لأننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت

لأننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت

لأننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت
علينا أن نوازن حياتنا بين الدنيا والآخرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين..

أسباب الخلل في مجتمعاتنا

لماذا، ونحن المسلمون المؤمنون، نتحرك في حياتنا الفردية والعائلية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية، كما لو لم يكن هناك دين يحدد لنا ما نفعله وما نتركه، فلعلّنا في الكثير من أمورنا نتصرف من خلال حالاتنا الذاتية ومزاجنا الخاص؟؟ لماذا ننطلق في المجتمع الصغير والكبير، لنثير الفتنة في أكثر من جانب، ولنساعد الذين يثيرون الفتنة في هذا الجانب أو ذاك؟ لماذا، ونحن المسلمون المؤمنون كما نقول عن أنفسنا، نؤيد الظالم إذا كنا ننتفع منه، ونخذل العادل إذا كنا لا ننتفع منه؟

لماذا تكثر الغيبة في مجتمعاتنا، بحيث نربي عليها أطفالنا ويشب عليها شبابنا، ويهرم عليها شيوخنا نساءً ورجالاً؟ لماذا لا يأمن الإنسان من أخيه المؤمن إذا اختلف معه في أي جانب من جوانب الحياة وتفاصيلها، ولماذا يخاف منه أن يظلمه وأن يدمر سمعته وأن يستحل منه كل شيء؟ لماذا ذلك؟! ربما لأننا لا نراقب الله ولا نعترف بربوبيته، لأننا لا نربي عظمة الله في نفوسنا، فالذين يملكون بعض القوة في المجتمع أعظم في نفوسنا من الله، فنحن نخاف الناس ولا نخاف الله، ومع ذلك فإننا نطلب من الله أن يمنحنا الجنة.

لنستشعر عظمة الله في نفوسنا

ولقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من آية أن صفة المؤمن هي أنه يخاف الله {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}، أن تخاف الله في نفسك، فلا تدفعها إلى معصيته في ما كلفك به، وأن تخاف الله في أهلك وعيالك، فلا تندفع لأن تعصي الله في تصرفاتك معهم، وأن تخاف الله في السوق الذي تبيع فيه وتشتري، فلا تأكل أموال الناس بالباطل، ولا تغشهم، وأن تخاف الله في مواقفك، فلا تقف موقفاً تؤيد فيه ظالماً أو مستكبراً أو كافراً أو منحرفاً، أن تراقب الله في ذلك كله، بحيث يعيش الله في عقلك فلا تبقي في عقلك إلا الحق والخير، وأن يعيش الله في قلبك فلا ينبض قلبك إلا بالمحبة، وأن تعيش الله في حياتك فلا تتعامل مع الآخرين إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما ينبغي لنا ـ أيها الأحبة ـ أن نربي عليه أنفسنا، لنكون في وعي لمقام الله، بحيث نستشعر عظمة الله الخالق، البارىء، المصوّر، الجبّار، القاهر فوق عباده، القادر على كل شيء، الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

أن نعرف مقام الله، المهيمن على الأمر كله، وهو الرزاق ذو القوة المتين، الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا}.

وهكذا أيها الأحبة، {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}، وهو مقلّب القلوب والأبصار، وهو المحيي والمميت، وهو الذي يقف الناس غداً بين يديه ليقدموا حساب أعمالهم، {يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله}، لا ملك لغيره {لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار} {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه}.

الغفلة عن يوم القيامة

تعالوا ـ أيها الأحبة ـ لننطلق مع القرآن ومع الرسول ومع أئمة أهل البيت(ع)، لنرى نفوسنا في هذه المرآة الصافية، مرآة كتاب الله وسنة رسوله، وأحاديث الأئمة من أهل البيت الذين هم ورثة علم الرسول، وهم أوصياؤه والحافظون لدين الله.

إن الله يحدثنا عن بعض مشاهد القيامة {فإذا جاءت الطامّة الكبرى ـ يوم القيامة ـ يوم يتذكر الإنسان ما سعى}، أيها الإنسان، إنك اليوم في غفلة، وتحاول أن تنسى كل تاريخك، وأن تعيش الغفلة في ما تستقبل من عمرك، لأنك لا تتحسس مسؤوليتك، ولكن يوم القيامة {يوم يقوم الناس لربّ العالمين} يقال لك: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} {يوم يتذكر الإنسان ما سعى* وبرزت الجحيم لمن يرى} فالله يوم القيامة يظهر الجحيم في كل لهبها، وفي كل عذابها، وفي كل ما يلقى فيها المتمردون على الله من ويلات، حتى يقولون: {يا مالك ليقضي علينا ربك قال إنكم ماكثون} خلود في النار {فأما من طغى} تجبر وتجاوز الحدود في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولم يعش في علاقاته مع الآخرين إنسانية الناس من حوله، ولم يعش الخوف من مقام ربه، بل انطلق مع نفسه الأمارة بالسوء، ومع قرينه الشيطاني الذي يوسوس له وينحرف به ويزين له، {وآثر الحياة الدنيا} وهو الإنسان الذي يكون كل هدفه كيف يحصل على الدنيا من حلال كانت أو من حرام، من حق أو من باطل، من ظلم أو من عدل، فالحياة الدنيا هي كل همه، وليس للآخرة نصيب في كل حياته، كما حدّثنا الله عن بعض الناس في الحج: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الآخرة من خلاق}، {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} {أولئك لهم نصيب مما كسبوا}.

ولذلك فإن من كان كل هدفه الحياة الدنيا {فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه} عرف مقام ربه، وتربّت عظمة الله في نفسه، فهو عندما يقول كلمة "الله أكبر" يفرغ قلبه من كل من يحاول أن يتجلبب برداء الكبرياء ويرى نفسه كبيراً، لأن الله هو الأكبر، وعندما يقول "لا إله إلا الله" يسقط من قلبه وعقله كل الذين يعتبرون أنفسهم في مصاف الآلهة، وعندما يقول: "سبحان ربي العظيم"، يشعر أن كل شريف في جنب شرف الله حقير، وعندما يقول "سبحان ربي الأعلى"، يتصور الكل في موقع السفل، وأن الله هو الأعلى من كل شيء، وعندما يحمد الله يشعر أن الحمد كله له، وعندما يسبّحه يشعر أن كل العظمة له، وعندما يفكر في السموات والأرض يشعر أن الله هو الذي خلق ذلك كله، ويشعر بالفقر إلى الله {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهو الغني الحميد} {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز}.

الجنة مأوى المتقين

{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} نهى النفس الأمارة بالسوء عن كل هواه الذي ينحرف بها عن طاعة الله، من القيام بالواجبات أو ترك المحرمات أو التخلف عن دفع حقوق الله، فإذا كنت رقيباً على نفسك، واعياً لكل الوساوس والهواجس، وسرت في خط الاستقامة {فإن الجنة هي المأوى}، والجنة لا تقدّر بثمن، لكننا نبيعها بالبخس من الثمن، بشهوة لحظة، بأكلة، بشراب، بموقف لا يمتد في الحياة، وعلي(ع) يقول: "ما لعلي ولذّة تفنى ولنعيم لا يبقى".

وهكذا، فالجنة ـ كما قال تعالى ـ أعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟! {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. وفي آية أخرى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وفي آية أخرى أيضاً: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}.

وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويفعله ويعلم ما يعمله من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى". والإمام علي(ع) يقول في الناس الذين يدّعون أنهم يخافون الله وأنهم يرغبون الجنة: "من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه، وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو".

من سمات المؤمنين: الخوف

ويقول الإمام علي(ع): "كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول ـ محل نظر، غير جدي ـ إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ـ يتنازل عن مبادئه وعن موقفه وحاجاته ـ فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً ووعداً".

ويقول الله تعالى: {أمّن هو قانت آناء الله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}. ويقول الإمام الصادق(ع): "كان أبي(ع) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا في قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"، ويقول الإمام الصادق(ع): "خف الله كأنك تراه.."

ولذلك، فإن المشاكل التي تحصل بين المؤمنين أكثر تعقيداً من تلك التي تحصل مع غير المؤمنين، بحيث ينـزغ الشيطان في نفس الإنسان، ما يجعله يعيش مع حقده وغضبه وينسى ربه وإنسانيته، مع العلم أن خط الالتزام هو خط كله إنسانية وكله عدل وخير وكله رجاء بالله.

"خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك".

ورسول الله(ص) يقول: "ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنة والنار".

والصادق(ع) يقول: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو". ويقول رسول الله(ص): "من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عز وجل حرّم الله عليه النار وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان".

وأخيراً، أيها الأحبة، {إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا يحزنون}.

أيها الأحبة، إننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت، وعلينا أن نحكم أمرنا ونخاف ربنا ونحبه ونرجوه ونخاف مقامه، "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وراقبوه في كل أموركم وفي كل مواقفكم، حتى تحشروا إليه وهو راضٍ عنكم، وهو رحيم بكم، وهو لطيف بعباده، اتقوا الله وراقبوه في أنفسكم فلا تظلموها بالمعصية، وفي أهلكم فلا تظلموهم وتتخلوا عن مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها، وراقبوه في مجتمعكم فلا تفسدوا هذا المجتمع ولا تنشروا فيه الفتنة، ولا تساعدوا من يريد تمزيقه والإضرار به، راقبوا الله واتقوه وقفوا وقفة واحدة أمام كل مستكبر وأمام كل ظالم، فإن الله لا يحب الظالمين ولا يحب المستكبرين، ويريدنا أن نكون مع الصادقين، كموقف من مواقف التقوى.

ونحن أيها الأحبة، لا نزال نعيش في التحديات التي يحرّكها المستكبرون في العالم، حيث برز الكفر كلّه إلى الإسلام كلّه، وبرز المستكبرون كلهم إلى المستضعفين كلهم، وعلينا أن نحدد مواقفنا مما يحيط بنا، ومما نستقبله من كل القضايا التي تتعلق بمصائرنا وقضايانا الحيوية.

القمة العربية تخذل الشعب الفلسطيني

انتهت القمة العربية التي تسالم فيها العرب أو أكثرهم على ترك الشعب الفلسطيني لمصيره، لتبدأ بعدها مباشرة المرحلة الثانية من حرب "شارون" الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، ليبدأ معها باجتياح وحشي وإجرامي جديد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 67 بطريقة جنونية وعلى مرأى ومسمع من العالم كله..

لقد قرّر العرب أن يغسلوا أيديهم من دم هذا الصّدِّيق، وأن يتركوا الشعب الفلسطيني لوحده يواجه هستيريا العدوّ، ولكن هذا الشعب أثبت من خلال مجاهديه الأبطال، ومن خلال استشهادييه في العمليات الاستشهادية النوعية، وآخرها في "ناتانيا"، أن كل حواجز الأمن الإسرائيلي وكل الهمجية الصهيونية لا تستطيع أن تقهر إرادته وتطلعه بالتحرر من الاحتلال .

بين حماية القضية ونجاح المبادرة

هكذا انتهت القمة العربية، وقد تحدث الكثيرون عن نجاحها في قرارها الإجماعي على المبادرة، وفي تبريدها بعض الأجواء العربية في الخلاف بين العراق والكويت ودعم الانتفاضة الفلسطينية.. وإعلان قرار ما يسمى بـ"السلام" في مقابل قبول إسرائيل بالمبادرة.. ولكن السؤال هو كيف يتحقق نجاح الأمة بتقدم القضية، لا كيف تنجح القمة اجتماعاً وقراراً؟؟ وقد أعلنت إسرائيل رفضها عودة اللاجئين بالمطلق، والانسحاب من الأراضي المحتلة في الـ67، إلى غير ذلك من الثوابت الإسرائيلية، واعتبرت القبول بها تدميراً للكيان الصهيوني. أمّا أمريكا، فإنها رحبت بالمبادرة من خلال عرضها للسلام مع إسرائيل مع التحفظ على كل موادّها الأساسية، واعتبرت أن المفاوضات في التفاصيل هي السبيل للوصول إلى حل لا المفاوضات من أجل التنفيذ، ما يوحي بأن الرعاية الأمريكية لن تكون متحركة للضغط على إسرائيل بل للضغط على العرب .

واشنطن ترعى مشروع "شارون"

لقد أثبتت أمريكا  في كل تاريخها أنها تصنع كل القرارات الدولية، بما في ذلك مؤتمر مدريد، الذي يؤكد على مقولة "الأرض مقابل السلام"، لحساب إسرائيل، لأنها لا تعترف بأرض محتلة، بل بأرض متنازع عليها، ما يفرغ قاعدة المؤتمر، بالإضافة إلى القرارين 242 و 194 من مضمونهم. ولذلك فإنها ـ أمريكا ـ تتحرك في طرح المفاوضات لتغيير الثوابت لا لتنفيذها، وهذا ما لاحظناه في مشروع "تينيت" الذي هو قرار أمريكي تعمل إسرائيل على تغيير بنوده بإشراف المبعوث الأميركي "زيني" الذي يعمل  للضغط على الجانب الفلسطيني .. إنها ـ حتى الآن ـ تريد تسوية محدودة تملك فيها إسرائيل أنفاسها وتستعيد فيها قوتها، وهي لا تريد  سلاماً  للمنطقة كما تزعم، لأنها ليست مع أي سلام لا يخدم المطامع الإسرائيلية..

 لقد أخرجت أمريكا أمن المنطقة العربية من حسابها، وأرادت من المسؤولين في دولها أن يعملوا على إنجاح مشروع شارون بعد أن استجابوا لها في إعطاء الفرصة له، وقد تمثلت  هذه الفرصة في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني بكل وحشية وهمجية، ولم يستطع العرب المسؤولون أن يحركوا ساكناً ضد إسرائيل، لأنهم لا يريدون إغضاب أمريكا، لا سيما بعد أن عملت على تخويف العالم العربي والإسلامي بتهمة الإرهاب أو بصناعة أسلحة الدمار الشامل.. والسؤال الآن: ما هو الموقف بعد أن رفضت إسرائيل المضمون السياسي للمبادرة؟؟ وإذا كان بعض المسؤولين يتحدث أن أمريكا والاتحاد الأوروبي قد أيّدا المبادرة، فإن عليه أن يعرف جيداً أن التأييد كان لعرض ما يسمى بـ"السلام" لا لمضمون المبادرة، لأن المسألة لديهم هي أن تكون مدخلاً للمفاوضات لا مدخلاً للتنفيذ.

انحدار المسار العربي

لقد كنا نطمح  أن يعيش مؤتمر "القمة العربية" روحية خطابي الرئيس إميل لحود والرئيس بشار الأسد، اللذين عبرا عن تطلعات الشعوب العربية التي أرادت للقمة أن تعمل على تقوية الانتفاضة عبر أوسع عمق عربي، لا أن تقدم لها التحيات فقط، لأن المرحلة هي مرحلة الاستقلال الفلسطيني، والمطلوب هو تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها السياسة العربية المتحركة في أكثر من حال فشل أو عجز.

إن الشعوب العربية تعي جيداً أن إسرائيل لن تقبل بأية مبادرة عربية، حتى المبادرة التي تقتصر على الأراضي المحتلة في الـ67 وأن المحاور الدولية الغربية لن تضغط على إسرائيل، ولذلك فإن الانتفاضة وحدها هي التي تملك عناصر الضغط حتى لو كان الثمن باهظاً للشعب الفلسطيني وليست المسألة هي أن تريد هذه الشعوب أن تقاتل حتى آخر فلسطيني بل أن تطالب بأية وسيلة لدعم هذا الشعب الجريح المجاهد عسكرياً ومادياً وسياسياً.. ولعل هذه الشعوب تشعر أن الإجماع العربي يتحرك في المرحلة الجديدة في تقديم تنازلات جديدة تحت تأثير الحاجة إلى الحصول على تأييد المحاور الدولية للعرب باعتبارهم من أنصار "السلام"، في الوقت الذي نعرف فيه جميعاً أن المطلوب دولياً هو السلام الذي تقبل به إسرائيل لأنهم لا يريدون الضغوط عليها، لا سيما أن أمريكا لا تسمح بذلك .

إن السياسة الدولية الغربية ـ ولا سيما أمريكا ـ لا تتحدث بوضوح، بل بطريقة  ضبابية ديبلوماسية تسمح بالكثير من الدخول في متاهات التفاصيل..

وأخيراً، إن القضية هي أن مؤتمر القمة إذا كان واثقاً من نجاحه السياسي في المبادرة التنازلية، فليجرب حظه لوحده، ولكن عليه أن لا يقوم بالضغط على الانتفاضة ميدانياً وسياسياً من أجل إضعافها وإسقاطها أو إدخالها في دائرة "الحرب على الإرهاب" الذي تحدثت به أمريكا ومعها الاتحاد الأوروبي ضد مجاهدي الانتفاضة، ولا سيما حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى في فلسطين .

المطلوب دعم شامل للانتفاضة

وأخيراً.. إننا نقول للشعوب العربية والإسلامية، إن عليها أن تتقبل التحدي لتندفع لدعم الانتفاضة مادياً في عملية تبرع شاملة، وعلى المنظمات السياسية أن تفتح أكثر من ثغرة لمساعدتها بالسلاح وبالبقاء في الشارع بطريقة عقلانية مدروسة، حتى لا تقع في شرك الفتنة الداخلية التي يخطط لها الكثيرون.. ونقول للشعب الفلسطيني المجاهد.. لن يقلّع أحد الأشواك المزروعة في طريقك،  سواء أكانت سياسية أو أمنية، لأن الكثيرين يخافون من هذه الأشواك أن تدمي أظافرهم.. لقد قام المجاهدون بقلع الكثير من الأشواك وزرعوا الكثير من الأشواك في طريق العدو.. وعليهم إكمال المسيرة..

إننا ـ أيها المجاهدون في فلسطين ـ لا نعطيكم دروساً فأنتم الذين أصبحتم تمنحون الشعوب أفضل الدروس وتبقى الوحدة هي السلاح الأقوى والأكثر تأثيراً في عملية التحرير..

 ونقول للشعب اللبناني وللمسؤولين، لا تحركوا بعض التعقيدات التي حدثت في القمة لتصنعوا منها إرباكاً جديداً وخلافات جديدة تزيد في أزمة البلد، أو تخلقوا أجواءً سلبية تزيد الأوضاع سوءاً وتولّد مناخاً سلبياً يلقي بتأثيره على القضايا الكبرى.

أيها الناس، اتقوا الله في لبنان وفي مصير الأمة كلها..

لأننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت
علينا أن نوازن حياتنا بين الدنيا والآخرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين..

أسباب الخلل في مجتمعاتنا

لماذا، ونحن المسلمون المؤمنون، نتحرك في حياتنا الفردية والعائلية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية، كما لو لم يكن هناك دين يحدد لنا ما نفعله وما نتركه، فلعلّنا في الكثير من أمورنا نتصرف من خلال حالاتنا الذاتية ومزاجنا الخاص؟؟ لماذا ننطلق في المجتمع الصغير والكبير، لنثير الفتنة في أكثر من جانب، ولنساعد الذين يثيرون الفتنة في هذا الجانب أو ذاك؟ لماذا، ونحن المسلمون المؤمنون كما نقول عن أنفسنا، نؤيد الظالم إذا كنا ننتفع منه، ونخذل العادل إذا كنا لا ننتفع منه؟

لماذا تكثر الغيبة في مجتمعاتنا، بحيث نربي عليها أطفالنا ويشب عليها شبابنا، ويهرم عليها شيوخنا نساءً ورجالاً؟ لماذا لا يأمن الإنسان من أخيه المؤمن إذا اختلف معه في أي جانب من جوانب الحياة وتفاصيلها، ولماذا يخاف منه أن يظلمه وأن يدمر سمعته وأن يستحل منه كل شيء؟ لماذا ذلك؟! ربما لأننا لا نراقب الله ولا نعترف بربوبيته، لأننا لا نربي عظمة الله في نفوسنا، فالذين يملكون بعض القوة في المجتمع أعظم في نفوسنا من الله، فنحن نخاف الناس ولا نخاف الله، ومع ذلك فإننا نطلب من الله أن يمنحنا الجنة.

لنستشعر عظمة الله في نفوسنا

ولقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من آية أن صفة المؤمن هي أنه يخاف الله {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}، أن تخاف الله في نفسك، فلا تدفعها إلى معصيته في ما كلفك به، وأن تخاف الله في أهلك وعيالك، فلا تندفع لأن تعصي الله في تصرفاتك معهم، وأن تخاف الله في السوق الذي تبيع فيه وتشتري، فلا تأكل أموال الناس بالباطل، ولا تغشهم، وأن تخاف الله في مواقفك، فلا تقف موقفاً تؤيد فيه ظالماً أو مستكبراً أو كافراً أو منحرفاً، أن تراقب الله في ذلك كله، بحيث يعيش الله في عقلك فلا تبقي في عقلك إلا الحق والخير، وأن يعيش الله في قلبك فلا ينبض قلبك إلا بالمحبة، وأن تعيش الله في حياتك فلا تتعامل مع الآخرين إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما ينبغي لنا ـ أيها الأحبة ـ أن نربي عليه أنفسنا، لنكون في وعي لمقام الله، بحيث نستشعر عظمة الله الخالق، البارىء، المصوّر، الجبّار، القاهر فوق عباده، القادر على كل شيء، الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

أن نعرف مقام الله، المهيمن على الأمر كله، وهو الرزاق ذو القوة المتين، الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا}.

وهكذا أيها الأحبة، {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}، وهو مقلّب القلوب والأبصار، وهو المحيي والمميت، وهو الذي يقف الناس غداً بين يديه ليقدموا حساب أعمالهم، {يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله}، لا ملك لغيره {لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار} {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه}.

الغفلة عن يوم القيامة

تعالوا ـ أيها الأحبة ـ لننطلق مع القرآن ومع الرسول ومع أئمة أهل البيت(ع)، لنرى نفوسنا في هذه المرآة الصافية، مرآة كتاب الله وسنة رسوله، وأحاديث الأئمة من أهل البيت الذين هم ورثة علم الرسول، وهم أوصياؤه والحافظون لدين الله.

إن الله يحدثنا عن بعض مشاهد القيامة {فإذا جاءت الطامّة الكبرى ـ يوم القيامة ـ يوم يتذكر الإنسان ما سعى}، أيها الإنسان، إنك اليوم في غفلة، وتحاول أن تنسى كل تاريخك، وأن تعيش الغفلة في ما تستقبل من عمرك، لأنك لا تتحسس مسؤوليتك، ولكن يوم القيامة {يوم يقوم الناس لربّ العالمين} يقال لك: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} {يوم يتذكر الإنسان ما سعى* وبرزت الجحيم لمن يرى} فالله يوم القيامة يظهر الجحيم في كل لهبها، وفي كل عذابها، وفي كل ما يلقى فيها المتمردون على الله من ويلات، حتى يقولون: {يا مالك ليقضي علينا ربك قال إنكم ماكثون} خلود في النار {فأما من طغى} تجبر وتجاوز الحدود في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولم يعش في علاقاته مع الآخرين إنسانية الناس من حوله، ولم يعش الخوف من مقام ربه، بل انطلق مع نفسه الأمارة بالسوء، ومع قرينه الشيطاني الذي يوسوس له وينحرف به ويزين له، {وآثر الحياة الدنيا} وهو الإنسان الذي يكون كل هدفه كيف يحصل على الدنيا من حلال كانت أو من حرام، من حق أو من باطل، من ظلم أو من عدل، فالحياة الدنيا هي كل همه، وليس للآخرة نصيب في كل حياته، كما حدّثنا الله عن بعض الناس في الحج: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الآخرة من خلاق}، {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} {أولئك لهم نصيب مما كسبوا}.

ولذلك فإن من كان كل هدفه الحياة الدنيا {فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه} عرف مقام ربه، وتربّت عظمة الله في نفسه، فهو عندما يقول كلمة "الله أكبر" يفرغ قلبه من كل من يحاول أن يتجلبب برداء الكبرياء ويرى نفسه كبيراً، لأن الله هو الأكبر، وعندما يقول "لا إله إلا الله" يسقط من قلبه وعقله كل الذين يعتبرون أنفسهم في مصاف الآلهة، وعندما يقول: "سبحان ربي العظيم"، يشعر أن كل شريف في جنب شرف الله حقير، وعندما يقول "سبحان ربي الأعلى"، يتصور الكل في موقع السفل، وأن الله هو الأعلى من كل شيء، وعندما يحمد الله يشعر أن الحمد كله له، وعندما يسبّحه يشعر أن كل العظمة له، وعندما يفكر في السموات والأرض يشعر أن الله هو الذي خلق ذلك كله، ويشعر بالفقر إلى الله {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهو الغني الحميد} {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز}.

الجنة مأوى المتقين

{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} نهى النفس الأمارة بالسوء عن كل هواه الذي ينحرف بها عن طاعة الله، من القيام بالواجبات أو ترك المحرمات أو التخلف عن دفع حقوق الله، فإذا كنت رقيباً على نفسك، واعياً لكل الوساوس والهواجس، وسرت في خط الاستقامة {فإن الجنة هي المأوى}، والجنة لا تقدّر بثمن، لكننا نبيعها بالبخس من الثمن، بشهوة لحظة، بأكلة، بشراب، بموقف لا يمتد في الحياة، وعلي(ع) يقول: "ما لعلي ولذّة تفنى ولنعيم لا يبقى".

وهكذا، فالجنة ـ كما قال تعالى ـ أعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟! {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. وفي آية أخرى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وفي آية أخرى أيضاً: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}.

وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويفعله ويعلم ما يعمله من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى". والإمام علي(ع) يقول في الناس الذين يدّعون أنهم يخافون الله وأنهم يرغبون الجنة: "من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه، وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو".

من سمات المؤمنين: الخوف

ويقول الإمام علي(ع): "كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول ـ محل نظر، غير جدي ـ إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ـ يتنازل عن مبادئه وعن موقفه وحاجاته ـ فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً ووعداً".

ويقول الله تعالى: {أمّن هو قانت آناء الله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}. ويقول الإمام الصادق(ع): "كان أبي(ع) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا في قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"، ويقول الإمام الصادق(ع): "خف الله كأنك تراه.."

ولذلك، فإن المشاكل التي تحصل بين المؤمنين أكثر تعقيداً من تلك التي تحصل مع غير المؤمنين، بحيث ينـزغ الشيطان في نفس الإنسان، ما يجعله يعيش مع حقده وغضبه وينسى ربه وإنسانيته، مع العلم أن خط الالتزام هو خط كله إنسانية وكله عدل وخير وكله رجاء بالله.

"خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك".

ورسول الله(ص) يقول: "ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنة والنار".

والصادق(ع) يقول: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو". ويقول رسول الله(ص): "من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عز وجل حرّم الله عليه النار وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان".

وأخيراً، أيها الأحبة، {إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا يحزنون}.

أيها الأحبة، إننا نعيش في دار هدنة لا ندري متى يأتينا الموت، وعلينا أن نحكم أمرنا ونخاف ربنا ونحبه ونرجوه ونخاف مقامه، "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وراقبوه في كل أموركم وفي كل مواقفكم، حتى تحشروا إليه وهو راضٍ عنكم، وهو رحيم بكم، وهو لطيف بعباده، اتقوا الله وراقبوه في أنفسكم فلا تظلموها بالمعصية، وفي أهلكم فلا تظلموهم وتتخلوا عن مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها، وراقبوه في مجتمعكم فلا تفسدوا هذا المجتمع ولا تنشروا فيه الفتنة، ولا تساعدوا من يريد تمزيقه والإضرار به، راقبوا الله واتقوه وقفوا وقفة واحدة أمام كل مستكبر وأمام كل ظالم، فإن الله لا يحب الظالمين ولا يحب المستكبرين، ويريدنا أن نكون مع الصادقين، كموقف من مواقف التقوى.

ونحن أيها الأحبة، لا نزال نعيش في التحديات التي يحرّكها المستكبرون في العالم، حيث برز الكفر كلّه إلى الإسلام كلّه، وبرز المستكبرون كلهم إلى المستضعفين كلهم، وعلينا أن نحدد مواقفنا مما يحيط بنا، ومما نستقبله من كل القضايا التي تتعلق بمصائرنا وقضايانا الحيوية.

القمة العربية تخذل الشعب الفلسطيني

انتهت القمة العربية التي تسالم فيها العرب أو أكثرهم على ترك الشعب الفلسطيني لمصيره، لتبدأ بعدها مباشرة المرحلة الثانية من حرب "شارون" الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، ليبدأ معها باجتياح وحشي وإجرامي جديد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 67 بطريقة جنونية وعلى مرأى ومسمع من العالم كله..

لقد قرّر العرب أن يغسلوا أيديهم من دم هذا الصّدِّيق، وأن يتركوا الشعب الفلسطيني لوحده يواجه هستيريا العدوّ، ولكن هذا الشعب أثبت من خلال مجاهديه الأبطال، ومن خلال استشهادييه في العمليات الاستشهادية النوعية، وآخرها في "ناتانيا"، أن كل حواجز الأمن الإسرائيلي وكل الهمجية الصهيونية لا تستطيع أن تقهر إرادته وتطلعه بالتحرر من الاحتلال .

بين حماية القضية ونجاح المبادرة

هكذا انتهت القمة العربية، وقد تحدث الكثيرون عن نجاحها في قرارها الإجماعي على المبادرة، وفي تبريدها بعض الأجواء العربية في الخلاف بين العراق والكويت ودعم الانتفاضة الفلسطينية.. وإعلان قرار ما يسمى بـ"السلام" في مقابل قبول إسرائيل بالمبادرة.. ولكن السؤال هو كيف يتحقق نجاح الأمة بتقدم القضية، لا كيف تنجح القمة اجتماعاً وقراراً؟؟ وقد أعلنت إسرائيل رفضها عودة اللاجئين بالمطلق، والانسحاب من الأراضي المحتلة في الـ67، إلى غير ذلك من الثوابت الإسرائيلية، واعتبرت القبول بها تدميراً للكيان الصهيوني. أمّا أمريكا، فإنها رحبت بالمبادرة من خلال عرضها للسلام مع إسرائيل مع التحفظ على كل موادّها الأساسية، واعتبرت أن المفاوضات في التفاصيل هي السبيل للوصول إلى حل لا المفاوضات من أجل التنفيذ، ما يوحي بأن الرعاية الأمريكية لن تكون متحركة للضغط على إسرائيل بل للضغط على العرب .

واشنطن ترعى مشروع "شارون"

لقد أثبتت أمريكا  في كل تاريخها أنها تصنع كل القرارات الدولية، بما في ذلك مؤتمر مدريد، الذي يؤكد على مقولة "الأرض مقابل السلام"، لحساب إسرائيل، لأنها لا تعترف بأرض محتلة، بل بأرض متنازع عليها، ما يفرغ قاعدة المؤتمر، بالإضافة إلى القرارين 242 و 194 من مضمونهم. ولذلك فإنها ـ أمريكا ـ تتحرك في طرح المفاوضات لتغيير الثوابت لا لتنفيذها، وهذا ما لاحظناه في مشروع "تينيت" الذي هو قرار أمريكي تعمل إسرائيل على تغيير بنوده بإشراف المبعوث الأميركي "زيني" الذي يعمل  للضغط على الجانب الفلسطيني .. إنها ـ حتى الآن ـ تريد تسوية محدودة تملك فيها إسرائيل أنفاسها وتستعيد فيها قوتها، وهي لا تريد  سلاماً  للمنطقة كما تزعم، لأنها ليست مع أي سلام لا يخدم المطامع الإسرائيلية..

 لقد أخرجت أمريكا أمن المنطقة العربية من حسابها، وأرادت من المسؤولين في دولها أن يعملوا على إنجاح مشروع شارون بعد أن استجابوا لها في إعطاء الفرصة له، وقد تمثلت  هذه الفرصة في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني بكل وحشية وهمجية، ولم يستطع العرب المسؤولون أن يحركوا ساكناً ضد إسرائيل، لأنهم لا يريدون إغضاب أمريكا، لا سيما بعد أن عملت على تخويف العالم العربي والإسلامي بتهمة الإرهاب أو بصناعة أسلحة الدمار الشامل.. والسؤال الآن: ما هو الموقف بعد أن رفضت إسرائيل المضمون السياسي للمبادرة؟؟ وإذا كان بعض المسؤولين يتحدث أن أمريكا والاتحاد الأوروبي قد أيّدا المبادرة، فإن عليه أن يعرف جيداً أن التأييد كان لعرض ما يسمى بـ"السلام" لا لمضمون المبادرة، لأن المسألة لديهم هي أن تكون مدخلاً للمفاوضات لا مدخلاً للتنفيذ.

انحدار المسار العربي

لقد كنا نطمح  أن يعيش مؤتمر "القمة العربية" روحية خطابي الرئيس إميل لحود والرئيس بشار الأسد، اللذين عبرا عن تطلعات الشعوب العربية التي أرادت للقمة أن تعمل على تقوية الانتفاضة عبر أوسع عمق عربي، لا أن تقدم لها التحيات فقط، لأن المرحلة هي مرحلة الاستقلال الفلسطيني، والمطلوب هو تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها السياسة العربية المتحركة في أكثر من حال فشل أو عجز.

إن الشعوب العربية تعي جيداً أن إسرائيل لن تقبل بأية مبادرة عربية، حتى المبادرة التي تقتصر على الأراضي المحتلة في الـ67 وأن المحاور الدولية الغربية لن تضغط على إسرائيل، ولذلك فإن الانتفاضة وحدها هي التي تملك عناصر الضغط حتى لو كان الثمن باهظاً للشعب الفلسطيني وليست المسألة هي أن تريد هذه الشعوب أن تقاتل حتى آخر فلسطيني بل أن تطالب بأية وسيلة لدعم هذا الشعب الجريح المجاهد عسكرياً ومادياً وسياسياً.. ولعل هذه الشعوب تشعر أن الإجماع العربي يتحرك في المرحلة الجديدة في تقديم تنازلات جديدة تحت تأثير الحاجة إلى الحصول على تأييد المحاور الدولية للعرب باعتبارهم من أنصار "السلام"، في الوقت الذي نعرف فيه جميعاً أن المطلوب دولياً هو السلام الذي تقبل به إسرائيل لأنهم لا يريدون الضغوط عليها، لا سيما أن أمريكا لا تسمح بذلك .

إن السياسة الدولية الغربية ـ ولا سيما أمريكا ـ لا تتحدث بوضوح، بل بطريقة  ضبابية ديبلوماسية تسمح بالكثير من الدخول في متاهات التفاصيل..

وأخيراً، إن القضية هي أن مؤتمر القمة إذا كان واثقاً من نجاحه السياسي في المبادرة التنازلية، فليجرب حظه لوحده، ولكن عليه أن لا يقوم بالضغط على الانتفاضة ميدانياً وسياسياً من أجل إضعافها وإسقاطها أو إدخالها في دائرة "الحرب على الإرهاب" الذي تحدثت به أمريكا ومعها الاتحاد الأوروبي ضد مجاهدي الانتفاضة، ولا سيما حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى في فلسطين .

المطلوب دعم شامل للانتفاضة

وأخيراً.. إننا نقول للشعوب العربية والإسلامية، إن عليها أن تتقبل التحدي لتندفع لدعم الانتفاضة مادياً في عملية تبرع شاملة، وعلى المنظمات السياسية أن تفتح أكثر من ثغرة لمساعدتها بالسلاح وبالبقاء في الشارع بطريقة عقلانية مدروسة، حتى لا تقع في شرك الفتنة الداخلية التي يخطط لها الكثيرون.. ونقول للشعب الفلسطيني المجاهد.. لن يقلّع أحد الأشواك المزروعة في طريقك،  سواء أكانت سياسية أو أمنية، لأن الكثيرين يخافون من هذه الأشواك أن تدمي أظافرهم.. لقد قام المجاهدون بقلع الكثير من الأشواك وزرعوا الكثير من الأشواك في طريق العدو.. وعليهم إكمال المسيرة..

إننا ـ أيها المجاهدون في فلسطين ـ لا نعطيكم دروساً فأنتم الذين أصبحتم تمنحون الشعوب أفضل الدروس وتبقى الوحدة هي السلاح الأقوى والأكثر تأثيراً في عملية التحرير..

 ونقول للشعب اللبناني وللمسؤولين، لا تحركوا بعض التعقيدات التي حدثت في القمة لتصنعوا منها إرباكاً جديداً وخلافات جديدة تزيد في أزمة البلد، أو تخلقوا أجواءً سلبية تزيد الأوضاع سوءاً وتولّد مناخاً سلبياً يلقي بتأثيره على القضايا الكبرى.

أيها الناس، اتقوا الله في لبنان وفي مصير الأمة كلها..

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية