ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
عظمته (ع ) بعبودية الله
قبل أيام كنا مع عليّ (ع)، هذا الإنسان العظيم الذي تجلت عظمته بأنه كان عبداً لله في أعمق معاني العبودية وفي أعلاها مرتبة، حيث كان لا يرى شيئاً إلا ويرى الله معه، لأن عقله، كما قلبه، كان مشرقاً بالله، ولأن حياته كانت تفيض بنور الله، في كل كلمة من كلماته وكل عمل من أعماله وفي كل علاقة من علاقاته. وقد نزلت الآية التي تحدد ذلك كله في بداية شباب عليّ (ع) عندما بات ليلة الهجرة على فراش رسول الله (ص): {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}، فلم يكن لعليّ (ع) شيء في ذات عليّ، بل كان كل عليّ (ع) لله، ولهذا لم ينطلق من عقله إلا الحق، ومن قلبه إلا الحب، ولم ينطلق في حياته إلا العدل، ولذلك، كان عليّ (ع) أولى الناس بالناس.
بالغدير إتمام الرسالة
أما لماذا الغدير؟ إن الله تعالى أنزل على رسوله: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك}، وكان النبي (ص) قد بلّغ كل ما أُنزل إليه من ربه، ولكن المقصود في ذلك ولاية عليّ (ع)، لأنه كان يجمع كل ما أُنزل إليه من ربه، لأن علياً(ع) كان يملك علم الإسلام كله، وهذا ما عبّر عنه رسول الله (ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وهل يمكن أن يدخل أحد المدينة إلا من الباب؟
إنسان الحق
كان عليّ (ع) إنسان الحق كله، فلم يقترب الباطل من عقله ومن قلبه ومن حياته في سلمه وحربه، كان يراقب الله حتى في حربه لتكون حربه لله، وقد عبّر عن ذلك في مواقف عديدة، ففي معركة "الأحزاب" عندما صرع "عمرو بن عبد ود" والمسلمون يصرخون: احتز رأسه يا عليّ قبل أن يغدر بك، ولم يستجب لصرخاتهم، بل تأمل قليلاً ثم احتز رأسه، وسُئل عن السبب، فأجاب – كما روي عنه – أني عندما صرعته سبّني (أو بصق في وجهي) فثارت نفسي لهذه الإهانة، فخفت إن أنا قتلته في تلك الحال أن أقتله ثأراً لنفسي، فسكنت حتى استقرت مشاعري فقتلته قربة لله تعالى.
همّه الرسالة
وفي موقف آخر في معركة "صفين"، وقد مضى عدة أيام على مرابطة الجيش فيها، وعليّ لم يأذن له بالقتال، فبدأ العسكر يهمس بعضه لبعض: لقد جاء بنا عليّ لنحارب، فلماذا أبطأ في إذنه للقتال؟ أكان ذلك كراهية للموت أو شكاً في أهل الشام؟ وسمع عليّ همساتهم، وكان في عظمته، الإمام والقائد الذي لا يتعقّد من الكلمات السلبية من بعض أتباعه، أو من التشكيك الذي قد يجول في أذهانهم، بل كان (ع) يسمع بسعة صدر، ويجيب بوعي الرسالة، لأن صاحب الرسالة يختلف عن صاحب الذات، فصاحب الذات يريد الناس لنفسه، وصاحب الرسالة يريد الناس لرسالته، وقد عبّر عن ذلك بقوله(ع): "ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم". كما ردّ على اتهامه بكراهية الموت أو الشك بأهل الشام، عندما وقف خطيباً فيهم وقال: "أما قولكم إن ذلك كان كراهية للموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأما قولكم إن ذلك كان شكاً في أهل الشام فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها".
أبعاد متنوعة وحركية
لذلك، قصة الإمام عليّ (ع) في مسألة القرآن والنبي (ص) محسومة، ليس هناك أحد متعدد الأبعاد، متنوع الثقافات، متحرك في كل الواقع الإسلامي غير عليّ(ع)، بخلاف كل الصحابة، لأن عليّاً (ع) عُجن بالإسلام كله، حيث احتضنه رسول الله في أول أيام طفولته، فربى عقله وقلبه ومفاهيمه وقيمه، فكان عليّ الصادق الأمين، كما كان رسول الله الصادق الأمين. ولم يكن هناك بيت في الإسلام إلا البيت الذي جمع الثلاثة؛ النبي وخديجة وعليّ، ولم يسبقه للصلاة إلا رسول الله، ثم كان عليّ يسمع الوحي ويحفظه، حتى قال له رسول الله: "إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع إلا أنك لست بنبي"، وكان مع رسول الله في الليل والنهار، لم تنزل آية – كما يقول عليّ (ع) – في جبل أو في سهل إلا وكان أول من يسمعها ويعرف بمن نزلت، حتى كانت نساء رسول الله يغرن من عليّ لأنه كان يشغل النبي عنهن، ثم بعد أن زوّجه ابنته فاطمة (ع) التي لولا عليّ لما كان لها كفؤ، فكان بيت عليّ وفاطمة أحبّ البيوت إليه.. ولم يتحدث رسول الله عن صحابيّ كما تحدث عن عليّ، لأنه كان يريد أن يهيئ الذهنية الإسلامية لتجد في عليّ الوصي والخليفة بعد رسول الله.
أهليته القيادية والرسالية
وهناك نقطة بيّنتها في كلمات سابقة، وهي أن خلافة النبي تختلف عن خلافة أيّ حاكم، لأن النبي كان يحمل شخصية الرسول وشخصية الحاكم، فخلافة النبي كانت تحتاج إلى الرسالي الذي يعرف الإسلام كله فكراً وتطبيقاً ومنهجاً ويعرف الحكم، وعندما ندرس كل المسلمين – من نجح ومن فشل – لا نجد أن أحداً كان عالماً بالإسلام كما كان علي(ع)، كان عليّ مؤهلاً ليكمل ما بدأه رسول الله من بيان الإسلام ومعرفته وإعطاء النظريات التي يمكن أن تتحرك مع الزمن كله، ولذلك عندما ندرس كل صحابة النبي، فإننا نسأل ما تركه أيّ صحابي من فكر ومنهج وحلول لمشاكل الإنسان كما ترك علي(ع)، حتى أننا عندما نقرأ عليّاً الآن فإننا نلاحظ أنه يحدثنا عن عصرنا ومشاكله وتطلعاته، وكانت مأساة عليّ أن المسلمين لم يتعلّموا منه الكثير، حتى قال بعض المستشرقين: لو كان عليّ موجوداً الآن لوجدت مسجد الكوفة مملوءاً بالقبعات الأوروبية ولن تجد فيه موطئ قدم لعربي واحد!! لذلك كان عليّ(ع) وحده هو الذي يملك علم ذلك كله، وقد كان عليّ كل رسول الله وكل عقله وكل قلبه..
الولاية .. إكمال الدين
لذلك، كانت ولاية عليّ في يوم "الغدير" التي أكمل رسول الله بها كل الكلمات التي كانت تشير إلى الولاية، وقد نزلت الآية بعد الغدير: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}. ويبقى لنا أن نعيش مع عليّ دائماً، أن لا يكون دورنا كدور الذين عايشوه ولم يأخذوا شيئاً من روحه وفكره، إن بطولة عليّ الفكرية والروحية أعظم من بطولته الجسدية، فعلينا أن نغرف من ذلك الفكر والعلم والروحانية، أن نعيش معه في دعاء كميل وغيره من الأدعية: "فهبني يا إلهي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"، كان يحترق حباً لله ولذلك عاش لله، فهل نتعلم منه أن نعيش لله، أن لا نعيش لعصبياتنا وقبلياتنا وحزبياتنا وذاتياتنا، أن لا نتحرك لنقتل في كل يوم ألف عليّ وعليّ ولنغتال معنوياً ألف عليّ وعليّ، عليّ كان شخصاً ولكنه كان نموذجاً..
في عيد الغدير، علينا أن ننفتح على الإسلام كما انفتح عليّ على الإسلام، وعلينا أن نسلم لأمور المسلمين كما أسلم عليّ كل نفسه ما سلمت أمور المسلمين، علينا أن لا ننطلق من ذكرى عليّ لنسيء إلى الوحدة الإسلامية، فقد كان عليّ بطل الوحدة الإسلامية، ولم يتحرك أحد في الوحدة الإسلامية كما تحرك عليّ (ع).. مع عليّ ننطلق ونتحرك ونبلغ الأهداف، لأن علياً كان مع الله ورسوله، فمن سار مع عليّ سار مع الله ورسوله، "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح – تعالوا إلى سفينة الحق والعدل – من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى".
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط المتقين الذي يتحركون على أساس مراقبة الله في كل أمورهم، والذين يراقبون الله في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، فلا يقدّمون رجلاً ولا يؤخرون أخرى إلا بعد أن يعلموا أن في ذلك لله رضى. علينا أن نعمل لتكون حياتنا كلها لله كما كانت حياة رسول الله وحياة عليّ وأهل البيت (ع) لله ، وعلينا أن نملأ عقولنا بالإسلام ليعي كل واحد منا إسلامه، لأن من الواجب علينا أن نعرف الإسلام في عقيدته وشريعته وكل أحكامه، لنميز الحق والباطل على أساس الإسلام، وأن نواجه التحديات الكبرى في واقعنا على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وأن نتحرك على أساس الخط الإسلامي الأصيل، لننطلق في كل حياتنا على ما أرادنا الله تعالى أن ننطلق، ونحن في مرحلة تتحرك فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في مواجهة الواقع الاسلامي كله، فتعالوا لنرى ماذا هناك؟
الاحتلال يعيش القلق
مرّت علينا قبل يومين ذكرى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978، في وقت كان الجو السياسي في المنطقة يوحي بالرعب من كيان العدو، ولكن تجربة لبنان في مقاومته وصمود شعبه ووحدة الموقف فيه أوقعت الهزيمة بالعدو، وأسقطت احتلاله من دون أن يحقق أيّ هدف من أهدافه، وما زال هذا الاحتلال يعيش القلق من إصرار لبنان على انسحابه من "مزارع شبعا"، ووقوف المقاومة على الحدود لتحقيق ذلك، مطالباً بدخول الجيش اللبناني إلى الجنوب لتأمين أمنه، مستغلاً بعض الظروف الداخلية السياسية السلبية من جهة، ومطالباً أمريكا بوضع لبنان على قائمة الدول "الداعمة للإرهاب" من جهة ثانية، كوسيلة للضغط الاقتصادي في دائرة الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلد؟!
الوحدة
إننا أمام هذا المشهد، نؤكد على الوحدة الداخلية في البلد، والتكامل بين الدولة والمقاومة لإسقاط الضغوط الجديدة بمختلف الوسائل السياسية والدبلوماسية والأمنية، وسدّ أية ثغرة داخلية، لا سيما في القضايا التي يختلف عليها اللبنانيون سياسياً، بالتركيز على الحوار الموضوعي الهادئ البعيد عن عنصر الانفعال والإثارة، لأن أية قفزة في الفراغ تمثل فرصة جديدة للعدو للاستفادة منها في حربه السياسية والاقتصادية ضد لبنان.
وفي هذا الاتجاه، فإن إثارة بعض القضايا المتصلة بالواقع الإقليمي، ولا سيما في هذه المرحلة بالذات، لا يخدم المصلحة الوطنية، بل يمثل خدمة للعدو بشكل غير مباشر، لا سيما وأن هذه القضايا لا تصل إلى نتيجة منخلال الإثارة السياسية بعيداً عن دراسة الأرض والواقع والظروف الدولية والإقليمية المحيطة بها، في الوقت الذي يمكن فيه للجميع أن يمارسوا الأساليب الهادئة للوصول إلى النتائج الحاسمة، بالتكامل مع الآراء الشعبية المتنوعة والمؤسسات الدستورية في البلد.
الشعب الفلسطيني.. متابعة الجهاد
وإذا انتقلنا إلى الواقع الفلسطيني، فإننا نشهد محاولتين بارزتين لإخماد الانتفاضة، أولاهما في خطة "شارون" من خلال تضييق الحصار على مناطق الضفة وغزة، وثانيهما في الاجتماعات العربية وغير العربية الممهِّدة للقمة العربية، التي تعمل أمريكا – ومعها الدول الأوروبية – لكي تخرج بالقرارات المعتدلة الضاغطة على الانتفاضة، والباحثة عن مخرج للمأزق الإسرائيلي الذي يحاصر العدوّ أمام الانتفاضة..
ولكننا نعتقد أن الشعب الفلسطيني سوف يتابع جهاده من أجل الحرية والاستقلال، بالرغم من جبال الضغوط الدولية والإقليمية والإسرائيلية عليه، لأنه بات يدرك أنها الفرصة الوحيدة للوصول إلى الهدف.. ونريد للعرب أن يدرسوا في اجتماعاتهم السياسية الخطة الواقعية لتقوية الانتفاضة ودعم صمودها، لأن استمرارها في خط المواجهة سوف يحقق الانتصار والقوة للقضايا العربية والإسلامية، لأن التحدي الصهيوني لا يواجه الفلسطينيين فحسب، بل الأمة كلها في بُعديها العربي والإسلامي.
كما نكرر دعوتنا للشعوب العربية والإسلامية للخروج إلى الشارع في انتفاضة سياسية ضاغطة على الأنظمة من جهة، وعلى المحاولات الدولية لإسقاط الانتفاضة من جهة أخرى، ليكون الصوت واحداً في ساحة المعركة الجهادية والسياسية من أجل فلسطين ضد كل الغزاة الصهاينة.
التعاون الروسي ـ الإيراني.. توسعة الآفاق
ومن جهة أخرى، فإننا نتابع التعاون الروسي – الإيراني على مستوى المنطقة كلها، في مواجهة الضغوط الأمريكية الهائلة التي تحارب أية خطوة تؤدي إلى حصول إيران على القوة العسكرية الدفاعية من جهة، والقوة السياسية في حركتها في المنطقة من جهة أخرى، وذلك بالتخطيط لحصار الجمهورية الإسلامية سياسياً وعسكرياً وإعلامياً من خلال الضغط على أية دولة تقيم علاقات معها.
إن أمريكا لا تعمل على حماية السلم العالمي أو الإقليمي – كما تدّعي – بل تعمل على إيجاد الثغرات المتنوعة للنفاذ إلى مواقع الضعف في المنطقة لاستكمال سيطرتها عليها. هذا في الوقت الذي تعرف فيه أمريكا أن إيران ليست دولة عدوانية ضد جيرانها، بل هي - في سياستها الأمنية- تمد يدها إلى كل جيرانها، ولا سيما دول الخليج، لحماية أمن المنطقة، وهذا ما لا تريده أمريكا الباحثة عن إيجاد الخلل في علاقات الدول ببعضها البعض، في الوقت الذي تعمل فيه على تقوية إسرائيل لتكون الدولة الأقوى التي تهدد كل دول المنطقة، وتستمر في احتلالها لـفلسطين ومـحاصـرة الشعب الفلسطيني، ولتمنع – بالتعاون مع أمريكا – أية حماية دولية له، بالرغم من كل الوحشية التي تمارسها إسرائيل ضده؟!
إننا نأمل أن يكون هذا التعاون الروسي – الإيراني المستمر حلقة في سلسلة تتوسع آفاقها، لتشكل حلولاً لكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها أكثر من دولة في المنطقة في ظل الهيمنة الأمريكية، وأن تفتح الطريق لحل بعض المشاكل وتضميد بعض الجراحات الإسلامية والروسية النازفة، ولا سيما الجرح الشيشاني الذي نأمل أن تتم معالجته بالوسائل السلمية التي تعطي الشعب الشيشاني حقوقه الشرعية.
التوافق: طريق حلّ المشكلات
وختاماً، إننا نراقب الحركة السياسية التي تتحرك بها الدولة من أجل البحث عن حلّ للمشكلة الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الشعب كله، ونرجو أن يتوافق الجميع على خطة واقعية مدروسة لمواجهة التحديات الكبرى، ولمنع الكارثة التي يُقبل عليها البلد.. ونريد للجميع أن يطرحوا جانباً كل خلافاتهم وتعقيداتهم السياسية وطموحاتهم الشخصية، لأن القضية قضية المستقبل كله الذي هو بحاجة إلى التكامل السياسي والأمني والاقتصادي، من أجل بلد حرّ مزدهر يملك القوة في الداخل، ويحقق لمواقعه السياسية القوة في الخارج، لأن حرية البلد وقوته ليست بالصرخات الانفعالية، بل بالتخطيط الواعي الباحث عن نقطة ضوء في كل هذا الظلام.
إن المرحلة هي مرحلة مواجهة التحديات الكبرى، فهل يرتفع الجميع إلى مستوى هذه التحديات التي نقف معها بين خيارين: الانهيار أو الثبات والاستمرار في حركة الوطن كله؟! |