يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96-97].
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحجّ: 27-28].
هذه الأيّام هي أيّام الحجّ المبارك، الأيّام الّتي ينتظر فيها الحجّاج الوقوف على جبل عرفات، يقفون عليه جميعاً؛ عربيّهم وعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، فقيرهم وغنيّهم... يقفون في تلك الصّحراء الواسعة، تلبيةً لدعوة الله سبحانه، وامتثالاً لأمره.. يقفون ليشهدوا له بأنّه واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لا شريك له ولا مثيل.. يقفون وهم يوحّدونه ولا يشركون به أحداً، سواء كان من الدّول الصّغرى أو العظمى، سواء كان ملكاً أو رئيساً، يقفون ليُشهدوه أنّهم في خطّ رسوله يسيرون، الإسلام دينهم وعقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم في الحياة، الإسلام سياستهم عندما يريدون التحرّك في ميدان السياسة، واجتماعهم في ميدان الاجتماع، واقتصادهم في ميدان الاقتصاد.
تلك هي الرّوح الّتي يريد الله لها أن تعيش أجواء الحجّ، الرّوح الّتي جاءت مهاجرةً عن كلّ خصوصيَّتها ومواقعها، وعن كلّ السَّاحات الحميمة الّتي كانت تعيش بها.
المسلمون والمستضعفون يعيشون في ساحة تكثر فيها الأصوات والدّعايات والاتجاهات، ويكثر فيها النّاس الّذين يريدون الانحراف بهم عن دينهم، ليتخذوا لهم ديناً هنا وديناً هناك، وحزباً هنا وحزباً هناك، ولكنّ الله يقول لإبراهيم(ع): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، الله تعالى يقول لنبيّه إبراهيم(ع): اطلب من النّاس أن يأتوا إلى هذا البيت، البيت الّذي أقمته للقائمين والطّائفين والركّع السجود، ادعُ النّاس إلى بيتي، إلى ديني، إلى أن يجتمعوا حول البيت ليطوّفوا به.
الطَّواف لله لا لسواه:
وأنت عندما تطوف به، فإنَّك تقول لنفسك من خلال ما يوحي لك به الطّواف: أنا أطوف بالبيت باعتباره السّاحة الّتي يريد الله أن أتعدّاها، السّاحة الّتي تمثّل الإسلام بشريعته، والله تعالى حينما يقول لك: إنّ عليك أن تطوف بساحة هذا البيت، أي أن لا تطوف في ساحة إلا إذا كانت لله، ألا تطوف ببيت أحد إلا إذا كان بيته متّصلاً ببيوت الله وتعاليمه، فمن يطوف بالبيت هناك، لا يمكن أن يطوف بالبيت الأبيض أو الأسود.. من يطوف في بيوت الطّغاة في واشنطن ولندن وباريس وموسكو، يقبّلون أعتابها ويستجدون بركاتها ويخشعون ويصلّون لها بكلّ سياساتهم ومواقفهم، لا يقبل الله طوافهم حول بيته وفي ساحته، إن لم يطوفوا هنا، لا حولَ أحجار صامتة مستكبرة....
إنّ هناك فرقاً بين أن تعيش معنى الطّواف، فتطوف بروحك مع المعنى الّذي يمثّله البيت، وبين أن يطوف جسدك بحجارة البيت، بينما روحك وعقلك وكلّ مشاعرك تطوف في مكان آخر.
شعائر الله:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158]، وبعد الطّواف، تذهب لتسعى بين الصّفا والمروة، وهما جبلان تعبَّدنا الله أن نطوف بهما..
لماذا السّعي؟..
إنّك تسعى لأنَّ الله تعالى يريد لك أن تسعى في كلّ مكان ترفع فيه مستوى النّاس علماً وخدمةً وسياسةً واجتماعاً، وأن تسعى في كلّ المجالات حين تذهب لتكسب قوت عيالك في السّوق أو الحقل أو المصنع أو المتجر.. وحين تذهب من بيتك إلى مواقع الجهاد وترجع منها إليها، وهكذا حين تتحرّك لتواجه نظاماً طاغياً، أو لتخدم مؤمناً، أو تهدي ضالاً منحرفاً وما إلى ذلك..
إنَّك في كلّ هذه المواقع تسعى بين الصّفا والمروة، لأنَّ سعيك هناك كان تنفيذاً لإرادة الله، وسعيك في ساحة الحياة يجب أن ينسجم مع إرادة الله، عليك أن تسعى بين كلِّ نقطة بداية ونقطة نهاية أراد الله لك أن تسعى بينهما من أجل هدف يتعلّق بحياتك وحياة النّاس وفق ما يرضاه الله لك وللنَّاس.
الحجّ أداة تغيير:
ثم ينطلق النّاس إلى جبل عرفات، وعرفات وقفة تأمّل ليذكروا المشعر الحرام، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ* وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:200-203].
وهكذا ينطلق الإنسان في الحجّ ليربّي روحه وإرادته ووعيه لدينه وحياته، ويتغيّر روحيّاً وفكريّاً على أساس كثير مما اعتاده النّاس، ينطلق الإنسان في الحجّ ليكون الإنسان المنفتح على النّاس والحياة من خلال انفتاحه على الله، ليكون الإنسان التقيّ الخيّر الفاعل، يخاف الله في الصَّغير والكبير وفي كلّ مجال يتحرَّك فيه.
تلك هي قصّة الحجّ من ناحية فرديّة، فيما يريد الله للإنسان الفرد أن يتغيّر، بشرط أن يكون حجّه حجّاً واعياً، لا حجّاً تقليديّاً أعمى خالياً من كلّ معنى وروح، وقد ورد في بعض أحاديث أهل البيت(ع): "لا يعبأ الله بمن أمّ هذا البيت، إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يردّ به جهل الجاهل، وخلقٌ يداري به النّاس"...
من رجع من الحجّ وهو على حاله لم يتغيَّر، لا يجازيه الله على حجِّه، ويقول له: إنّك جئت الحجّ ورجعت كما كنت، وليست لي حاجة بالحاجّ الّذي لا يعطيه الحجّ ورعاً وأخلاقاً وسعة صدر، يعيش بها مع النّاس ويداريهم.
الحجّ مؤتمر إسلاميّ:
وفي الحجّ مؤتمر إسلاميّ يجتمع فيه النّاس من أقصى العالم الإسلاميّ، والعالم الإسلاميّ لا يعرف الكثير من قضايا بعضه البعض، فمن في الصّين وأفريقيا وإندونيسيا والهند من المسلمين، قد لا يعرفون الكثير من قضايانا، وقد لا نعرف الكثير من قضاياهم.. لذا أراد الله تعالى من الحجّ أن يجمعهم ليتعارفوا ويتآلفوا، وليحاولوا أن يعرضوا كلّ قضاياهم هناك، وليشعر الشّعب الضَّعيف من المسلمين ـ عندما يرى الشّعوب الأخرى من بلاد كثيرة ـ أنّه ليس ضعيفاً، لأنَّه جزء من عالم إسلاميّ كبير.. وليحاول كلّ بلد مسلم متقدّم أن يعطي تجربته للبلدان المسلمة الواقعة تحت الطّغيان والاستعمار دون أن تعرف ماذا تصنع.
أراد الله تعالى من الحجّ أن يشعر كلّ بلد مسلم أنّ الإسلام يمكن أن يتحوّل إلى قوّة عالميّة كبيرة، لأنّ ضعف المسلمين في وعيهم للإسلام، وضعفهم أمام مطالبتهم بحكم الإسلام للعالم، ناتج من أنّ كلّ مسلم يفكّر ضمن دائرته الضيّقة؛ المسلم في لبنان يفكّر في حجم قوّة المسلمين في لبنان، وكذلك المسلم في أفريقيا أو في أيّ بلد من بلاد أوروبّا وآسيا وأمريكا.
أراد الله للمسلمين أن يتعبّدوه هناك، وفرض أن لا يخلو منهم البيت الحرام في كلّ سنة، حتّى إنّ التشريع الإسلامي يقول لك ولأولي الأمر: إذا مرّت سنة ولم يوجد هناك مستطيع، فعلى وليّ الأمر أن يدفع من بيت المال حتّى يحصل الحجّ ولا ينقطع سنة واحدة، لأنّ الله تعالى لا يريد لبيته أن يخلو سنة واحدة من المسلمين، ويريد للمسلمين أن يلتقوا فيه ليشعروا بأنّ هناك ما يوحّدهم ويجمعهم، وليشعروا بأنّ باستطاعتهم أن يتوحّدوا في حياتهم كما توحّدوا في عبادتهم، وليشعروا بأنّهم يستطيعون أن يتوحّدوا في مواقفهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة كما توحّدوا في موقفهم بعرفات.. الوحدة هنا نموذج مصغّر للوحدة العالميّة للمسلمين.
...القضية ليست قضيّة أصنام الحجر والخشب، ولكنّها قضيّة أصنام اللّحم والدّم، هذه الأصنام هي الّتي يجب أن نرجمها ونحطّمها ونكسرها.. فالنبيّ(ص) عندما صعد الكعبة من أجل تحطيم الأصنام هناك، أراد من خلال ذلك أن يوحي للمسلمين بأنّ الكعبة لا تتحمّل صنماً من حجر أو غيره.. لهذا فإنّ علينا أن نحطّم الأصنام المحيطة بالكعبة، كما حطّم النبيّ(ص) الأصنام الحجريّة الّتي كانت محيطة بها.
الحجّ والسياسة:
قالوا: إنّ الحجّ شيء والسياسة شيء آخر.. ونحن نقول: إنّنا لا نريد أن يستبدل النّاس بالطّواف طوافاً آخر، بل نريد لهم أن يتعبَّدوا كما هي العبادة؛ أن يبكوا ويخشعوا ويخضعوا ويصلّوا ويطوفوا ويرجموا ويقفوا في عرفات والمشعر، وهم في ابتهال وخضوع وبكاء من خشية الله...
نحن لا نقول للنّاس: اشتغلوا بالسياسة عن العبادة، ولكن نقول: إنّ العبادة تشير إلى خطّ السياسة الّذي يجب أن تنهجوه... والمطالبة بالحريَّة والعدالة والثّورة والقتال من أجلهما، هو جزء من معنى الحجّ والإسلام...
*المصدر: خطبة الجمعة 23-8-1985.