ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :
في الإسلام، يريد الله تعالى للإنسان أن يبني إنسانيته، بأن يعطي من عقله لمن يحتاج إلى عقله، وأن يعطي من قلبه لمن يحتاج إلى انفتاحات قلبه، وأن يعطي من خبرته لمن يحتاج إلى خبرته، وأن يعطي من طاقته - أياً كانت تلك الطاقة - لمن يحتاج إلى طاقته.
الإسلام دعوة إلى التكامل والانفتاح:
في الإسلام، لا يريد الله تعالى للإنسان أن يعيش في داخل ذاته، ليسجن ذاته في ذاته، بل يريد له أن يكون كالشمس تطلع على البر والفاجر، أن يكون كالينبوع الذي يتدفق في الأرض الخصبة والجديبة، أن يشعر الإنسان أن فيه جزءاً للإنسان الآخر، فهو لا يملك كل نفسه، فكل واحد منا يعيش ذاته في فرديته، يأكل ولا يشاركه أحد في طعامه، ويشرب ويتلذذ بكل اللذات الجسدية، فهذه شؤون فردية، ولكن عندما يملك علماً، فإن في علمه شيء للآخر، وعليه من موقع المسؤولية أن يعطي علمه لكل من يحتاجه، لأن علم الأمة هو علم الأفراد، ليس عندنا شيء اسمه الأمة معلق في الهواء، من هي الأمة؟ هي أنا وأنت والآخرون.. من هو المجتمع؟ هو أنا وأنت والآخرون، علم الأمة موزع في عقول كل فرد من أفرادها.
لذلك، إن صاحب العلم لا يملك علمه، بل إن علمه أمانة الله عنده، وعليه أن يبذل علمه لمن يحتاجه، لا أن ينتظر الناس حتى يسألوه، بل إن عليه أن يبادر، وقد جاء في الحديث: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"، وفي حديث آخر: "إن الله لم يأخذ على الجهّال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا".
وهكذا طاقاتنا المودعة في وجودنا، قوتنا، عقولنا، كلها شركة بيننا وبين الناس الذين يحتاجونها، حتى المال الذي يشعر كل إنسان أنه يملكه، إن الله تعالى يقول لك من خلال المنطق القرآني: إن المال ليس مالك، {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، الله سبحانه أعطاك المال لتنتفع به في حاجاتك، ومن حقك أن تنتفع في مالك بأن تبذله في حاجاتك، ولكن {والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم}، {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، الله تعالى جعلك وكيلاً على المال تعطي نفسك منه ما تحتاجه وتبذله للآخرين وتحركه في حياتهم. وهناك نظرية فقهية تقول لا يجوز للإنسان أن يجمّد ماله، بل أن يحرّكه في السوق، لأن الواقع الاقتصادي لا يتحرك إلا من خلال إطلاق المال في عملية الإنتاج..
الإحسان طريق إلى محبة الله:
إن الإسلام أراد للإنسان عندما يملك، أن يقضي حوائج الناس، وأن يخفف من آلامهم ولو بالكلمة وأن يفرّج كروبهم ويمنحهم الحلول لمشاكلهم، وهذه الروحية تتجسد في مفهوم إسلامي وهو الإحسان، ولذلك الله تعالى جمع النشاط الإنساني في علاقات الناس مع بعضهم البعض في كلمتين: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، العدل هو أن تأخذ حقك بالمعنى القانوني للحق، وأن تعطي للآخر حقه بالمعنى القانوني للحق، والإحسان هو أن تعطي الآخر ما يستحقه منك بالمعنى الأخلاقي، فهناك خطوط قانونية ملزمة، وهناك خطوط أخلاقية مستحبة.
وقد ورد الحديث عن الإحسان في عدة نصوص قرآنية، يقول الله تعالى: {فأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، أحسن في عملك مع الله ولنفسك، وأحسن للناس في تعاملك معهم، وأحسن للحياة في عطائك للحياة، فإذا كنت الإنسان الذي يتحرك بالإحسان في حياته، فإنك بذلك تحصل على محبة الله. وقصة أن يحبنا الله هي قصة تمثّل السعادة التي لا سعادة بعدها، لأن من أحبه الله رضي عنه، ورضوان الله أكبر من كل النعم التي يحصل عليها، {ورضوان من الله أكبر}، أن يحبك الله أن يمنحك لطفه ورحمته ويضمك إلى جنته.
لذلك، لا بد لنا أن نستغرق في كل شيء يجعلنا في موقع المحبة من الله. ويقول تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}، مَن مِنّا لا يحتاج رحمة الله التي هي سر وجودنا، وسر نعم الله علينا؟ هل تريدون أن تقترب الرحمة من حياتكم، أن يرحم الله عقولكم فينميها، وأن يرحم قلوبكم فيطهّرها، وأن يرحم نفوسكم فيزكّيها، وأن يرحم حياتكم فيمنحها الطمأنينة والرخاء والأمن؟!
المحسن جزاؤه الجنة:
ويحدثنا الله تعالى عن المحسنين ماذا يمنحهم: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة - يعني يعطيك الله ما تستحقه من عملك ويمنحك زيادة على ذلك - ولا يرهق وجوههم - يوم القيامة - قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * واصبر - الصبر على الأذى والتحديات يمثل حالة من الإحسان لنفسك ولرسالتك، لأن الإنسان الذي يتحرك في خط الرسالة ويصبر على ما يلاقيه يُحسن للرسالة، لأنه يقويها ويثبتها ويجعلها في مواقع التحدي - فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - فالله يجزيك في الدنيا بإحسانك، ما يجعل الدنيا لك منفتحة - ولدار الآخرة ولنعم دار المتقين}.
ثم، أي سعادة أكبر من أن يكون الله تعالى معك؟ إننا نشعر بالزهو وبالفخر والاستعلاء عندما يتواجد معنا شخص في المواقع السياسية أو الدينية أو الاجتماعية العليا، لأن ذلك سوف يرفع درجتنا في المجتمع، فكيف إذا كان الله تعالى معنا؟ {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}. ثم يريد الله تعالى لنا في خط الإحسان أن نُحسن في كلماتنا، أن لا نتكلم كيفما كان، أن لا تنطلق الكلمة من غرائزنا التي تختزن الكثير من الحقد والبغضاء، بل أن تنطلق من عقولنا ثم تمر في قلوبنا، ثم تذوب مع مشاعرنا وأحاسيسنا لتصل إلى الإنسان الآخر وهي الكلمة الأحسن، {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}. ويضع الله تعالى القاعدة لنا: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، إذا أحسن الناس إليك فأحسن إليهم، والله يُحسن إليك، فعليك أن تحسن لله في توحيده وطاعته وعبادته.
الفلاح بالصلاة والزكاة:
ويحدثنا الله تعالى عن المحسنين في الخط الديني: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}. الحياة رحلة طيبة أعطانا الله فيها نعمة الوجود، ونعمة كل حركيته، وأرادنا أن نجعل من الحياة جنّة على الأرض، نحسن فيها إلى أنفسنا وإلى بعضنا البعض وإلى الحياة، لأنه إذا فسدت حياتنا وحياة الناس من حولنا فسوف ينقلب الفساد علينا وعلى الأجيال التي ستأتي من ذريتنا، ولذا على كل واحد منّا أن يحسن إلى نفسه وإلى أمته، ليحسن في الكلمة والسلوك والعلاقات، وبذلك نحصل على خير الدنيا والآخرة. القصة هي أن نفكر، لأن مشكلتنا أن غرائزنا هي التي تقودنا وليست عقولنا. إن العقل هو حجة الله علينا، فعلينا أن نحرك العقل في الكلمة والفعل والعلاقات، لأن العقل يقول لنا: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله فيما حمّلكم من مسؤوليات تجاه أنفسكم وتجاه الناس من حولكم، وتجاه أمتكم وأوطانكم، في كل القضايا الحيوية والمصيرية التي يملك كل واحد منكم أن يأخذ دوره فيها، سواء كان دوره دوراً صغيراً أو كبيراً، لأن الله لا يريد للإنسان أن يكون حيادياً في كل قضايا أمته، لأنه مسؤول تجاه أمته كما هو مسؤول تجاه نفسه.. ونحن كمسلمين لا نزال نخوض معركة كبرى على مستوى المنطقة، وعلى مستوى العالم كله مع المستكبرين، ولذلك لا بد أن نتعرف كيف يتحرك هؤلاء في قضايانا الحيوية، وكيف يجب أن نأخذ مكاننا في خط المواجهة، لأن معركة الحق والباطل هي معركة تستمر مع الحياة كلها.. فتعالوا لندرس ماذا هناك:
الخروقات الإسرائيلية ووهن الأمم المتحدة:
لا تزال الأزمة الناشئة من الخروقات الإسرائيلية الباقية بعد الانسحاب تراوح مكانها، من دون أن تتوصل الأمم المتحدة إلى حل حاسم، بفعل الضغط الأمريكي عليها، لأن أمريكا لا تريد لأية جهة القيام بإدانة إسرائيل تحت أي اعتبار..
ويستمر لبنان في المطالبة بحقه، وتبقى المقاومة على سلاحها في انتظار اللحظة الحاسمة للتحرك من أجل القيام بمهمة التحرير، وذلك في إطار خطة مرسومة يبقى العدو معها في حالة قلق، يعيش هاجس المقاومة في تصميمها على مواجهة الموقف بمسؤولية.
إن علينا أن لا نمنح العدو إحساساً بالأمن، لأن القضية لا تزال في دائرة المراوحة السياسية والأمنية معه، الأمر الذي يفرض على الجميع الابتعاد عن الجدل حول المقاومة والجنوب، كما لو كانت الأمور قد انتهت إلى نتائج التحرير من دون مشاكل. ولهذا نستغرب حديث البعض عن إيقاف الاستنفار ضد العدو في لبنان، في الوقت الذي لا يزال فيه العدو مستنفراً.
نحو معالجة جدية للأزمة الاقتصادية:
وتبقى الأزمة الاقتصادية الصعبة المستمرة تأخذ بخناق لبنان، وتتفاقم بطريقة جنونية، من دون بروز معالجات توحي بأن الدولة تدرك خطورة الوضع الذي يذهب إليه البلد.. وإذا كنا نعلم بأن هذه الأزمة ليست وليدة سنة أو سنتين، بل هي نتيجة تراكمات مستمرة تعود إلى سني الحرب، وقد فاقم منها الهدر والفساد والسياسات غير المسؤولة، ولكن ذلك لا يعفي المسؤولين من اسؤولية الإسراع في المعالجة، لا سيما وأننا على أبواب مرحلة صعبة وخطيرة، يُراد فيها للبنان أن ينقاد إلى ما يُطرح أمامه من مشاريع وإغراءات دولية، تحت عنوان عدم القدرة على المواجهة بسبب الإفلاس.
إن الأزمة الاقتصادية متداخلة مع الأزمة السياسية على مستوى حركتي الداخل والخارج، فيجب على الجميع الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الكبرى في المعالجة الجدية للأمور، والابتعاد عن إضاعة القضايا الحيوية في الجدل السياسي العقيم، الذي يستهدف تسجيل النقاط لا معالجة المشكلة.
إن الشعب يطلب الالتفات والتخطيط للأولويات الضرورية، في تقديم المشاريع الإنمائية والزراعية والصناعية التي تعالج مشكلة البطالة.. والتوجه إلى معالجة أزمة الكهرباء المزمنة التي باتت تشكل مشكلة تثير المعاناة على أكثر من مرفق حيوي في البلد.
إننا ندعو إلى الصراحة التامة مع الناس، ليعرفوا حجم المشكلة مقارنةً بطبيعة الحلول، حتى لا نبقى في متاهات الخطابات والخطابات المضادة.. لقد استطاع الشعب بمقاومته أن يصنع التحرير، وعلى الدولة أن تقوم بحماية هذا التحرير من الألاعيب السياسية الاستهلاكية التي تأكل استقرار البلد وسياسته في هذه المرحلة.
الانتفاضة هي الحل:
وفي جانب آخر، لا يزال الشعب الفلسطيني يعيش في الدوامة الأمريكية - الإسرائيلية التي تحاول إتعابه، ومصادرة قضاياه الحيوية لحساب المطالب الإسرائيلية في القدس واللاجئين والمستوطنات، وهذا ما تسعى له أمريكا من خلال القمة الثلاثية المرتقبة - التي تضم سلطة الحكم الذاتي وإسرائيل وأمريكا - للضغط على الفلسطينيين لتقديم التنازلات، تحت شعار الحاجة إلى القرارات "الشجاعة الصعبة".. إننا نخشى أن تستمر التنازلات الفلسطينية تحت إغراء الرغبة في إعلان الدولة التي لن تستكمل شروطها ومواقعها وقدرتها على البقاء..
إننا ندعو الشعب الفلسطيني إلى الوعي الدقيق للعبة الجديدة القديمة، التي تريد أن تصادر حقوقه وتفرّغ مستقبله من كل انتصار وحرية، ليبقى تحت الهيمنة الإسرائيلية على مستوى الاقتصاد والأمن والسياسة والخدمات الحيوية في جزر متناثرة لا يربط بينها شيء. إن الحل ليس بالمفاوضات، وإنما هو بالانتفاضة، حيث لن يخسر الشعب الفلسطيني إلا قيوده.
إيران.. إصرار على الاستقلالية:
وفي هذا الجو، أثارت أمريكا - ومعها أوروبا - حملة إعلامية ظالمة ضد إيران، في قضية الحكم على الجواسيس اليهود باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، لأنها لا تجد أية مشكلة في التجسس على إيران لمصلحة إسرائيل، وذلك من خلال الحرب السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية التي تشن ضد إيران لمصلحة الاستكبار العالمي والصهيوني، لأن المطلوب هو إسقاط السياسة الإيرانية المستقلة لتخضع للخطة الأمريكية في المنطقة، وهذا ما ترفضه إيران كما ترفضه كل الشعوب الحرّة.
لقد أثارت أمريكا النكير على إيران، تحت شعار أنها تتدخل في شؤون الدول الأخرى باسم تصدير الثورة، فهل أن التدخّل في نتائج القضاء الإيراني ضد الجواسيس اليهود لا يعتبر تدخلاً أمريكياً وأوروبياً في شؤون إيران الداخلية؟ ثم، لماذا هذا التمييز بين المحكومين اليهود وبين المحكومين المسلمين، هل هو نوع من أنواع التمييز العنصري بين المسلمين واليهود؟
إننا ندعو إلى الوقوف ضد هذه الحملة الأمريكية الظالمة ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، لأن المسألة هي مسألة الاستكبار الأمريكي في خططه الاستكبارية ضد الدول الحرّة.. إن مشكلة الهيمنة الأمريكية على العالم، ولا سيما العالم الثالث، أصبحت مشكلة كبرى لا بد للشعوب وللدول أن تواجهها بقوة ومسؤولية، من أجل المحافظة على حريتها في قضاياها الحيوية. |