ج: إنّ سماحة السيّد ـ ولا أتكلّم هذا الكلام كوني كنت وكيلاً له أو من مقلّديه أو من الّذين درسوا عنده أو من المنتمين إلى هذه المؤسّسة، بل أنقل لك واقعاً ـ إنّ سماحته هو المرجع الوحيد الّذي دخل ليس فقط إلى العقول، بل إلى قلوب المثقّفين. أنا أعرف الكثير من المثقّفين ومن الباحثين هناك الّذين أحبّوا سماحة السيّد.
فأنت قد تعجب بفكر معيّن وبفكر فيلسوف معيّن، لكن لا تشعر بأنّك تحبّه، ولا تملك له حبّاً في قلبك، وقد تطبّق بعض أفكاره وبعض نظريّاته، ولكنّ العجيب أنّي كنت ألمس حبّهم لسماحة السيّد، وحبّهم هذا جعلهم يتعلّقون بسؤالي دائماً عنه.
وأنا أنقل لك هنا قصّة، وهي أنّني ألتقيت ذات مرّة ببروفيسيرة في كليّة الأديان في الجامعة، وكان ذلك في بدايات فكرة السيّد حول مسألة الرّؤيا والهلال، واعتماد الأساليب العلميّة. عندما التقيتها، وكانت المرّة الأولى، سألتني: هل أنت من السنّة أم من الشّيعة؟ فقلت: أنا من المسلمين، وما يهمّك من هذا الأمر؟
قالت: إذا كنت من الشّيعة، أريد أن أعرف من تقلّد. فتعجّبت من سؤالها، وقلت لها أقلّد مرجعاً لبنانيّاً اسمه السيّد محمّد حسين فضل الله، فقالت: توقّعت هذا الشّيء، لأنّك لبنانيّ، أريد أن تنقل ليس فقط احترامي لسماحة السيّد، بل حبّي له. ثمّ قالت: أحبّ هذا الإنسان، لأنّه يريد أن ينطلق بالمسلمين إلى فضاء العلم والثّقافة، وأنا سمعت بأنّ لديه رأياً في الهلال واعتماد الأساليب العلميّة وهو متفرّد بهذا الرأي، وأنا أريد أن تنقل له تهنئتي له، لأنّه رأي سوف ينقل واقع المسلمين وينهض بهم من منزلة إلى منزلة.
السّفيرة النرويجيّة الّتي كانت في لبنان، كانت دائماً تقول لي: أنا أحبّ سماحة السيّد، وأريدك أن تنقل له تحيّاتي وسلامي وتنقل له محبّتي.
هذه الكلمة لم نسمعها من أيّ شخص، فالعادة أن يقول لك: أرسل سلامي إلى فلان، أو أبلغه سلامي، أمّا أن يقول لك: أبلغه سلامي وتحيّاتي وأنّي أحبّه، فهذا أمر ملفت.
وأيضاً عندما أطلق سماحة السيّد فتوى جواز دفاع المرأة عن نفسها إذا تعرّض لها زوجها بالضّرب، ارتاحت السّفيرة لهذه الفتوى كثيراً، وقالت: أنا أريد أن أذهب إليه وأهنّئه. وبالفعل جاءت بعد ذلك وهنّأته بالفتوى، وقالت له: هذه الفتوى سوف تجعل المرأة المسلمة عزيزةً ومكرّمة وما إلى ذلك.
إضافةً إلى هذه النّقطة، السيّد هو الشخصيّة المحترمة في أوروبّا الّتي تعتبر الشخصيّة المتّزنة والوسطيّة غير المتطرّفة وفكره مقبول.
عندما نذهب إلى الجامعات ونتحدّث عن فكر السيّد، نُسأل أحياناً عن بعض المسائل، كما في مسألة عدم جواز خروج المرأة بدون إذن زوجها، فأقول لهم إنّ هذه المسألة ليست متّفقاً عليها بين المراجع، فهناك من يقول إنّه لا سلطة للزّوج على زوجته ولا على مالها وما إلى ذلك، وأقول لهم رأي سماحة السيّد. فكانوا ينشدّون إلى هذه الفكرة، وما إن ننتهي من المحاضرة، حتّى يأتي الكثيرون إليّ ليسألوني: هل هناك موقع على الإنترنت لهذا الشّخص الّذي تحدّثت عنه؟ وكنّا نزوّدهم بالموقع، وكانوا يراسلونني بعد ذلك ليبدوا إعجابهم بفكره العظيم.
إنّ إرادة الله اقتضت أن يرحل سماحة السيّد عن هذه الدّنيا، لكنّي لم أكن أتوقّع أن يرحل بهذه السّرعة، وكان لديّ الأمل الكبير أن نجعل من سماحة السيّد ـ ومن خلال تطوّر عالم الإنترنت وعالم التّواصل ـ علماً ورمزاً في أوروبّا، وقد خطّطنا لذلك. وأنا شخصيّاً أرسلت وفداً جامعيّاً إلى سماحة السيّد من كبار المثقّفين وعندما رجعوا من زيارته، قال لي بعضهم: كدت أجنّ وأفقد عقلي عندما كان السيّد يتكلّم، ما هذا الإنسان، ما هذا الفكر، ما هذا العقل، ما هذا الوجه وهذه اللّطافة؟ أحدهم قال لي: مع أنّي لم أكن أفهم عندما يتكلّم بالعربيّة، وكنّا ننتظر المترجم ليترجم لنا، لكن عندما كنت أنظر إليه، أبتسم، وأشعر براحة نفسيّة عجيبة وهو يتكلّم. لكنّ إرادة الله شاءت أن يرحل السيّد في هذا الوقت..
أنا أعتقد أنّه لو بقي السيّد لمدّة 10 سنوات فقط، لملأ الدّنيا، ولجعل من أوروبّا عالماً آخر. كان باستطاعة السيّد أن يفعل هذا، لكنّ المرض أنهكه، وشاء الله أن يرحل عنّا.
أحبّ أن أذكر نقطةً إضافيّةً فيما يتعلّق بمسألة الهلال، إذ طلب منّي سماحة السيّد مرّةً، عندما اعتمد هذه الوسيلة بشكلٍ رسميّ، أن أقدِّم تقريراً فلكيّاً من جامعة أوسلو، فسألت حينها في كليّة علم الفيزياء عن عالم فلكيّ، فدلّوني على أكبر فلكيّ في النّرويج، كان في السّبعين من عمره، توجّهت إليه وقدّمت له نفسي، قلت: أنا وكيل مرجع لبنانيّ، وهذا المرجع يعتمد هذه الطّريقة وكتابة هذه التّقارير..
ففرح كثيراً، وأوّل ما قاله لي: هل هناك من المسلمين من يفكّر بهذه الطّريقة ؟لم أكن أتوقّع أنّ هناك شخصاً مسلماً واحداً يفكّر بهذه الطّريقة، وكلّ سنة عندما كنت أسمع في شهر رمضان بأنّ المسلمين يستهلّون وينظرون إلى الهلال، أتعجّب وأقول: لماذا؟ هل يُعقل أنّ أكثر من مليار مسلم لا يوجد بينهم شخص واحد يثق بنا كفلكيّين، أو يثق بالمعلومات الّتي يقدّمها هذا العلم، وأنّهم لا يزالون يتّبعون الطّرق القديمة؟! فأنا كنت أتعجّب من هذه المسألة، والآن فرحي كبير جدّاً، لأنّ هناك من المسلمين من يفكّر بهذه الطريقة..
وكان يزوّدنا بالتّقارير كلّما طلبناها منه. وذات يوم، أحببت أن أقدّم له هديّةً باسم سماحة السيّد، وذلك بعد خمس سنوات من التّعاون، فاغتنمت مناسبةً مسيحيّةً، وهو كان مسيحيّاً، وقدّمت له درعاً صنع في لبنان وضعت في داخله الكعبة وهلالاً، وقلت له: هذه الكعبة لأنّها رمزٌ للإسلام، وهذا الهلال هو من تساعدنا أنت في تحديد أوّله. فتبسَّم وقال لي: هل بإمكاني أن أشكره مباشرةً؟ فأعطيته البريد الالكترونيّ، وأرسل رسالةً إلى سماحته، وأرسل لي نسخة منها ..
الجميل أنَّ ما كتبه في هذه الرّسالة بعد شكره لسماحة السيِّد، أنّه مستعدّ للتّعاون، فكتب: أمّا هديّتكم، فأنا أفتخر بها كثيراً، وقد وضعتها على شرفة منزلي الّتي تطلّ الشّمس منها، بحيث عندما تشرق الشّمس على هذه النّافذة، تخرج من داخل الكعبة على شكل لون. وقال: أنا أفتخر جدّاً بهذه الهديّة، وكلّ صباح أجلس لأنتظر هذا النّور الّذي يخرج من الكعبة الّتي هي في هذا الدّرع الزّجاجيّ.
فانظر إلى أيّ مدى كان تأثير سماحة السيّد، فمجرّد هديّة بسيطة كان يفتخر بها، وكان يضعها في هذا المكان، وربما أراد أن يقول إنّ هذا المكان يشعّ نوراً معيّناً. وقد رددت عليه بعد ذلك وقلت: ليس المهمّ هذا النّور، فالكعبة تشعّ نوراً فكريّاً وعلمياً ينبغي أن يشرق على كلّ العقول.
فسماحة السيّد ـ وأنا أعرف هذه المسألة ـ الشخصيّة الوحيدة الّتي دخلت إلى كلّ العقول وكلّ القلوب، ربما تجد شخصاً آخر دخل إلى عقول فئة معيّنة أو قسم معيّن من النّاس، لكنّي لم أسمع طوال وجودي في أوروبّا شخصاً واحداً يتحدّث عن السيّد بشكل سلبيّ، أو يتحدّث عنه بشكلٍ لا ينسجم مع الإنسانيّة.