ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
أخلاق الحسن(ع) أخلاق القرآن
بالأمس، التقينا بذكرى ولادة الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، أول وليد لعلي وفاطمة (عليهما السلام)، وقد عاش طفولته الأولى في حجر رسول الله(ص)، وفي حضن أمّه الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، التي كانت القمة في الطهارة والعصمة والروحانية والعطاء والرسالية، وعاش شبابه، كما طفولته، مع أبيه الإمام علي بن أبي طالب(ع)، ونهل من علمه واستمد منه روحانيته وحركيته وإخلاصه لله ولرسوله، وعاش أكثر من تجربة رائعة تحمّل فيها المهمات الكبيرة. وكانت أخلاقه أخلاق القرآن، فاتسع قلبه للناس جميعاً، وعاش التسامح والعفو والمحبة لهم، بالرغم من أنّ حياته في أكثر مواقعها، كانت مأساة تتحرك في ما تتحرك فيه المأساة في حياة الرساليين.
وعلينا أن ندرس حياة الإمام الحسن(ع)، كما ندرس حياة أئمتنا(ع)، لنعرف كيف نجسّد الإسلام في سلوكنا على مستوى حياة الإنسان في نفسه، في موقفه أمام الله، في مسؤولياته الخاصة، ومسؤولياته عن الناس ممّا حمّله الله من مسؤولية، وبعبارة أخرى، لنكون الصورة الحية لما كان عليه الأئمة(ع)، الذين كانوا إسلاماً يتحرك وروحانية تنفتح على الله في أوسع المجالات.
في ذكرى ولادة المسيح(ع)
ونلتقي غداً في ما تعارف الناس عليه بذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، هذا الإنسان المميز في خَلقه، لأن الله ـ سبحانه ـ خلقه بطريقة لم يشاركه فيها أحد من الناس من قبله ومن بعده، وجعله بذلك آية للناس ورحمة منه. وعلينا، أمام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، أن نقف مع آيات القرآن الكريم، لنعرف الأجواء التي حصلت فيها الولادة، وصورة السيد المسيح من الناحية العقيدية لدى المسلمين، لأن على المسلمين أن يتعرفوا على عقيدتهم في الأنبياء من خلال القرآن، باعتباره الأساس الذي أكد المفاهيم والعقائد للناس.
ـ في أجواء ولادة مريم(ع)
وقد تحدث الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ولادة السيد المسيح في أكثر من آية، ونبدأ بما تحدث عنه في سورة آل عمران، ومن الطبيعي أن يبدأ الحديث عن السيد المسيح بالحديث عن أمه الطاهرة السيدة مريم العذراء(ع)، البتول التي كانت أمها تأمل أن تلدها ذكراً لتخدم في بيت المقدس، {فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، أما أمّ مريم(ع)، جدة عيسى(ع)، فكانت الإنسانة المؤمنة الطاهرة المخلصة لله، لم تتعقد عندما لم يتحقق حلمها في أن تجد خادماً لبيت المقدس، فانفتحت على هذه الأنثى، وأرادت لله ـ سبحانه ـ أن يجعلها الإنسانة القريبة منه، البعيدة من الشيطان الرجيم، وأن تحمي ذريتها في المستقبل، وهذه هي روح الإنسان المؤمن الطاهر، الذي يحب الله، فيحب لكل ذريته في مدى الزمن أن تكون مخلصة له وبعيدة عن الشيطان، أن يفكر الإنسان بذريته أن يكونوا أولياء الله، وأن ينجحوا في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فحسب، كما تفكير الكثير من الناس، لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق.
ـ مريم في كفالة زكريا
{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ـ هيّأ لها الظروف الطبيعية الملائمة التي يمكن أن ينشأ فيها الإنسان نشأة طاهرة ـ وكفّلها زكريا ـ وكان زكريا نبياً، وجرت القرعة بين عدة أنبياء أيهم يكفل مريم {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}، فأصابت القرعة زكريا وكفلها، وعاشت في أجوائه، وأعطاها الله من لطفه وكرامته ما لم يعطه لامرأة قبلها ـ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ـ لم يقدمه إليها ولا أحدٌ من أفراد عائلته ـ قال يا مريم أنّى لك هذا ـ فنحن لم نقدم لك طعاماً ـ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}.
ـ اصطفاء مريم(ع)
وتنطلق الآيات الكريمة، لتخبرنا كيف كانت الملائكة تحدثها: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ـ والاصطفاء هو الاختيار ـ وطهرك ـ جعلك الطاهرة المطهرة التي لم يعلق بها دنس ـ واصطفاك على نساء العالمين ـ اختارك من بين نساء العالمين لتكوني موضعاً لكرامته، ورمزاً لآيته التي أراد أن يخرجها للناس ـ يا مريم اقنتي لربك ـ ابتهلي إليه وارجعي إليه، حاولي أن تهيئي كل الأجواء الروحانية التي تصلك بالله وتقربك إليه ـ واسجدي واركعي مع الراكعين ـ لأن قنوت الإنسان لربه وسجوده له إنما يمثل مظهراً من مظاهر الإخلاص والعبودية له ـ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم وما كنت لديهم إذ يختصمون}.
ـ البشارة بالمعجزة
وفي حوار آخر مع مريم يقول سبحانه وتعالى:{ إن الله يبشرك بكلمة منه ـ سيولد من خلال الكلمة، وكلمة الله إرادته {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ـ ستكون له وجاهة الدنيا من خلال رسالته، ووجاهة الآخرة من خلال كرامته ـ ومن المقربين ـ لله من خلال إخلاصه وعبادته له ـ ويكلم الناس في المهد ـ وفي ذلك معجزة، في الرد على الاتهامات التي وجهت إليها من قبل قومها، أنها جاءت بولد من دون زواج ـ وكهلاً ومن الصالحين ـ من الصالحين في التزاماتهم وروحياتهم وإخلاصهم لله تعالى ـ قالت رب أنّى يكون لي غلام ـ فهذه مسألة عجيبة ـ ولم يمسسني بشر ـ فالبشر يتناسلون من خلال علاقة خاصة بين الرجل والمرأة، وأنا الطاهرة المطهرة التي لم يمسها رجل في أي جانب من الجوانب، قال إنك تتحدثين عن الواقع الطبيعي عند الناس، وأما في الحديث عن الله فهو على كل شيء قدير ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
ـ عيسى (ع) الرسول
ثم يحدثونها عن خصائصه {ويعلمه الكتاب ـ فينزل عليه الإنجيل ـ والحكمة ـ فيعطيه حكمة الرأي، وقد بعث الله رسله بالكتاب في خط النظرية، وبالحكمة في خط التطبيق، فلا يتحرك الرسول إلا بالحكمة ـ والتوراة والإنجيل* ورسولا إلى بني إسرائيل ـ وللعالمين جميعاً، وكما أرسل الله نبيه محمداً (ص) إلى أم القرى ومَنْ حولها كبداية للدعوة وكقاعدة تنطلق منها الدعوة، كذلك أرسل الله عيسى رسولاً إلى بني إسرائيل، وهو المستضعف فيهم، ولا يملك من خلال طبيعة موقعه، وجاهة اجتماعية تؤهله لأن يسمع الناس منه، ولكنه جاءهم بما أذهلهم، وحيث كان الطب هو المنتشر في تلك المرحلة ، فقد جاءهم بما يعجز الأطباء ـ أني قد جئتكم بآية من ربكم ـ فأنا أقدم نفسي إليكم لا من خلال بشريتي العادية وإنما من خلال معجزة، ومن خلال علاقتي بالله ـ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه ـ أي أني أقوم بصناعة طير من الطين ثم أنفخ فيه، وهنا تنتهي مهمتي لتأتي المهمة الإلهية ـ فيكون طيراً بإذن الله ـ فالله هو الذي يعطيه الروح ـ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ـ وكذلك أملك أن أعطيكم الأشياء السرية التي لم يطّلع عليها أحد من قبلكم ـ إن في ذلك لآية لكم ـ فلو فكرتم بأن هذه الأمور لا يستطيع القيام بها بشر عادي، فستعرفون أنني رسول من الله تعالى ـ إن كنتم مؤمنين ـ بما يقدم إليكم من حقائق ـ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ـ فأنا لم آتِ لألغي التوراة، ولا لألغي النبوّات من قبلي، بل جئت مصدقاً لما بين يديّ من التوراة، وقد جاء في الحديث عن عيسى(ع): "جئت لأكمل الناموس ـ لأكمل الشريعة من خلال ما يفرضه التطور من حاجات جديدة وأوضاع جديدة ـ ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ـ نتيجة بعض الأوضاع التي عشتموها، حتى أفتح لكم المجال لرخص في التشريع تختلف عما كانت عليه.
ـ التحليل والتحريم بيد الله
وما ينبغي أن نعرفه، هو أن التحليل والتحريم بيد الله، وبذلك يبطل الاعتراض من بعض الناس عن كيفية تناسل أولاد آدم على زواج الأخوة والأخوات من بعضهم البعض، والمفروض أن هذا محرم. وجاء في الرواية عن أئمة أهل البيت(ع)، أنه في شريعة آدم كان يحل للأخ أن يتزوج أخته، ثم عندما كثر الناس وأصبح هناك أعمام وأخوال وما إلى ذلك، حرم الله هذا الزواج، وقد يحرم الله شيئاً ثم يحلّه، أو يحلّ شيئاً ثم يحرّمه، وهذا ما عرفناه في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}.
ـ الحواريون: الشهادة بالإسلام
ويكمل عيسى(ع) في حديثه عن رسالته {وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ـ ثم أعلن لهم رسالته أن يتقوا الله ويطيعوه، وأراد لهم أن لا يختلفوا عليه ليرفعوه إلى مقام الربوبية كما رفعه البعض بعد ذلك ـ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ـ فالتوحيد هو الصراط المستقيم الذي يجب أن تصيروا إليه ـ فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ـ لم يطلب أنصاراً لنفسه، لأنه(ع) كان لا يعيش الذاتية ولا يبحث عن نفسه في رسالته وفي حركته، إنما كان يبحث عن أنصارٍ لله ـ قال الحواريون ـ وهم الذين استخلصهم عيسى من خلال إيمانهم ـ نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون ـ أسلمنا لله عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وانفتحنا عليه سبحانه ـ ربنا آمنا بما أنزلت ـ فنحن أنصارك والمؤمنون بك وأولياؤك، نتبع عيسى من خلال أنه رسولك ـ واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.
ويقول الله عن عيسى بعد ذلك: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم من تراب من دون أب وأم، وخلق عيسى(ع) من دون أب، وحدثنا الله أيضاً عن عيسى في قوله: {وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين}.
ـ ليحكم أتباع عيسى بالإنجيل
ثم يريد الله من التابعين لعيسى أن يحكموا بالإنجيل، لأن الإنجيل لم ينسخه القرآن، بل أضاف إليه أشياء كثيرة وأبعد عنه التحريف، {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. وحدثنا الله ـ سبحانه ـ في كتابه عن الذين اتبعوا عيسى ممّن أخلصوا له، وعاشوا رسالته، فلم يحرّفوا كلامه أو يبتعدوا عنه: {لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدّن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ـ كان يتحدّث عن النصارى الذين كانوا مع النجاشي عندما بدأ جعفر بن أبي طالب يقرأ على النجاشي سورة مريم(ع) ـ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين}.
ـ بشرية المسيح(ع)
وهكذا يحدثنا الله ـ تعالى ـ عن عيسى وأمه في هذا المجال، حتى يعرّفنا طبيعته، ليقول لنا إنها ليست طبيعة إلهية، بل بشرية: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ـ ونعرّفهم طبيعة عيسى وطبيعة أمه، على أنها لا تختزن شيئاً من الألوهية، وأن المعاجز التي قام بها كانت بإذن الله، كما قام موسى(ع) بالمعجزة وكذلك الأنبياء الآخرون ـ ثم انظر أنّى يؤفكون}.
ونحن نعيش هذه الآيات في ولادة السيد المسيح(ع)، لنعيش رساليته وروحانيته، ولنعيش هذه البشرية التي ارتفعت بما أعطاها الله تعالى من لطف ومن كرامة.
لنعش الإسلام يوم ولادته
وفي ضوء ذلك، أحب أن أقول لكل إخواني من المؤمنين والمؤمنات، إنه إذا أردتم الاحتفال بعيد ولادة السيد المسيح(ع)، فليكن الاحتفال بالجلوس ليلة الميلاد وقراءة سورة مريم وسورة آل عمران، وكل ما جاء عن السيد المسيح في القرآن الكريم، حتى تعيشوا الإسلام في ذكراه، وحتى لا تبتعدوا عن الإسلام في أجوائه ومناخه وروحانيته. كما أننا نرى أن الطريقة اللاهية العابثة التي يحتفل بها بعض المسيحيين هنا وفي سائر أنحاء العالم، باللعب والعبث والفسق والفجور وغير ذلك، نرى أن ذلك لا يمثل السيد المسيح(ع)، بل هي التقاليد والعادات التي جاءت من وثنية الغرب، الذي دخل في المسيحية، فأعطى تقاليدها بعض هذه الصنمية والوثنية.
حافظوا ـ أيها المسلمون ـ على تقاليدكم وعاداتكم وأجوائكم الإسلامية، اعملوا على تربية أولادكم على تقاليد الإسلام وعاداته، لأن القضية هي أن علينا أن ننمي الشخصية الإسلامية لأولادنا، الشخصية التي تصاغ من خلال القرآن، أن نجعل صورتنا وصورة أولادنا صورة القرآن، ولا نحاول أن نأخذ من هنا وهناك، فالقرآن يريد لنا أن نتمثل عيسى(ع) آيةً لله ورحمة منه ورسولاً من رسله، هذا الإنسان الذي أعطاه الله كرامته ولطفه ورسالته.
أيها الأحبة، في ميلاد السيد المسيح(ع) وميلاد الإمام الحسن(ع)، نلتقي بالإسلام لله سبحانه وتعالى هنا وهناك، ونلتقي بهذا الجسر الذي يربط الإسلام بالمسيحية في أصالتها التي أكدها الله لدى السيد المسيح، بعيداً عن كل تحريض وعن كل ما لا يتصل بالواقع الرسالي للسيد المسيح(ع).
إنها البركة؛ بركة الإمام الحسن(ع)، وبركة السيد المسيح(ع)، وعلينا أن نعيش هذه البركة الروحية الأخلاقية التي تتحرك في قيم الإسلام والمسيحية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في ما تتحركون به وفي ما تؤمنون به أو تلتزمونه، حاولوا دائماً أن تعرفوا الخط الفاصل بين ما يريدكم الله أن تؤمنوا به من الإسلام، وما اتخذه الناس من ألوان الإيمان هنا وهناك، حتى لا تختلط عليكم الأمور، فتلتزموا بعقائد لم يأتِ بها الله سبحانه، فإن للإسلام خطاً في ما يتحدث به عن الأنبياء، وعن الشريعة، وعن الله سبحانه. لا تجعلوا القرآن مجرد كتاب تتبركون به، أو تقرأونه لتحصلوا بذلك على الثواب، بل اجعلوه كتاب ثقافتكم، تتثقفون به، وتستضيئون بنوره، وتخرجون به من كل ظلمات جهلكم وتخلّفكم إلى النور، لأن الله أراد لكم ذلك. وقد أراد الله لرسوله أن يعلّمنا الكتاب والحكمة، وعلينا أن نتعلم الكتاب؛ أن نقرأه قراءة تدبّر، أن نحفظه ونربي أبناءنا عليه. علينا أن نكون الحكماء، فنتعلّم الحكمة من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن تراث الأئمة من أهل البيت(ع)، وممّا أعطانا الله من حركة العقل في وعي الواقع وفهمه. إن الله يريدنا أن نكون الحكماء، بأن نتصرف بحكمة في بيوتنا وفي أسواقنا وكل مواقعنا العملية، أن نضع الأشياء في مواقعها، أن لا نتحرك كما يتحرك السفهاء، أن لا نتحرك على أساس الارتجال في مواقعنا، والحماس في أوضاعنا، بل من موقع عقل يميز لنا القبيح من الحسن، ومن موقع وحي يعرّفنا من أين نبدأ وإلى أين نسير...
إن الله أراد من المسلمين أن يكونوا العلماء المثقفين بالإسلام وبالحياة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} {وقل رب زدني علماً} لا ترضوا لأنفسكم أن تكونوا الجاهلين بالإسلام، تعلّموا الإسلام وتعلموا الحياة من حولكم من خلاله، لأن الآخرين يضلّلونكم من موقع جهلكم بالإسلام أو بالواقع.
حاولوا أن تكون لكم ثقافة الإسلام، من خلال الذين يملكون ثقافته بوعي وانفتاح، حاولوا أن تكون لكم ثقافة الحياة. كونوا المثقفين سياسياً واجتماعياً وأمنياً، لأن المواقف السياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها هي جزء من مسؤولياتكم.. إن المجتمع الجاهل والمتخلّف الذي لا يعرف الأرضية التي يقف عليها، ولا يعرف الظروف التي تحيط به، ولا يميز بين الأعداء والأصدقاء، وكذلك المجتمع الذي يتحرك بانفعال وارتجال وحماس، هو مجتمع سوف يتغلب عليه الآخرون، لذلك أرادنا الله أن نتعلم الكتاب والحكمة، وأراد للمؤمن ـ كما ورد في الأحاديث عن أهل البيت(ع) ـ أن يكون عارفاً بزمانه، كل زمانه، وإن لديكم الكثير من أوقات الفراغ التي تستطيعون أن تتعلموا فيها الكثير، فلا تضّيعوها في اللهو من القول وفي تفاهات الأمور.
التسوية في المنطقة
وفي ضوء ذلك، ونحن نتحمّل مسؤولية عزة الإسلام في العالم وقوته، ونتحمل مسؤولية الوقوف مع المستضعفين ضد المستكبرين في العالم، لأن مشكلة المستضعفين واحدة، كما أن المشكلة التي يفرضها المستكبرون على المستضعفين واحدة، لا بد لنا أن نتعرف على هذه المشاكل وندرسها، فماذا هناك؟
ـ لبنان سماء مفتوحة
تدخل المنطقة في مرحلة جديدة وقد بدأ الحديث عن المفاوضات على المسار اللبناني بالتزامن مع ما يتحدث به العدو بما يشبه التمهيد لشروطه عن "سماء مفتوحة" لطيرانه في لبنان، بهدف استمرار التجسس الأمني والاستخباري الصهيوني ضد لبنان وسوريا، ويتحدث أيضاً عن إمكانية قيام الأمريكيين بهذه المهمة التجسسية لحساب الجيش الإسرائيلي، وذلك من خلال التنسيق أمنياً بين أمريكا وإسرائيل.
ـ المقاومة: ضغط على العدوّ
وفي الجانب الأمريكي، يدور الحديث تحت عنوان: "إيقاف العنف في الجنوب، لإيجاد مناخ ملائم للمفاوضات"، من دون أن تدعو أمريكا لانسحاب الجيش الإسرائيلي المحتلّ، ونحن نعرف أن الاحتلال يمثل أعلى درجات العنف.
إن هذا الحديث إنما يستهدف إيقاف المقاومة التي تمثل عنصر ضغط على العدوّ في المفاوضات، كما هي الحال في الواقع الميداني، وذلك من أجل أن يبقى العدو في موقف القوة من خلال الأوراق التي يملكها في يده.
إننا نعتقد أن لبنان وسوريا يرفضان ذلك على المستوى الشعبي والحكومي، لأنه لا يخضع لأية قاعدة لوطن يحترم نفسه.
لقد انطلقت المقاومة من أجل التحرير وستبقى لاستكمال هذا الهدف، وربما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بحسب الظروف السياسية التي يمكن أن تنفتح عليها المنطقة.
ـ المقاومة: رسالة المستقبل
إن المقاومة في لبنان هي رسالة المستقبل للشعوب العربية والإسلامية، في الأسلوب الأمثل في خط المواجهة من أجل التحرير.
إنّ على الذين يتساءلون عن مستقبل المجاهدين في المرحلة المقبلة بشكل سلبي، عليهم أن يخجلوا من منطقهم، لأن المقاومين هم الذين أعطوا لبنان شرفه في الواقع، وهم الذين ارتفعوا بمنطق العنفوان على كل المستويات، وهم الذين أعطوا العرب والمسلمين أكثر نقاط الضوء إشراقاً في هذا الظلام الكبير، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يقفوا وقفة احترام وتقدير للشباب المجاهد الذي قدم حياته للأمة في خط الجهاد، ما يجعله، إذا ما سنحت الفرصة، في الموقع المتقدم لكي يرتفع بالأمة سياسياً في المستقبل.
إننا بحاجة إلى جيل يتحدى ليواجه كل تحديات العدو في المأساة التي فرضها على المنطقة وهو ما يتمثل في الجيل المقاوم.
ـ القضية الفلسطينية: استهداف دولي
وليس بعيداً من ذلك، يبقى الشعب الفلسطيني في دائرة التجاذب والمعاناة تحت تأثير الضغوط الإسرائيلية التي تصادر أرضه بعناوين أمنية واستيطانية، وتضيّق عليه وتحاصره في ظل حالة من الخداع الأمريكي والخذلان العربي والضغط الإسرائيلي والضياع في حركة سلطة الحكم الذاتي، ليكون الحل النهائي مصادرة قانونية لفلسطين لحساب إسرائيل.
الشيشان: تدمير وإبادة
وتستمر مشكلة الشعب المسلم في الشيشان في الحرب الروسية ضده، التي حصدت حسب بعض الإحصائيات 25 ألف قتيل وجريح، وأكثر من ربع مليون مشرد، حيث تتحرك كل آلة الحرب الروسية لاجتياح هذا البلد المستضعف جواً وبراً من دون أي تكافؤ في ميزان القوة، ولم نجد هناك أي موقف دولي ضاغط ولا أي موقف إسلامي قوي لوقف آلة الحرب والتدمير الروسية، بل تُرك هذا الشعب وحده يواجه عملية الاجتياح والتدمير وما يشبه الإبادة. إن على المسلمين جميعاً أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام هذه المأساة المستمرة.
زيارة البابا: تتويج للتسوية
وفي نهاية المطاف، لابد أن نتوقف عند الإعلان عن الزيارة المرتقبة للبابا إلى فلسطين المحتلة.. إن هذا الإعلان وإن لم يشكل مفاجأة على المستوى الإعلامي، إلا أنه يمثل ما يشبه الصدمة بالمعنى الديني الرسالي لكل من يحمل العنوان الروحي الرسالي المدافع عن حقوق المظلومين ضد المضطهدين، وإننا لا نجد أي تبرير لها وإن قال القيمون عليها بأنها لا تحمل أي مدلول سياسي، سيما وأنه ينظر لها بأنها تأتي في وقت يراد له أن يكون تتويجاً للتسوية التي تتم على حساب الشعب الفلسطيني كله.
لقد كنا ننتظر موقفاً تاريخياً حاسماً من حضرة البابا يضاف إلى موقف مطران القدس "كبوجي" وموقف الأنبا شنودة، الذي حرم على الأقباط أن يصلّوا في القدس تحت رماح الاحتلال.
إننا على أبواب ميلاد السيد المسيح (ع) الذي مثل كلمة الحق في مواجهة الظالمين، ننتظر موقفاً يتناسب مع قدسية هذه الذكرى، ولا يعطي إسرائيل شرعية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ونظل نقول إنه لو اعترف العالم كله بإسرائيل، فعلى الذين يمثلون المسيحية ـ الرسالة والإسلام ـ الرسالة أن لا يعترفوا بها، وتلك هي المهمة الكبرى للرسالات التي لا يتناسب عنوانها في الرحمة والمحبة مع تشريع الظلم أو القبول به بأية طريقة وبأي أسلوب.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
أخلاق الحسن(ع) أخلاق القرآن
بالأمس، التقينا بذكرى ولادة الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، أول وليد لعلي وفاطمة (عليهما السلام)، وقد عاش طفولته الأولى في حجر رسول الله(ص)، وفي حضن أمّه الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، التي كانت القمة في الطهارة والعصمة والروحانية والعطاء والرسالية، وعاش شبابه، كما طفولته، مع أبيه الإمام علي بن أبي طالب(ع)، ونهل من علمه واستمد منه روحانيته وحركيته وإخلاصه لله ولرسوله، وعاش أكثر من تجربة رائعة تحمّل فيها المهمات الكبيرة. وكانت أخلاقه أخلاق القرآن، فاتسع قلبه للناس جميعاً، وعاش التسامح والعفو والمحبة لهم، بالرغم من أنّ حياته في أكثر مواقعها، كانت مأساة تتحرك في ما تتحرك فيه المأساة في حياة الرساليين.
وعلينا أن ندرس حياة الإمام الحسن(ع)، كما ندرس حياة أئمتنا(ع)، لنعرف كيف نجسّد الإسلام في سلوكنا على مستوى حياة الإنسان في نفسه، في موقفه أمام الله، في مسؤولياته الخاصة، ومسؤولياته عن الناس ممّا حمّله الله من مسؤولية، وبعبارة أخرى، لنكون الصورة الحية لما كان عليه الأئمة(ع)، الذين كانوا إسلاماً يتحرك وروحانية تنفتح على الله في أوسع المجالات.
في ذكرى ولادة المسيح(ع)
ونلتقي غداً في ما تعارف الناس عليه بذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، هذا الإنسان المميز في خَلقه، لأن الله ـ سبحانه ـ خلقه بطريقة لم يشاركه فيها أحد من الناس من قبله ومن بعده، وجعله بذلك آية للناس ورحمة منه. وعلينا، أمام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، أن نقف مع آيات القرآن الكريم، لنعرف الأجواء التي حصلت فيها الولادة، وصورة السيد المسيح من الناحية العقيدية لدى المسلمين، لأن على المسلمين أن يتعرفوا على عقيدتهم في الأنبياء من خلال القرآن، باعتباره الأساس الذي أكد المفاهيم والعقائد للناس.
ـ في أجواء ولادة مريم(ع)
وقد تحدث الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ولادة السيد المسيح في أكثر من آية، ونبدأ بما تحدث عنه في سورة آل عمران، ومن الطبيعي أن يبدأ الحديث عن السيد المسيح بالحديث عن أمه الطاهرة السيدة مريم العذراء(ع)، البتول التي كانت أمها تأمل أن تلدها ذكراً لتخدم في بيت المقدس، {فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، أما أمّ مريم(ع)، جدة عيسى(ع)، فكانت الإنسانة المؤمنة الطاهرة المخلصة لله، لم تتعقد عندما لم يتحقق حلمها في أن تجد خادماً لبيت المقدس، فانفتحت على هذه الأنثى، وأرادت لله ـ سبحانه ـ أن يجعلها الإنسانة القريبة منه، البعيدة من الشيطان الرجيم، وأن تحمي ذريتها في المستقبل، وهذه هي روح الإنسان المؤمن الطاهر، الذي يحب الله، فيحب لكل ذريته في مدى الزمن أن تكون مخلصة له وبعيدة عن الشيطان، أن يفكر الإنسان بذريته أن يكونوا أولياء الله، وأن ينجحوا في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فحسب، كما تفكير الكثير من الناس، لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق.
ـ مريم في كفالة زكريا
{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ـ هيّأ لها الظروف الطبيعية الملائمة التي يمكن أن ينشأ فيها الإنسان نشأة طاهرة ـ وكفّلها زكريا ـ وكان زكريا نبياً، وجرت القرعة بين عدة أنبياء أيهم يكفل مريم {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}، فأصابت القرعة زكريا وكفلها، وعاشت في أجوائه، وأعطاها الله من لطفه وكرامته ما لم يعطه لامرأة قبلها ـ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ـ لم يقدمه إليها ولا أحدٌ من أفراد عائلته ـ قال يا مريم أنّى لك هذا ـ فنحن لم نقدم لك طعاماً ـ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}.
ـ اصطفاء مريم(ع)
وتنطلق الآيات الكريمة، لتخبرنا كيف كانت الملائكة تحدثها: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ـ والاصطفاء هو الاختيار ـ وطهرك ـ جعلك الطاهرة المطهرة التي لم يعلق بها دنس ـ واصطفاك على نساء العالمين ـ اختارك من بين نساء العالمين لتكوني موضعاً لكرامته، ورمزاً لآيته التي أراد أن يخرجها للناس ـ يا مريم اقنتي لربك ـ ابتهلي إليه وارجعي إليه، حاولي أن تهيئي كل الأجواء الروحانية التي تصلك بالله وتقربك إليه ـ واسجدي واركعي مع الراكعين ـ لأن قنوت الإنسان لربه وسجوده له إنما يمثل مظهراً من مظاهر الإخلاص والعبودية له ـ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم وما كنت لديهم إذ يختصمون}.
ـ البشارة بالمعجزة
وفي حوار آخر مع مريم يقول سبحانه وتعالى:{ إن الله يبشرك بكلمة منه ـ سيولد من خلال الكلمة، وكلمة الله إرادته {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ـ ستكون له وجاهة الدنيا من خلال رسالته، ووجاهة الآخرة من خلال كرامته ـ ومن المقربين ـ لله من خلال إخلاصه وعبادته له ـ ويكلم الناس في المهد ـ وفي ذلك معجزة، في الرد على الاتهامات التي وجهت إليها من قبل قومها، أنها جاءت بولد من دون زواج ـ وكهلاً ومن الصالحين ـ من الصالحين في التزاماتهم وروحياتهم وإخلاصهم لله تعالى ـ قالت رب أنّى يكون لي غلام ـ فهذه مسألة عجيبة ـ ولم يمسسني بشر ـ فالبشر يتناسلون من خلال علاقة خاصة بين الرجل والمرأة، وأنا الطاهرة المطهرة التي لم يمسها رجل في أي جانب من الجوانب، قال إنك تتحدثين عن الواقع الطبيعي عند الناس، وأما في الحديث عن الله فهو على كل شيء قدير ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
ـ عيسى (ع) الرسول
ثم يحدثونها عن خصائصه {ويعلمه الكتاب ـ فينزل عليه الإنجيل ـ والحكمة ـ فيعطيه حكمة الرأي، وقد بعث الله رسله بالكتاب في خط النظرية، وبالحكمة في خط التطبيق، فلا يتحرك الرسول إلا بالحكمة ـ والتوراة والإنجيل* ورسولا إلى بني إسرائيل ـ وللعالمين جميعاً، وكما أرسل الله نبيه محمداً (ص) إلى أم القرى ومَنْ حولها كبداية للدعوة وكقاعدة تنطلق منها الدعوة، كذلك أرسل الله عيسى رسولاً إلى بني إسرائيل، وهو المستضعف فيهم، ولا يملك من خلال طبيعة موقعه، وجاهة اجتماعية تؤهله لأن يسمع الناس منه، ولكنه جاءهم بما أذهلهم، وحيث كان الطب هو المنتشر في تلك المرحلة ، فقد جاءهم بما يعجز الأطباء ـ أني قد جئتكم بآية من ربكم ـ فأنا أقدم نفسي إليكم لا من خلال بشريتي العادية وإنما من خلال معجزة، ومن خلال علاقتي بالله ـ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه ـ أي أني أقوم بصناعة طير من الطين ثم أنفخ فيه، وهنا تنتهي مهمتي لتأتي المهمة الإلهية ـ فيكون طيراً بإذن الله ـ فالله هو الذي يعطيه الروح ـ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ـ وكذلك أملك أن أعطيكم الأشياء السرية التي لم يطّلع عليها أحد من قبلكم ـ إن في ذلك لآية لكم ـ فلو فكرتم بأن هذه الأمور لا يستطيع القيام بها بشر عادي، فستعرفون أنني رسول من الله تعالى ـ إن كنتم مؤمنين ـ بما يقدم إليكم من حقائق ـ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ـ فأنا لم آتِ لألغي التوراة، ولا لألغي النبوّات من قبلي، بل جئت مصدقاً لما بين يديّ من التوراة، وقد جاء في الحديث عن عيسى(ع): "جئت لأكمل الناموس ـ لأكمل الشريعة من خلال ما يفرضه التطور من حاجات جديدة وأوضاع جديدة ـ ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ـ نتيجة بعض الأوضاع التي عشتموها، حتى أفتح لكم المجال لرخص في التشريع تختلف عما كانت عليه.
ـ التحليل والتحريم بيد الله
وما ينبغي أن نعرفه، هو أن التحليل والتحريم بيد الله، وبذلك يبطل الاعتراض من بعض الناس عن كيفية تناسل أولاد آدم على زواج الأخوة والأخوات من بعضهم البعض، والمفروض أن هذا محرم. وجاء في الرواية عن أئمة أهل البيت(ع)، أنه في شريعة آدم كان يحل للأخ أن يتزوج أخته، ثم عندما كثر الناس وأصبح هناك أعمام وأخوال وما إلى ذلك، حرم الله هذا الزواج، وقد يحرم الله شيئاً ثم يحلّه، أو يحلّ شيئاً ثم يحرّمه، وهذا ما عرفناه في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}.
ـ الحواريون: الشهادة بالإسلام
ويكمل عيسى(ع) في حديثه عن رسالته {وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ـ ثم أعلن لهم رسالته أن يتقوا الله ويطيعوه، وأراد لهم أن لا يختلفوا عليه ليرفعوه إلى مقام الربوبية كما رفعه البعض بعد ذلك ـ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ـ فالتوحيد هو الصراط المستقيم الذي يجب أن تصيروا إليه ـ فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ـ لم يطلب أنصاراً لنفسه، لأنه(ع) كان لا يعيش الذاتية ولا يبحث عن نفسه في رسالته وفي حركته، إنما كان يبحث عن أنصارٍ لله ـ قال الحواريون ـ وهم الذين استخلصهم عيسى من خلال إيمانهم ـ نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون ـ أسلمنا لله عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وانفتحنا عليه سبحانه ـ ربنا آمنا بما أنزلت ـ فنحن أنصارك والمؤمنون بك وأولياؤك، نتبع عيسى من خلال أنه رسولك ـ واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.
ويقول الله عن عيسى بعد ذلك: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم من تراب من دون أب وأم، وخلق عيسى(ع) من دون أب، وحدثنا الله أيضاً عن عيسى في قوله: {وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين}.
ـ ليحكم أتباع عيسى بالإنجيل
ثم يريد الله من التابعين لعيسى أن يحكموا بالإنجيل، لأن الإنجيل لم ينسخه القرآن، بل أضاف إليه أشياء كثيرة وأبعد عنه التحريف، {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. وحدثنا الله ـ سبحانه ـ في كتابه عن الذين اتبعوا عيسى ممّن أخلصوا له، وعاشوا رسالته، فلم يحرّفوا كلامه أو يبتعدوا عنه: {لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدّن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ـ كان يتحدّث عن النصارى الذين كانوا مع النجاشي عندما بدأ جعفر بن أبي طالب يقرأ على النجاشي سورة مريم(ع) ـ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين}.
ـ بشرية المسيح(ع)
وهكذا يحدثنا الله ـ تعالى ـ عن عيسى وأمه في هذا المجال، حتى يعرّفنا طبيعته، ليقول لنا إنها ليست طبيعة إلهية، بل بشرية: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ـ ونعرّفهم طبيعة عيسى وطبيعة أمه، على أنها لا تختزن شيئاً من الألوهية، وأن المعاجز التي قام بها كانت بإذن الله، كما قام موسى(ع) بالمعجزة وكذلك الأنبياء الآخرون ـ ثم انظر أنّى يؤفكون}.
ونحن نعيش هذه الآيات في ولادة السيد المسيح(ع)، لنعيش رساليته وروحانيته، ولنعيش هذه البشرية التي ارتفعت بما أعطاها الله تعالى من لطف ومن كرامة.
لنعش الإسلام يوم ولادته
وفي ضوء ذلك، أحب أن أقول لكل إخواني من المؤمنين والمؤمنات، إنه إذا أردتم الاحتفال بعيد ولادة السيد المسيح(ع)، فليكن الاحتفال بالجلوس ليلة الميلاد وقراءة سورة مريم وسورة آل عمران، وكل ما جاء عن السيد المسيح في القرآن الكريم، حتى تعيشوا الإسلام في ذكراه، وحتى لا تبتعدوا عن الإسلام في أجوائه ومناخه وروحانيته. كما أننا نرى أن الطريقة اللاهية العابثة التي يحتفل بها بعض المسيحيين هنا وفي سائر أنحاء العالم، باللعب والعبث والفسق والفجور وغير ذلك، نرى أن ذلك لا يمثل السيد المسيح(ع)، بل هي التقاليد والعادات التي جاءت من وثنية الغرب، الذي دخل في المسيحية، فأعطى تقاليدها بعض هذه الصنمية والوثنية.
حافظوا ـ أيها المسلمون ـ على تقاليدكم وعاداتكم وأجوائكم الإسلامية، اعملوا على تربية أولادكم على تقاليد الإسلام وعاداته، لأن القضية هي أن علينا أن ننمي الشخصية الإسلامية لأولادنا، الشخصية التي تصاغ من خلال القرآن، أن نجعل صورتنا وصورة أولادنا صورة القرآن، ولا نحاول أن نأخذ من هنا وهناك، فالقرآن يريد لنا أن نتمثل عيسى(ع) آيةً لله ورحمة منه ورسولاً من رسله، هذا الإنسان الذي أعطاه الله كرامته ولطفه ورسالته.
أيها الأحبة، في ميلاد السيد المسيح(ع) وميلاد الإمام الحسن(ع)، نلتقي بالإسلام لله سبحانه وتعالى هنا وهناك، ونلتقي بهذا الجسر الذي يربط الإسلام بالمسيحية في أصالتها التي أكدها الله لدى السيد المسيح، بعيداً عن كل تحريض وعن كل ما لا يتصل بالواقع الرسالي للسيد المسيح(ع).
إنها البركة؛ بركة الإمام الحسن(ع)، وبركة السيد المسيح(ع)، وعلينا أن نعيش هذه البركة الروحية الأخلاقية التي تتحرك في قيم الإسلام والمسيحية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في ما تتحركون به وفي ما تؤمنون به أو تلتزمونه، حاولوا دائماً أن تعرفوا الخط الفاصل بين ما يريدكم الله أن تؤمنوا به من الإسلام، وما اتخذه الناس من ألوان الإيمان هنا وهناك، حتى لا تختلط عليكم الأمور، فتلتزموا بعقائد لم يأتِ بها الله سبحانه، فإن للإسلام خطاً في ما يتحدث به عن الأنبياء، وعن الشريعة، وعن الله سبحانه. لا تجعلوا القرآن مجرد كتاب تتبركون به، أو تقرأونه لتحصلوا بذلك على الثواب، بل اجعلوه كتاب ثقافتكم، تتثقفون به، وتستضيئون بنوره، وتخرجون به من كل ظلمات جهلكم وتخلّفكم إلى النور، لأن الله أراد لكم ذلك. وقد أراد الله لرسوله أن يعلّمنا الكتاب والحكمة، وعلينا أن نتعلم الكتاب؛ أن نقرأه قراءة تدبّر، أن نحفظه ونربي أبناءنا عليه. علينا أن نكون الحكماء، فنتعلّم الحكمة من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن تراث الأئمة من أهل البيت(ع)، وممّا أعطانا الله من حركة العقل في وعي الواقع وفهمه. إن الله يريدنا أن نكون الحكماء، بأن نتصرف بحكمة في بيوتنا وفي أسواقنا وكل مواقعنا العملية، أن نضع الأشياء في مواقعها، أن لا نتحرك كما يتحرك السفهاء، أن لا نتحرك على أساس الارتجال في مواقعنا، والحماس في أوضاعنا، بل من موقع عقل يميز لنا القبيح من الحسن، ومن موقع وحي يعرّفنا من أين نبدأ وإلى أين نسير...
إن الله أراد من المسلمين أن يكونوا العلماء المثقفين بالإسلام وبالحياة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} {وقل رب زدني علماً} لا ترضوا لأنفسكم أن تكونوا الجاهلين بالإسلام، تعلّموا الإسلام وتعلموا الحياة من حولكم من خلاله، لأن الآخرين يضلّلونكم من موقع جهلكم بالإسلام أو بالواقع.
حاولوا أن تكون لكم ثقافة الإسلام، من خلال الذين يملكون ثقافته بوعي وانفتاح، حاولوا أن تكون لكم ثقافة الحياة. كونوا المثقفين سياسياً واجتماعياً وأمنياً، لأن المواقف السياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها هي جزء من مسؤولياتكم.. إن المجتمع الجاهل والمتخلّف الذي لا يعرف الأرضية التي يقف عليها، ولا يعرف الظروف التي تحيط به، ولا يميز بين الأعداء والأصدقاء، وكذلك المجتمع الذي يتحرك بانفعال وارتجال وحماس، هو مجتمع سوف يتغلب عليه الآخرون، لذلك أرادنا الله أن نتعلم الكتاب والحكمة، وأراد للمؤمن ـ كما ورد في الأحاديث عن أهل البيت(ع) ـ أن يكون عارفاً بزمانه، كل زمانه، وإن لديكم الكثير من أوقات الفراغ التي تستطيعون أن تتعلموا فيها الكثير، فلا تضّيعوها في اللهو من القول وفي تفاهات الأمور.
التسوية في المنطقة
وفي ضوء ذلك، ونحن نتحمّل مسؤولية عزة الإسلام في العالم وقوته، ونتحمل مسؤولية الوقوف مع المستضعفين ضد المستكبرين في العالم، لأن مشكلة المستضعفين واحدة، كما أن المشكلة التي يفرضها المستكبرون على المستضعفين واحدة، لا بد لنا أن نتعرف على هذه المشاكل وندرسها، فماذا هناك؟
ـ لبنان سماء مفتوحة
تدخل المنطقة في مرحلة جديدة وقد بدأ الحديث عن المفاوضات على المسار اللبناني بالتزامن مع ما يتحدث به العدو بما يشبه التمهيد لشروطه عن "سماء مفتوحة" لطيرانه في لبنان، بهدف استمرار التجسس الأمني والاستخباري الصهيوني ضد لبنان وسوريا، ويتحدث أيضاً عن إمكانية قيام الأمريكيين بهذه المهمة التجسسية لحساب الجيش الإسرائيلي، وذلك من خلال التنسيق أمنياً بين أمريكا وإسرائيل.
ـ المقاومة: ضغط على العدوّ
وفي الجانب الأمريكي، يدور الحديث تحت عنوان: "إيقاف العنف في الجنوب، لإيجاد مناخ ملائم للمفاوضات"، من دون أن تدعو أمريكا لانسحاب الجيش الإسرائيلي المحتلّ، ونحن نعرف أن الاحتلال يمثل أعلى درجات العنف.
إن هذا الحديث إنما يستهدف إيقاف المقاومة التي تمثل عنصر ضغط على العدوّ في المفاوضات، كما هي الحال في الواقع الميداني، وذلك من أجل أن يبقى العدو في موقف القوة من خلال الأوراق التي يملكها في يده.
إننا نعتقد أن لبنان وسوريا يرفضان ذلك على المستوى الشعبي والحكومي، لأنه لا يخضع لأية قاعدة لوطن يحترم نفسه.
لقد انطلقت المقاومة من أجل التحرير وستبقى لاستكمال هذا الهدف، وربما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بحسب الظروف السياسية التي يمكن أن تنفتح عليها المنطقة.
ـ المقاومة: رسالة المستقبل
إن المقاومة في لبنان هي رسالة المستقبل للشعوب العربية والإسلامية، في الأسلوب الأمثل في خط المواجهة من أجل التحرير.
إنّ على الذين يتساءلون عن مستقبل المجاهدين في المرحلة المقبلة بشكل سلبي، عليهم أن يخجلوا من منطقهم، لأن المقاومين هم الذين أعطوا لبنان شرفه في الواقع، وهم الذين ارتفعوا بمنطق العنفوان على كل المستويات، وهم الذين أعطوا العرب والمسلمين أكثر نقاط الضوء إشراقاً في هذا الظلام الكبير، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يقفوا وقفة احترام وتقدير للشباب المجاهد الذي قدم حياته للأمة في خط الجهاد، ما يجعله، إذا ما سنحت الفرصة، في الموقع المتقدم لكي يرتفع بالأمة سياسياً في المستقبل.
إننا بحاجة إلى جيل يتحدى ليواجه كل تحديات العدو في المأساة التي فرضها على المنطقة وهو ما يتمثل في الجيل المقاوم.
ـ القضية الفلسطينية: استهداف دولي
وليس بعيداً من ذلك، يبقى الشعب الفلسطيني في دائرة التجاذب والمعاناة تحت تأثير الضغوط الإسرائيلية التي تصادر أرضه بعناوين أمنية واستيطانية، وتضيّق عليه وتحاصره في ظل حالة من الخداع الأمريكي والخذلان العربي والضغط الإسرائيلي والضياع في حركة سلطة الحكم الذاتي، ليكون الحل النهائي مصادرة قانونية لفلسطين لحساب إسرائيل.
الشيشان: تدمير وإبادة
وتستمر مشكلة الشعب المسلم في الشيشان في الحرب الروسية ضده، التي حصدت حسب بعض الإحصائيات 25 ألف قتيل وجريح، وأكثر من ربع مليون مشرد، حيث تتحرك كل آلة الحرب الروسية لاجتياح هذا البلد المستضعف جواً وبراً من دون أي تكافؤ في ميزان القوة، ولم نجد هناك أي موقف دولي ضاغط ولا أي موقف إسلامي قوي لوقف آلة الحرب والتدمير الروسية، بل تُرك هذا الشعب وحده يواجه عملية الاجتياح والتدمير وما يشبه الإبادة. إن على المسلمين جميعاً أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام هذه المأساة المستمرة.
زيارة البابا: تتويج للتسوية
وفي نهاية المطاف، لابد أن نتوقف عند الإعلان عن الزيارة المرتقبة للبابا إلى فلسطين المحتلة.. إن هذا الإعلان وإن لم يشكل مفاجأة على المستوى الإعلامي، إلا أنه يمثل ما يشبه الصدمة بالمعنى الديني الرسالي لكل من يحمل العنوان الروحي الرسالي المدافع عن حقوق المظلومين ضد المضطهدين، وإننا لا نجد أي تبرير لها وإن قال القيمون عليها بأنها لا تحمل أي مدلول سياسي، سيما وأنه ينظر لها بأنها تأتي في وقت يراد له أن يكون تتويجاً للتسوية التي تتم على حساب الشعب الفلسطيني كله.
لقد كنا ننتظر موقفاً تاريخياً حاسماً من حضرة البابا يضاف إلى موقف مطران القدس "كبوجي" وموقف الأنبا شنودة، الذي حرم على الأقباط أن يصلّوا في القدس تحت رماح الاحتلال.
إننا على أبواب ميلاد السيد المسيح (ع) الذي مثل كلمة الحق في مواجهة الظالمين، ننتظر موقفاً يتناسب مع قدسية هذه الذكرى، ولا يعطي إسرائيل شرعية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ونظل نقول إنه لو اعترف العالم كله بإسرائيل، فعلى الذين يمثلون المسيحية ـ الرسالة والإسلام ـ الرسالة أن لا يعترفوا بها، وتلك هي المهمة الكبرى للرسالات التي لا يتناسب عنوانها في الرحمة والمحبة مع تشريع الظلم أو القبول به بأية طريقة وبأي أسلوب.