جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ[1] فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ[2] وَلاَ تَحْلِقُواْ[3] رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.
الإحصار في الحجّ:
إذا حصل للحاجّ أو المعتمر مانع يمنعه من إتمام الحجّ، فكيف يمكن أن يحلّ من إحرامه الّذي لا يحصل الإحلال منه إلاَّ بالإتمام؟
إنَّ الآية تفرض عليه، مع ملاحظة التّفسير في السنّة من خلال التّحديد للمحلّ في قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}، أن يرسل هدياً إلى مكّة إن كان معتمراً، وإلى منى إن كان حاجّاً، ليذبح هناك. فإذا بلغ محلّه، أمكنه أن يحلق رأسه ويتحلّل من إحرامه. هذا إذا كان المانع هو المرض، أمّا إذا كان المانع هو العدوّ، فإنَّ بإمكانه أن يذبح الهدي في مكانه، كما يروى أنَّ النبيّ(ص) فعل ذلك في الحديبية عندما منعه المشركون عن العمرة.
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[4]} .
هذا استثناء من النّهي عن حلق الرّأس قبل بلوغ الهدي محلّه، فإذا كان الإنسان مريضاً يتضرّر فيه من إبقاء الشّعر على الرّأس، أو كان في رأسه بعض الحشرات الّتي تمثّل أذًى في رأسه، فيجوز له أن يحلق على أن يقوم بالصّيام ثلاثة أيّام، أو إطعام ستّة مساكين، أو ذبح شاة. وهو ما عبّر عنه بالنّسك، كما جاء ذلك في السنّة الشّريفة.
وقد روي عن أبي عبد اللّه(ع) أنّه قال: مرّ رسول اللّه(ص) على كعب بن عجرة، والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال له: "أتؤذيك هوامك؟"، فقال: نعم، فأنزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، فأمره رسول اللّه(ص) أن يحلق رأسه، وجعل الصّيام ثلاثة أيّام، والصّدقة على ستّة مساكين؛ مدّين لكلّ مسكين، والنّسك شاة[5].
حجّ التمتّع:
{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
في هذه الآية إشارة إلى حجّ التمتّع، الّذي يجمع الحجّ والعمرة في فريضة واحدة، ولكنَّه يستمتع بعد الإحلال من العمرة بما كان محرَّماً عليه إلى حين الإحرام بالحجّ. وإنّما سمي بالتمتّع بالنّظر إلى أنَّ وحدة الفريضة في العملين، تجعل الإنسان كما لو كان قد مارس التمتّع في أثناء الحجّ. ويقابله حجّ القِران والإفراد الّذي لا تدخل العمرة فيه، وقد أشارت الآية إلى خصوصيّة حجّ التمتّع بوجوب ذبح الهدي فيه، بعيداً عن حالة الإحصار المشار إليها في الفقرة السّابقة، لوجوبه في حالة الأمن، كما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، وهذا هو الفارق بين هذا النّوع من الحجّ وبين النّوعين الآخرين، لعدم وجوب الذّبح فيهما كجزء من الفريضة، وإن كان القرآن يشتمل على سياق الهدي بإشعاره أو تقليده كفصل من فصول الإحرام، لا كواجب من واجبات الحجّ. وقد تعرّضت الآية إلى حالة العجز عن الهدي في حجّ التمتع: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، فأوجبت صيام عشرة أيّام، موزّعة بين وقت الحجّ ووقت الرّجوع، {وذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
هذا تحديد للمكلّف الّذي يجب عليه حجّ التمتّع بالنّائي عن مكّة، وقد كنّى عنه بـ {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وقدّر في السنّة الشّريفة بمن كان بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً.
محرّمات الإحرام:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ - الأشهر الّتي يجوز فيها الإحرام للحجّ ثلاثة: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجّة ـ في العشر الأوائل منه ـ - فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ - فإذا فرض الإنسان فيها على نفسه الحجّ بالإحرام، فيجب عليه أن يلتزم بمحرّمات الإحرام الّتي تقف في مقدّمتها هذه الثّلاثة الّتي فسّرت في السنّة الشّريفة بـ - فَلاَ رَفَثَ[6] - الّذي كنّي به عن الجماع، - وَلا فُسُوْقَ[7] - الّذي فسِّر بالكذب، - وَلاَ جِدَاْلَ في الحجِّ} الذي فسّر بقول: لا واللّه وبلى واللّه؛ وذلك لأهميّتها في المجال التّربويّ في حياة الإنسان.
ابتغاء الفضل:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ[8] أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}. ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت(ع)، أنَّ هذه الفقرة واردة لبيان الرّخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التجاريّة بعد فراغهم من الحجّ، لأنهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك، وربما كانوا يعانون الشّعور بعقدة الذّنب في حال ممارستهم لها. وهذا المعنى ظاهر من الآية من خلال التَّعبير بعبارة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، المشعرة بأنَّ هناك إحساساً لديهم بوجود شيء من هذا القبيل، ولأنَّ التّعبير عن السّعي في طلب الرّزق، بالابتغاء من فضل اللّه، هو من التّعابير القرآنيّة المألوفة، كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الارْضِ وَابْتَغُواْ[9] مِن فَضْلِ اللّه وَاذْكُرُواْ اللّه كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة:10]. وربما يكون في هذا التَّعبير إشارة إلى أنَّ طلب الرّزق لا يتنافى مع الأجواء النفسيّة والرّوحيّة الّتي يحصل عليها من العبادة، لأنّه طلب من فضل اللّه، كما أنَّ العبادة انطلاق في آفاق اللّه. وقد أشرنا في ما تقدَّم إلى الأحاديث الواردة في اعتبار طلب الحلال عبادة تقرّب الإنسان إلى اللّه، بل ورد في بعضها أنَّ العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال.
وفي ضوء ذلك، يمكننا فهم الواقعيّة الإسلاميّة في خطّ التّشريع العباديّ في امتثال الحجّ الّذي يختلف عن الصّلاة والصّوم، بأنّه عبادة متحرّكة في انطلاق النّاس من كلّ مكان في العالم إلى البيت الحرام الّذي يؤدّون فيه ـ أو قريباً منه ـ مناسك حجّهم في أعمال معيّنة، وأوقات محدودة لا تتنافى مع القيام بنشاطٍ آخر يتّصل بالجانب الاقتصاديّ الّذي قد تتاح فيه للنّاس هناك أكثر من فرصةٍ لإقامة علاقات تجاريّة مع بعضهم البعض، بحيث توفّر عليهم قطع المسافات البعيدة الّتي قد يضطرّون إلى الذهاب إليها في مجالٍ آخر، كما يمكنهم فيه ممارسة التّجارة الفعليّة، مستفيدين من هذا الموسم العالمي الّذي يلتقي فيه النّاس من سائر أنحاء العالم، ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا الّتي يأخذونها معهم إلى أهلهم... وهكذا نجد أنَّ موسم الحجّ يساهم في إيجاد سوق «إسلاميّة» منفتحة على النّشاط التجاريّ الفعليّ، والعلاقات الاقتصاديَّة بين رجال الأعمال من مختلف الشّعوب الإسلاميّة الّتي قد تتحوَّل إلى علاقات سياسيّةٍ وأمنيّةٍ وثقافيّةٍ في تطوّرها العمليّ في نهاية المطاف...
في عرفات.. والمشعر الحرام:
{فَإِذَآ أَفَضْتُم[10] مِّنْ عَرَفَاتٍ [11]}. من أعمال الحجّ أن يقف النّاس في عرفات من الزّوال إلى الغروب وقفةً خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنّفاذ إلى أعماق الرّوح في لحظة صفاء ونقاء... إنّها وقفة الحياة أمام اللّه، تستلهمه وتستهديه، وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصّواب في ما تفكّر، ويهديها الصّراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها، ويحقّق لها أحلامها...
والوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنَّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه، وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع... فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرّحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الرّوحيّ الّذي يملأ كيانه، في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل.
ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الرّوحيّ في التأمّل الخاشع، والدّعاء المنفتح على اللّه، والصّلاة السّابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة، ولكن في مكان آخر: {فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ[12]} الّذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس على مذهب الإماميّة، وفي ما بين الطّلوعين على رأي الآخرين، وهي وقفة جديدة في وقت جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر اللّه الّذي هدانا إلى طريق الحقّ بعد أن كنّا من قبله من الضالّين {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}، فنعرف بذلك نعمة الهدى، ونتلمّس فيه معنى النّعمة، فيما يوحيه للإنسان من معاني الرّضى والرّوح والطّمأنينة، وفيما يبعده عن نوازع الشّكّ والقلق والضّياع، ويوجهه إلى الحياة الرّحبة الطاهرة الخالية من كلّ دنس أو رجس أو التواء، والقريبة إلى الحبّ والخير والسَّلام، أو يؤدّي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو اللّه ورضوانه في جنّة عرضها السَّماء والأرض أعدّت للمتّقين، ما يضمن له خير الدّنيا والآخرة، وينطلق ليتعرّف ـ في مقابل ذلك ـ النّتائج السلبيّة للضّلال في داخل النّفس وخارجها، في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في الدّنيا وفي الآخرة... وبذلك يحسّ بالشّكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشّعور بالامتنان للّه الّذي وهبه هذه النّعمة بأكثر مما يحسّ به إزاء النّعم الماديّة الّتي وهبها له في هذه الحياة.
ولعلّ في التّذكير بحالة الضّلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عمليّة مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضّلال، وحياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعيّة، لا من مواقع الفكر والنظريّة فحسب.
إلغاء الطبقيّة:
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}. يُقال إنّ قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النَّاس، لأنّها تشعر بموقعها المميَّز الّذي يختلف عن مواقع النّاس من حيث العلوّ والرّفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات. وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطّبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل اللّه: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}»[13].
لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كلّ هذه النّوازع الطبقيّة الّتي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، ولا سيّما في مثل هذا الموقف الّذي أراده اللّه من أجل إلغاء كلّ الفوارق الّتي تميّزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصفة الواحدة الّتي تجمعهم أمام اللّه، وهي أنّهم عباد اللّه الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلاَّ بالتّقوى، فلا معنى بعد ذلك لأن يميّز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشّعور بالتفوّق والكبرياء.
الدّعاء بين نموذجين من النّاس:
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه كَذِكْرِكُمْ ءَابَآئكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. يُقال: إنَّ النّاس كانوا إذا قضوا مناسك حجّهم، جلسوا يسمرون، ويمتدّ بهم الأمر إلى أن يثيروا أحاديث آبائهم، فيتذكّروا مواقفهم وأوضاعهم وأمجادهم... وبذلك ينفصلون عن الجوّ الرّوحيّ الّذي كانوا يعيشونه من خلال الحجّ، ولكنّ اللّه يريد منهم أن لا يجعلوا الحجّ مجرّد موسم أو مناسبة يذكرون فيها اسم اللّه، ثُمَّ تقف القضيّة عند هذا الحدّ، فلا يبقى للّه أيّ حضور في نفوسهم أو ألسنتهم، بل أن يكون دور الحجّ أن يفتح قلوبهم على اللّه في امتدادٍ روحيّ مستمرّ، لا ينتهي إلاَّ ليبدأ من جديد، حتّى يصبح ذكر اللّه ـ بعد الحجّ ـ ملحّاً بالمستوى الّذي لا يدانيه ذكر أيّ إنسان آخر حتّى في مستوى الآباء.
ونقف ـ في هذا المجال ـ على نموذجين من النَّاس؛ أحدهما: الّذي يصدق عليه قوله تعالى: {فَمِنَ النّاس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خلاقٍ[14]}، وهو النّموذج الذي إذا ذكر اللّه وأراد أن يدعوه في موقفه هذا، لم يذكر إلاَّ حياته الدّنيا، وشهواته فيها، ومطامعه ومطامحه... من دون أن يفكّر في الآخرة من قريب أو من بعيد. فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه الدّنيا ويقف عندها جامد الإحساس، جائع الأحلام، ظامئ المشاعر... ولا نصيب لهذا في الآخرة، لأنّها ليست واردة في حسابه على كلّ حال، ولذلك فإنَّ اللّه لا يحسب حسابه في ثوابه ورضوانه.
ثانيهما: هو مصداق قوله تعالى: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار}، وهو النّموذج الّذي يتمسّك بالخطّ الإسلامي المتوازن الّذي يجمع بين الدنيا والآخرة، فهو يعتبر الدّنيا حقلاً من حقول العمل الّتي أراد اللّه للإنسان أن يعيش فيها حياة طيّبة، يمارس فيها الطيّبات، ويقبل فيها على ما أحله اللّه له من شهوات وملذّات؛ ولهذا فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه في الدّنيا حسنة، ثُمَّ يرى أنَّ الآخرة هي نهاية المطاف، فهي دار المصير الّذي يجد فيه كلّ إنسان دار خلوده في الجنّة أو في النّار، ولذلك فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه فيها حسنة. ومثل هذا النّموذج قريب إلى اللّه، {أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ}، ولذلك فإنَّ له نصيباً مما كسبه من عمله الصّالح في الدّنيا، فيجد أمامه الجزاء الكبير في دنياه وآخرته. {وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، يعلم ما يستحقّه عباده نتيجة أعمالهم، فيعطي كلاًّ منهم الجزاء العادل في جانب الخير أو في جانب الشّرّ.
ذكر اللّه في أيّام معدودات:
{وَاذْكُرُواْ اللّه فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}، الظّاهر أنَّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق من ذي الحجّة، وهي الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر منه، وهي الّتي فرض فيها المبيت في منى، {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، بأن ينفر في اليوم الثّاني عشر، {وَمن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، كما لا مانع من البقاء إلى اليوم الثّالث عشر. وليس في الآية ما يدلّ على شرط البقاء أو شرط التّخيير، أمّا كلمة {لِمَنِ اتَّقَى}، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع) في هذه الآية: قال: «يرجع مغفوراً له لا ذنب له»[15]، وفي حديث آخر عن الباقر(ع): «لمن اتَّقى منهم الصّيد، واتّقى الرَّفث والفسوق والجدال وما حرَّم اللّه عليه في إحرامه»[16][8]، وبذلك يكون هذا التّخصيص بمن اتّقى بلحاظ حالة المغفرة المستفادة من سياق الكلام.
ولعلّ البقاء في منى هذه الأيّام أو اللّيالي بعد انتهاء أعمال الحجّ، يعتبر انطلاقة روحيّة تأمّليّة، يعيش فيها الإنسان حضور اللّه في نفسه بما يثيره من ذكر، وبما يهجس فيه من فكر، وبما يعيشه من تأمّلات، وذلك في عمليّة مراجعة لحسابات أعماله في الماضي والحاضر في طريق تنمية أعمال المستقبل، وليحصل له من خلال ذلك النّتائج الروحيّة والعمليّة من خلال أفعال الحجّ، عندما يستحضرها في نفسه، في عمليّة تقويم تفصيليّة يدرك فيها طبيعة هذه الأفعال في ما أخلص فيه، وما أتمّه منها وما قصّر فيه، ليرجع من حجّه واثقاً بالنّتائج الكبيرة على مستوى الإيمان في الدّنيا والآخرة، ونعم أجر العاملين.
[1] الإحصار: المنع. يُقال للرّجل الّذي قد منع منه الخوف أو المرض عن التصرّف قد أُحْصِر فهو مُحْصَر. ويُقال للرّجل الذي حبس: قد حصر فهو محصور.
[2] في أصل الهدي قولان: أحدهما: إنّه من الهدية. يُقال: أهديت الهدية إهداءً، وأهديت الهدي إلى بيت اللّه إهداءً، فعلى هذا إنما يكون هدياً لأجل التقرّب به إلى اللّه، والآخر: أنّه من هداه إذا ساقه إلى الرّشاد. فسمي هدياً، لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد.
[3] الحلق: إزالة شعر الرأس للتحلّل من الاحرام.
[4] النّسك: جمع نسيكة وهي الذّبيحة، والنّسك: العبادة. ومنه رجل ناسك، أي: عابد.
[5] البحار، م:35، ج:96، ص:366، باب:30، رواية:4.
[6] الرفث: أصله في اللغة الإفحاش في النطق. وقيل: الرفث بالفرج: الجماع، وباللسان: المواعدة للجماع.
[7] الفسوق: الخروج على الطاعة.
[8] الجناح: الحرج في الدِّين، وهو الميل عن الطريق المستقيم.
[9] الابتغاء: الطّلب.
[10] الإفاضة: مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه، فمعنى أفضتم: دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع وكثرة. ويُقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرّف.
[11] اسم للبقعة المعروفة بحدودها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها. وهي على بعد أربعة فراسخ من مكّة.
[12] المزدلفة، سمّيت مشعراً لأنّه معلم للحجّ والصّلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من أعمال الحجّ، وهو على بعد فرسخين ونصف تقريباً من مكة.
[13] الطبري، ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، 1415هـ ـ 1995م، ج :2، ص:399.
[14] الخلاق: النصيب من الخير. وأصله التّقدير، وهو النّصيب من الخير على وجه الاستحقاق.
[15] البحار، م:35، ج:96، ص:455، باب:55، رواية:4.
[16] م.ن، م:35، ج:96، ص:455، باب:55، رواية:3
*ملاحظة : الآيات القرآنية مأخوذة من سورة البقرة 196 إلى البقرة 203 .