الانتماء إلى عليّ(ع) انتماء إلى الإسلام

الانتماء إلى عليّ(ع) انتماء إلى الإسلام

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 22/9/1409هـ/ الموافق: 28 نيسان 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

في هذا الأسبوع، نلتقي بمناسبتين إسلاميَّتين، المناسبة الأولى، معركة بدر الَّتي كانت أوَّل معركة خاضها المسلمون في السَّابع عشر من شهر رمضان، والَّتي كانت أوَّل انطلاقةٍ بعد الهجرة للمسلمين في مواجهة قوَّة الشِّرك المتمثّلة بقريش وحلفائها. وكانت هذه المعركة ضروريَّة، بالرّغم من أنَّ المسلمين كانوا لا يملكون عناصر القوَّة الماديّة، لأنَّ الوضع الاقتصاديّ كان من أسوأ الأوضاع في حياة المسلمين.. ولكنَّ هذه المعركة استطاعت أن تدلِّل على أنَّ قوَّة الإيمان يمكن أن تغطِّي بعض نقاط الضّعف الماديَّة لدى المجاهدين..

دروس معركة بدر

وهكذا كانت نقاط الضَّعف تسيطر على بعض المؤمنين آنذاك، وكانت قريش تملك موقعاً من القوَّة، وكان تأثير ذلك يسيطر على بعض المؤمنين، ولكنَّ الله ثبَّت المؤمنين، وكان رسول الله(ص) يزرع الحالة الروحيَّة في نفوسهم. وهكذا انتصر المسلمون بالرّغم من قلَّتهم وكثرة العدوّ، واستطاعوا أن يؤكِّدوا وجود الإسلام من خلال هذا الانتصار في المنطقة الّتي انتصر الإسلام فيها..

ونحن عندما نريد أن نستلهم من معركة بدر، فإنَّنا نستطيع أن نأخذ من هذه المعركة ثلاث نقاط:

النّقطة الأولى: أنَّ النبيّ(ص) بدأ التحدّي من معركة بدر، على أساس أن يهاجم قافلة قريش الَّتي كانت تمثّل القوَّة الاقتصاديَّة لقريش، ومن خلال ذلك، نفهم أنّ المسلمين عندما يريدون أن يواجهوا الأعداء، فإنَّ مصالح الأعداء يمكن أن تكون هدفاً للمسلمين في حركة القوّة الّتي ينطلقون منها، لأنَّ الضَّغط الاقتصاديَّ على عدوّك، يمكن أن يدفعه إلى التّنازلات معك..

النّقطة الثّانية: هي استنفار الطّاقة الإيمانيَّة في داخل نفوسنا، عندما نواجه الحالات الصَّعبة التي يعمل فيها الكفر والاستكبار على أن يحاصرنا ويخوّفنا بالإكراه والقوَّة المادّيّة الكبيرة، لنأخذ من بدر درساً بأنَّ القلَّة قد تهزم الكثرة إذا فرضنا أنَّ الإيمان يتحرَّك بشكلٍ قويٍّ فاعل..

النّقطة الثّالثة: هي أنَّ الحياة لا بدَّ من أن تتحرّك في عمليَّة صنع القوّة، ولا يكفي أن يكون الحقّ معك لتكتسب مواقع عند النّاس، بل لا بدَّ لك من أن تكون قويّاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ...}[1]، لتتحرَّك القوَّة في خطَّين؛ قوَّة ترهب العدوّ، وقوَّة تردع العدوّ عندما يحاول أن يتحدَّاها. لهذا فكَّر النبيّ(ص) أن يفتح هو ساحة الصِّراع مع قريش، بعد أن أخرجته قريش والمسلمين من مكَّة، وبعد انتصاره في معركة بدر وأحد وغيرها، إذ تحرّك النّاس مع الإسلام..

الانتماء الحقيقيّ إلى عليّ(ع)

المناسبة الثّانية هي ذكرى استشهاد الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، الَّذي حدث في الواحد والعشرين من شهر رمضان، بعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه وهو يصلّي في مسجد الكوفة..

إنّنا عندما نريد أن ندخل في هذه المناسبة، لا نريد أن نحيط بكلِّ شخصيّة عليّ(ع)، الذي قال عنه رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[2]، وقال عنه: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[3]، وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[4]، فعليّ عاش كلّ حياته لله، ولم يعش لنفسه ساعة، بل كان يعيش مع الله، وكان إذا انطلق خطّ الجهاد، سار في هذا الخطّ من خلال البطولة الّتي كانت تنبع من خلال القوَّة الروحيَّة أكثر مما تنطلق من خلال القوّة الجسديَّة، وقد نقل عنه أنّه قال: "ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيَّة، بل بقوّة ربّانيّة"[5].

إنَّ عليّاً عندما طالب بالحكم، لم يكن ينطلق من حالةٍ ذاتيَّةٍ تريد أن تصل إلى مطامعها، ولكن من أجل أن يقيم حقّاً أو يدحض باطلاً، وهكذا انطلق، ولم يبحث في النّاس عمّن يصفّق له، بل ليسير بالنّاس في الخطّ المستقيم..

يريدنا عليّ أن ننتمي إليه انتماء الإسلام لا انتماء العصبيَّة، وانتماء الدّين في شريعته، لا انتماء الطّائفيّة.. عليٌّ ليس رمزاً فحسب، ولكنَّه إمام يتحرَّك أمامنا في كلِّ منهجه وخطّه لنسير وراءه، لنكون شيعة عليّ من خلال منهج عليّ، وليس لعليٍّ إلا الإسلام والقرآن وما جاء عن رسول الله. عليٌّ تلميذ رسول الله الأوَّل، وتلميذ القرآن، فمن يعجبه في عليٍّ إسلامه وجهاده، فسيجد له مكاناً مع عليّ، ومن لم يعجبه في عليّ إلا العصبيّة، فإنّه لن يجد له مكاناً إلى جانب عليّ، لأنَّ عليّاً مع الحقّ يدور معه كيفما دار..

إنَّ التشيّع ليس عصبيَّةً أو طائفيَّة، بل هو خطُّ الإسلام في خطِّ عليّ ورسول الله وأهل بيته، كما يفهمون الإسلام من منابعه الأصليَّة، فمن يقف ضدّ الإسلام والمسلمين والإيمان والمؤمنين، فعليّ لا يتعرَّف إليه..

ووصيّة عليّ تجعلنا نتحمَّل المسؤوليَّة في الحياة بالنّسبة إلى الإسلام وإصلاح الإسلام والمسلمين، والعمل لنكون القوَّة للخير كلّه، وأن نكون أمّة واحدة تنطلق لتتواصى بالحقّ في جميع المجالات.

محاولات تجميد الانتفاضة

في هذا الجوّ، نحتاج إلى أن نؤكِّد وحدة الموقف، وتنظيم الأمور، وإصلاح ذات البين، ومواجهة الأخطار الكبيرة الّتي تواجه المجتمع كلَّه، ولا سيَّما المجتمع المسلم والمستضعف، بما يهدِّد الحاضر والمستقبل على كلِّ المستويات، لأنَّ هناك وضعاً يتحرّك من أكثر من اتجاهٍ من أجل تطويق الوضع الإسلاميِّ كلِّه، ومن أجل إسقاط كلِّ الّذين يعملون من أجل الحريَّة، كما هي الحريَّة في العمق، لا كما هي كلمات الحريَّة في الشِّعار. إنّكم تلاحظون جيّداً كيف يتحرَّك العالم المستكبر من أجل أن تسقط الانتفاضة الإسلاميَّة في فلسطين، ويعمل على أن يطوِّقها.

لاحظوا أنَّ العالم لم يكن يتحرَّك بطريقة إيجابيَّة من خلال إعطاء الشعب الفلسطيني حقّه في الرجوع إلى أرضه وأهله، ولكن عندما اقترح رئيس وزراء العدوّ إجراء الانتخابات ليأتي بعملاء لإسرائيل حتى يعطوا إسرائيل باسم الفلسطينيّين كلّ شيء، انطلق العالم كلّه ليقول إنّها خطوة متقدّمة نحو السَّلام، وتستحقّ الدّرس وغير ذلك، ولكنّ المقصود أن تتجمَّد الانتفاضة؛ إنهم يريدون أن يجمِّدوها بالمبادرة الإسرائيليّة الّتي قد تأخذ دعماً عربيّاً وأوروبيّاً وأميركيّاً.

إنَّ علينا أن نتطلَّع إلى هذا الشَّعب الّذي يقدِّم في كلِّ يومٍ تضحيات عظاماً، وعلينا أن نفهم أنَّ المسألة الفلسطينيَّة أصبحت في عنوانها مسألة أزمة الشَّرق الأوسط الَّذي نحن جزء منه، وبذلك دخلت كلّ قضايا المنطقة في داخل القضيَّة الفلسطينيَّة، وأصبحت أيّ مشكلةٍ في المنطقة مربوطة بحلولها الإيجابيَّة أو بحركتها السلبيَّة في داخل المشكلة الفلسطينيَّة. ولذلك، علينا أن نراقب حركة المشكلة الفلسطينيَّة في كلِّ الأروقة، لنعرف المؤامرات التي تدبَّر، لأنَّ أيَّ حلٍّ لهذه القضيَّة لا يتناسب مع قضايانا الكبرى كمسلمين وكعرب، يعني أن نعود إلى عهد الاستعمار غير المباشر، وأن يكون عندنا استعماران؛ استعمار أميركيّ أوروبي، واستعمار صهيوني، ينفذ إلى بلادنا باستعمارٍ استيطانيّ واقتصاديّ.

الاستقرار الأمني في لبنان

وعلى ضوء ذلك، نرصد المشكلة اللّبنانيَّة من خلال علاقتها بهذه المسألة، لا بمعنى أنَّنا لا نهتمّ بقضيَّتنا الذاتيَّة، ولكن لأنَّ هذه القضيَّة تنطلق من خلال تلك القضيَّة.

وحركة الفتنة اللّبنانيَّة في كلِّ تاريخها، كانت تنطلق في كلّ عناوينها من خلال كلمة المساواة بين اللّبنانيّين، وأن لا يتَّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، وعند ذلك، كانت الأجهزة الخفيَّة والدّول المعنيَّة تصنع حرباً، ويتجمَّع الناس في الداخل وفي المنطقة وفي الخارج، ليتحدَّثوا عن وقف إطلاق النّار، بدلاً من أن يتحدَّثوا عن وقف النّظام السياسيّ والاقتصاديّ وغيره.

ولهذا، كيف كانت المشكلة قبل 14 آذار؟ كان المسألة كيف تتحرَّك الإصلاحات، وفجأة انطلقت النّيران من كلّ جانب، وقُتِل الأطفال والنساء، ودمِّرت المدارس والمصانع، وأُحرِقت الأرض، وكاد لبنان أن يسقط تماماً، وهكذا انطلق العالم كلّه؛ أوروبّا وأميركا والعرب، على أساس وفق إطلاق النّار...

إنّنا نلاحظ في القرار الأخير لوزراء الخارجيّة العرب، أنّه تفادى الألغام، وحاول أن يرضي طرفاً في جانبٍ وطرفاً آخر في جانبٍ آخر، ومعنى ذلك، أنَّ هذه المبادرة تملك سقفاً دوليّاً من خلال نداء مجلس الأمن وغيره، لكن لا بدَّ من أن ندرس هذا الشَّغف السّياسيّ، فهناك شغف محكم ليس فيه تفسّخ أو أيّة مشاكل عمرانيّة، أو تفسّخ في الحجارة والباطون وغير ذلك، ولكنَّ الشّغف السياسيّ شغف متفسِّخ عربياً، فالعرب مختلفون على القضيَّة اللّبنانيّة، فهذا يساعد جانباً، وذاك يساعد آخر.

إنَّ أميركا لا تقبل أن تتدخَّل أوروبّا في لبنان. وأوروبّا، ولا سيَّما فرنسا، تريد لنفسها دوراً في لبنان، ولهذا فإنَّ هذا الشَّغف السياسيّ الدّوليّ والعربيّ يسعى ظمآن للمسألة الأمنيَّة في لبنان، لأنَّ الأوضاع السياسيّة والأمنيّة الّتي تتحرك في أزمة المنطقة، يمكن لها أن تتغيَّر بين وقتٍ وآخر.

الحذر من المبادرة الأميركيَّة

إنّنا نعرف أنَّ المبادرة العربيَّة هي مبادرة أميركيَّة، والأميركيّون يطرحون المبادرات كبالونات اختبار، ويتركون المسألة تتفاعل. ولذلك، علينا أن نفهم أنَّ المسألة العميقة في حركة الواقع السياسيّ في المنطقة، هي ما يسمَّى بالاتّفاق الأميركي السّوري الّذي لا يزال يفرض نفسه على الواقع السياسيّ، مع بعض التَّفاصيل، ومع حذف بعض الهوامش، وأنَّ الحرائق الّتي أثيرت، ربما كانت تتحرَّك في هذا الجوّ من خلال الجهات الّتي لا تريد لهذا الاتّفاق أن ينفّذ، أو الجهات الَّتي تريد له أن ينفّذ، فما وراء الكواليس يختلف كثيراً عمّا في عمقها. إنَّنا نتصوّر أنَّ هذه المبادرة لوقف النّار قد تستمرّ وقتاً ما، وقد تنجح، ولكن علينا أن نلتفت إلى أنَّ المؤمن لا يلدغ من الجحر مرّتين.

لقد عشنا تجارب كثيرة مماثلة، ولذلك يجب أن يبقى الحذر لما نواجهه في المستقبل، وأن يبقى الوعي الّذي نرصد فيه حركة السياسة الأوربيَّة والعربيَّة والأميركيَّة، لندرس ماذا يخطَّط لهذا البلد، لأنَّ المسألة السياسيَّة لم تبحث بعد، ومن الممكن أن تميَّع هذه المسألة، وأن يُفرض على اللّبنانيّين حلٌّ لا يتناسب مع روح السَّلام الّتي نريدها.

إنَّنا نشعر بأنَّ هناك ثغرات في هذه المبادرة، وقد ينفذ منها الكثير من اللّاعبين في الدَّاخل والخارج، ولذلك على اللّبنانيّين أن يستفيدوا من كلِّ آلامهم وضحاياهم، وعلى العقلاء والأكثريّة الصَّامتة منهم أن تندفع لتقول لا لكلِّ هؤلاء الّذين يريدون أن يدمِّروا البلد لمصلحة كلّ المغامرين، ولمصلحة أميركا وإسرائيل.


[1] [الأنفال: 60].

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 121.

[3] المصدر نفسه، ج 33، ص 376.

[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 420.

[5] بحار الأنوار، ج 55، ص 47.

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 22/9/1409هـ/ الموافق: 28 نيسان 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

في هذا الأسبوع، نلتقي بمناسبتين إسلاميَّتين، المناسبة الأولى، معركة بدر الَّتي كانت أوَّل معركة خاضها المسلمون في السَّابع عشر من شهر رمضان، والَّتي كانت أوَّل انطلاقةٍ بعد الهجرة للمسلمين في مواجهة قوَّة الشِّرك المتمثّلة بقريش وحلفائها. وكانت هذه المعركة ضروريَّة، بالرّغم من أنَّ المسلمين كانوا لا يملكون عناصر القوَّة الماديّة، لأنَّ الوضع الاقتصاديّ كان من أسوأ الأوضاع في حياة المسلمين.. ولكنَّ هذه المعركة استطاعت أن تدلِّل على أنَّ قوَّة الإيمان يمكن أن تغطِّي بعض نقاط الضّعف الماديَّة لدى المجاهدين..

دروس معركة بدر

وهكذا كانت نقاط الضَّعف تسيطر على بعض المؤمنين آنذاك، وكانت قريش تملك موقعاً من القوَّة، وكان تأثير ذلك يسيطر على بعض المؤمنين، ولكنَّ الله ثبَّت المؤمنين، وكان رسول الله(ص) يزرع الحالة الروحيَّة في نفوسهم. وهكذا انتصر المسلمون بالرّغم من قلَّتهم وكثرة العدوّ، واستطاعوا أن يؤكِّدوا وجود الإسلام من خلال هذا الانتصار في المنطقة الّتي انتصر الإسلام فيها..

ونحن عندما نريد أن نستلهم من معركة بدر، فإنَّنا نستطيع أن نأخذ من هذه المعركة ثلاث نقاط:

النّقطة الأولى: أنَّ النبيّ(ص) بدأ التحدّي من معركة بدر، على أساس أن يهاجم قافلة قريش الَّتي كانت تمثّل القوَّة الاقتصاديَّة لقريش، ومن خلال ذلك، نفهم أنّ المسلمين عندما يريدون أن يواجهوا الأعداء، فإنَّ مصالح الأعداء يمكن أن تكون هدفاً للمسلمين في حركة القوّة الّتي ينطلقون منها، لأنَّ الضَّغط الاقتصاديَّ على عدوّك، يمكن أن يدفعه إلى التّنازلات معك..

النّقطة الثّانية: هي استنفار الطّاقة الإيمانيَّة في داخل نفوسنا، عندما نواجه الحالات الصَّعبة التي يعمل فيها الكفر والاستكبار على أن يحاصرنا ويخوّفنا بالإكراه والقوَّة المادّيّة الكبيرة، لنأخذ من بدر درساً بأنَّ القلَّة قد تهزم الكثرة إذا فرضنا أنَّ الإيمان يتحرَّك بشكلٍ قويٍّ فاعل..

النّقطة الثّالثة: هي أنَّ الحياة لا بدَّ من أن تتحرّك في عمليَّة صنع القوّة، ولا يكفي أن يكون الحقّ معك لتكتسب مواقع عند النّاس، بل لا بدَّ لك من أن تكون قويّاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ...}[1]، لتتحرَّك القوَّة في خطَّين؛ قوَّة ترهب العدوّ، وقوَّة تردع العدوّ عندما يحاول أن يتحدَّاها. لهذا فكَّر النبيّ(ص) أن يفتح هو ساحة الصِّراع مع قريش، بعد أن أخرجته قريش والمسلمين من مكَّة، وبعد انتصاره في معركة بدر وأحد وغيرها، إذ تحرّك النّاس مع الإسلام..

الانتماء الحقيقيّ إلى عليّ(ع)

المناسبة الثّانية هي ذكرى استشهاد الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، الَّذي حدث في الواحد والعشرين من شهر رمضان، بعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه وهو يصلّي في مسجد الكوفة..

إنّنا عندما نريد أن ندخل في هذه المناسبة، لا نريد أن نحيط بكلِّ شخصيّة عليّ(ع)، الذي قال عنه رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[2]، وقال عنه: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[3]، وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[4]، فعليّ عاش كلّ حياته لله، ولم يعش لنفسه ساعة، بل كان يعيش مع الله، وكان إذا انطلق خطّ الجهاد، سار في هذا الخطّ من خلال البطولة الّتي كانت تنبع من خلال القوَّة الروحيَّة أكثر مما تنطلق من خلال القوّة الجسديَّة، وقد نقل عنه أنّه قال: "ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيَّة، بل بقوّة ربّانيّة"[5].

إنَّ عليّاً عندما طالب بالحكم، لم يكن ينطلق من حالةٍ ذاتيَّةٍ تريد أن تصل إلى مطامعها، ولكن من أجل أن يقيم حقّاً أو يدحض باطلاً، وهكذا انطلق، ولم يبحث في النّاس عمّن يصفّق له، بل ليسير بالنّاس في الخطّ المستقيم..

يريدنا عليّ أن ننتمي إليه انتماء الإسلام لا انتماء العصبيَّة، وانتماء الدّين في شريعته، لا انتماء الطّائفيّة.. عليٌّ ليس رمزاً فحسب، ولكنَّه إمام يتحرَّك أمامنا في كلِّ منهجه وخطّه لنسير وراءه، لنكون شيعة عليّ من خلال منهج عليّ، وليس لعليٍّ إلا الإسلام والقرآن وما جاء عن رسول الله. عليٌّ تلميذ رسول الله الأوَّل، وتلميذ القرآن، فمن يعجبه في عليٍّ إسلامه وجهاده، فسيجد له مكاناً مع عليّ، ومن لم يعجبه في عليّ إلا العصبيّة، فإنّه لن يجد له مكاناً إلى جانب عليّ، لأنَّ عليّاً مع الحقّ يدور معه كيفما دار..

إنَّ التشيّع ليس عصبيَّةً أو طائفيَّة، بل هو خطُّ الإسلام في خطِّ عليّ ورسول الله وأهل بيته، كما يفهمون الإسلام من منابعه الأصليَّة، فمن يقف ضدّ الإسلام والمسلمين والإيمان والمؤمنين، فعليّ لا يتعرَّف إليه..

ووصيّة عليّ تجعلنا نتحمَّل المسؤوليَّة في الحياة بالنّسبة إلى الإسلام وإصلاح الإسلام والمسلمين، والعمل لنكون القوَّة للخير كلّه، وأن نكون أمّة واحدة تنطلق لتتواصى بالحقّ في جميع المجالات.

محاولات تجميد الانتفاضة

في هذا الجوّ، نحتاج إلى أن نؤكِّد وحدة الموقف، وتنظيم الأمور، وإصلاح ذات البين، ومواجهة الأخطار الكبيرة الّتي تواجه المجتمع كلَّه، ولا سيَّما المجتمع المسلم والمستضعف، بما يهدِّد الحاضر والمستقبل على كلِّ المستويات، لأنَّ هناك وضعاً يتحرّك من أكثر من اتجاهٍ من أجل تطويق الوضع الإسلاميِّ كلِّه، ومن أجل إسقاط كلِّ الّذين يعملون من أجل الحريَّة، كما هي الحريَّة في العمق، لا كما هي كلمات الحريَّة في الشِّعار. إنّكم تلاحظون جيّداً كيف يتحرَّك العالم المستكبر من أجل أن تسقط الانتفاضة الإسلاميَّة في فلسطين، ويعمل على أن يطوِّقها.

لاحظوا أنَّ العالم لم يكن يتحرَّك بطريقة إيجابيَّة من خلال إعطاء الشعب الفلسطيني حقّه في الرجوع إلى أرضه وأهله، ولكن عندما اقترح رئيس وزراء العدوّ إجراء الانتخابات ليأتي بعملاء لإسرائيل حتى يعطوا إسرائيل باسم الفلسطينيّين كلّ شيء، انطلق العالم كلّه ليقول إنّها خطوة متقدّمة نحو السَّلام، وتستحقّ الدّرس وغير ذلك، ولكنّ المقصود أن تتجمَّد الانتفاضة؛ إنهم يريدون أن يجمِّدوها بالمبادرة الإسرائيليّة الّتي قد تأخذ دعماً عربيّاً وأوروبيّاً وأميركيّاً.

إنَّ علينا أن نتطلَّع إلى هذا الشَّعب الّذي يقدِّم في كلِّ يومٍ تضحيات عظاماً، وعلينا أن نفهم أنَّ المسألة الفلسطينيَّة أصبحت في عنوانها مسألة أزمة الشَّرق الأوسط الَّذي نحن جزء منه، وبذلك دخلت كلّ قضايا المنطقة في داخل القضيَّة الفلسطينيَّة، وأصبحت أيّ مشكلةٍ في المنطقة مربوطة بحلولها الإيجابيَّة أو بحركتها السلبيَّة في داخل المشكلة الفلسطينيَّة. ولذلك، علينا أن نراقب حركة المشكلة الفلسطينيَّة في كلِّ الأروقة، لنعرف المؤامرات التي تدبَّر، لأنَّ أيَّ حلٍّ لهذه القضيَّة لا يتناسب مع قضايانا الكبرى كمسلمين وكعرب، يعني أن نعود إلى عهد الاستعمار غير المباشر، وأن يكون عندنا استعماران؛ استعمار أميركيّ أوروبي، واستعمار صهيوني، ينفذ إلى بلادنا باستعمارٍ استيطانيّ واقتصاديّ.

الاستقرار الأمني في لبنان

وعلى ضوء ذلك، نرصد المشكلة اللّبنانيَّة من خلال علاقتها بهذه المسألة، لا بمعنى أنَّنا لا نهتمّ بقضيَّتنا الذاتيَّة، ولكن لأنَّ هذه القضيَّة تنطلق من خلال تلك القضيَّة.

وحركة الفتنة اللّبنانيَّة في كلِّ تاريخها، كانت تنطلق في كلّ عناوينها من خلال كلمة المساواة بين اللّبنانيّين، وأن لا يتَّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، وعند ذلك، كانت الأجهزة الخفيَّة والدّول المعنيَّة تصنع حرباً، ويتجمَّع الناس في الداخل وفي المنطقة وفي الخارج، ليتحدَّثوا عن وقف إطلاق النّار، بدلاً من أن يتحدَّثوا عن وقف النّظام السياسيّ والاقتصاديّ وغيره.

ولهذا، كيف كانت المشكلة قبل 14 آذار؟ كان المسألة كيف تتحرَّك الإصلاحات، وفجأة انطلقت النّيران من كلّ جانب، وقُتِل الأطفال والنساء، ودمِّرت المدارس والمصانع، وأُحرِقت الأرض، وكاد لبنان أن يسقط تماماً، وهكذا انطلق العالم كلّه؛ أوروبّا وأميركا والعرب، على أساس وفق إطلاق النّار...

إنّنا نلاحظ في القرار الأخير لوزراء الخارجيّة العرب، أنّه تفادى الألغام، وحاول أن يرضي طرفاً في جانبٍ وطرفاً آخر في جانبٍ آخر، ومعنى ذلك، أنَّ هذه المبادرة تملك سقفاً دوليّاً من خلال نداء مجلس الأمن وغيره، لكن لا بدَّ من أن ندرس هذا الشَّغف السّياسيّ، فهناك شغف محكم ليس فيه تفسّخ أو أيّة مشاكل عمرانيّة، أو تفسّخ في الحجارة والباطون وغير ذلك، ولكنَّ الشّغف السياسيّ شغف متفسِّخ عربياً، فالعرب مختلفون على القضيَّة اللّبنانيّة، فهذا يساعد جانباً، وذاك يساعد آخر.

إنَّ أميركا لا تقبل أن تتدخَّل أوروبّا في لبنان. وأوروبّا، ولا سيَّما فرنسا، تريد لنفسها دوراً في لبنان، ولهذا فإنَّ هذا الشَّغف السياسيّ الدّوليّ والعربيّ يسعى ظمآن للمسألة الأمنيَّة في لبنان، لأنَّ الأوضاع السياسيّة والأمنيّة الّتي تتحرك في أزمة المنطقة، يمكن لها أن تتغيَّر بين وقتٍ وآخر.

الحذر من المبادرة الأميركيَّة

إنّنا نعرف أنَّ المبادرة العربيَّة هي مبادرة أميركيَّة، والأميركيّون يطرحون المبادرات كبالونات اختبار، ويتركون المسألة تتفاعل. ولذلك، علينا أن نفهم أنَّ المسألة العميقة في حركة الواقع السياسيّ في المنطقة، هي ما يسمَّى بالاتّفاق الأميركي السّوري الّذي لا يزال يفرض نفسه على الواقع السياسيّ، مع بعض التَّفاصيل، ومع حذف بعض الهوامش، وأنَّ الحرائق الّتي أثيرت، ربما كانت تتحرَّك في هذا الجوّ من خلال الجهات الّتي لا تريد لهذا الاتّفاق أن ينفّذ، أو الجهات الَّتي تريد له أن ينفّذ، فما وراء الكواليس يختلف كثيراً عمّا في عمقها. إنَّنا نتصوّر أنَّ هذه المبادرة لوقف النّار قد تستمرّ وقتاً ما، وقد تنجح، ولكن علينا أن نلتفت إلى أنَّ المؤمن لا يلدغ من الجحر مرّتين.

لقد عشنا تجارب كثيرة مماثلة، ولذلك يجب أن يبقى الحذر لما نواجهه في المستقبل، وأن يبقى الوعي الّذي نرصد فيه حركة السياسة الأوربيَّة والعربيَّة والأميركيَّة، لندرس ماذا يخطَّط لهذا البلد، لأنَّ المسألة السياسيَّة لم تبحث بعد، ومن الممكن أن تميَّع هذه المسألة، وأن يُفرض على اللّبنانيّين حلٌّ لا يتناسب مع روح السَّلام الّتي نريدها.

إنَّنا نشعر بأنَّ هناك ثغرات في هذه المبادرة، وقد ينفذ منها الكثير من اللّاعبين في الدَّاخل والخارج، ولذلك على اللّبنانيّين أن يستفيدوا من كلِّ آلامهم وضحاياهم، وعلى العقلاء والأكثريّة الصَّامتة منهم أن تندفع لتقول لا لكلِّ هؤلاء الّذين يريدون أن يدمِّروا البلد لمصلحة كلّ المغامرين، ولمصلحة أميركا وإسرائيل.


[1] [الأنفال: 60].

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 121.

[3] المصدر نفسه، ج 33، ص 376.

[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 420.

[5] بحار الأنوار، ج 55، ص 47.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية