعب الفلسطيني الذي أثبت في وحدته الوطنية ـ الإسلامية أنه الشعب الذي تمرّد على الإرهاب الأمريكي والصهيوني، وأثبت أنه سوف يواجه هذا الإرهاب بالمقاومة وبالعمليات الاستشهادية ـ ومنها عملية "حيفا" ـ التي سوف تُسقط كل أمن لليهود في فلسطين، في دلالاتها الجهادية..
كما نريد لهذا الشعب المجاهد أن يواصل مسيرته في هذه المرحلة الصعبة، التي تحاول فيها أمريكا أن تحقق لإسرائيل هدفها في استسلام الانتفاضة تحت تأثير عملياتها الوحشية، لتربح بالسياسة ما لم تستطع أن تربحه في الحرب.. ونريد للشعوب العربية والإسلامية أن تبقى في الشارع، في انتفاضة سياسية مستمرة ضاغطة على المسؤولين المتخاذلين، وعلى الاستكبار الأمريكي الذي لا بدّ له من أن يشعر بالخطر على مصالحه، من خلال غضبة شعوب المنطقة على سياسته.
الوقوف مع المقاومة في عملية التحرير
وإننا ـ من خلال هذا الأفق الجهادي السياسي ـ نبارك عمليات المقاومة الإسلامية في مواجهتها للعدو في "مزارع شبعا"، باعتبارها حركة القوة في عصر الضعف العربي، ورسالة المساندة للشعب الفلسطيني، لينطلق تحرير لبنان في خط تحرير فلسطين..
وعلى اللبنانيين أن يقفوا مع مقاومتهم في عملية التحرير، في مواجهة هذا العدو الذي لا يفهم إلا بلغة القوة، وأن يتحرك الجميع في وحدة وطنية من أجل تحرير لبنان وفلسطين وتحرير الأمة كلها.. لقد نجحت تجربة التحرير في الماضي القريب، فلماذا يفكر البعض أنها لن تنجح في المستقبل القريب؟!