قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[البقرة: 282].
كانت شهادةُ رجلٍ واحدٍ تعادل شهادة امرأتين، ولماذا؟
وجاء التعليل في الآية بأنّ إحداهما قد تَضِلّ فيما تَحمّلته حين الأداء، فكانت
الأُخرى هي التي تذكِّرُها ما غاب عنها، فكانت شهادة المرأتين بتذكّر إحداهما
للأُخرى، بمَنزلة شهادةِ رجلٍ واحد .
وذلك أنّ المرأة أكثر عُرضَةٍ للنسيان فيما لا يعود إلى شؤون نفسها بالذّات، ممّا
لا يُهمُّها في حياتها الأُنوثيّة، فربّما لا تضبط تفاصيل ما تحمّلته بجميع
خصوصيّاته وجزئيّاته، ولا سيّما إذا بَعُد عهد الأداء عن عهد التحمّل، فكانت كلّ
واحدةٍ منهما تُذَكِّر الأُخرى ما ضلَّ عنها، وبذلك تَكمُل شهادتُهما معاً كشهادةٍ
واحدة بتلفيقِ بعضها مع بعض، وضمِّ بعضِها إلى بعض، بتفاعل الذاكِرَتَينِ
وتعاملِهما بعضاً إلى بعض، الأمر الذي لا يجوز في شهادة الرّجال، فلو اختلفت
الشهادات، ولو في بعض الخصوصيّات، فَقَدت اعتبارها؛ ومِن ثَمّ، جاز التفريق في
شهادة الشّهود لغرض الاستيثاق .
قال الشيخ مُحمّد عَبده: إنّ الله تعالى جَعَلَ شهادة المرأتين شهادةً واحدة، فإذا
تَرَكَت إحداهما شيئاً مِن الشهادة كأن نَسَيتْه أو ضلَّ عنها، تُذَكِّرُها الأُخرى
وتَتمّ شهادتُها، وللقاضي، بلْ عليه أنْ يسأل إحداهما بحضور الأُخرى، ويعتدّ بجُزءِ
الشهادة مِن إحداهما وبباقيها مِن الأُخرى، قال: هذا هو الواجب، وإنْ كان القُضاة
لا يَعمَلون بِه جَهلاً منهم .
وأمّّا الرّجال، فلا يجوز له أنْ يُعامِلَهم بذلك، بل عليه أنْ يُفرّق بينهم، فإن
قصّر أحد الشّاهِدَينِ أو نسيَ، فليس للآخر أنْ يُذكِّره، وإذا ترك شيئاً تكون
الشّهادة باطلة، يعني إذا تَرك شيئاً ممّا يُبيِّن الحقَّ، فكانت شهادته وحده غير
كافية لبيانه، فإنّه لا يعتدّ بها ولا بشهادة الآخر وإنْ بُيّنت.
وقالوا في سبب ذلك: إنّ المرأة ليس من شأنها الاهتمام بالأُمور الماليّة ونحوها مِن
المُعاوضَات؛ فلذلك تكون ذاكرتُها فيها ضعيفةً، ولا تكون كذلك في الأُمور المنزليّة
التي هي شُغلُها، فإنّها فيها أقوى ذاكِرةً مِن الرّجُل، يعني أنّ مِن طَبْعِ البشر
ـ ذُكراناً وإناثاً ـ أنْ يَقوى تذكّرُهم للأُمور التي تُهمّهم ويَكثُر اشتغالهم
بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال الماليَّة،
فإنَّه قليل لا يعوَّل عليه، والأحكام العامَّة إنّما تُناط بالأكثر في الأشياء
وبالأصل فيها.
نعم، المرأة إنّما تَهتمّ اهتمامها البالغ بما يَعود إلى ذات نفسها، وإلى ما يرتبط
وشؤونها الأُنوثيّة وزبارج الحياة، ولا تُعير بشؤون خارج حياتها الأُنوثيَّة
الزُخرفيَّة ذلك الاهتمام، وتبعاً لذلك، يكون عَمَلُ ذاكِرتِها ـ على غِرار سائر
قُواها العقلانيّة والجسمانيّة ـ في هذا الجانب ينمو ويشتدّ، وبنفس النسبة يأخذ في
الضّعف والوَهن في الجانب الآخر .
وفي دراسة عميقة بشأن حالة المرأة النفسيّة، جاءت في آية أُخرى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[الزخرف: 18]، وهو مِن أدقِّ
التعابير في معرفة النفس بشأن المرأة: إنّما تَرى كمالَها في جمالِها، وترى جمالَها
في زبارج حُليِّها مِن ذهبٍ وفضّةٍ وأحجارٍ كريمةٍ، ومِن ثَمّ، في مظطلمات الحياة
ومُصطَدَماتها تظلّ حائرةً، وربّما تضيق عليها الحال، فلا يمكنها الإعراب عمّا في
ضميرها، أو تَتَلجلجُ ويَضطرِبُ لها المَقال .
ولذلك، نَرى الشريعة قد أفسحت لها المجال، واكتفت بشهادتِهنّ لوحدِهنّ في أُمور تخصُّ
شؤون النساء ـ في مثل الولادة والحَمل والحيض وما شابه ـ ممّا ليس للرّجال فيها شأن
.
وهكذا، ذَكَر سيّد قطب في تفسير الآية، قال: إنّما دعا الرّجال؛ لأنّهم هم الذين
يُزاوِلون الأعمال عادةً في المجتمع المسلم السويّ الّذي لا تحتاج المرأة فيه أنْ
تَعمل لتعيش، وتهدر جانب أُمومتِها وأُنوثتِها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة
الإنسانيّة ـ وهي الطّفولة النّاشِئة المُمثِّلة لجيل المستقبل ـ في مقابل لقُيمات
أو دُرَيهِمَات تنالها مِن العملِ، كما تَضطرُّ إلى ذلك المرأةُ في المجتمع
النَّكِد المُنحَرِف الذي نعيش فيه اليوم !
ولكن لماذا امرأتان؟ إنّ النصّ لا يَدَعَنا نَحدِس، ففي مجال التشريع، يكون النصّ
محدَّداً واضحاً مُعلَّلاً {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى}، والضَّلال هنا يَنشأ مِن أسباب كثيرة، فقد ينشأ مِن قلّةِ خبرة المرأة
بموضوع التعاقد، ما يجعلها لا تستوعب كلّ دقائقه وملابساته، بحيث تؤدي عنه شهادتَها
دقيقة عند الاقتضاء، فتُذكِّرها الأُخرى بالتعاون معاً على تَذَكُّر ملابسات
الموضوع كلّه، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعاليَّة، فإنّها بوظيفتها الأُموميّة،
شديدةُ الاستجابة الوجدانيّة الانفعاليّة لتلبية مطالب طفلها بسرعةٍ وحيويَّةٍ، لا
تَرجع فيهما إلى تفكير بطيء، وهذه الطبيعة لا تتجزّأ، فالمرأة شخصيّة موحَّدة، هذا
طابعها حين تكون امرأة سَويّة، بينما الشهادة على التعاقد بحاجة إلى تجرّد كبير من
الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثّر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضَمانة أنْ
تُذكِّر أحداهما الأُخرى ـ إذا جَرَفها الانفعال ـ فتتذكّر وتفيء إلى الوقائع
المجرَّدة.
ويعود السرّ في ذلك كلّه، إلى نقص الضّبط فيهنّ، لأسبابٍ تَرجع إلى طبيعتها
الأُنوثيَّة، قال الطبرسي: لأنّ النسيان يَغلب على النساء أكثر ممّا يَغلب على
الرّجال، أي في مثل الأُمور التي لا تَمسّ شؤونها البيتيّة وتربية الأولاد.
*من كتاب "شبهات وردود حول القرآن الكريم".