م ـ443: التركة هي: (كل مال مات عنه الإنسان وتركه لمن بعده)، فيدخل فيها ويعدّ منها كل مال كان قد دخل في ملكه فعلاً أثناء حياته مما استقرت ملكيته عليه حتى لو لم يكن موجوداً عنده لرهنٍ أو دينٍ أو نحوهما، وكذا يحسب منها ما أَوجَدَ سبَبَه حال حياته فحازه بعد مماته، كالشبكة ينصبها للاصطياد فيقع فيها الصيد بعد وفاته؛ وكذا مثل الدية مما وقع سببه عليه في حياته واستحقه بعد مماته بالجناية عليه بالقتل؛ أما مثل المال الذي يعطى تعويضاً له على عمله بعد وفاته بواحد من حوادث العمل، أو مثل الهبات التي تقدمها بعض المؤسسات أو الدول بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب لمن يقتل فيها، فإنها لا تكون داخلة في التركة، وكذا لا يدخل فيها المال الموصى له به إذا مات في حياة الموصي كما بينّاه سابقاً في المسألة: (438)؛ وعليه فإنه لا يُعدّ تركة من أمواله إلا ما يكون داخلاً تحت واحد من العناوين الثلاثة الأولى، وهي: ما دخل في ملكه فعلاً في حياته، وما أوجد سببه قبل موته، وما وقع عليه سببه في حياته؛ أما مثل تعويض العمل المدفوع بعد الوفاة بسبب حوادث العمل، والهبات التي تعطى لقتلى الحروب والكوارث، والمال الموصى به لمن مات في حياة الموصي، فإنها لا تعد من التركة ولا يلحقها ما سوف نذكره من أحكامها في هذا المطلب.
ورغم كون الإنسان مالكاً لجميع أمواله ومتسلطاً عليها في حياته، فإنه إذا قرب منه الموت تقيدت سلطته على التصرف به بما سبق ذكره في منجزات المريض (ص:36)، وكذا تتقيد سلطته عليه عند موته باستحقاقات ما بعد الموت، فلا يكون حراً في الوصية بماله كيف يشاء، بل يجب عليه أن يراعي هو، أو مَنْ بعده، أموراً معينة نفصلها في المسألة التالية.
م ـ444: توزَّع تركة الميت على مصارف كبرى ثلاثة:
المصرف الأول: على ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهي أمور عديدة لها الأولوية على غيرها من مستحقات ما بعد الموت، فتؤخذ من مجموع التركة قبل الوصية وقبل حصص الورثة، وهذه الأمور هي:
1 ـ ما عليه من دين للناس.
2 ـ ما عليه من حق شرعي في أمواله، وهو الخمس والزكاة بخاصة، دون الكفارات ورد المظالم والنذور المالية فإنها لا تخرج من الأصل.
3 ـ نفقات تجهيزه، كتغسيله وتكفينه ودفنه. (أنظر تفصيلها في ص: 193/من فقه الشريعة/ج1).
4 ـ الحج الواجب بالاستطاعة، دون ما وجب عليه بالنذر فإنه لا يخرج من الأصل. (أنظر في ذلك كتابنا "مناسك الحج" : م/73).
المصرف الثاني: ما ينبغي إخراجه من الثلث، أي من ثلث الباقي بعد استثناء ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهذا الثلث خاص بالميت تخرج منه وصاياه، وهي أمور:
1 ـ كل ما يريد إعطاءه أو صرفه على أشخاص أو جهات أو في وجوه الخير من أمواله، أو في رد المظالم ووفاء النذور والكفارات.
2 ـ كل ما يريد أن يعمل له أو عنه بعد وفاته، من قضاء الصوم والصلاة وسائر القربات والطاعات من الأمور التي تستلزم بذل المال، واجبةً كانت أو مستحبةً أو مباحةً.
3 ـ ما نَصَّ على إخراجه من الثلث من الأمور التي تخرج من أصل التركة، وهي التي ذكرناها في المصرف الأول.
المصرف الثالث: وهو حصص الوُرَّاث التي لها ثلثا الباقي من التركة إن صُرف تمام الثلث في المصرف الثاني، وإلا فإنّ ما يفضل عن الوصية من الثلث يضاف إلى الثلثين ويوزع على الورثة بنسبة حصة كل واحد منهم؛ وكذا إن لم يكن قد أوصى بشيء، فإنه يضم الثلث إلى التركة ويوزع على الوراث بحسب حصصهم.
وعلى هذا الأساس فإنه لا تنفذ وصيته بما يزيد على الثلث الخاص به إلا إذا وافق الورثة، كذلك فإنه ليس للورثة أن يأخذوا حصصهم قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة، ولذلك أحكام نفصّلها في المسائل التالية:
م ـ445: إذا أوصى بوصايا متعددة، فهي من حيث مصرفها من التركة على أنحاء:
الأول: أن تكون الوصايا كلها من ما يجب إخراجه من أصل التركة، فيجب إخراجها حينئذ من أصل التركة وإن زادت على الثلث، إلا أن يَنُصَّ على إخراجها من الثلث فتخرج منه، وما زاد عنه يؤخذ من أصل التركة.
الثاني: أن تكون الوصايا كلها واجبات لا تخرج من أصل التركة، وذلك مثل الصلاة والصوم والنذورات والكفّارات ونحوها، فإن وفى الثلث بها أخرجت جميعها منه، وإن زادت عليه وأجاز الورثة أخرجت جميعها من الثلث ومما أجازه الورثة، وأما إذا لم يجز الورثة فإن الواجب حينئذ تنفيذ جميع ما أوصى به من أعمال مع الإنقاص من كل عمل بنسبة مجموع الزائد عن الثلث إلى مجموع كلفة الأعمال، فلو كانت كلفة الأعمال الموصى بها ألف وخمسمائة دينار، وكان الثلث ألف دينار، كانت نسبة الزائد (وهو الخمسمائة) إلى مجموع كلفة الوصايا هي الثلث، فيُنقَّص من كل عمل أوصى به مقدارُُ الثلث؛ ومعنى ذلك أننا لا نقتصر في تنفيذ وصاياه على ما يسعه الثلث من الأعمال التي ذكرها في كلامه أولاً فأوَّلاً، إلا أنْ تقوم قرينة على أن هذا هو مراد الموصي وغايته من هذا الترتيب.
الثالث: أن تكون الوصايا كلها تبرعية غير واجبة، تمليكية كانت أو عهدية؛ ولا يختلف حكم هذا النحو من الوصايا عن النحو الثاني.
الرابع: أن تكون الوصايا كلها واجبةً، ولكنّ بعضها مما يُخرَج من الأصل، وبعضها مما يُخرج من الثلث، فإن لم ينص على إخراجها جميعاً من الثلث، يُبدأ بما يُخرج من الأصل فيخرج من أصل التركة، ثم يخرج غيره من ثلث الباقي، فإن وفى به فلا إشكال، وإن لم يف به وأجاز الورثة الصرف من حصصهم فلا إشكال أيضاً، وإن لم يجيزوا وجب التعامل مع النقص بالطريقة التي مرت في النحو الثاني؛ وأما إذا نص الموصي على إخراج الوصايا من الثلث، فإن وفى الثلث بها أخرجها جميعاً، وكذا إن لم يف بها وأجاز الورثة إخراج الزائد من حصصهم، وإن لم يجز الورثة بدأ بما يُخرج من الأصل فأخرجه منه، فإن فضل من الثلث شيءٌ أنفقه على بعض وصاياه مقدِّماً الاستئجار للصلاة والصوم وبطل في الباقي، وإن لم يفِ إلا بما يُخرج من الأصل بطلت الوصية فيما عداه من وصاياه الواجبة.
الخامس: أن تكون الوصايا مختلفة بين الواجب والتبرعي، فإن وسعها الثلث، أو لم يسعها وأجاز الورثة الصرف على الزائد من حصصهم، فلا إشكال، وإن لم يجيزوا وجب تقديم الواجب على غيره.
السادس: أن تكون وصاياه مشتملةً على واجبات تخرج من الأصل وواجبات تخرج من الثلث وأعمال تبرعية؛ وهذا النحو يعرف حكمه من مجموع أحكام الأنحاء الآنفة الذكر، وذلك على قاعدة كون الأولوية للواجبات التي تخرج من الأصل، ثم للواجبات التي تخرج من الثلث، ثم للأعمال التبرعية؛ فيَجْري المكلفُ فيه على هذه الطريقة طبق التفاصيل التي ذكرناها.
م ـ446: إذا أخذ بعض الورثة حصته قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة،كالدين والحج ونحوهما، ولم يدفع ما هو مترتب في حصته مقابل تلك الواجبات، فالواجب على سائر الورثة تحمل ذلك النقص من حصصهم بخاصة، ثم إنّ لهم أن يرجعوا على المتمرد عن الدفع حتى لو كان صرفهم على ما نقص من نصيب الواجبات الأصلية من حصصهم بدون إذن من الوصي أو الحاكم الشرعي.
م ـ447: لا يمنع الإيصاء بإعطاء الغير عيناً مشخّصة، كداره مثلاً، من توزيع التركة بالنحو اللازم، ويكون استقرار ملكية الموصى له على العين متوقفاً على عدم مزاحمتها لما يخرج من أصل التركة أولاً، وعدم زيادة الباقي منها عن الثلث، فإذا اقتضى تنفيذُ ما عليه من الواجبات الأصلية التصرف ببعض الدار لضيق التركة عن الوفاء بها صحّ الأخذ منها لإتمام ما عليه، ثم ما يبقى من الدار يكون بين الوارث وبين الموصى له ثلثان لهم وثلث له.
م ـ448: إذا تبرع متبرع بتجهيز الميت، أو أبرأه بعد موته من الدّيْن الذي له عليه، لم يعتبر مالاً جديداً خارجاً عن التركة، بل يعد منها ويلحقه حكمها ويُنَزَّل مصرَفُه الذي كان يجب صرفُه فيه منزلة المعدوم.