من بين أهداف القصّة التي درج القرآن الكريم على استعراضها، تثبيت النبيّ والَّذين آمنوا معه على ما كانوا يلاقونه من العذاب والاضطهاد والحرب النفسيَّة، ليجدوا من خلال ذلك الواقع العزاء والأمل بالنَّصر التاريخيّ من جهة، ولينفتحوا على ما في الإيمان بالله من غنى روحيّ يبعث الحياة والطّمأنينة والسَّكينة في قلوب المؤمنين من جهة أخرى، كما نجده في الآيات التالية:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام : 10].
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْـكَ إِعْرَاضُهُـمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[الأنعام: 33 - 35].
{وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود: 120].
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الحج:42 - 44].
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِير}[الفرقان: 31]
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الزخرف: 6 - 7].
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيم} [النساء: 163 - 165].
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 112].
يستعرض القرآن الكريم في هذه الآيات أساليب الاستهزاء والإيذاء والتكذيب التي قُوبل بها الأنبياء السّابقون من قِبَل شياطين الإنس والجنّ، فكانت مواقفهم تمثّل الصَّبر والصّمود، حتى جاءهم النَّصر من عند الله، لتوحي إلى النبيّ أوّلاً، بأنَّ عليه أن يكون امتداداً لهذا التَّاريخ العظيم، وإلَّا فليحاول أن يبتغي نفقاً في الأرض أو سُلَّماً في السَّماء، لأنَّ ذلك هو سنّة الله في الحياة في رسالاته وفي رسله {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيل}[فاطر: 43]، فلا رساليّة إلَّا بالجهاد، ولا جهاد إلَّا بالصَّبر.
ولعلَّنا نخلص - من خلال هذا العرض - إلى النتيجة العمليّة في الدراسات الدينيّة التي يحتاج إليها الداعية في ثقافته الذاتيّة، وفيما يقدِّم للآخرين من عطاء ثقافي إسلاميّ يستهدف ربط حركة الدين الحاضرة بالحركة الدينيّة الممتدّة في أعماق التاريخ، وهذا ما تجسَّد في قصص النبيّين كتجربة للدَّعوة، وكمنطلق للحركة، وكموقف للتنفيذ... وإجراء مقارنة واعية بين واقع الرسالات في تصوير القرآن لها بالصّورة الدقيقة المشرّفة، وبين ما أضيف إليها من تزوير وتشويه وتزييف في التاريخ الموضوع الذي أُريد له أن يقدِّم إلينا الصورة المشوَّهة القاتمة لحركة الرسالات ولشخصيَّة الرسل.
إنَّنا نؤكِّد هذا الجانب الثقافيّ من دراساتنا الدينيَّة، لأنَّه يمثِّل أحد العناصر الحيَّة لبناء الشخصيَّة الثقافيَّة الدينيَّة، فيما تملكه من انطباعات، وفيما تحمله من تصوّرات، وفيما تؤمن به من تفاصيل العقيدة.
وقد يبدو للبعض من النَّاس، أنَّ هذا الجانب القصصي لا يرتبط بنا بشكل مباشر، لأنَّ علاقاتنا بالأنبياء السّابقين والإيمان بهم إنَّما تقتصر على مستوى أخذ العلم والخبر بوجودهم وبرسالاتهم، من دون أن يكون لذلك أثر عمليّ في حياتنا العامَّة والخاصَّة، لأنَّ علاقاتنا الرساليَّة بهم - حسب رأيهم - تبدأ بالنبيّ محمَّد (ص) وبرسالته وشريعته وتنتهي به، فهي المنطلق الوحيد لنا من ناحية فكريَّة، وهي المصدر الأساس من الناحية التشريعيَّة.
ولكنَّنا نرفض هذه الفكرة، لأنَّ القرآن الكريم قد أكَّد وحدة الرسالات، كما أكَّد وحدة الإيمان بالرّسل، كما يشهد به قوله تعالى:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 136].
وبهذا، فإنَّ المسلمين يتبنّون كلَّ ما جاء به الأنبياء ممّا حدَّثنا عنه القرآن الكريم والسنَّة الصَّحيحة، إلَّا ما ثبت نسخه لارتباطه بظروف موضوعيَّة محدودة بزمان ومكان معيَّنَين، لأنَّ الإسلام يتبنّى ذلك ويزيد عليه، انسجاماً مع كلمة النبيّ محمَّد (ص): «إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»(1).
* من كتاب "السيرة النبويَّة القرآنيَّة".
[1]بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي، ج68، ص 382.