الإمام الذي بزّ أهل العلم يافعاً

الإمام الذي بزّ أهل العلم يافعاً

في رحاب الجواد.. تاسع أئمة أهل البيت (ع):
الإمام الذي بزّ أهل العلم يافعاً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الإمام المعجزة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أئمة أهل هذا البيت الإمام التاسع محمد بن علي الجواد (ع)، الذي يُصادف هذا اليوم - الثامن من رجب - يوم مولده. والإمام الجواد(ع) هو الإمام المعجزة، تسلّم الإمامة بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا(ع) وهو لم يبلغ سنّ البلوغ، ولكن الإمام استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع الإسلامي، ما دفع المأمون العباسي - وهو خليفة ذلك الوقت - لشدّة إعجابه به وبعلمه وفضله بالرغم من صغر سنه، إلى أن يزوّجه - بمبادرة منه لا من الإمام الجواد - ابنته "أم الفضل"، وهرع إليه العباسيون مخافة أن يولّيه ولاية العهد من بعده، كما ولّى أباه علي بن موسى الرضا (ع)، فتنتقل الخلافة من بني العباس إلى أهل البيت (ع).

غزير العلم وصاحب فضل:

ولكن المأمون صدّهم وعبّر لهم عن تقديره له بعدما اختبره ورأى أنه غزير العلم وصاحب فضل كبير، فأشاروا إلى أنه صغير السن، وقالوا: اتركه حتى يأخذ العلم كما يأخذه من كان في سنه، فقال لهم: امتحنوه واختبروه، فعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، فذهبوا إلى قاضي القضاة وهو "يحيى بن أكثم"، وطلبوا منه أن يختار من مسائله أصعب المسائل حتى يُفحموا الإمام الجواد (ع)، فيقتنع المأمون بأنه يحتاج إلى المزيد من العلم قبل أن يُعطى هذا الموقع الكبير.

وعقد المأمون اجتماعاً عاماً وأجلس الإمام في صدر المجلس، وجاء قاضي القضاة ووجه إليه سؤالاً، في محرِم قَتَل صيداً، وبدأ الإمام (ع) يفرّع له السؤال فتحوّل إلى عشرين مسألة، حتى حار قاضي القضاة ولم يعطِ جواباً، وبدأ الإمام يفصّل تفصيلاً فقهياً كأفضل ما يتحدث به الفقهاء، حتى خشع قاضي القضاة له، ولم يستطع أن يجيب على أسئلته، واقتنع الجمهور بأن أهل هذا البيت زُقوا العلم زقاً، وأن علمهم ليس من خلال مدرسة، كما قال ذلك الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

تقدير المجتمع له:

ويروي الرواة أنه أجاب على صغر سنه عن ثلاثين ألف مسألة من المسائل التي كانت تُقدّم إليه، حتى قيل إن عمّ أبيه، وهو "علي بن جعفر"، وكان كبير السنّ يبلغ الثمانين أو أكثر، كان يتواضع له، وقالوا له: إنك عمّ أبيه؟ فقال لهم: كيف أصنع، إن الله لم يجعل لي هذه الشيبة - وأشار إلى شيبته - وجعلها لهذا الغلام، فتواضعي له إنما لأن الله تعالى اختصه بالإمامة ووهبه أعلى الصفات التي تميّز الإنسان، و"قيمة كل امرئ ما يحسنه".

وعاش الإمام الجواد (ع) وهو محل تقدير المجتمع الإسلامي كله، لا سيما بعد هذه المناظرة التي جُمعت فيها شخصيات الدولة، وواجه التحدي بما أعطاه الله تعالى من العلم. ونحن في إيماننا بأئمة أهل البيت(ع) الذين هم حجج الله على خلقه، نحتاج دائماً إلى أن نتعلم منهم، أن تكون علاقتنا بهم علاقة اقتداء واتّباع ووعي وثقافة، حتى نعيش في إمامتهم بعد وفاتهم كما عاش الأولون إمامتهم في حياتهم.

من حكمه ووصاياه

فلنستمع إلى بعض ما قاله الإمام الجواد (ع) من بعض الحكم والوصايا، وقد نجد بعض كلماته في كلمات آبائه (ع)، وذلك لأن الجوهر واحد.

تحديد الموقف في الإصغاء:

يقول الإمام الجواد (ع): "من أصغى إلى ناطق - بحيث استغرق في الاستماع إليه، فيدخل كلامه عقله وينفذ إلى قلبه، ويتحوّل إلى موقف في مواقفه، هذا النوع من الإصغاء الذي يؤدي إلى الاستغراق في الكلمات، بحيث تدخل الكلمة إلى كيان الإنسان ووجوده - فقد عبده - لأن العبادة هي غاية الخضوع - فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله - إذا كان الناطق يحدث عن كتاب الله وسنّة نبيه وأوليائه، فإن الإنسان إذا اتجه إليه بهذه الروح العبادية فإنه يعبد الله، لأنه لا يستمع إليه من خلال ذاته وشخصه، ولكنه يستمع إليه من خلال كلمته، وإذا كانت كلمته كلمة الله، فإنه يعبد الله من خلال استغراقه فيه - وإن كان يؤدي عن لسان الشيطان - كما في كثير من خطباء الشياطين الذين يضلّلون الناس ويبعدونهم عن الله - فقد عبد الشيطان"، وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول لك: حدد موقفك في الإصغاء إلى أي خطيب أو متكلم بأن تدرس خلفياته، هل هو من أولياء الله أو من أولياء الشيطان، فإن كان من أولياء الله فأقبل عليه بعقلك وقلبك، لأن الإقبال سوف يكون لله، وإن كان من أولياء الشيطان فإنك بذلك تعبد الشيطان.

التوفيق من الله:

ويقول (ع): "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله - بأن يجعله الله موضع رعايته ومحلّ لطفه، ليوفقه في الانفتاح على الخط المستقيم - وواعظ من نفسه - أن يأخذ الموعظة من نفسه فيما تواجه نفسه من العبر التي تمر بها في الحياة من خلال أكثر من تجربة وعبرة، وقد ورد: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ" - وقبول ممن ينصحه"، فعلى المؤمن أن يستمع إلى النصيحة من الناصح بكل عقله وقلبه، ولا يعيش كبرياء الذات، كالذين يفكّرون دائماً أنهم هم الذين ينصحون الناس وليس من حق أحد أن ينصحهم..بل ينبغي للإنسان أن يستنصح الناس، وإذا جاءه من ينصحه، فعليه أن يستمع إليه بعقله وقلبه، فقد يكون في النصيحة كل الخير له في الدنيا والآخرة..

طريق الجنة بمخالفة الهوى:

وفي الحديث عن الإمام الجواد (ع) أنه قال: "من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه"، والعدو هو الشيطان الذي يزيّن للإنسان الهوى ويعزله عن عقله وإيمانه، والله تعالى حدّثنا أن طريق الجنة هي في مخالفة الهوى المحرّم الذي لا يرضاه الله: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}، أما الشخص الذي يتبع هواه فإذا الريح مالت مال حيث تميل: {وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هو المأوى}.. وقد حدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يعبدون هوى أنفسهم من دون الله، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}، وذلك بأن يعبد هوى نفسه ويستغرق فيه ويطيعه على حساب طاعة الله..

الثقة بالله:

ويقول الإمام الجواد (ع): "كيف يضيع من الله كافله - والله تعالى قد تكفّل بمن توكل عليه وأرجع أمره إليه ومن يخلص له، ولذلك لا بد أن نثق بالله - وكيف ينجو من الله طالبه"، فالشخص الذي يريده الله أين يذهب؟ هل يصعد إلى السماء أو ينزل إلى الأرض؟ ويقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء ليلة عرفة والجمعة "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجلة ، إنما يعجل من يخاف الفوت ، ويحتاج إلى ظلم الضعيف" ويقول تعالى {وجاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد ولو كنتم في بروج مشيّدة لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.. ويقول(ع): "من انقطع إلى غير الله وكله الله إليه"، فهذه دروس روحية تجعل الانسان متوازناً في حياته. ألم يقل الكثير من الناس في زماننا، أنا متوكل على فلان، على الحزب الفلاني، على المنظمة الفلانية، والبعض الآخر يجعلها في سياق أنيق ومرتب كأن يقول: أنا أتكل على الله وعليك، يعني أنه جعل لله شريكاً ، حيث لا بد أن تتوكل على الله، لأنه وحده سبحانه وتعالى من يسخّر الناس لبعضهم البعض.

التوحيد في العبادة:

يجب أن نتعلم التوحيد أيها الأحبة، فلا ندعو مع الله أحداً، فالأنبياء والأولياء هم عباد الله، وكذلك الأئمة(ع)، ولذلك نرى أن الإمام زين العابدين(ع) يقول: "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك، فكم قد رأيت يا إلهي أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصح بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره وأرشده إلى طريق صوابه اختياره".

وهكذا يتحدث الإمام(ع) عن حالة موجودة في المجتمع، قد تكون إنساناً أصيلاً، قد تكون إنساناً حراً، قد تكون إنساناً مؤمناً، ولكن ذلك لا يعجب الظالمين،ولا يرضون عنك، سواء كانوا من الظالمين الكبار أو الصغار. وفي هذه الحال عليك أن تسأل: هل هؤلاء من العادلين أم من الظالمين؟ فالإمام(ع) يقول إنّ هذا الإنسان غير الراضي عليك إذا كان من أهل الجور والظلم فلا يضرك، ولا يضرك سخط من رضاه الجور، من يرضى بالظلم ولا يرضى بالعدل لا يرتاح إذا كنت عادلاً مع الله وعادلاً مع نفسك وعادلاً مع الناس، ثم يقول الإمام(ع): "لا تكن ولي لله في العلانية، وعدواً له في السر". في الظاهر تدخل المساجد وتذهب إلى الحج، وتصوم شهر رمضان، ولكن إذا انفتح لك باب من الحرام سراً، فإنك تسرق وتخون وتزني وما إلى ذلك، فالحساب مع الله غير الحساب مع الناس، حيث{يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، كما يحدثنا الله أن الناس يوم القيامة يحلفون له كما يحلفون لكم، لهذا نريد دائماً أن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى.

البركة من الله:

وفي هذا الإطار نتعرض لقضيتين: الأولى عندما تزوج الإمام(ع) أمّ الفضل بنت المأمون، جاء أحد أصحابه وهو أبو هاشم الجعفري، قال: "يا مولاي، عظمت علينا بركات هذا اليوم"، أي أن منـزلة هذا اليوم رفيعة، حيث كرّمك المأمون وأعطاك ابنته بمبادرة منه.

الإمام(ع) هنا أراد أن ينبهه إلى أن البركة لا تأتي من اليوم، وإنما تأتي من الله في هذا اليوم، قال الإمام: "يا أبا هاشم، ليس بركة اليوم، عظمت بركة الله علينا فيه"، اليوم هو قطعة زمنية لا تعطي البركة، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي في هذا اليوم بركاته، وقد يعطي هذه البركات في يوم آخر.

فإذا أردت أن تتحدث عن البركة، فلا تتحدث عن بركة اليوم، فيما حصلت عليه من خير، ولكن تحدث عن بركة الله عليك في ذلك. "قلت: نعم يا مولاي، فما أقول في اليوم، قال قل فيه خيراً"، الله أعطاني كذا، اطلب من الله أن يعطيك في هذا اليوم فإنه يصيبك.

أنفسنا وأموالنا من مواهب الله:

"فقلت يا مولاي، أفعل هذا ولا أخالف"، لقد تعلمت منك درساً، قال "إذاً ترشد ولا ترى إلا خيراً"، والقضية الثانية هو أنه جاء في رواية ثانية تنقل عن الإمام الجواد(ع) أنه أرسل إليه قماش له قيمة كبيرة من قبل بعض الناس ، فسلب في الطريق، فكتب إليه الذي حمل القماش يعرّفه الخبر، وهنا أراد الإمام (ع) أن يعطيه درساً يحسن التصرف فيه فوقّع (ع)بخطه، "أن أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة، الله أعطانا أنفسنا وأعطانا أموالنا وعواريه المستودعة يمتع بما متع فيها بسرور وغبطة، ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة، الله يؤجرنا على ما خسرناه، فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره"، أي لا ينبغي للإنسان أن يجزع على مال أو رزق. لا ينبغي القيام بأي عمل غير طبيعي في هذه الحالة، كأن ينتحر نفسياً أو جسدياً، أو ما إلى ذلك.

يقول الإمام(ع): تقبل الخسارة بصدر رحب، واعتبر أنه مثلما وهبنا الله هذه النعمة فقد أخذها منا، ولا مشكلة في هذا الموضوع.

وفي ختام الحديث، هناك كلمة للإمام الجواد(ع): "كفى للمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة"، يعني أنت الآن ما يجعلك في الموقع الكبير من الخيانة، أن تعرف أناساً خونة يسرقون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل، ويخونونهم في كل قضاياهم، وتكون أميناً لهم تدافع عنهم وتحفظ سرهم وما إلى ذلك، ربما لم تخن، ولكنك كنت أمين الخونة، والله لا يريد لنا أن نكون أمناء للخونة وللظالمين وللمجرمين.

أيها الأحبة، هؤلاء أئمة أهل البيت(ع)، هؤلاء الذين يرفعوننا إلى المستوى الأعلى في إنسانيتنا، وفي التزامنا، وفي إيماننا، لذلك تمسكوا بهم، "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تعالوا إلى كتاب الله وسنة نبيه(ص) وتراث أوليائه، حتى نعيش حياتنا في طريق الله ونحصل على السعادة بين يديه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وواجهوا من خلال تقوى الله كل الذين ينحرفون بالناس عن طريق الله، وكل الذين يبتعدون عن خط العدل ويتحركون في مواقع الظلم. اتقوا الله وواجهوا المستكبرين في استكبارهم بكل ما تملكون من قوة، وواجهوا الظالمين في ظلمهم بكل ما لديكم من إمكانات، لأن الله أرد للناس أن يقوموا بالقسط، وأراد للمؤمنين ما قاله علي(ع) لولديه الإمامين الحسنين(ع): "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أن لا نكون حياديين بين المستكبرين والمستضعفين، بل أن نكون مع المستضعفين ضد المستكبرين، أن لا نكون حياديين بين الظالمين والمظلومين، بل أن نكون مع المظلومين ضد الظالمين.

وفي واقعنا الذي نعيشه في هذه المنطقة، وفي غيرها من مناطق العالم الإسلامي والعالم المستضعف، يسود الظلم الكبير من خلال ما يمارس الظالمون، حيث تدور معركة شرسة بين المستضعفين والمستكبرين، فتعالوا لنرى ماذا هناك حتى نتخذ الموقف المناسب.

الصلاة في الأقصى موقف:

نحن نجتمع الآن، وحيث يجتمع المسلمون في المسجد الأقصى، ليؤكدوا بصلاتهم معنى يتصل بالدين وبالسياسة كما يتصل بالعبادة، وهم يريدون أن يؤكدوا لليهود ومن ورائه العالم وفي مقدمته أمريكا، بأن القدس سوف تبقى إسلامية، وأن المسجد الأقصى الذي جعله الله إلى جانب المسجد الحرام، إذ هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، أنه لن يسمح لليهود أن تكون لهم السيطرة عليه من الناحية السياسية أو الناحية الدينية. إن المصلين يهرعون هناك، وهناك أكثر من حاجز وحاجز يهودي يمنعهم من دخول المسجد الأقصى للصلاة، والذين يتمكنون من الدخول فإنهم يصلون والدبابات والمدافع والبنادق والحقد الأعمى يحيط بهم من كل جانب.

ولذلك، فإن هذه الصلاة التي تمثل صلاة الموقف وصلاة الحرية وصلاة العبادة، هي من أقدس أنواع الصلاة.

القدس عربية إسلامية:

الحرب حرب القدس من جديد، فإرادة الشعب الفلسطيني تؤكد للعالم كله أن القدس - بكل مقدّساتها - سوف تبقى فلسطينية عربية. والشعوب العربية تتحرك بكل قوة لترفع الصوت عالياً في الوقوف مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه الدبابات والصواريخ والطائرات وكل الأسلحة الأمريكية، بالحجارة والزجاجات الحارقة والسلاح المتواضع واللحم العاري.. والشعوب الإسلامية - ما عدا إيران - لم تحرّك ساكناً حتى الآن بالمستوى المطلوب..

أما القمة العربية فهي لا تزال بين شدّ وجذب، في دائرة خلافات الأنظمة من جهة، والضغوط الأمريكية المانعة من جهة أخرى، ولا ننتظر من القمة - إذا عُقدت - أن يصدر عنها أيّ موقف قويّ حاسم تجمّد فيه الدول التي صالحت العدو علاقاتها بإسرائيل، ولو على مستوى سحب السفراء، أو التي طبّعت علاقاتها معه بإغلاق ممثلياتها.. أما "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي دعت إيران إلى اجتماع وزراء خارجية دولها، فإننا لم نجد - حتى الآن - أي حماس لانعقاد الاجتماع.

أمريكا تعرقل عمليات الإدانة:

وتبقى أمريكا في موقعها وموقفها المساند لإسرائيل والمدافع عنها، فلم تسمح لمجلس الأمن بإصدار قرار بإدانة إسرائيل، أو بالدعوة إلى تأليف لجنة تحقيق دولية، رافضةً أن يعالج مجلس الأمن أي قضية من هذا النوع، وهذا ما جاء على لسان سفيرها في المجلس: "إن مجلس الأمن ليس منتدى لتأجيج المشكلات"، كما لو كانت القضية مجرد مشكلة طارئة لا تحتاج إلى قرار دولي، لأن الدم الفلسطيني لا قيمة له عند أمريكا؟!

إن أمريكا في ذلك كله تساوي بين الضحية والمجرم، فتدعو إلى "وقف العنف" من الطرفين، من دون أن تتطلع إلى إسرائيل التي تستخدم الأسلحة الثقيلة - بما فيها الأسلحة المحرّمة دولياً - لقصف المدنيين وحصد عشرات الأطفال والشيوخ والنساء والشباب، بالإضافة إلى أنها تسعى إلى تنفيس الجريمة، لتبدو المسألة كما لو كان الإسرائيليون في موقف الدفاع عن النفس..

أما الموقف الأوروبي، فقد حاول أن يتمايز قليلاً عن الموقف الأمريكي، في انتقاد إسرائيل بطريقة تقترب من الإدانة ولكنها لم تصل إلى حدّ الشجب القوي، في الوقت الذي تتحرك فيه أكثر الجهود الدولية والعربية لإدخال هذه الحرب الوحشية ضد الشعب الفلسطيني في دائرة المفاوضات، لأن هؤلاء لا يريدون لها أن تتحوّل إلى انتفاضة جديدة من أجل التحرير، على قاعدة أن ما أُخذ ما بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، حيث لم يعد لدى الشعب الفلسطيني ما يخسره سوى قيوده..

التخطيط للمواجهات الجهادية:

إننا نعتقد أنه لا بد من التخطيط للمواجهة الجهادية، بالدرجة التي يتمكّن فيها الشعب الفلسطيني من الثبات في مواقعه، والتحرك في انتفاضته، كما أن على الشعوب العربية والإسلامية أن تمارس نوعاً من الضغط على حكوماتها، من أجل اتخاذ موقف حاسم على المستوى السياسي ضد أمريكا التي تؤيد إسرائيل بشكل مطلق، وتضغط بوحشية على الشعب الفلسطيني، الذي تحاصره إسرائيل على جميع الأصعدة..

إن المطلوب الآن ليس هو إصدار فتاوى الجهاد الطائرة في الهواء، بل إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى الدعم المباشر وغير المباشر على جميع الأصعدة، وليس بحاجة إلى المزيد من الحماس الذي أصبح يوزع كل مفرداته على العالم العربي كله.. كما أن الفتوى بالجهاد تحتاج إلى أرضية قوية متحرّكة تحوّل المسألة إلى حركة ضاربة في الواقع على المستوى الجهادي.. لذلك، فإن المطلوب هو خطة تفصيلية على مستوى تأمين إمكانيات المواجهة والدعم، ضمن آلية أمنية وسياسية وجهادية.

إن قضية احتلال القدس - بمقدّساتها الإسلامية ولا سيما المسجد الأقصى - تمثل التحدي الصارخ لكل إسلامية المسلمين، وكل عروبة العرب، من أجل الارتفاع إلى مستوى رد التحدي بالوقفة الجريئة الحاسمة، ليعرف العالم أن هناك عالماً عربياً وإسلامياً لا يرضى بانتهاك حرماته، ويتخذ مواقفه من خلال حماية قضاياه المصيرية.. إن المرحلة ليست مرحلة "أضعف الإيمان" بالإنكار القلبي أو اللساني، ولكنها مرحلة إرادة القوة بالمواقف الجريئة التي تحاسب وتعاقب، وقد استطاع الفلسطينيون - بكل فئاتهم - اتخاذ هذا الموقف، فأعطوا القضية كل جهدهم ودمائهم من موقع كل إيمانهم..

وإننا في الوقت الذي ننحني فيه إجلالاً للشهداء، ونعزي عوائلهم الثكلى ونبارك لهم الشهادة، وندعو ابتهالاً للجرحى، فإننا ندعو كل أهلنا في فلسطين إلى الحذر كل الحذر أن لا تُسرق منهم الانتفاضة، وأن لا تنحرف عن خطها المستقيم في التحرير، وأن لا نكتفي بيوم الغضب الوجداني، ولكن أن نستمر بالجهاد بكل إمكاناتنا، لأن إسرائيل مهما مارست وحشيتها في القتل والتدمير، ومهما وقفت معها أمريكا، فإنها لا تتحمّل غضب الرأي العام العالمي الذي بدأ يتحرك، حتى رأينا أن الرئيس الفرنسي يُطلق الصرخة الإنسانية أنه لا يجوز مواجهة الأحاسيس الشعبية بالدبابات.. لقد وقف العالم في الماضي مع فلسطين من خلال الانتفاضة، وسوف يقف مع الانتفاضة الجديدة التي يُراد إدخالها في أكثر من كهف وكهف، بحيث تغيب في الظلام..

إننا ندعو إلى الوحدة.. فلتكن التنظيمات تنظيماً واحداً، وليكن الصوت واحداً، فلا يبقى إلا صوت المعركة بعيداً عن الأيديولوجيات المتنوّعة.. إننا نتساءل: إذا كان العدو قد بدأ يفكر بحكومة تجمع "العمل" و"الليكود"، بالرغم من الصراعات العنيفة بين تياراته السياسية، للخروج من المأزق الذي وضعته فيه الانتفاضة الجديدة، ألا يدفعنا هذا إلى التفكير في وحدة فلسطينية سياسية جهادية من أجل توسيع مأزق العدو، وإخراج القضية من مأزقها السياسي الذي يعمل الكثيرون إقليمياً ودولياً على إبقائها فيه؟!

وأخيراً.. إلى لبنان

وأخيراً، إننا نتوجه للبنانيين - حكومة وشعباً - في الدوائر الدينية والسياسية، أن يعملوا على تجميد كل الأمور التي تثير الخلاف، وتحرّك السجال، وتتجه بالواقع إلى غير الوجهة التي ينبغي أن يتوجه إليها، فإن المرحلة التي دخلتها المنطقة بفعل العدوان الإسرائيلي والهجمة الأمريكية قد تترك تأثيرها السلبي على لبنان، ممن يعملون لإرباك الواقع السياسي في لبنان بإثارة الحساسيات الطائفية، وإبعاد الشعب عن التفكير بالأخطار القادمة فيالداخل والخارج..

أيها اللبنانيون: جمّدوا خلافاتكم ولو لوقت قصير، حتى نتعرّف كيف تبدو الصورة في الواقع، وكيف تتحرك الرياح المجنونة في الأفق.. ارحموا الحاضر والمستقبل، لأن الاتجاه بالبلد إلى مزيد من الانقسام في مرحلة الاهتزاز، سوف يُعقّد الحاضر ويُسقط المستقبل، وليحمل كل واحد مسؤوليته عن الأرض والإنسان، ولا يلعب أحد بالنار لأنها تحرق الذين يلعبون بها قبل أن تحرق الآخرين..

في رحاب الجواد.. تاسع أئمة أهل البيت (ع):
الإمام الذي بزّ أهل العلم يافعاً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الإمام المعجزة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أئمة أهل هذا البيت الإمام التاسع محمد بن علي الجواد (ع)، الذي يُصادف هذا اليوم - الثامن من رجب - يوم مولده. والإمام الجواد(ع) هو الإمام المعجزة، تسلّم الإمامة بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا(ع) وهو لم يبلغ سنّ البلوغ، ولكن الإمام استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع الإسلامي، ما دفع المأمون العباسي - وهو خليفة ذلك الوقت - لشدّة إعجابه به وبعلمه وفضله بالرغم من صغر سنه، إلى أن يزوّجه - بمبادرة منه لا من الإمام الجواد - ابنته "أم الفضل"، وهرع إليه العباسيون مخافة أن يولّيه ولاية العهد من بعده، كما ولّى أباه علي بن موسى الرضا (ع)، فتنتقل الخلافة من بني العباس إلى أهل البيت (ع).

غزير العلم وصاحب فضل:

ولكن المأمون صدّهم وعبّر لهم عن تقديره له بعدما اختبره ورأى أنه غزير العلم وصاحب فضل كبير، فأشاروا إلى أنه صغير السن، وقالوا: اتركه حتى يأخذ العلم كما يأخذه من كان في سنه، فقال لهم: امتحنوه واختبروه، فعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، فذهبوا إلى قاضي القضاة وهو "يحيى بن أكثم"، وطلبوا منه أن يختار من مسائله أصعب المسائل حتى يُفحموا الإمام الجواد (ع)، فيقتنع المأمون بأنه يحتاج إلى المزيد من العلم قبل أن يُعطى هذا الموقع الكبير.

وعقد المأمون اجتماعاً عاماً وأجلس الإمام في صدر المجلس، وجاء قاضي القضاة ووجه إليه سؤالاً، في محرِم قَتَل صيداً، وبدأ الإمام (ع) يفرّع له السؤال فتحوّل إلى عشرين مسألة، حتى حار قاضي القضاة ولم يعطِ جواباً، وبدأ الإمام يفصّل تفصيلاً فقهياً كأفضل ما يتحدث به الفقهاء، حتى خشع قاضي القضاة له، ولم يستطع أن يجيب على أسئلته، واقتنع الجمهور بأن أهل هذا البيت زُقوا العلم زقاً، وأن علمهم ليس من خلال مدرسة، كما قال ذلك الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

تقدير المجتمع له:

ويروي الرواة أنه أجاب على صغر سنه عن ثلاثين ألف مسألة من المسائل التي كانت تُقدّم إليه، حتى قيل إن عمّ أبيه، وهو "علي بن جعفر"، وكان كبير السنّ يبلغ الثمانين أو أكثر، كان يتواضع له، وقالوا له: إنك عمّ أبيه؟ فقال لهم: كيف أصنع، إن الله لم يجعل لي هذه الشيبة - وأشار إلى شيبته - وجعلها لهذا الغلام، فتواضعي له إنما لأن الله تعالى اختصه بالإمامة ووهبه أعلى الصفات التي تميّز الإنسان، و"قيمة كل امرئ ما يحسنه".

وعاش الإمام الجواد (ع) وهو محل تقدير المجتمع الإسلامي كله، لا سيما بعد هذه المناظرة التي جُمعت فيها شخصيات الدولة، وواجه التحدي بما أعطاه الله تعالى من العلم. ونحن في إيماننا بأئمة أهل البيت(ع) الذين هم حجج الله على خلقه، نحتاج دائماً إلى أن نتعلم منهم، أن تكون علاقتنا بهم علاقة اقتداء واتّباع ووعي وثقافة، حتى نعيش في إمامتهم بعد وفاتهم كما عاش الأولون إمامتهم في حياتهم.

من حكمه ووصاياه

فلنستمع إلى بعض ما قاله الإمام الجواد (ع) من بعض الحكم والوصايا، وقد نجد بعض كلماته في كلمات آبائه (ع)، وذلك لأن الجوهر واحد.

تحديد الموقف في الإصغاء:

يقول الإمام الجواد (ع): "من أصغى إلى ناطق - بحيث استغرق في الاستماع إليه، فيدخل كلامه عقله وينفذ إلى قلبه، ويتحوّل إلى موقف في مواقفه، هذا النوع من الإصغاء الذي يؤدي إلى الاستغراق في الكلمات، بحيث تدخل الكلمة إلى كيان الإنسان ووجوده - فقد عبده - لأن العبادة هي غاية الخضوع - فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله - إذا كان الناطق يحدث عن كتاب الله وسنّة نبيه وأوليائه، فإن الإنسان إذا اتجه إليه بهذه الروح العبادية فإنه يعبد الله، لأنه لا يستمع إليه من خلال ذاته وشخصه، ولكنه يستمع إليه من خلال كلمته، وإذا كانت كلمته كلمة الله، فإنه يعبد الله من خلال استغراقه فيه - وإن كان يؤدي عن لسان الشيطان - كما في كثير من خطباء الشياطين الذين يضلّلون الناس ويبعدونهم عن الله - فقد عبد الشيطان"، وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول لك: حدد موقفك في الإصغاء إلى أي خطيب أو متكلم بأن تدرس خلفياته، هل هو من أولياء الله أو من أولياء الشيطان، فإن كان من أولياء الله فأقبل عليه بعقلك وقلبك، لأن الإقبال سوف يكون لله، وإن كان من أولياء الشيطان فإنك بذلك تعبد الشيطان.

التوفيق من الله:

ويقول (ع): "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله - بأن يجعله الله موضع رعايته ومحلّ لطفه، ليوفقه في الانفتاح على الخط المستقيم - وواعظ من نفسه - أن يأخذ الموعظة من نفسه فيما تواجه نفسه من العبر التي تمر بها في الحياة من خلال أكثر من تجربة وعبرة، وقد ورد: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ" - وقبول ممن ينصحه"، فعلى المؤمن أن يستمع إلى النصيحة من الناصح بكل عقله وقلبه، ولا يعيش كبرياء الذات، كالذين يفكّرون دائماً أنهم هم الذين ينصحون الناس وليس من حق أحد أن ينصحهم..بل ينبغي للإنسان أن يستنصح الناس، وإذا جاءه من ينصحه، فعليه أن يستمع إليه بعقله وقلبه، فقد يكون في النصيحة كل الخير له في الدنيا والآخرة..

طريق الجنة بمخالفة الهوى:

وفي الحديث عن الإمام الجواد (ع) أنه قال: "من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه"، والعدو هو الشيطان الذي يزيّن للإنسان الهوى ويعزله عن عقله وإيمانه، والله تعالى حدّثنا أن طريق الجنة هي في مخالفة الهوى المحرّم الذي لا يرضاه الله: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}، أما الشخص الذي يتبع هواه فإذا الريح مالت مال حيث تميل: {وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هو المأوى}.. وقد حدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يعبدون هوى أنفسهم من دون الله، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}، وذلك بأن يعبد هوى نفسه ويستغرق فيه ويطيعه على حساب طاعة الله..

الثقة بالله:

ويقول الإمام الجواد (ع): "كيف يضيع من الله كافله - والله تعالى قد تكفّل بمن توكل عليه وأرجع أمره إليه ومن يخلص له، ولذلك لا بد أن نثق بالله - وكيف ينجو من الله طالبه"، فالشخص الذي يريده الله أين يذهب؟ هل يصعد إلى السماء أو ينزل إلى الأرض؟ ويقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء ليلة عرفة والجمعة "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجلة ، إنما يعجل من يخاف الفوت ، ويحتاج إلى ظلم الضعيف" ويقول تعالى {وجاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد ولو كنتم في بروج مشيّدة لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.. ويقول(ع): "من انقطع إلى غير الله وكله الله إليه"، فهذه دروس روحية تجعل الانسان متوازناً في حياته. ألم يقل الكثير من الناس في زماننا، أنا متوكل على فلان، على الحزب الفلاني، على المنظمة الفلانية، والبعض الآخر يجعلها في سياق أنيق ومرتب كأن يقول: أنا أتكل على الله وعليك، يعني أنه جعل لله شريكاً ، حيث لا بد أن تتوكل على الله، لأنه وحده سبحانه وتعالى من يسخّر الناس لبعضهم البعض.

التوحيد في العبادة:

يجب أن نتعلم التوحيد أيها الأحبة، فلا ندعو مع الله أحداً، فالأنبياء والأولياء هم عباد الله، وكذلك الأئمة(ع)، ولذلك نرى أن الإمام زين العابدين(ع) يقول: "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك، فكم قد رأيت يا إلهي أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصح بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره وأرشده إلى طريق صوابه اختياره".

وهكذا يتحدث الإمام(ع) عن حالة موجودة في المجتمع، قد تكون إنساناً أصيلاً، قد تكون إنساناً حراً، قد تكون إنساناً مؤمناً، ولكن ذلك لا يعجب الظالمين،ولا يرضون عنك، سواء كانوا من الظالمين الكبار أو الصغار. وفي هذه الحال عليك أن تسأل: هل هؤلاء من العادلين أم من الظالمين؟ فالإمام(ع) يقول إنّ هذا الإنسان غير الراضي عليك إذا كان من أهل الجور والظلم فلا يضرك، ولا يضرك سخط من رضاه الجور، من يرضى بالظلم ولا يرضى بالعدل لا يرتاح إذا كنت عادلاً مع الله وعادلاً مع نفسك وعادلاً مع الناس، ثم يقول الإمام(ع): "لا تكن ولي لله في العلانية، وعدواً له في السر". في الظاهر تدخل المساجد وتذهب إلى الحج، وتصوم شهر رمضان، ولكن إذا انفتح لك باب من الحرام سراً، فإنك تسرق وتخون وتزني وما إلى ذلك، فالحساب مع الله غير الحساب مع الناس، حيث{يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، كما يحدثنا الله أن الناس يوم القيامة يحلفون له كما يحلفون لكم، لهذا نريد دائماً أن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى.

البركة من الله:

وفي هذا الإطار نتعرض لقضيتين: الأولى عندما تزوج الإمام(ع) أمّ الفضل بنت المأمون، جاء أحد أصحابه وهو أبو هاشم الجعفري، قال: "يا مولاي، عظمت علينا بركات هذا اليوم"، أي أن منـزلة هذا اليوم رفيعة، حيث كرّمك المأمون وأعطاك ابنته بمبادرة منه.

الإمام(ع) هنا أراد أن ينبهه إلى أن البركة لا تأتي من اليوم، وإنما تأتي من الله في هذا اليوم، قال الإمام: "يا أبا هاشم، ليس بركة اليوم، عظمت بركة الله علينا فيه"، اليوم هو قطعة زمنية لا تعطي البركة، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي في هذا اليوم بركاته، وقد يعطي هذه البركات في يوم آخر.

فإذا أردت أن تتحدث عن البركة، فلا تتحدث عن بركة اليوم، فيما حصلت عليه من خير، ولكن تحدث عن بركة الله عليك في ذلك. "قلت: نعم يا مولاي، فما أقول في اليوم، قال قل فيه خيراً"، الله أعطاني كذا، اطلب من الله أن يعطيك في هذا اليوم فإنه يصيبك.

أنفسنا وأموالنا من مواهب الله:

"فقلت يا مولاي، أفعل هذا ولا أخالف"، لقد تعلمت منك درساً، قال "إذاً ترشد ولا ترى إلا خيراً"، والقضية الثانية هو أنه جاء في رواية ثانية تنقل عن الإمام الجواد(ع) أنه أرسل إليه قماش له قيمة كبيرة من قبل بعض الناس ، فسلب في الطريق، فكتب إليه الذي حمل القماش يعرّفه الخبر، وهنا أراد الإمام (ع) أن يعطيه درساً يحسن التصرف فيه فوقّع (ع)بخطه، "أن أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة، الله أعطانا أنفسنا وأعطانا أموالنا وعواريه المستودعة يمتع بما متع فيها بسرور وغبطة، ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة، الله يؤجرنا على ما خسرناه، فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره"، أي لا ينبغي للإنسان أن يجزع على مال أو رزق. لا ينبغي القيام بأي عمل غير طبيعي في هذه الحالة، كأن ينتحر نفسياً أو جسدياً، أو ما إلى ذلك.

يقول الإمام(ع): تقبل الخسارة بصدر رحب، واعتبر أنه مثلما وهبنا الله هذه النعمة فقد أخذها منا، ولا مشكلة في هذا الموضوع.

وفي ختام الحديث، هناك كلمة للإمام الجواد(ع): "كفى للمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة"، يعني أنت الآن ما يجعلك في الموقع الكبير من الخيانة، أن تعرف أناساً خونة يسرقون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل، ويخونونهم في كل قضاياهم، وتكون أميناً لهم تدافع عنهم وتحفظ سرهم وما إلى ذلك، ربما لم تخن، ولكنك كنت أمين الخونة، والله لا يريد لنا أن نكون أمناء للخونة وللظالمين وللمجرمين.

أيها الأحبة، هؤلاء أئمة أهل البيت(ع)، هؤلاء الذين يرفعوننا إلى المستوى الأعلى في إنسانيتنا، وفي التزامنا، وفي إيماننا، لذلك تمسكوا بهم، "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تعالوا إلى كتاب الله وسنة نبيه(ص) وتراث أوليائه، حتى نعيش حياتنا في طريق الله ونحصل على السعادة بين يديه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وواجهوا من خلال تقوى الله كل الذين ينحرفون بالناس عن طريق الله، وكل الذين يبتعدون عن خط العدل ويتحركون في مواقع الظلم. اتقوا الله وواجهوا المستكبرين في استكبارهم بكل ما تملكون من قوة، وواجهوا الظالمين في ظلمهم بكل ما لديكم من إمكانات، لأن الله أرد للناس أن يقوموا بالقسط، وأراد للمؤمنين ما قاله علي(ع) لولديه الإمامين الحسنين(ع): "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أن لا نكون حياديين بين المستكبرين والمستضعفين، بل أن نكون مع المستضعفين ضد المستكبرين، أن لا نكون حياديين بين الظالمين والمظلومين، بل أن نكون مع المظلومين ضد الظالمين.

وفي واقعنا الذي نعيشه في هذه المنطقة، وفي غيرها من مناطق العالم الإسلامي والعالم المستضعف، يسود الظلم الكبير من خلال ما يمارس الظالمون، حيث تدور معركة شرسة بين المستضعفين والمستكبرين، فتعالوا لنرى ماذا هناك حتى نتخذ الموقف المناسب.

الصلاة في الأقصى موقف:

نحن نجتمع الآن، وحيث يجتمع المسلمون في المسجد الأقصى، ليؤكدوا بصلاتهم معنى يتصل بالدين وبالسياسة كما يتصل بالعبادة، وهم يريدون أن يؤكدوا لليهود ومن ورائه العالم وفي مقدمته أمريكا، بأن القدس سوف تبقى إسلامية، وأن المسجد الأقصى الذي جعله الله إلى جانب المسجد الحرام، إذ هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، أنه لن يسمح لليهود أن تكون لهم السيطرة عليه من الناحية السياسية أو الناحية الدينية. إن المصلين يهرعون هناك، وهناك أكثر من حاجز وحاجز يهودي يمنعهم من دخول المسجد الأقصى للصلاة، والذين يتمكنون من الدخول فإنهم يصلون والدبابات والمدافع والبنادق والحقد الأعمى يحيط بهم من كل جانب.

ولذلك، فإن هذه الصلاة التي تمثل صلاة الموقف وصلاة الحرية وصلاة العبادة، هي من أقدس أنواع الصلاة.

القدس عربية إسلامية:

الحرب حرب القدس من جديد، فإرادة الشعب الفلسطيني تؤكد للعالم كله أن القدس - بكل مقدّساتها - سوف تبقى فلسطينية عربية. والشعوب العربية تتحرك بكل قوة لترفع الصوت عالياً في الوقوف مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه الدبابات والصواريخ والطائرات وكل الأسلحة الأمريكية، بالحجارة والزجاجات الحارقة والسلاح المتواضع واللحم العاري.. والشعوب الإسلامية - ما عدا إيران - لم تحرّك ساكناً حتى الآن بالمستوى المطلوب..

أما القمة العربية فهي لا تزال بين شدّ وجذب، في دائرة خلافات الأنظمة من جهة، والضغوط الأمريكية المانعة من جهة أخرى، ولا ننتظر من القمة - إذا عُقدت - أن يصدر عنها أيّ موقف قويّ حاسم تجمّد فيه الدول التي صالحت العدو علاقاتها بإسرائيل، ولو على مستوى سحب السفراء، أو التي طبّعت علاقاتها معه بإغلاق ممثلياتها.. أما "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي دعت إيران إلى اجتماع وزراء خارجية دولها، فإننا لم نجد - حتى الآن - أي حماس لانعقاد الاجتماع.

أمريكا تعرقل عمليات الإدانة:

وتبقى أمريكا في موقعها وموقفها المساند لإسرائيل والمدافع عنها، فلم تسمح لمجلس الأمن بإصدار قرار بإدانة إسرائيل، أو بالدعوة إلى تأليف لجنة تحقيق دولية، رافضةً أن يعالج مجلس الأمن أي قضية من هذا النوع، وهذا ما جاء على لسان سفيرها في المجلس: "إن مجلس الأمن ليس منتدى لتأجيج المشكلات"، كما لو كانت القضية مجرد مشكلة طارئة لا تحتاج إلى قرار دولي، لأن الدم الفلسطيني لا قيمة له عند أمريكا؟!

إن أمريكا في ذلك كله تساوي بين الضحية والمجرم، فتدعو إلى "وقف العنف" من الطرفين، من دون أن تتطلع إلى إسرائيل التي تستخدم الأسلحة الثقيلة - بما فيها الأسلحة المحرّمة دولياً - لقصف المدنيين وحصد عشرات الأطفال والشيوخ والنساء والشباب، بالإضافة إلى أنها تسعى إلى تنفيس الجريمة، لتبدو المسألة كما لو كان الإسرائيليون في موقف الدفاع عن النفس..

أما الموقف الأوروبي، فقد حاول أن يتمايز قليلاً عن الموقف الأمريكي، في انتقاد إسرائيل بطريقة تقترب من الإدانة ولكنها لم تصل إلى حدّ الشجب القوي، في الوقت الذي تتحرك فيه أكثر الجهود الدولية والعربية لإدخال هذه الحرب الوحشية ضد الشعب الفلسطيني في دائرة المفاوضات، لأن هؤلاء لا يريدون لها أن تتحوّل إلى انتفاضة جديدة من أجل التحرير، على قاعدة أن ما أُخذ ما بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، حيث لم يعد لدى الشعب الفلسطيني ما يخسره سوى قيوده..

التخطيط للمواجهات الجهادية:

إننا نعتقد أنه لا بد من التخطيط للمواجهة الجهادية، بالدرجة التي يتمكّن فيها الشعب الفلسطيني من الثبات في مواقعه، والتحرك في انتفاضته، كما أن على الشعوب العربية والإسلامية أن تمارس نوعاً من الضغط على حكوماتها، من أجل اتخاذ موقف حاسم على المستوى السياسي ضد أمريكا التي تؤيد إسرائيل بشكل مطلق، وتضغط بوحشية على الشعب الفلسطيني، الذي تحاصره إسرائيل على جميع الأصعدة..

إن المطلوب الآن ليس هو إصدار فتاوى الجهاد الطائرة في الهواء، بل إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى الدعم المباشر وغير المباشر على جميع الأصعدة، وليس بحاجة إلى المزيد من الحماس الذي أصبح يوزع كل مفرداته على العالم العربي كله.. كما أن الفتوى بالجهاد تحتاج إلى أرضية قوية متحرّكة تحوّل المسألة إلى حركة ضاربة في الواقع على المستوى الجهادي.. لذلك، فإن المطلوب هو خطة تفصيلية على مستوى تأمين إمكانيات المواجهة والدعم، ضمن آلية أمنية وسياسية وجهادية.

إن قضية احتلال القدس - بمقدّساتها الإسلامية ولا سيما المسجد الأقصى - تمثل التحدي الصارخ لكل إسلامية المسلمين، وكل عروبة العرب، من أجل الارتفاع إلى مستوى رد التحدي بالوقفة الجريئة الحاسمة، ليعرف العالم أن هناك عالماً عربياً وإسلامياً لا يرضى بانتهاك حرماته، ويتخذ مواقفه من خلال حماية قضاياه المصيرية.. إن المرحلة ليست مرحلة "أضعف الإيمان" بالإنكار القلبي أو اللساني، ولكنها مرحلة إرادة القوة بالمواقف الجريئة التي تحاسب وتعاقب، وقد استطاع الفلسطينيون - بكل فئاتهم - اتخاذ هذا الموقف، فأعطوا القضية كل جهدهم ودمائهم من موقع كل إيمانهم..

وإننا في الوقت الذي ننحني فيه إجلالاً للشهداء، ونعزي عوائلهم الثكلى ونبارك لهم الشهادة، وندعو ابتهالاً للجرحى، فإننا ندعو كل أهلنا في فلسطين إلى الحذر كل الحذر أن لا تُسرق منهم الانتفاضة، وأن لا تنحرف عن خطها المستقيم في التحرير، وأن لا نكتفي بيوم الغضب الوجداني، ولكن أن نستمر بالجهاد بكل إمكاناتنا، لأن إسرائيل مهما مارست وحشيتها في القتل والتدمير، ومهما وقفت معها أمريكا، فإنها لا تتحمّل غضب الرأي العام العالمي الذي بدأ يتحرك، حتى رأينا أن الرئيس الفرنسي يُطلق الصرخة الإنسانية أنه لا يجوز مواجهة الأحاسيس الشعبية بالدبابات.. لقد وقف العالم في الماضي مع فلسطين من خلال الانتفاضة، وسوف يقف مع الانتفاضة الجديدة التي يُراد إدخالها في أكثر من كهف وكهف، بحيث تغيب في الظلام..

إننا ندعو إلى الوحدة.. فلتكن التنظيمات تنظيماً واحداً، وليكن الصوت واحداً، فلا يبقى إلا صوت المعركة بعيداً عن الأيديولوجيات المتنوّعة.. إننا نتساءل: إذا كان العدو قد بدأ يفكر بحكومة تجمع "العمل" و"الليكود"، بالرغم من الصراعات العنيفة بين تياراته السياسية، للخروج من المأزق الذي وضعته فيه الانتفاضة الجديدة، ألا يدفعنا هذا إلى التفكير في وحدة فلسطينية سياسية جهادية من أجل توسيع مأزق العدو، وإخراج القضية من مأزقها السياسي الذي يعمل الكثيرون إقليمياً ودولياً على إبقائها فيه؟!

وأخيراً.. إلى لبنان

وأخيراً، إننا نتوجه للبنانيين - حكومة وشعباً - في الدوائر الدينية والسياسية، أن يعملوا على تجميد كل الأمور التي تثير الخلاف، وتحرّك السجال، وتتجه بالواقع إلى غير الوجهة التي ينبغي أن يتوجه إليها، فإن المرحلة التي دخلتها المنطقة بفعل العدوان الإسرائيلي والهجمة الأمريكية قد تترك تأثيرها السلبي على لبنان، ممن يعملون لإرباك الواقع السياسي في لبنان بإثارة الحساسيات الطائفية، وإبعاد الشعب عن التفكير بالأخطار القادمة فيالداخل والخارج..

أيها اللبنانيون: جمّدوا خلافاتكم ولو لوقت قصير، حتى نتعرّف كيف تبدو الصورة في الواقع، وكيف تتحرك الرياح المجنونة في الأفق.. ارحموا الحاضر والمستقبل، لأن الاتجاه بالبلد إلى مزيد من الانقسام في مرحلة الاهتزاز، سوف يُعقّد الحاضر ويُسقط المستقبل، وليحمل كل واحد مسؤوليته عن الأرض والإنسان، ولا يلعب أحد بالنار لأنها تحرق الذين يلعبون بها قبل أن تحرق الآخرين..

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية