ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 30/10/1409هـ/ الموافق: 4 حزيران 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[1].
الالتزام بخطِّ الإسلام
نبقى مع الله بكلِّ ما في قلوبنا من إيمانٍ ومن إرادةٍ ومن تصميم، كما كان الإمام الخميني مع الله بكلِّ ما في قلبه من إيمانٍ ومن إرادةٍ ومن تصميم.. نبقى مع الله ونحن عباده، مهما اشتدَّت المصائب، ومهما عظم البلاء، ومهما حاصرتنا قوى الشّرّ، فإنّنا نتطلَّع إليه كما كان الإمام الخميني يتطلَّع إليه.
كانت الدّنيا تهجم عليه، وكانت القوى الشَّيطانيَّة تتحدَّاه ليخاف، ليسقط، ليتراجع، ليتنازل عن كلِّ كلمةٍ من كلماته، كانوا يريدونه أن يخاف، ولكنَّه لم يكن يتطلَّع إلى كلّ هؤلاء. كان في صلاته وفي ابتهالاته وفي خشوعه بين يدي الله، قد عاهد الله أن يكون عبده ولا يكون عبداً لغيره.
عاهد الله على أن يخافه ولا يخاف غيره، وأن يجاهد في سبيله، وعندما انطلق وحده، وانطلقت الأمَّة معه، قال للأمَّة الّتي كان يتساقط بعض أفرادها، وكان بعضهم يتعب، وكان بعضهم الآخر يتراجع: لو بقيت وحدي فسأكمل الطَّريق، وكان يريد للأمّة أن لا تذره وحده، لأنَّ المسألة ليست مسألته، ولكنَّها مسألة الإسلام.
لهذا نحن عندما نقف الآن وقلوبنا دامية، وعيوننا عبرة، نشعر بأنَّ المصيبة تكاد تتجاوز طاقاتنا، لكنّنا عندما ننفتح على الله الَّذي كان ينفتح عليه، نقرأ قول الله الذي جعله برنامجاً لكلّ المؤمنين مع كلّ القيادات، سواء كان القائد نبيّاً، أو كان إماماً، أو وليّاً، أو عالماً: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[2]. لقد انتقل محمَّد(ص) إلى الرَّفيق الأعلى وبقيت رسالته، وانتقل عليّ(ع) إلى الرّفيق الأعلى واستمرَّت رسالته الَّتي هي رسالة الإسلام.
وقد انتقل الأئمَّة(ع) والصَّحابة الأصفياء والعلماء والمجاهدون إلى الرَّفيق الأعلى وبقي الإسلام. لذلك نحن عندما نفتقده، وعندما نفجع به، وعندما نعيش كلَّ هذه المأساة، فعلينا أن نعرف أنَّه كان يعيش همَّ الإسلام في كلِّ مجالات الحياة، كان فكره فكر الإسلام، وقوله قول الإسلام، وجهاده جهاد الإسلام، ومواقفه مواقف الإسلام، وكانت علاقاته مع النَّاس كلّهم تنطلق من خلال أن يدرس الموقف: هل للإسلام مصلحة في أن يربط هذه العلاقة بهذا الجانب أو يقطع تلك العلاقة بذلك الجانب؟
عندما تجلس إليه ليحدِّثك بكلماته القصيرة، كنت تجد وكنّا نجد أنَّ كلمة الله وكلمة الإسلام تنطلق لتكون بداية حديثة، ولتكون حركة حديثة، ولتكون نهاية حديثه، لأنَّ قلبه وروحه وعقله وكلَّ طاقاته كانت للإسلام. لهذا هل تريدون أن تعيشوا معه وأن يبقى معكم؟ هل تريدون الوفاء لمسيرته؟ هل تريدون أن تتحرّكوا في عاطفتكم من خلال كلِّ حياته؟
أخلصوا للإسلام، واعملوا للإسلام، والتزموا بالإسلام، ولا تخافوا من أحد، أيّ أحد، أن يتّهمكم بأيّ تهمةٍ إذا التزمتم بالإسلام. إنَّ الكثيرين يريدون أن يعقِّدونا فيما نطرح من كلمة الإسلام ومن شعار الإسلام، لنسحب الإسلام من شعاراتنا حتى يرضى الآخرون عنّا، ولنبتعد عن الإسلام في مواقفنا حتى يقترب الآخرون إلينا. إنّنا تعلَّمنا منه، وقد تعلَّم من القرآن، وقد تعلَّم من رسول الله(ص)، أن يكون الإسلام كلَّ حياتنا وكلَّ دعوتنا.
حمل أمانة الإسلام
وهكذا، إنَّنا لا نزال نعيش حرارة المصاب والفاجعة في كلِّ قلوبنا الحرّى، وفي كلّ عيوننا العبرى، ولا نزال نشعر بأنَّ الأمانة الّتي وضعها في أعناقنا كبيرة كبيرة، وثقيلة ثقيلة. لقد حمل أمانة رسول الله(ص)، وهي الإسلام، على كتفيه مدّةً تزيد عن ربع قرن في خطِّ الجهاد، وكان قد حملها مدّةً تزيد عن نصف قرن في خطِّ الفكر والتَّخطيط. لقد حمل الأمانة لأنَّه عرف أنَّ رسول الله(ص) يُحمِّل الأمانة للعلماء بالله، العارفين به، لأنّه كان يقول وهو يؤكِّد ولاية الفقيه العادل: "العلماء ورثة الأنبياء"[3].
وكان يقول لكلِّ العلماء الَّذين ينسحبون من مسؤوليَّة الحياة، ومن مسؤوليَّة الجهاد، ومن مسؤوليَّة المواجهة، إنَّ معنى أن ترثوا الأنبياء، أن ترثوا كلَّ الأنبياء، أن ترثوا كلَّ فكر الأنبياء، وكلّ حركة الأنبياء، وكلَّ جهاد الأنبياء، وكلَّ تضحية الأنبياء، أن تعيشوا للنّاس كلّهم، كما عاش الأنبياء والنّاس كلّهم، وأن تعيشوا آلام النّاس كما عاش الأنبياء آلام النّاس. ليس معنى أن ترث الأنبياء أن ترثهم في علومهم التي بثّوها، بل في حركة هذه العلوم في حياة النّاس، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشَّيطان هي السّفلى.
كان يشعر بأنَّ العلماء أمناء الرّسل، كما ورد عن رسول الله(ص)، وكان يسمع الحديث الشَّريف: "الفقهاء أمناء الرّسل ما لم يدخلوا في الدّنيا"، قيل: يا رسول الله، ما دخولهم في الدّنيا؟ قال: "اتّباع السّلطان..."[4].
كان يشعر بأنَّ على العلماء العارفين بالله أن لا يتَّبعوا السّلطان الجائر، وأن لا يتَّبعوا السّلطان المنحرف، وأن يعملوا على أن يكون الإسلام هو السّلطان، وأن تكون القيادة الإسلاميَّة هي القيادة الَّتي تتحرَّك من أجل أن تحرّك السّلطة في خطِّ الإسلام.
كان يفكّر بهذه الطّريقة، ولذلك كان يشعر بأنَّ الإسلام أمانة؛ ليس أمانةً في عنق العلماء فحسب، ولكنَّه أمانة في عنق المسلمين أيضاً؛ لنحمي ذكر الإسلام، ونحمي شريعة الإسلام، ونحمي خطَّ الإسلام، ونحمي منهج الإسلام.
الإسلام دعوة الله إلى العالم
ولهذا وقف في آخر حياته ليتوهَّج، وليبرز إلى العالم كلِّه في ثورة جديدة منطلقة في اتجاه آخر.. كانت أوروبّا تقترب من إيران من أجل أن تحتويها، وكانت أميركا تغازل إيران من أجل أن تقترب منها، وكان العالم يقول إنَّ إيران تحركت من أجل أن ينطلق الخطّ الليبراليّ في مواجهة الخطّ المتطرّف، وكانت مسألة سلمان رشدي؛ كان يتحرَّك الاحتجاج على كتابه في دوائر صغيرة، تظاهرة هنا وتظاهرة هناك، ولم يكن سلمان رشدي بدعاً من المرتدّين، ولم يكن بدعاً من الناس الّذين يصدرون الكتب ضدّ الإسلام وضدّ نبيّ الإسلام، ولكنَّ سلمان رشدي، فيما دعاه الإمام (رحمه الله ورضي الله عنه)، كان رمزاً لخطةٍ تتحرَّك في العالم المستكبر أجل أن تفسح المجال لمواجهة الإسلام في الصَّميم، لكي ينطلق العالم المستكبر ليقول إنَّ الحرية الفكرية تفرض علينا أن نسمح لكلِّ الكتَّاب بأن يهاجموا نبيّ الإسلام، وأن يسبّوه، وأن يشتموه، وأن يتحدَّثوا عنه بطريقة سيّئة.
وتحركت المسألة تحت مظلَّة حريَّة الفكر هنا وحريّة الفكر هناك، ووقف الإمام بوعيه، وكانت وقفاته تنطلق من إلهامٍ روحيٍّ يدرس فيه السَّاحة ثم يعمل على أساس أن يحركها ويفجّرها، وأصدر فتواه التاريخيّة التي تحدَّى فيها كلّ القوانين الأوروبيَّة وغير الأوروبيَّة، والتي كانت تقول إنَّ قيادة الإسلام عندما تصدر حكماً، فإنَّ الحدود لا تقف أمامها، وإنَّ الحواجز الرسميَّة لا تقف أمامها، وإنّ كلّ ذلك لا يقف أمامها. أصدر فتواه "فليقتَل هذا المرتدّ"، ليكون عبرةً لكلِّ الذين يتحركون بهذه الطّريقة، وأصدر فتواه، فليقتل كلّ الّذين يحركون هذا الخطّ في مجال النّشر والتوزيع.. ووقف العالم، وانطلقت التّهاويل، وانطلقت الضّغوط، وخاف بعض النّاس على إيران، وخاف بعض النّاس على المسيرة الإسلاميَّة، وانطلق أصحاب الجلالة والفخامة والسّموّ والسيادة يتحدَّثون بطريقة محرجة، لأنهم يريدون أن يواجهوا شعوبهم الإسلاميَّة من جهة، ويريدون أن يواجهوا أسيادهم في الغرب من جهةٍ أخرى، وبقي الإمام يتحدَّث إلى الأمَّة، لم يكن يتحدَّث بطريقة رسميَّة، بل بطريقة إسلاميَّة يخاطب فيها الأمة كلَّ الأمّة، بعيداً عن كل الحواجز المذهبية التي يتحرك فيها الناس.
واستطاع أن يصنع ثورةً جديدةً أعادت الرّوح إلى المسلمين في العالم كلِّه، واستطاعت في النّهاية أن تجعل المستكبرين يضعفون ويتراجعون. لقد كان يرى أنَّ من واجب العلماء المسلمين، ومن واجب الأمَّة الإسلاميَّة كلّها، أن تحافظ على الإسلام، وأن تحمي الإسلام الفكر والشَّريعة والخطّ والمنهج.
ثم انطلق إلى المسلمين وإلى حياتهم، وإلى المستضعفين وإلى حياتهم، ليواجه العالم، لأنَّه كان يشعر بأنَّ الإسلام ليس حالة وطنيَّة أو قوميَّة، إنَّ الإسلام هو دعوة الله إلى العالم، ولذلك كان يفكّر في حجم العالم.
الرّسول القدوة والنَّهج
كان يفكّر في مسألة الحريَّة في حجم العالم، وكان يفكِّر في مسألة العدالة في حجم العالم، وعندما كانت الضّغوط تشتدّ عليه من هنا وهناك، كان يفكِّر: لو كان رسول الله موجوداً الآن فماذا يصنع؟ لو كان رسول الله موجوداً الآن فكيف يتكلَّم؟ لو كان رسول الله موجوداً الآن فكيف يتحرَّك؟
كان يستلهم مواقف رسول الله لتتحرَّك مواقفه في خطّ مواقفه، وكان يستوحي كلمات رسول الله لتتحرَّك كلماته في خطّ كلماته، واستطاع أن يبعث الثَّورة في قلوب المسلمين كلّهم، وأن يقف المسلمون ليفهموا أنَّ كلمة لا إله إلا الله لا تعني كلمةً دينيَّةً يختنق فيها المسلمون، ولكنَّها تعني كلمةً شاملةً يعيش فيها المسلم العبوديّة لله وحده، والحريَّة أمام العالم كلِّه، واستطاع أن يجدّد حريّتنا، واستطاع أن يجدّد تطلّعنا للمسؤوليَّة في الحياة، واستطاع أن يجدِّد حركة الإسلام في حياتنا، واستطاع أن يبعث فينا القوَّة عندما كنا الضّعفاء الّذين يتخطّفنا النّاس في كلّ مكان.
واستطاع أن يقول لنا إنَّ عليكم أن تحاربوا الاستكبار العالميّ في الدّاخل كما تحاربونه في الخارج، وإنَّ الاستكبار ينفذ إلى الدّاخل من أجل أن يحاربكم في داخل حياتكم الإسلاميَّة، حتى تتراجعوا أمامه في الدّاخل، فيسهل عليه أن يطوّقكم في الخارج.
ولذلك خاض الحرب مع المنافقين ومع عملاء الاستكبار، وخاض الحرب مع الاستكبار كلِّه، وهو يخطّط لاستكمال الحرب، ويريدنا أن نكون جيل الإسلام الثَّائر، وكان يريدنا أن نكون جيل الإسلام الحرّ، وجيل الإسلام القويّ الّذي يستمدّ القوَّة من الله، والَّذي يتحرَّك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.
وعلينا، وقلوبنا تعتصر من الحزن الآن، وعيوننا تنزف دماً ودموعاً، أن نمسك الأمانة كما أمسكها، وأن ننطلق في الدَّرب كما انطلق فيه، وأن نكمل المسيرة التي بدأها، لأنّها مسيرة الأنبياء.
كان لا يخشى في الله لومة لائم، وعلينا أن لا نخشى في الله لومة لائم، كان لا يخاف من كلِّ الهجمات الإعلاميَّة والسياسيَّة والأمنيَّة عليه، وعلينا أن لا نخاف من الهجمات الإعلاميَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، علينا أن نتحرّك على أساس أنَّنا جيل الإسلام، فإذا سقطت قافلة، فستنطلق قافلة أخرى أمامها حتى تكمل طريقها، وإذا غاب عنّا قائد، فسيقيّض الله لنا القيادات التي تحمل المسؤوليَّة وتحمل الرّاية.
الانطلاق في خطِّ المواجهة
لقد كان الإمام الخميني المسلم الواعي، فكونوا المسلمين الواعين، وقد كان المسلم التّقي، فكونوا المسلمين الأتقياء، وقد كان المسلم العادل، فكونوا المسلمين العادلين، وقد كان المسلم الصّادق فكونوا المسلمين الصّادقين، وقد كان المسلم الحرّ فكونوا المسلمين الأحرار، وقد كان المسلم العزيز بالله، فكونوا المسلمين الأعزّاء بالله.
كان يريد للمسلمين أن يشعروا بأصالتهم الإسلاميّة، وأن ينفتحوا على غيرهم من موقع الإسلام، لا من مواقع غيره، وكان يريد للمسلمين عندما يدخلون في حسابات التَّكتيك، أن لا يشغلهم التكتيك عن الاستراتيجيّة، وأن يظلّ الإسلام في قواعده هو الأساس في ذلك كلِّه.
لقد كان الثَّائر الصَّلب في وجه الاستكبار العالميّ، فكونوا الثَّائرين الصَّلبين في وجه الصّهيونيّة، كان الثَّائر في وجه التخلّف والجهل وفي وجه كلِّ الظّلم الدّاخليّ، فكونوا الثَّائرين في هذا الطَّريق. هل ذهب من بيننا؟ لم يذهب، كان جسده للنَّاس الّذين حوله، لكن خطَّه ورسالته كانا للأمَّة كلِّها، وللأجيال كلِّها. لقد انطلق من موقع الإسلام، وعلينا أن ننطلق من حيث انطلق.
ونقول لكلِّ الّذين خطّطوا في الغرب وفي الشّرق، وفي داخل لبنان وخارجه، ولكلِّ الذين يخطِّطون لمرحلة ما بعد الخميني كما يقولون، ليضعفوا الثّورة، وليضعفوا الحركة الإسلاميَّة، وليقضوا عليها، وليحاصروها، على أساس أنّ القائد إذا ذهب فستسقط الأمّة من بعده، وأنّ القائد عندما يذهب من المعركة فسيتفرّق الجنود من المعركة. إنَّنا نقول لكلّ هؤلاء: إنّنا نعرف أنه كان قوّة لنا، وكنا نستظلّ به، وأنّه كان المرشد لنا، وكنّا نتحرّك من خلال إرشاده، ولكن إذا غاب الإمام الخميني، وهو الكبير الكبير، وهو الشّخصيّة التاريخيّة الإسلاميّة المميّزة، إذا غاب الإمام الخميني من بيننا، فقد ترك في شخصيَّة كلِّ واحد من الأمّة جزءاً من ذاته، وجزءاً من خطّه، وجزءاً من فكره.
السّير في خطِّ الخميني
إذا كان الخمينيّ واحداً في حياته، فكلّنا خمينيّون بعد وفاته، لسنا خمينيّين بمعنى الذات، فنحن لا نرتبط بالذّات، ولكنّنا خمينيّون بمعنى النّهج وبمعنى الخطّ، وبمعنى الثّورة وبمعنى القيادة التي تتحرّك في خطّ الإسلام. لقد أصبحت الأمّة تمثّله في تطلّعاتها وفي خطّها، ولذلك فإنّنا نريد أن نقول لكلِّ الأخوة، نقولها لأخوتنا المجاهدين في إيران في مواقع القيادة، وفي مواقع القاعدة، ولأخواتنا وأبنائنا المجاهدين في لبنان، في موقع القيادة وفي موقع القاعدة، ونقول لكلّ إخواننا المسلمين في العالم كلّه، إنَّ علينا أن نستعدَّ كأعلى ما يكون الاستعداد، وإنَّ علينا أن نكون الواعين كأعلى ما تكون درجات الوعي، لا تسقطكم الدّموع، ولا تسقطكم الأحزان، ولا تتراجعوا، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[5].
إنّنا قد نواجه مرحلةً صعبةً يتحرَّك فيها الكفر كلّه والاستكبار كلّه من أجل أن يستغلّ فرحة الحزن التي قد توحي بالضّعف، وفرحة الدّموع التي قد توحي بالمأساة وبالسّقوط، من أجل أن يدخل في صفوفنا بطريقة وبأخرى، قد يستغلّ ذلك من أجل أن يفرض علينا فتناً ومعارك في الدّاخل، وقد يستغلّ كثيراً من المنهزمين ومن المضلّلين، لكن علينا أن ننطلق لأنّنا في خطّ المواجهة، على أساس أنَّ المرحلة الآن أصعب، وأنّ المرحلة الآن أقسى.
لقد قال شخص عندما قيل في "أُحد": لقد مات محمد، قال: من كان يعبد محمّداً، فإنَّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد ربَّ محمّد، فإنَّ ربَّ محمّد لم يمت، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه، ونسير على ما سار عليه.
إذا كان النَّاس الذين آمنوا بقيادة الإمام ـ رحمه الله ـ التزموا بشخصه، فقد ذهب شخصه، وإذا كان النَّاس ـ وكلّنا هؤلاء النّاس ـ قد التزموا برسالته التي هي رسالة الإسلام، وبنهجه الّذي هو نهج الإسلام، فتعالوا نلتزم ما التزمه، وتعالوا نسير على ما سار عليه، وتعالوا نجاهد فيما جاهد به. لقد عاش للإسلام، فلنعش جميعاً للإسلام، ولقد مات في سبيل الإسلام، فلنمت في سبيل الإسلام.
لم يكن شهيداً يسقط في المعركة من خلال دمائه، ولكنّه كان شهيد الإسلام في كلّ المعركة، كان شهيداً مع كلِّ الشّهداء، وكان جريحاً مع كلِّ المجروحين، وكان مشرَّداً مع كلّ المشرَّدين، وكان معذَّباً مع كلِّ المعذَّبين، لأنّه كان يحمل همَّ كلّ هؤلاء، ولذلك إنّنا نقول له: لقد انتقلت إلى جوار ربِّك، ونحن نشعر الآن بالخسارة كلّ الخسارة، كنّا ننظر إلى عينيك وهما تلمعان بالقوّة، فنستمدّ من نورهما نوراً للطّريق المظلم، وكنّا نستمع إلى كلماتك وهي تمنحنا الوعي، فكنّا نتحرّك في خطِّ الوعي الّذي تعطيه الكلمات.
كنّا نحسّ بالأنس بك في كلّ وحشة الزّمان، وكنّا نحس بالحبّ لك في كلّ حالات البعد، كنّا نعيش معك حتى وأنت بعيد عنا، كنت أبانا، كنت قائدنا، كنت الإمام الَّذي نتّبع خطواته، كنت الرّوح التي نزداد فيها روحاً، كنت القلب الكبير الّذي يتحرّك حتى يعطي قلوبنا اطمئناناً، كنت الكثير، لقد أتعبت مَنْ بعدك، ولكنّنا يا أبا مصطفى، ولكنّنا يا إمام الأمّة، نقف أمام مصابك لنقول كما قال رسول الله(ص) عندما وقف أمام جسد ولده إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما لا يرضي الربّ"[6]، وإنَّا لفقدك يا إمام الأمَّة لمحزونون، نحزن، ولكنّ حزننا لن يسقطنا، ونبكي، ولكنّ بكاءنا لن يهزمنا؛ نحزن حزن الثّورة، ونبكي بكاء الثّورة، رضًا بقضاء الله وقدره.
اللَّهمَّ إنَّا نعرف أنَّك تعرف الخير الّذي لا نعرفه، وتنطلق من الحكمة الّتي لا نعرفها. رضًا بقضائك، وتسليماً لأمرك، أعنّا يا ربّ على أن نواصل الطّريق بعده، أعنّا يا ربّ على أن نخلص للإسلام من بعده، أعنَّا يا ربّ على أن نكون الموحِّدين في خطّه، أعنّا يا ربّ على أن نكون السّائرين في دربه، أعنَّا يا ربّ على أن نكون في سبيل الصالحين، اجعلنا يا ربّ من صالح من بقي، خذ بنا سبيل الصّالحين.
اذهب إلى جوار ربّك مع النبيّين والصّدّيقين والشّهداء، وحسن أوليك رفيقاً، إنّنا نعطيك عهد الله وعهد الرّسول وعهد الأئمّة(ع) وعهد الإسلام كلّه، بأنّنا سنظلّ في خطّ السّير الذي تسير فيه، سننطلق في مواجهة كلِّ التحدّيات، حتى لو جرحونا، حتى لو شرّدونا، حتى لو سبونا، حتى لو انطلق العالم كلّه ضدّنا، سنبقى معك مع فكرك، سنبقى معك مع خطّك، سنبقى معك مع ثورتك، سنبقى ونبقى ونبقى، حتى نلحق بك عند الله مجاهدين أو شهداء، سنبقى في هذا الخطِّ رضًا بقضاء الله وتسليماً بقضاء الله.
أيّها المؤمنون، أيّها المسلمون، أيّها الأحرار، أيّها العاملون في سبيل الله، لقد دقَّت ساعة العمل ولا مجال للاسترخاء، لقد دقَّت ساعة الجهاد ولا مجال للهروب، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه، ونتحرَّك فيما تحرَّك به. نسأل الله أن يرفع درجته في علّيّين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
[1] [البقرة: 155 ـ 157].
[2] [آل عمران: 144].
[3] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 32.
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 36.
[5] [آل عمران: 139].
[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 74، ص 141.