ما به يتحقّق الغصب

ما به يتحقّق الغصب
وفيه مسائل:
ـ الغصب هو: (الاستيلاء عدواناً على حق أو مال من هو محترم المال أو الحق من المسلمين أو الكفار)؛ ولما كان الاستيلاء فعلاً خارجياً منظوراً فإن تحقّقه يختلف ـ في كيفيته ـ باختلاف الأموال المغصوبة، على أنحاء:
الأول: غصب الأعيان: وهو ـ من حيث المبدأ ـ يقع على العين والمنفعة معاً، كغصب كل عين غير مسلوبة المنفعة بإجارة أو هبة أو غيرهما، لكنه قد يقع على العين وحدها دون منفعتها، كما في العين المستأجرة إذا تسلط على العين غير مالكها وغير المستأجر، أو تسلط عليها المستأجر خلال مدة الإجارة بالنحو الذي يفهم منه تمرده على المالك وإنتزاعها منه، ونحو ذلك.
أما المنقولات من الأعيان فيتحقّق الاستيلاء عليها بأخذها باليد في مثل الثوب والإناء والكتاب والطعام ونحوها من الألبسة والأثاث والأواني والأطعمة والأشربة وغيرها، ويتأكد الاستيلاء عليها بعد أخذها باليد بنقلها إلى مواضع حفظها الخاصة بها، كالخزانة والدُرج والحقيبة وغرفة المؤن ونحوها؛ وفي البهائم يتحقّق الغصب بوضع اليد عليها والإمساك بزمامها بقصد الاستيلاء عليها ومدافعة غيره عنها، وهو الذي يتأكد بسوقها أو الركوب عليها، كما يتأكد أكثر بضمها إليه وإدخالها في حظيرته؛ وهكذا الأمر في سائر المنقولات كالسيارة ونحوها.
وأما غير المنقول، فيكفي في غصب الدار أن يأخذ مفتاحها من صاحبها قهراً ويتردد عليها ويتواجد فيها بالسكنى أو غيرها من التصرفات المناسبة لها، فضلاً عما لو اقتحمها فكسر قفلها وصار يتصرف بها بالنحو المذكور، بحيث ترافق ذلك التواجد مع طرد المالك منها، أو منعه من التواجد فيها، وانفراده بالسيطرة عليها؛ ومثل الدار في ذلك: الدكان والفندق والمستودع ونحوها من المنشآت والمباني، بل وما أشبه ذلك مما له سور وباب، كالبستان والملاعب والمنتزهات ونحوها، أما الأراضي التي ليس لها سور ولا باب فإنه يتحقّق غصبها بالتردد عليها والتواجد فيها بالزراعة وغيرها من الانتفاعات المناسبة بعد طرد المالك عنها ومنعه من التواجد عليها تواجد المالك لها.
الثاني: غصب المنافع: وهي نوعان: الأول: منافع الأشياء، ويتحقّق الغصب فيها ـ من حيث المبدأ، وبلحاظ المنفعة مجردةً عن العين ـ بانتزاع العين المؤجرة من المستأجر، فإذا كان الغاصب هو مالك العين ومؤجرها كان ذلك غصباً للمنفعة المجردة، وإذا كان الغاصب غيره كان ذلك غصباً للمنفعة من المستأجر وغصباً ـ في نفس الوقت ـ للعين من المالك. الثاني: منافع الإنسان، ويتحقّق الغصب فيها بإعاقته عن بذل جهده في الكسب الذي يحسنه إذا كان ممن يتكسب، بمثل حبسه أو تقييده، وسيأتي حكم ضمان منافعه. (أنظر المسألة: 392).
الثالث: غصب الحقوق، والحقوق ـ من حيث صدق الغصب المصطلح وعدمه ـ على أنواع:
1 ـ الحقوق التي لها تعلق بأعيان خارجية غير مملوكة، بحيث يكون التسلط على تلك العين غصباً مباشراً للحق المتعلق بها، وهي مثل: حق الاختصاص ببعض الأعيان النجسة، كالميتة والخمر والخنزير، وحق الأولوية بالأرض الخراجية، وحق التحجير في الأرض الموات، ونحو ذلك.
2 ـ الحقوق التي لها تعلق بأعيان خارجية مملوكة، بحيث يكون التسلط على العين بغير حق غصباً غير مباشر لما تعلق فيها من حقوق، كحق الرهانة في العين المرهونة، وحق المرور على ملك الغير، ونحوهما.
3 ـ الحقوق المرتكزة على علاقة معينة، كحق الحضانة، وحق الاستمتاع للزوجين، وحق النفقة للزوجة والأقارب، ونحو ذلك.
وجميع هذه الحقوق بأنواعها الثلاثة يحرم منعها عن أصحابها، وهو من الظلم المحرم، غير أن الغصب المبحوث فيه هنا هو ما يترتب عليه الضمان عند تلفه على أساس ما يصطلح عليه بـ (ضمان اليد)، وهو غير متحقّق إلا في النوع الأول من الحقوق، فإنَّ من غصب أرضاً مواتاً محجَّرة ضمنها لصاحبها، بردها له إن كانت موجودة وبدفع قيمتها إن كانت تالفة بمثل غرقها بالماء واندثارها؛ فيما لا يتحقّق الضمان بهذا المعنى في غصب حق المرور عند غصب الأرض التي يمر منها، فإنَّ غصْبها إنما هو لصاحبها، لا لصاحب حق المرور، وتلفُها مضمون لصاحبها لا لصاحب حق المرور، فلا يكون غصبها غصباً مباشراً لحق المرور، ولا موجباً لضمانه ضمان يد كما كان الأمر في حق التحجير؛ فيما يكون الأمر أوضح في غصب حق الحضانة من حيث عدم كونه غصباً بالمعنى المصطلح.
هذا، وسوف نتعرض لهذا الموضوع في المبحث الثالث، فأنظر فيه (المسألة: 395).
ـ كما يحرم العدوان على ما للغير من عين أو حق وأخذه منه بغير وجهٍ حق، فإنه يحرم (الحجز) ما بين المالك وأمواله بمنعه من التصرف فيها والاستفادة منها رغم بقائها عند مالكها، فلا يجوز منعه من دخول سيارته وركوبها، أو من سوق مواشيه ودوابه، أو من استعمال أثاثه، أو دخول داره، أو ما أشبه ذلك، فالغاصب ظالم في ذلك كله وآثم ولكنه لا يضمنها ضمان يد كما هو شأن المغصوب، وربما ضمنها ضمان تسبيب على ما سيأتي تفصيله.
ـ إذا تسلط الغاصب على العين مع وجودها تحت يد المالك، كالدار يسكنها مع مالكها، أو الدابة يقودها مع ركوب مالكها عليها، فإن حكمه على النحو التالي:
أولاً: إذا كانت العين داراً يسكنها أو دكاناً يتواجد فيه خلال عمله فيه، أو ما أشبههما من المنشآت، وكان المالك قادراً على دفعه عنها، فلم يفعل، كان الوافد غاصباً للمنفعة وحدها ـ دون العين ـ بالمقدار الذي يسيطر عليه منها كلياً أو جزئياً.
ثانياً: ما لو كان داراً أو دكاناً، ولكن كان المالك عاجزاً عن دفعه عنها فتواجد معه فيها وشاركه منافعها، فله صور:
الأولى: أن يستولي على تمام الدار استيلاءً تاماً، بحيث يخضع المالك في وجوده فيها لرغبة الغاصب، فيضعه في أي جانب منها دون أن يقدر على التمرد والإمتناع؛ فهنا يكون غاصباً لتمام الدار، فيضمن ما يحدث على العين، كما يضمن مقدار ما يستوفيه من المنفعة دون ما يستوفيه المالك منها.
الثانية: أن يستولي على تمام الدار، لكنه يُشْرك المالكَ معه في جميع مواضع الدار، بحيث لا يكون المالـك ـ في هـذه الصـورة ـ كمثل الرهينة التي يضعها الغاصب في أي موضع شاء، بل يكون شريكاً له في جميع التصرفات؛ وهنا لا شك في كونه غاصباً لمنفعة الدار وضامناً لها بتمامها رغم مشاركة المالك له، أما كونه غاصباً للعين وضامناً لها فهو محل إشكال.
الثالثة: أن يستولي الغاصب على قسم من الدار ويستقل به، فيما يستقل المالك بالقسم الآخر، فهنا يكون غاصباً لذلك القسم عيناً ومنفعة وضامناً له كذلك.
الرابعة: أن يزاحم المالك في السكن في موضع منه دون استقلال منه، بل يجعله المالك حيث يشاء من مواضع الدار وغرفه؛ فهنا يكون غاصباً لمنفعة ذلك المكان الذي شغله ـ فحسب ـ لا لعينه.
ثالثاً: ما لو كانت العين سيارة ـ أو دابة ـ فقادها ومالكها راكب فيها، فإن كان القائد هو المهيمن على المالك والقاهر له كان غاصباً لها بتمامها وضامناً لها عيناً ومنفعة ضمان يد، وإن لم يكن مهيمناً، بل كان الراكب قادراً على ردعه ومسيطراً على الوضع فإن كونه غاصباً للعين وضامناً لها لو تلفت حين قيادته لها محل إشكال إلا أن يكون هو سبباً في تلفها، أما المنفعة فهي مضمونة عليه بتمامها بمقدار ما استوفى منها كما سيأتي تفصيله.
ـ كما يكون الغاصب واحداً فإنه قد يكون متعدداً، فإذا بادر جماعة واشتركوا في الاستيلاء على جميع العين، كان كل واحد منهم غاصباً لجميع العين وضامناً لها بتمامها، بحيث يتخير المالك في الرجوع على أيهم شاء، سواءً كان بعضهم بحاجة إلى الآخر في إنجاز الاستيلاء على العين أو لم يكن بحاجة إليه؛ أما إذا لم يبادروا معاً إلى الغصب، بل غصب كل واحد منهم قسماً منها، كان كل واحد غاصباً وضامناً للمقدار الذي استقل به من العين، وكذا لما يوازيه من المنفعة بنسبته، حتى لو لم يستوفها أحد، أو استوفاها غيره.
ـ كما يتحقّق الغصب في الملك الطلق كذلك يتحقّق في الوقف بجميع أنواعه، فيضمن الغاصب الأعيان الموقوفة بالوقف الخاص مع منافعها، وكذا الأعيان الموقوفة بالوقف العام، مسجداً كان الموقوف المغصوب أو غيره، كالفندق والمستشفى والبستان، ونحو ذلك، فإذا استولى على المسجد واستخدمه لغير الصلاة من شؤونه الخاصة أو العامة، أو استولى على البستان الموقوف على الفقراء فصرف نتاجه على نفسه أوغيره من غير الفقراء، كان ضامناً للعين وللمنفعة معاً مدة الغصب. بل إن مَنْ تمرَّد على ولي الوقف الشرعي فتصدى لإدارة الوقف وصَرَفَ نتاجه فيما وُقِفَ عليه، يعتبر غاصباً وضامناً للعين وحدها ـ دون المنفعة ـ مدة غصبه لها.
ـ إذا أمر شخصٌ شخصاً بالغصب، وكان المأمور عالماً غير مكره، كان المأمور هو الغاصب وعليه يقع الضمان، حتى لو وضع المغصوبَ في حرز للآمر، وإلا كان الآمر هو الغاصبَ والضامنَ مع جهل المأمور بالحال، وكذا مع إكراهه عليه إذا لم يكن المال مضموناً على المأمور، وذلك بأن أكرهه على إتلاف مال ليس تحت يد المأمور، أو مال هو أمانة عند الآمر؛ وأما إذا كان المال مضموناً على المأمور، كما في صورة ما لو كان هو الذي غصب المال، فأمره الآمر بإتلافه، جاز للمالك الرجوع على أيهما شاء، فإن رجع على المتلف (وهو المكرَه) جاز له الرجوع على من أكرهه، وإن رجع على المكرِه لم يكن له الرجوع على المكرَه.
ـ إذا تعاقبت الأيدي الغاصبة على العين، بأن غصبها شخص من الغاصب وهكذا، كان الجميع آثمين وضامنين، وللمالك أن يرجع على أي واحد منهم إذا تلفت، كما أن له أن يرجع على جميعهم أو بعضهم موزعاً قيمة العين عليهم بالتساوي أو التفاضل.
أما حكم الغاصبين مع بعضهم بعد رجوع المالك عليهم، فإن كان قد رجع على من تلفت العين عنده فلا يرجع هو على غيره، وإن كان قد رجع على غيره رجع هو على من بعده، ومن بعده على من بعده حتى يصل إلى من أتلفها.
ويلحق بالأيدي الغاصبة في هذا الحكم الأيدي التي لا تعتبر يد أمانة، كما في المقبوض بالمعاملة المعاوضية الفاسدة والمأخوذ إشتباهاً أو جهلاً.
ـ إذا انتقلت العين المغصوبة بالشراء إلى غير الغاصب، فاستردها المالك منه وغرّمه قيمة ما استوفاه وما لم يستوفه من منافعها المفوّتة، جاز للمشتري الجاهل الرجوع بالثمن وبما غرمه على الغاصب، فيما لا يرجع عليه ـ مع علمه ـ إلا بالثمن لا بما غرمه من قيمة منافعها.
ـ إذا غصب طعاماً من شخص، فأطعمه غيرَ المالك على أنه مال المُطعِم، فأكله جهلاً منه بالحال، ضمن الغاصب لغصبه والآكل لمباشرته الإتلاف، وجاز للمالك الرجوع على أيهما شاء، لكنه إذا رجع على الآكل جاز له الرجوع على الغاصب بما غرمه للمالك.
ـ لا يشترط في تحقّق الغصب كون المال المغصوب معلومَ المالك، بل يتحقّق ـ أيضاً ـ في الأموال المجهولة المالك التي لا يد لأحد عليها، فلا يجوز أخذها، وإذا أخذها كان غاصباً وضامناً لها إلا إذا كانت في معرض التلف. (أنظر في ذلك المسألة: 346).
وفيه مسائل:
ـ الغصب هو: (الاستيلاء عدواناً على حق أو مال من هو محترم المال أو الحق من المسلمين أو الكفار)؛ ولما كان الاستيلاء فعلاً خارجياً منظوراً فإن تحقّقه يختلف ـ في كيفيته ـ باختلاف الأموال المغصوبة، على أنحاء:
الأول: غصب الأعيان: وهو ـ من حيث المبدأ ـ يقع على العين والمنفعة معاً، كغصب كل عين غير مسلوبة المنفعة بإجارة أو هبة أو غيرهما، لكنه قد يقع على العين وحدها دون منفعتها، كما في العين المستأجرة إذا تسلط على العين غير مالكها وغير المستأجر، أو تسلط عليها المستأجر خلال مدة الإجارة بالنحو الذي يفهم منه تمرده على المالك وإنتزاعها منه، ونحو ذلك.
أما المنقولات من الأعيان فيتحقّق الاستيلاء عليها بأخذها باليد في مثل الثوب والإناء والكتاب والطعام ونحوها من الألبسة والأثاث والأواني والأطعمة والأشربة وغيرها، ويتأكد الاستيلاء عليها بعد أخذها باليد بنقلها إلى مواضع حفظها الخاصة بها، كالخزانة والدُرج والحقيبة وغرفة المؤن ونحوها؛ وفي البهائم يتحقّق الغصب بوضع اليد عليها والإمساك بزمامها بقصد الاستيلاء عليها ومدافعة غيره عنها، وهو الذي يتأكد بسوقها أو الركوب عليها، كما يتأكد أكثر بضمها إليه وإدخالها في حظيرته؛ وهكذا الأمر في سائر المنقولات كالسيارة ونحوها.
وأما غير المنقول، فيكفي في غصب الدار أن يأخذ مفتاحها من صاحبها قهراً ويتردد عليها ويتواجد فيها بالسكنى أو غيرها من التصرفات المناسبة لها، فضلاً عما لو اقتحمها فكسر قفلها وصار يتصرف بها بالنحو المذكور، بحيث ترافق ذلك التواجد مع طرد المالك منها، أو منعه من التواجد فيها، وانفراده بالسيطرة عليها؛ ومثل الدار في ذلك: الدكان والفندق والمستودع ونحوها من المنشآت والمباني، بل وما أشبه ذلك مما له سور وباب، كالبستان والملاعب والمنتزهات ونحوها، أما الأراضي التي ليس لها سور ولا باب فإنه يتحقّق غصبها بالتردد عليها والتواجد فيها بالزراعة وغيرها من الانتفاعات المناسبة بعد طرد المالك عنها ومنعه من التواجد عليها تواجد المالك لها.
الثاني: غصب المنافع: وهي نوعان: الأول: منافع الأشياء، ويتحقّق الغصب فيها ـ من حيث المبدأ، وبلحاظ المنفعة مجردةً عن العين ـ بانتزاع العين المؤجرة من المستأجر، فإذا كان الغاصب هو مالك العين ومؤجرها كان ذلك غصباً للمنفعة المجردة، وإذا كان الغاصب غيره كان ذلك غصباً للمنفعة من المستأجر وغصباً ـ في نفس الوقت ـ للعين من المالك. الثاني: منافع الإنسان، ويتحقّق الغصب فيها بإعاقته عن بذل جهده في الكسب الذي يحسنه إذا كان ممن يتكسب، بمثل حبسه أو تقييده، وسيأتي حكم ضمان منافعه. (أنظر المسألة: 392).
الثالث: غصب الحقوق، والحقوق ـ من حيث صدق الغصب المصطلح وعدمه ـ على أنواع:
1 ـ الحقوق التي لها تعلق بأعيان خارجية غير مملوكة، بحيث يكون التسلط على تلك العين غصباً مباشراً للحق المتعلق بها، وهي مثل: حق الاختصاص ببعض الأعيان النجسة، كالميتة والخمر والخنزير، وحق الأولوية بالأرض الخراجية، وحق التحجير في الأرض الموات، ونحو ذلك.
2 ـ الحقوق التي لها تعلق بأعيان خارجية مملوكة، بحيث يكون التسلط على العين بغير حق غصباً غير مباشر لما تعلق فيها من حقوق، كحق الرهانة في العين المرهونة، وحق المرور على ملك الغير، ونحوهما.
3 ـ الحقوق المرتكزة على علاقة معينة، كحق الحضانة، وحق الاستمتاع للزوجين، وحق النفقة للزوجة والأقارب، ونحو ذلك.
وجميع هذه الحقوق بأنواعها الثلاثة يحرم منعها عن أصحابها، وهو من الظلم المحرم، غير أن الغصب المبحوث فيه هنا هو ما يترتب عليه الضمان عند تلفه على أساس ما يصطلح عليه بـ (ضمان اليد)، وهو غير متحقّق إلا في النوع الأول من الحقوق، فإنَّ من غصب أرضاً مواتاً محجَّرة ضمنها لصاحبها، بردها له إن كانت موجودة وبدفع قيمتها إن كانت تالفة بمثل غرقها بالماء واندثارها؛ فيما لا يتحقّق الضمان بهذا المعنى في غصب حق المرور عند غصب الأرض التي يمر منها، فإنَّ غصْبها إنما هو لصاحبها، لا لصاحب حق المرور، وتلفُها مضمون لصاحبها لا لصاحب حق المرور، فلا يكون غصبها غصباً مباشراً لحق المرور، ولا موجباً لضمانه ضمان يد كما كان الأمر في حق التحجير؛ فيما يكون الأمر أوضح في غصب حق الحضانة من حيث عدم كونه غصباً بالمعنى المصطلح.
هذا، وسوف نتعرض لهذا الموضوع في المبحث الثالث، فأنظر فيه (المسألة: 395).
ـ كما يحرم العدوان على ما للغير من عين أو حق وأخذه منه بغير وجهٍ حق، فإنه يحرم (الحجز) ما بين المالك وأمواله بمنعه من التصرف فيها والاستفادة منها رغم بقائها عند مالكها، فلا يجوز منعه من دخول سيارته وركوبها، أو من سوق مواشيه ودوابه، أو من استعمال أثاثه، أو دخول داره، أو ما أشبه ذلك، فالغاصب ظالم في ذلك كله وآثم ولكنه لا يضمنها ضمان يد كما هو شأن المغصوب، وربما ضمنها ضمان تسبيب على ما سيأتي تفصيله.
ـ إذا تسلط الغاصب على العين مع وجودها تحت يد المالك، كالدار يسكنها مع مالكها، أو الدابة يقودها مع ركوب مالكها عليها، فإن حكمه على النحو التالي:
أولاً: إذا كانت العين داراً يسكنها أو دكاناً يتواجد فيه خلال عمله فيه، أو ما أشبههما من المنشآت، وكان المالك قادراً على دفعه عنها، فلم يفعل، كان الوافد غاصباً للمنفعة وحدها ـ دون العين ـ بالمقدار الذي يسيطر عليه منها كلياً أو جزئياً.
ثانياً: ما لو كان داراً أو دكاناً، ولكن كان المالك عاجزاً عن دفعه عنها فتواجد معه فيها وشاركه منافعها، فله صور:
الأولى: أن يستولي على تمام الدار استيلاءً تاماً، بحيث يخضع المالك في وجوده فيها لرغبة الغاصب، فيضعه في أي جانب منها دون أن يقدر على التمرد والإمتناع؛ فهنا يكون غاصباً لتمام الدار، فيضمن ما يحدث على العين، كما يضمن مقدار ما يستوفيه من المنفعة دون ما يستوفيه المالك منها.
الثانية: أن يستولي على تمام الدار، لكنه يُشْرك المالكَ معه في جميع مواضع الدار، بحيث لا يكون المالـك ـ في هـذه الصـورة ـ كمثل الرهينة التي يضعها الغاصب في أي موضع شاء، بل يكون شريكاً له في جميع التصرفات؛ وهنا لا شك في كونه غاصباً لمنفعة الدار وضامناً لها بتمامها رغم مشاركة المالك له، أما كونه غاصباً للعين وضامناً لها فهو محل إشكال.
الثالثة: أن يستولي الغاصب على قسم من الدار ويستقل به، فيما يستقل المالك بالقسم الآخر، فهنا يكون غاصباً لذلك القسم عيناً ومنفعة وضامناً له كذلك.
الرابعة: أن يزاحم المالك في السكن في موضع منه دون استقلال منه، بل يجعله المالك حيث يشاء من مواضع الدار وغرفه؛ فهنا يكون غاصباً لمنفعة ذلك المكان الذي شغله ـ فحسب ـ لا لعينه.
ثالثاً: ما لو كانت العين سيارة ـ أو دابة ـ فقادها ومالكها راكب فيها، فإن كان القائد هو المهيمن على المالك والقاهر له كان غاصباً لها بتمامها وضامناً لها عيناً ومنفعة ضمان يد، وإن لم يكن مهيمناً، بل كان الراكب قادراً على ردعه ومسيطراً على الوضع فإن كونه غاصباً للعين وضامناً لها لو تلفت حين قيادته لها محل إشكال إلا أن يكون هو سبباً في تلفها، أما المنفعة فهي مضمونة عليه بتمامها بمقدار ما استوفى منها كما سيأتي تفصيله.
ـ كما يكون الغاصب واحداً فإنه قد يكون متعدداً، فإذا بادر جماعة واشتركوا في الاستيلاء على جميع العين، كان كل واحد منهم غاصباً لجميع العين وضامناً لها بتمامها، بحيث يتخير المالك في الرجوع على أيهم شاء، سواءً كان بعضهم بحاجة إلى الآخر في إنجاز الاستيلاء على العين أو لم يكن بحاجة إليه؛ أما إذا لم يبادروا معاً إلى الغصب، بل غصب كل واحد منهم قسماً منها، كان كل واحد غاصباً وضامناً للمقدار الذي استقل به من العين، وكذا لما يوازيه من المنفعة بنسبته، حتى لو لم يستوفها أحد، أو استوفاها غيره.
ـ كما يتحقّق الغصب في الملك الطلق كذلك يتحقّق في الوقف بجميع أنواعه، فيضمن الغاصب الأعيان الموقوفة بالوقف الخاص مع منافعها، وكذا الأعيان الموقوفة بالوقف العام، مسجداً كان الموقوف المغصوب أو غيره، كالفندق والمستشفى والبستان، ونحو ذلك، فإذا استولى على المسجد واستخدمه لغير الصلاة من شؤونه الخاصة أو العامة، أو استولى على البستان الموقوف على الفقراء فصرف نتاجه على نفسه أوغيره من غير الفقراء، كان ضامناً للعين وللمنفعة معاً مدة الغصب. بل إن مَنْ تمرَّد على ولي الوقف الشرعي فتصدى لإدارة الوقف وصَرَفَ نتاجه فيما وُقِفَ عليه، يعتبر غاصباً وضامناً للعين وحدها ـ دون المنفعة ـ مدة غصبه لها.
ـ إذا أمر شخصٌ شخصاً بالغصب، وكان المأمور عالماً غير مكره، كان المأمور هو الغاصب وعليه يقع الضمان، حتى لو وضع المغصوبَ في حرز للآمر، وإلا كان الآمر هو الغاصبَ والضامنَ مع جهل المأمور بالحال، وكذا مع إكراهه عليه إذا لم يكن المال مضموناً على المأمور، وذلك بأن أكرهه على إتلاف مال ليس تحت يد المأمور، أو مال هو أمانة عند الآمر؛ وأما إذا كان المال مضموناً على المأمور، كما في صورة ما لو كان هو الذي غصب المال، فأمره الآمر بإتلافه، جاز للمالك الرجوع على أيهما شاء، فإن رجع على المتلف (وهو المكرَه) جاز له الرجوع على من أكرهه، وإن رجع على المكرِه لم يكن له الرجوع على المكرَه.
ـ إذا تعاقبت الأيدي الغاصبة على العين، بأن غصبها شخص من الغاصب وهكذا، كان الجميع آثمين وضامنين، وللمالك أن يرجع على أي واحد منهم إذا تلفت، كما أن له أن يرجع على جميعهم أو بعضهم موزعاً قيمة العين عليهم بالتساوي أو التفاضل.
أما حكم الغاصبين مع بعضهم بعد رجوع المالك عليهم، فإن كان قد رجع على من تلفت العين عنده فلا يرجع هو على غيره، وإن كان قد رجع على غيره رجع هو على من بعده، ومن بعده على من بعده حتى يصل إلى من أتلفها.
ويلحق بالأيدي الغاصبة في هذا الحكم الأيدي التي لا تعتبر يد أمانة، كما في المقبوض بالمعاملة المعاوضية الفاسدة والمأخوذ إشتباهاً أو جهلاً.
ـ إذا انتقلت العين المغصوبة بالشراء إلى غير الغاصب، فاستردها المالك منه وغرّمه قيمة ما استوفاه وما لم يستوفه من منافعها المفوّتة، جاز للمشتري الجاهل الرجوع بالثمن وبما غرمه على الغاصب، فيما لا يرجع عليه ـ مع علمه ـ إلا بالثمن لا بما غرمه من قيمة منافعها.
ـ إذا غصب طعاماً من شخص، فأطعمه غيرَ المالك على أنه مال المُطعِم، فأكله جهلاً منه بالحال، ضمن الغاصب لغصبه والآكل لمباشرته الإتلاف، وجاز للمالك الرجوع على أيهما شاء، لكنه إذا رجع على الآكل جاز له الرجوع على الغاصب بما غرمه للمالك.
ـ لا يشترط في تحقّق الغصب كون المال المغصوب معلومَ المالك، بل يتحقّق ـ أيضاً ـ في الأموال المجهولة المالك التي لا يد لأحد عليها، فلا يجوز أخذها، وإذا أخذها كان غاصباً وضامناً لها إلا إذا كانت في معرض التلف. (أنظر في ذلك المسألة: 346).
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية