القيادة المميَّزة لرسول الله(ص) في صناعة المجتمع الإسلاميّ

القيادة المميَّزة لرسول الله(ص) في صناعة المجتمع الإسلاميّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آي الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وجمعٍ غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

صورة الإسلام الأوَّل

قبل أيَّام، كانت مناسبة ذكرى مبعث النّبيّ محمَّد(ص)، وذكرى الإسراء والمعراج. وفي هذا الجوّ، نستعيد صورة الإسلام الأولى في انطلاقته الأولى، عندما أوحى الله تعالى إلى رسوله بالرَّسالة، بعد أن أعدَّه إعداداً عقليّاً وروحيّاً وعمليّاً، بحيث انطلق النبيّ(ص) بالرّسالة من موقع الثّقة الشّاملة الّتي كان يتمتَّع بها في مجتمعه، حيث كان يُرى أنّه راجح العقل، فيرجعون إليه في الرأي، والإنسان الصّادق، بحيث كانوا يستمعون إليه ليتعرّفوا الحقيقة، وكان يتمتّع عندهم بصفة الأمانة، بحيث كان مستودع أمانتهم، حتى غلبت هاتان الصّفتان عليه، فكانوا يقولون وهم يتحدَّثون عنه: "جاء الصّادق الأمين، والتقينا الصّادق الأمين"، لأنّ الله تعالى يصطفي من رسله من يشاء، بالطّريقة التي يمثّل الرسول فيها الرسالة، بحيث كان النّاس يستمعون إلى رسول الله(ص) في كلماته مما يتلوه عليهم من الوحي، فيجدون كلّ الآيات في شخصه، فكان الكتاب النّاطق، وكان القرآن الصّامت.

المهمَّة الأولى

وحدّثنا الله تعالى عن مهمّته الأولى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]، فكانت مهمّته الأولى، أن يتلو عليهم آيات الله، ليستمعوا إليها، ويؤخَذوا بسحرها، ويتأمّلوا فيها، لتنفذ إلى عقولهم وقلوبهم. ومن هنا، كانت الصَّدمة لدى مشركي قريش، أنَّهم كانوا لا يتمالكون أنفسهم من الخضوع لسحر هذه الآيات، وكانوا يعملون على منع الناس من الاستماع إليها.

ولذلك، كانوا يقولون لبعضهم: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه"، أي أثيروا الضَّجيج حوله، كي لا يستمع الناس إليه، لأنَّ أيّ شخصٍ كان يستمع إلى القرآن بعقلٍ وقلبٍ مفتوحين، فإنّه كان يؤمن به تلقائيّاً.. وهكذا، عندما كان يأتي شخص إلى النّبيّ(ص) ويجلس معه، فكان يتلو عليه بعض آيات الله، ولا يحتاج إلى جدالٍ معه، لأنَّ القرآن كان ينفذ إلى عقله وقلبه، فيرى هذا الإنسان ربّه في كلماته، رؤيا القلب لا رؤيا العين.. ورأينا كيف انطلق النبيّ(ص) في دعوته من خلال القرآن، ونلاحظ أنَّ الكثير من القرآن نزل في مكّة، لأنّ مهمّته هي أن يصدم كلّ هذا التحجّر الّذي كانت أفكار المشركين تعيش فيه، فكان الينبوع الّذي يتدفّق في العقل والقلب، من أجل أن يفتّت كلّ الحجارة الصّخريّة الّتي كانت تعيش في عقولهم وقلوبهم.

وكان(ص) يعمل على أن يزكّيهم وينمّيهم، وكانت مهمّته أن يعطي الأمَّة عقلاً من عقله، لتنمو عقولهم بالحقّ، وقلباً من قلبه، لتنمو قلوبهم بالخير والمحبّة، وحركةً بالعدل من حركته وسلوكه، لتنطلق سيرته لتخطّ لهم الطّريق. ولذلك، كانت أساليب النبيّ(ص) تتنوَّع في دعوته للنَّاس الَّذين يعيشون معه، بين أسلوبٍ عقليٍّ يعتمد الحجَّة والبرهان لمن يطلبون الوسائل العقليَّة للاقتناع، وأسلوب عاطفيّ للّذين يؤمنون من خلال العناصر العاطفيَّة في شخصيَّاتهم، وكان أسلوبه هو أسلوب القدوة عندما يتمثّلون النبيّ(ص) في سيرته، فيرون فيه التّجسيد الحيّ لكلِّ القيم التي يبشّر بها.

القدوة والأسوة

ولهذا، قال الله تعالى للنّاس: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، وكان يوجِّه الناس إلى أن يقتدوا بسيرته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب: 21]. وكانت أخلاقه هي الرّسالة الّتي يرسلها إلى قلوب الناس، لأنَّ أخلاقه كانت تفتح قلوب النّاس عليه؛ أخلاقه في كلماته ومشاعره وأحاسيسه وسيرته، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ}[آل عمران: 159]، كان ليّن القلب الَّذي لا يحمل الحقد والبغضاء، وليّن اللّسان الَّذي لا يحمل الفظاظة والقسوة لأحد من الناس.. وهذا خطٌّ لكلّ الدّعاة إلى الله، ولكلّ الّذين يتحركون في خطّ الإصلاح.

إنَّ الله تعالى يقول لكلّ هؤلاء: إنَّ الدّعوة تنطلق إلى الإنسان، والإنسان عقلٌ وقلبٌ ومشاعر وأحاسيس. لذلك، إذا أردت أن تدخل فكرة إلى عقل إنسان، فأدخلها إلى قلبه، ادخل أنت إلى قلبه واجعله يحبّك، والإنسان يحبّ الكلمة الطيِّبة والقلب الطيّب، أمّا إذا كان قلبك أسود، يمتلئ بالحقد للنّاس، فإنَّ كلّ قلوب النّاس تُغلَق عن قلبك، وإذا كان لسانك غليظاً وفظّاً، فستُغلَق عنك كلّ أذان النّاس، وهذا ما عبّر عنه صاحب القلب الكبير أمير المؤمنين(ع): "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، وقد ورد في الحديث: "الكلمة الطيِّبة صدقة"، هي هديَّة تقدِّمها إلى الإنسان الَّذي تخرج إليه الكلمة، لأنَّها تحترم مشاعره وتغني كلَّ كيانه.

وكان رسول الله(ص) صاحب القلب الطيّب الّذي ينبض بمحبَّة النّاس، وصاحب الكلمة الطيّبة، فكان يتألم للنّاس لأنهم لم يؤمنوا، وكان يحزن عليهم، حتى أنزل الله تعالى آيات في القرآن الكريم، لكي يخفّف حزنه وحسرته، وكان لا يستغلّ الناس ليصفّقوا له، بل كان يرحمهم ليؤمنوا بالله، فيجدوا في الإيمان هداهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.

وقد حدّثنا الله تعالى عنه في أخلاقيّاته، من خلال روحيّته وسيرته: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ـ يعزّ عليه كلّ الجهد والمشقّة الّتي تصيبكم ـ  حَرِيصٌ عَلَيْكُم ـ حتى لا تضيعوا، ولا تدخلوا في المتاهات، ولا تتعقّدوا في العصبيّات، ولا يذهب بكم الشيطان ليقودكم إلى جهنّم ـبِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128]. وانطلق النبيّ(ص) بدعوته، ودخل قلوب الناس، وكادت عقولهم تخضع لكلِّ نبضات قلوبهم معه، ولكنَّ المستكبرين والمترفين، كانوا يخافون على امتيازاتهم أن تسقط أمام هذه الدَّعوة الرّساليّة، وهذا الإنسان اليتيم الفقير الَّذي رفض كلَّ امتيازاتهم وثرواتهم، والَّذي قال لعمّه أبي طالب: "والله يا عمّ، لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه".

منهجه(ص) في دفع الاتّهامات

وواجه النّبيّ(ص) كلّ الضّغوط والتّحدّيات، حتى رُمي بكلّ الكلمات اللامسؤولة، وكانت قمَّة تلك الكلمات أنَّهم قالوا "إنَّه مجنون"، وعلّمه الله كيف يعطيهم المنهج ليفكّروا، لأنَّ مشكلتهم أنهم يطلقون الكلمة من أحقادهم وغرائزهم الّتي تتحرك من موقع الانفعال، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ـ لأنَّ الإنسان في هذه الحمّى الجماهيريَّة التي يعيشها، يفقد الاستقلاليَّة في التفكير ـ  ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ـ فكّروا في كلماتي وسيرتي وتاريخي ودعوتي، وسترون أنَّها ليست دعوة مجنون أو كاذب ـ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].

وهذا المنهج كان يعيش النبيّ(ص) من خلاله العقل الهادئ الّذي لا تهزّه الريح، مهما اشتدّت، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه، لأنَّ كثيراً من الناس عندما يتعقّدون من جهة أو شخصيَّة، يوزّعون الكلمات اللامسؤولة عن العلماء والمصلحين والمجاهدين، دون مراعاةٍ لأيّ اعتبار أو مصلحة، ولذلك، لا بدَّ من أن نستعمل هذا المنهج في حياتنا، لكي نقوم لله، ونتفكَّر في سيرة هذا الإنسان أو ذاك، لكي نسأل: هل هذه الكلمات لها أساس من الحقّ؟ وهل تنسجم مع سيرته وحياته ومواقفه؟

وهكذا نجد أنَّ النبيّ(ص) كان يريد للمسألة أن تدخل عقول النّاس، لا أن يقوم بعرض عضلاتٍ عسكريّةٍ أو سلطويَّةٍ أو ماديَّة، أو على طريقة بعض النّاس الّذين يوهمون الناس بأنهم يلتقون بصاحب العصر والزّمان، وبأنَّهم يعلمون الغيب، وبأنهم يملكون إمكانات غير عاديَّة، ويصدِّقهم بعض البسطاء والسذّج، بل إنَّ النبي(ص) برز إلى الناس كبشرٍ يوحى إليه، والنّبيّ هو حبيب الله، ويتَّصل بالله، ويتلقّى الوحي منه، ومع ذلك، ماذا كان يقول لهم؟ {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ ـ لا أملك المال الّذي أوزِّعه عليكم لكي تتّبعوني من خلال هذا المال ـوَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ـ بل لا يعلم الغيب إلا الله، وأنا أعرف من الغيب بحسب ما يعرّفني الله ـوَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام : 50]، فكان يريد للنّاس أن لا يقبلوه من خلال الإغراءات، بل أن يؤمنوا برسالته من خلال عقولهم، لكي يرتبطوا بالله، والله عنده العزَّة جميعاً والملك جميعاً، ويقول: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ـ أنا كبقيَّة الرّسل، وإن كان هو سيّدهم، ولكن من باب التَّواضع ـ  وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الأحقاف: 9].

الاحتكام إلى العقل

أراد(ص) أن يعلّم الناس حقيقة، وهي أنَّ الله تعالى رزقكم العقل، فلا تؤمنوا بأيّ شيءٍ إلا من خلال اقتناعكم بعقولكم، فلا تجمِّد عقلك وتعطيه إجازة.. ومشكلتنا في هذا الشَّرق، أنَّ كثيراً من الناس في الدّين والسّياسة والاجتماع، "يأخذوننا إلى البحر ويرجعوننا عطاشى"، لأنَّنا نتّبعهم ـ في الغالب ـ من خلال عاطفتنا وغريزتنا، لا من خلال عقولنا، والله تعالى سيسألنا: على أيّ أساس أيَّدت أو رفضت؟ وعلى أيّ أساس قلت أو فعلت؟

لذلك، نريد أن نحرّك عقولنا دائماً وننمِّيها. لا تفتِّشوا فقط عن الفيتامينات الَّتي تنمّي طاقاتكم الجسديَّة، فتّشوا عن الفيتامينات الَّتي تنمِّي طاقاتكم الفكريَّة والعقليَّة، لأنَّ مجتمعاتنا ـ مع الأسف ـ بكلِّ العصبيّات والحزبيّات والعائليّات والسّياسات، هي مجتمعات الغرائز.

إذا أردنا أن نكون أتباع محمّد(ص)، وأتباع عليّ(ع) الَّذي كان عقله وقلبه من عقل النبي(ص) وقلبه، وفاطمة(ع) التي عاشت عقل أبيها وروحه، والأئمَّة(ع) الَّذين عاشوا في عقل رسول الله، فعلينا أن نعيش مسؤوليَّتنا بالعقل، حتى نفد إلى الله غداً ونحن نعرف كيف نجيب عن السّؤال، ذلك هو التحدّي الكبير الذي علينا أن نستعدّ له، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 ـ 20].

الخطبة الثانية

عباد الله، اتقوا الله، فإنّ تقوى الله تنفتح بكم على دراسة كلّ خطواتكم في الحياة، فلا يقدِّم أحدكم رِجلاً في أيِّ طريقٍ يسلكه، ولا يؤخِّر أخرى، حتى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى، لأنَّ رضى الله هو سرّ السَّعادة في الدّنيا، وسرّ النجاة في الآخرة، ورضى الله لا يتحرَّك في دائرةٍ محدودة، وهي دائرة العبادة من صلاةٍ وصومٍ وحجّ، ولكنَّه يتحرك في كلّ عملٍ من أعمالنا وموقفٍ من مواقفنا، مما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، سواء كان يتعلَّق بما نأكل ونشرب ونتلذَّذ، أو بما نؤيِّد أو نرفض في مواقع الاقتصاد والسّياسة والاجتماع، لأنَّ لله في كلِّ واقعةٍ حكماً يصيبه من أصابه، ويخطئه من أخطأه، وعلينا أن نطيع الله في ذلك كلِّه. ونحن الآن نعيش في معركة الاستكبار الَّذي تحوَّل إلى أمّةٍ واحدة، كما الكفر ملّة واحدة، وعلينا أن نعرف كيف نخوض المعركة لنتفادى كلَّ ما يوجِّهه الاستكبار إلينا، ولنخطِّط ـ ولو بعد حين ـ لنسقط الاستكبار في استكباره. فتعالوا لنعرف ماذا هناك.

الانتفاضة.. مرحلة جديدة

لقد تطوَّرت الانتفاضة إلى مرحلةٍ جديدة، حوَّلت من المسؤولين الصّهاينة هدفاً لها، من خلال اغتيال أوَّل وزير إسرائيلي،كردِّ فعل على اغتيال الشخصيّات الفلسطينيّة، من رجال السياسة والمقاومة.. وبدأ العدو يهدّد ويتوعّد، ويخترق المدن والقرى الفلسطينية بدبّاباته وجنوده، ويفجّر حقده، فيجرف المزارع، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ويتحدَّث عن "نارٍ تأتي على كلِّ شيء".

لقد أسقطت الانتفاضة كلّ الأمن الإسرائيليّ الَّذي وضعته حكومة "شارون" في عنوانها الكبير، فلم تستطع تحقيقه بكلّ الوسائل العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة والحصار الاقتصاديّ والجغرافيّ، لأنّ الإرادة الجهاديّة للشَّعب الفلسطينيّ أقوى من كلّ هذه الوسائل والإجراءات.

وإذا كانت سلطة الحكم الذاتي تلعب لعبة الاعتقالات لرجال الانتفاضة، تحت تأثير الضّغط الأميركيّ والإسرائيليّ، فإنَّ روح الانتفاضة قد أثبتت قدرتها على الصّمود والتمرّد على كلّ الضغوط، مع التزامها الواعي بالوحدة في خطّ المواجهة، على قاعدة استمرار الانتفاضة، لأنَّ ما هو مطروح الآن، هو أن يخضع الفلسطينيون للخطَّة الإسرائيليَّة في إيقاف الانتفاضة، لتتمّ المفاوضات بالشروط الإسرائيليَّة، في غياب أيّ ضغط أمنيّ أو سياسيّ على العدوّ، تضطر معه إسرائيل إلى القبول بالحقوق المشروعة للشّعب الفلسطينيّ، تحت تأثير الصّمود الفلسطينيّ في ساحة الصّراع وفي مواقع التحدي.

الارتقاء إلى مستوى المرحلة

لذلك، لا بدَّ من أن يرتفع الموقف إلى مستوى المرحلة، قصفاً بقصف، واغتيالاً باغتيال، واستهدافاً للمواقع باستهداف المواقع، لتكون كلّ مواقع العدوّ مستباحةً للمجاهدين، لأنَّ العدوَّ قد أسقط كلَّ الخطوط الحمراء في عمليّاته الوحشيّة، ما يفرض أن لا تبقى هناك خطوط حمر عنده أمام الانتفاضة.

أمّا الدّعوات الدّوليَّة إلى ضبط النفس واعتقال المجاهدين، فإنها لا تحقِّق أيّ نتيجة لحساب قضية الاستقلال والحرية.. وعلى العالم المستكبر أن يتحمّل مسؤوليته أمام الفوضى العسكريَّة التي قد تنتجها الأوضاع الأمنيّة في الأرض المحتلة.. وعلى العرب والمسلمين أن يقفوا ـ ولو مرّة واحدة ـ ليفرضوا شروطهم على التحالف الدولي، ولا سيَّما على أميركا، في إعطاء الفلسطينيّين حقوقهم الشرعيَّة، قبل الدخول في أيّ تحالف دولي ضد ما يسمّى "الإرهاب"، ولا يكتفوا بالكلمات الفضفاضة في الحديث عن الدولة الفلسطينية، بالطريقة الضبابية الغامضة التي تعيد المسألة إلى الدوّامة من جديد.

حرب المصالح الاستكبارية

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الحرب على أفغانستان تحوّلت إلى حرب على المدنيين، بالأسلحة المتطوّرة التي تجرّبها أميركا بالفقراء الَّذين يسقطون بالمئات من الأطفال والنساء والشيوخ.. كما تحوّلت إلى مأساة تهجيريَّة دفعت بالملايين من الشعب الأفغاني إلى التشرّد في الدّول المجاورة، والهروب إلى الجبال والمغاور والصحارى، ليموتوا جوعاً هناك، في غياب أية فرصة لإيصال الغذاء إليهم..

ولعلّ الجريمة الكبرى هي دخول دول إسلامية كباكستان وتركيا في هذه الحرب الَّتي تقتل المسلمين باسم الحرب على الإرهاب لا على الإسلام، في الوقت الَّذي تصرّح الحكومة الباكستانية أنّ حركة طالبان ليست إرهابيّة.. وفي الانتظار، تتحرّك إمكانات الحرب البريّة، التي قد ترتكب فيها مجازر بشريّة بحقّ المدنيّين، لأنها سوف تتحوَّل إلى حربٍ مذعورةٍ متحرّكةٍ في الرمال، وربما يشارك فيها أفغانيّون وباكستانيّون وآخرون من الدّول الإسلاميَّة، لا لحساب القضيّة الأفغانيّة، بل لحساب الاستكبار العالميّ.

وفي هذه المناسبة، فإنّنا نطلق نداءنا إلى كلِّ إخواننا من الشَّعب الأفغاني، أن يجدوا السَّبيل إلى وحدتهم، وأن يلقوا السِّلاح الَّذي يصوّبونه إلى صدور بعضهم البعض، ويتفاهموا على قاعدةٍ واحدةٍ تنطلق من حريّة النّاس كلّهم في قضاياهم السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، بعيداً عن كلّ نفوذٍ خارجيٍّ استكباريّ، لأنَّ اللّعبة الدّوليَّة لا تتحرك لمصلحة الشّعوب، بل للمصالح المضادَّة لمصالحها، مهما قدّموا لنا من كلمات الحقّ الّتي يُراد بها الباطل.

ومن هنا، فلا يجوز للمسلم أن يدخل في قتالٍ ضدّ المسلم الآخر، ولا سيّما إذا كان ذلك لحساب المستكبرين الَّذين يكيدون للإسلام والمسلمين.. إننا نعرف أنَّ هناك خلافات في أكثر من خطٍّ ثقافيّ وسياسيّ بين الفصائل المتنازعة، ولكنّ المرحلة هي مرحلة الموقف الواحد ضدَّ الأجنبي، كما هي المرحلة السابقة التي انتصرت فيها وحدتكم على الاحتلال السّوفياتي.. إنَّ هذه الحرب ليست حرب العالم ضدّ الإرهاب، لكنّها حرب أميركا ضدّ كلّ الَّذين يتمرّدون على سياستها الموجّهة ضد الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة.

الأعمال الإرهابيّة مستنكرة

لقد استنكرنا الأعمال الإرهابيَّة ضدَّ المدنيّين في كلّ مكان، ولذلك، فنحن نستنكر هذا الإرهاب الدولي ضدّ الأبرياء المستضعفين من الشَّعب الأفغاني، ولا ندري ما تفسير هذا التّسابق الدّولي في أميركا وأوروبا وروسيا وأتباعهم، للحرب ضدَّ أفغانستان الَّتي لا تملك إلا القليل من القوّة! وما هو تفسير هذا الصَّمت الدّولي أمام الجرائم الوحشيَّة الإسرائيليَّة ضدّ الفلسطينيّين، الَّذين يتحدَّث عنهم البعض من الدّول، ولا سيَّما أميركا، بأنهم إرهابيّون في دفاعهم عن أنفسهم في خطِّ المطالبة بالحريَّة والاستقلال؟!

إنَّ المرحلة الَّتي تواجه العالم كلَّه قد تنتج الكثير من القلق والفوضى والإرباك الأمنيّ المتحرّك، الّذي يصنع في أكثر من مكانٍ إرهاباً جديداً، لأنَّ الضَّغط يولِّد الانفجار، ولأنَّ مصادرة حقوق الشّعوب ومحاصرة قضاياهم، هي وراء كلّ عمليّات الإرهاب الّتي لا نبرّرها، ولكنّها تفرض نفسها على الواقع ككلّ المسبّبات التي تتحرّك من خلال أسبابها.

وعلى الجميع في لبنان والمنطقة أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، لأنَّ هناك أكثر من صوتٍ للفتنة، وأكثر من موقعٍ للانفجار، ما يفرض علينا المزيد من الوعي لكلِّ الظروف القلقة في حركة الواقع.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آي الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وجمعٍ غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

صورة الإسلام الأوَّل

قبل أيَّام، كانت مناسبة ذكرى مبعث النّبيّ محمَّد(ص)، وذكرى الإسراء والمعراج. وفي هذا الجوّ، نستعيد صورة الإسلام الأولى في انطلاقته الأولى، عندما أوحى الله تعالى إلى رسوله بالرَّسالة، بعد أن أعدَّه إعداداً عقليّاً وروحيّاً وعمليّاً، بحيث انطلق النبيّ(ص) بالرّسالة من موقع الثّقة الشّاملة الّتي كان يتمتَّع بها في مجتمعه، حيث كان يُرى أنّه راجح العقل، فيرجعون إليه في الرأي، والإنسان الصّادق، بحيث كانوا يستمعون إليه ليتعرّفوا الحقيقة، وكان يتمتّع عندهم بصفة الأمانة، بحيث كان مستودع أمانتهم، حتى غلبت هاتان الصّفتان عليه، فكانوا يقولون وهم يتحدَّثون عنه: "جاء الصّادق الأمين، والتقينا الصّادق الأمين"، لأنّ الله تعالى يصطفي من رسله من يشاء، بالطّريقة التي يمثّل الرسول فيها الرسالة، بحيث كان النّاس يستمعون إلى رسول الله(ص) في كلماته مما يتلوه عليهم من الوحي، فيجدون كلّ الآيات في شخصه، فكان الكتاب النّاطق، وكان القرآن الصّامت.

المهمَّة الأولى

وحدّثنا الله تعالى عن مهمّته الأولى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]، فكانت مهمّته الأولى، أن يتلو عليهم آيات الله، ليستمعوا إليها، ويؤخَذوا بسحرها، ويتأمّلوا فيها، لتنفذ إلى عقولهم وقلوبهم. ومن هنا، كانت الصَّدمة لدى مشركي قريش، أنَّهم كانوا لا يتمالكون أنفسهم من الخضوع لسحر هذه الآيات، وكانوا يعملون على منع الناس من الاستماع إليها.

ولذلك، كانوا يقولون لبعضهم: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه"، أي أثيروا الضَّجيج حوله، كي لا يستمع الناس إليه، لأنَّ أيّ شخصٍ كان يستمع إلى القرآن بعقلٍ وقلبٍ مفتوحين، فإنّه كان يؤمن به تلقائيّاً.. وهكذا، عندما كان يأتي شخص إلى النّبيّ(ص) ويجلس معه، فكان يتلو عليه بعض آيات الله، ولا يحتاج إلى جدالٍ معه، لأنَّ القرآن كان ينفذ إلى عقله وقلبه، فيرى هذا الإنسان ربّه في كلماته، رؤيا القلب لا رؤيا العين.. ورأينا كيف انطلق النبيّ(ص) في دعوته من خلال القرآن، ونلاحظ أنَّ الكثير من القرآن نزل في مكّة، لأنّ مهمّته هي أن يصدم كلّ هذا التحجّر الّذي كانت أفكار المشركين تعيش فيه، فكان الينبوع الّذي يتدفّق في العقل والقلب، من أجل أن يفتّت كلّ الحجارة الصّخريّة الّتي كانت تعيش في عقولهم وقلوبهم.

وكان(ص) يعمل على أن يزكّيهم وينمّيهم، وكانت مهمّته أن يعطي الأمَّة عقلاً من عقله، لتنمو عقولهم بالحقّ، وقلباً من قلبه، لتنمو قلوبهم بالخير والمحبّة، وحركةً بالعدل من حركته وسلوكه، لتنطلق سيرته لتخطّ لهم الطّريق. ولذلك، كانت أساليب النبيّ(ص) تتنوَّع في دعوته للنَّاس الَّذين يعيشون معه، بين أسلوبٍ عقليٍّ يعتمد الحجَّة والبرهان لمن يطلبون الوسائل العقليَّة للاقتناع، وأسلوب عاطفيّ للّذين يؤمنون من خلال العناصر العاطفيَّة في شخصيَّاتهم، وكان أسلوبه هو أسلوب القدوة عندما يتمثّلون النبيّ(ص) في سيرته، فيرون فيه التّجسيد الحيّ لكلِّ القيم التي يبشّر بها.

القدوة والأسوة

ولهذا، قال الله تعالى للنّاس: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، وكان يوجِّه الناس إلى أن يقتدوا بسيرته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب: 21]. وكانت أخلاقه هي الرّسالة الّتي يرسلها إلى قلوب الناس، لأنَّ أخلاقه كانت تفتح قلوب النّاس عليه؛ أخلاقه في كلماته ومشاعره وأحاسيسه وسيرته، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ}[آل عمران: 159]، كان ليّن القلب الَّذي لا يحمل الحقد والبغضاء، وليّن اللّسان الَّذي لا يحمل الفظاظة والقسوة لأحد من الناس.. وهذا خطٌّ لكلّ الدّعاة إلى الله، ولكلّ الّذين يتحركون في خطّ الإصلاح.

إنَّ الله تعالى يقول لكلّ هؤلاء: إنَّ الدّعوة تنطلق إلى الإنسان، والإنسان عقلٌ وقلبٌ ومشاعر وأحاسيس. لذلك، إذا أردت أن تدخل فكرة إلى عقل إنسان، فأدخلها إلى قلبه، ادخل أنت إلى قلبه واجعله يحبّك، والإنسان يحبّ الكلمة الطيِّبة والقلب الطيّب، أمّا إذا كان قلبك أسود، يمتلئ بالحقد للنّاس، فإنَّ كلّ قلوب النّاس تُغلَق عن قلبك، وإذا كان لسانك غليظاً وفظّاً، فستُغلَق عنك كلّ أذان النّاس، وهذا ما عبّر عنه صاحب القلب الكبير أمير المؤمنين(ع): "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، وقد ورد في الحديث: "الكلمة الطيِّبة صدقة"، هي هديَّة تقدِّمها إلى الإنسان الَّذي تخرج إليه الكلمة، لأنَّها تحترم مشاعره وتغني كلَّ كيانه.

وكان رسول الله(ص) صاحب القلب الطيّب الّذي ينبض بمحبَّة النّاس، وصاحب الكلمة الطيّبة، فكان يتألم للنّاس لأنهم لم يؤمنوا، وكان يحزن عليهم، حتى أنزل الله تعالى آيات في القرآن الكريم، لكي يخفّف حزنه وحسرته، وكان لا يستغلّ الناس ليصفّقوا له، بل كان يرحمهم ليؤمنوا بالله، فيجدوا في الإيمان هداهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.

وقد حدّثنا الله تعالى عنه في أخلاقيّاته، من خلال روحيّته وسيرته: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ـ يعزّ عليه كلّ الجهد والمشقّة الّتي تصيبكم ـ  حَرِيصٌ عَلَيْكُم ـ حتى لا تضيعوا، ولا تدخلوا في المتاهات، ولا تتعقّدوا في العصبيّات، ولا يذهب بكم الشيطان ليقودكم إلى جهنّم ـبِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128]. وانطلق النبيّ(ص) بدعوته، ودخل قلوب الناس، وكادت عقولهم تخضع لكلِّ نبضات قلوبهم معه، ولكنَّ المستكبرين والمترفين، كانوا يخافون على امتيازاتهم أن تسقط أمام هذه الدَّعوة الرّساليّة، وهذا الإنسان اليتيم الفقير الَّذي رفض كلَّ امتيازاتهم وثرواتهم، والَّذي قال لعمّه أبي طالب: "والله يا عمّ، لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه".

منهجه(ص) في دفع الاتّهامات

وواجه النّبيّ(ص) كلّ الضّغوط والتّحدّيات، حتى رُمي بكلّ الكلمات اللامسؤولة، وكانت قمَّة تلك الكلمات أنَّهم قالوا "إنَّه مجنون"، وعلّمه الله كيف يعطيهم المنهج ليفكّروا، لأنَّ مشكلتهم أنهم يطلقون الكلمة من أحقادهم وغرائزهم الّتي تتحرك من موقع الانفعال، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ـ لأنَّ الإنسان في هذه الحمّى الجماهيريَّة التي يعيشها، يفقد الاستقلاليَّة في التفكير ـ  ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ـ فكّروا في كلماتي وسيرتي وتاريخي ودعوتي، وسترون أنَّها ليست دعوة مجنون أو كاذب ـ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].

وهذا المنهج كان يعيش النبيّ(ص) من خلاله العقل الهادئ الّذي لا تهزّه الريح، مهما اشتدّت، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه، لأنَّ كثيراً من الناس عندما يتعقّدون من جهة أو شخصيَّة، يوزّعون الكلمات اللامسؤولة عن العلماء والمصلحين والمجاهدين، دون مراعاةٍ لأيّ اعتبار أو مصلحة، ولذلك، لا بدَّ من أن نستعمل هذا المنهج في حياتنا، لكي نقوم لله، ونتفكَّر في سيرة هذا الإنسان أو ذاك، لكي نسأل: هل هذه الكلمات لها أساس من الحقّ؟ وهل تنسجم مع سيرته وحياته ومواقفه؟

وهكذا نجد أنَّ النبيّ(ص) كان يريد للمسألة أن تدخل عقول النّاس، لا أن يقوم بعرض عضلاتٍ عسكريّةٍ أو سلطويَّةٍ أو ماديَّة، أو على طريقة بعض النّاس الّذين يوهمون الناس بأنهم يلتقون بصاحب العصر والزّمان، وبأنَّهم يعلمون الغيب، وبأنهم يملكون إمكانات غير عاديَّة، ويصدِّقهم بعض البسطاء والسذّج، بل إنَّ النبي(ص) برز إلى الناس كبشرٍ يوحى إليه، والنّبيّ هو حبيب الله، ويتَّصل بالله، ويتلقّى الوحي منه، ومع ذلك، ماذا كان يقول لهم؟ {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ ـ لا أملك المال الّذي أوزِّعه عليكم لكي تتّبعوني من خلال هذا المال ـوَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ـ بل لا يعلم الغيب إلا الله، وأنا أعرف من الغيب بحسب ما يعرّفني الله ـوَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام : 50]، فكان يريد للنّاس أن لا يقبلوه من خلال الإغراءات، بل أن يؤمنوا برسالته من خلال عقولهم، لكي يرتبطوا بالله، والله عنده العزَّة جميعاً والملك جميعاً، ويقول: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ـ أنا كبقيَّة الرّسل، وإن كان هو سيّدهم، ولكن من باب التَّواضع ـ  وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الأحقاف: 9].

الاحتكام إلى العقل

أراد(ص) أن يعلّم الناس حقيقة، وهي أنَّ الله تعالى رزقكم العقل، فلا تؤمنوا بأيّ شيءٍ إلا من خلال اقتناعكم بعقولكم، فلا تجمِّد عقلك وتعطيه إجازة.. ومشكلتنا في هذا الشَّرق، أنَّ كثيراً من الناس في الدّين والسّياسة والاجتماع، "يأخذوننا إلى البحر ويرجعوننا عطاشى"، لأنَّنا نتّبعهم ـ في الغالب ـ من خلال عاطفتنا وغريزتنا، لا من خلال عقولنا، والله تعالى سيسألنا: على أيّ أساس أيَّدت أو رفضت؟ وعلى أيّ أساس قلت أو فعلت؟

لذلك، نريد أن نحرّك عقولنا دائماً وننمِّيها. لا تفتِّشوا فقط عن الفيتامينات الَّتي تنمّي طاقاتكم الجسديَّة، فتّشوا عن الفيتامينات الَّتي تنمِّي طاقاتكم الفكريَّة والعقليَّة، لأنَّ مجتمعاتنا ـ مع الأسف ـ بكلِّ العصبيّات والحزبيّات والعائليّات والسّياسات، هي مجتمعات الغرائز.

إذا أردنا أن نكون أتباع محمّد(ص)، وأتباع عليّ(ع) الَّذي كان عقله وقلبه من عقل النبي(ص) وقلبه، وفاطمة(ع) التي عاشت عقل أبيها وروحه، والأئمَّة(ع) الَّذين عاشوا في عقل رسول الله، فعلينا أن نعيش مسؤوليَّتنا بالعقل، حتى نفد إلى الله غداً ونحن نعرف كيف نجيب عن السّؤال، ذلك هو التحدّي الكبير الذي علينا أن نستعدّ له، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 ـ 20].

الخطبة الثانية

عباد الله، اتقوا الله، فإنّ تقوى الله تنفتح بكم على دراسة كلّ خطواتكم في الحياة، فلا يقدِّم أحدكم رِجلاً في أيِّ طريقٍ يسلكه، ولا يؤخِّر أخرى، حتى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى، لأنَّ رضى الله هو سرّ السَّعادة في الدّنيا، وسرّ النجاة في الآخرة، ورضى الله لا يتحرَّك في دائرةٍ محدودة، وهي دائرة العبادة من صلاةٍ وصومٍ وحجّ، ولكنَّه يتحرك في كلّ عملٍ من أعمالنا وموقفٍ من مواقفنا، مما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، سواء كان يتعلَّق بما نأكل ونشرب ونتلذَّذ، أو بما نؤيِّد أو نرفض في مواقع الاقتصاد والسّياسة والاجتماع، لأنَّ لله في كلِّ واقعةٍ حكماً يصيبه من أصابه، ويخطئه من أخطأه، وعلينا أن نطيع الله في ذلك كلِّه. ونحن الآن نعيش في معركة الاستكبار الَّذي تحوَّل إلى أمّةٍ واحدة، كما الكفر ملّة واحدة، وعلينا أن نعرف كيف نخوض المعركة لنتفادى كلَّ ما يوجِّهه الاستكبار إلينا، ولنخطِّط ـ ولو بعد حين ـ لنسقط الاستكبار في استكباره. فتعالوا لنعرف ماذا هناك.

الانتفاضة.. مرحلة جديدة

لقد تطوَّرت الانتفاضة إلى مرحلةٍ جديدة، حوَّلت من المسؤولين الصّهاينة هدفاً لها، من خلال اغتيال أوَّل وزير إسرائيلي،كردِّ فعل على اغتيال الشخصيّات الفلسطينيّة، من رجال السياسة والمقاومة.. وبدأ العدو يهدّد ويتوعّد، ويخترق المدن والقرى الفلسطينية بدبّاباته وجنوده، ويفجّر حقده، فيجرف المزارع، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ويتحدَّث عن "نارٍ تأتي على كلِّ شيء".

لقد أسقطت الانتفاضة كلّ الأمن الإسرائيليّ الَّذي وضعته حكومة "شارون" في عنوانها الكبير، فلم تستطع تحقيقه بكلّ الوسائل العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة والحصار الاقتصاديّ والجغرافيّ، لأنّ الإرادة الجهاديّة للشَّعب الفلسطينيّ أقوى من كلّ هذه الوسائل والإجراءات.

وإذا كانت سلطة الحكم الذاتي تلعب لعبة الاعتقالات لرجال الانتفاضة، تحت تأثير الضّغط الأميركيّ والإسرائيليّ، فإنَّ روح الانتفاضة قد أثبتت قدرتها على الصّمود والتمرّد على كلّ الضغوط، مع التزامها الواعي بالوحدة في خطّ المواجهة، على قاعدة استمرار الانتفاضة، لأنَّ ما هو مطروح الآن، هو أن يخضع الفلسطينيون للخطَّة الإسرائيليَّة في إيقاف الانتفاضة، لتتمّ المفاوضات بالشروط الإسرائيليَّة، في غياب أيّ ضغط أمنيّ أو سياسيّ على العدوّ، تضطر معه إسرائيل إلى القبول بالحقوق المشروعة للشّعب الفلسطينيّ، تحت تأثير الصّمود الفلسطينيّ في ساحة الصّراع وفي مواقع التحدي.

الارتقاء إلى مستوى المرحلة

لذلك، لا بدَّ من أن يرتفع الموقف إلى مستوى المرحلة، قصفاً بقصف، واغتيالاً باغتيال، واستهدافاً للمواقع باستهداف المواقع، لتكون كلّ مواقع العدوّ مستباحةً للمجاهدين، لأنَّ العدوَّ قد أسقط كلَّ الخطوط الحمراء في عمليّاته الوحشيّة، ما يفرض أن لا تبقى هناك خطوط حمر عنده أمام الانتفاضة.

أمّا الدّعوات الدّوليَّة إلى ضبط النفس واعتقال المجاهدين، فإنها لا تحقِّق أيّ نتيجة لحساب قضية الاستقلال والحرية.. وعلى العالم المستكبر أن يتحمّل مسؤوليته أمام الفوضى العسكريَّة التي قد تنتجها الأوضاع الأمنيّة في الأرض المحتلة.. وعلى العرب والمسلمين أن يقفوا ـ ولو مرّة واحدة ـ ليفرضوا شروطهم على التحالف الدولي، ولا سيَّما على أميركا، في إعطاء الفلسطينيّين حقوقهم الشرعيَّة، قبل الدخول في أيّ تحالف دولي ضد ما يسمّى "الإرهاب"، ولا يكتفوا بالكلمات الفضفاضة في الحديث عن الدولة الفلسطينية، بالطريقة الضبابية الغامضة التي تعيد المسألة إلى الدوّامة من جديد.

حرب المصالح الاستكبارية

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الحرب على أفغانستان تحوّلت إلى حرب على المدنيين، بالأسلحة المتطوّرة التي تجرّبها أميركا بالفقراء الَّذين يسقطون بالمئات من الأطفال والنساء والشيوخ.. كما تحوّلت إلى مأساة تهجيريَّة دفعت بالملايين من الشعب الأفغاني إلى التشرّد في الدّول المجاورة، والهروب إلى الجبال والمغاور والصحارى، ليموتوا جوعاً هناك، في غياب أية فرصة لإيصال الغذاء إليهم..

ولعلّ الجريمة الكبرى هي دخول دول إسلامية كباكستان وتركيا في هذه الحرب الَّتي تقتل المسلمين باسم الحرب على الإرهاب لا على الإسلام، في الوقت الَّذي تصرّح الحكومة الباكستانية أنّ حركة طالبان ليست إرهابيّة.. وفي الانتظار، تتحرّك إمكانات الحرب البريّة، التي قد ترتكب فيها مجازر بشريّة بحقّ المدنيّين، لأنها سوف تتحوَّل إلى حربٍ مذعورةٍ متحرّكةٍ في الرمال، وربما يشارك فيها أفغانيّون وباكستانيّون وآخرون من الدّول الإسلاميَّة، لا لحساب القضيّة الأفغانيّة، بل لحساب الاستكبار العالميّ.

وفي هذه المناسبة، فإنّنا نطلق نداءنا إلى كلِّ إخواننا من الشَّعب الأفغاني، أن يجدوا السَّبيل إلى وحدتهم، وأن يلقوا السِّلاح الَّذي يصوّبونه إلى صدور بعضهم البعض، ويتفاهموا على قاعدةٍ واحدةٍ تنطلق من حريّة النّاس كلّهم في قضاياهم السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، بعيداً عن كلّ نفوذٍ خارجيٍّ استكباريّ، لأنَّ اللّعبة الدّوليَّة لا تتحرك لمصلحة الشّعوب، بل للمصالح المضادَّة لمصالحها، مهما قدّموا لنا من كلمات الحقّ الّتي يُراد بها الباطل.

ومن هنا، فلا يجوز للمسلم أن يدخل في قتالٍ ضدّ المسلم الآخر، ولا سيّما إذا كان ذلك لحساب المستكبرين الَّذين يكيدون للإسلام والمسلمين.. إننا نعرف أنَّ هناك خلافات في أكثر من خطٍّ ثقافيّ وسياسيّ بين الفصائل المتنازعة، ولكنّ المرحلة هي مرحلة الموقف الواحد ضدَّ الأجنبي، كما هي المرحلة السابقة التي انتصرت فيها وحدتكم على الاحتلال السّوفياتي.. إنَّ هذه الحرب ليست حرب العالم ضدّ الإرهاب، لكنّها حرب أميركا ضدّ كلّ الَّذين يتمرّدون على سياستها الموجّهة ضد الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة.

الأعمال الإرهابيّة مستنكرة

لقد استنكرنا الأعمال الإرهابيَّة ضدَّ المدنيّين في كلّ مكان، ولذلك، فنحن نستنكر هذا الإرهاب الدولي ضدّ الأبرياء المستضعفين من الشَّعب الأفغاني، ولا ندري ما تفسير هذا التّسابق الدّولي في أميركا وأوروبا وروسيا وأتباعهم، للحرب ضدَّ أفغانستان الَّتي لا تملك إلا القليل من القوّة! وما هو تفسير هذا الصَّمت الدّولي أمام الجرائم الوحشيَّة الإسرائيليَّة ضدّ الفلسطينيّين، الَّذين يتحدَّث عنهم البعض من الدّول، ولا سيَّما أميركا، بأنهم إرهابيّون في دفاعهم عن أنفسهم في خطِّ المطالبة بالحريَّة والاستقلال؟!

إنَّ المرحلة الَّتي تواجه العالم كلَّه قد تنتج الكثير من القلق والفوضى والإرباك الأمنيّ المتحرّك، الّذي يصنع في أكثر من مكانٍ إرهاباً جديداً، لأنَّ الضَّغط يولِّد الانفجار، ولأنَّ مصادرة حقوق الشّعوب ومحاصرة قضاياهم، هي وراء كلّ عمليّات الإرهاب الّتي لا نبرّرها، ولكنّها تفرض نفسها على الواقع ككلّ المسبّبات التي تتحرّك من خلال أسبابها.

وعلى الجميع في لبنان والمنطقة أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، لأنَّ هناك أكثر من صوتٍ للفتنة، وأكثر من موقعٍ للانفجار، ما يفرض علينا المزيد من الوعي لكلِّ الظروف القلقة في حركة الواقع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية