حين بلغت بالتّفسير إلى قوله تعالى: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها...}.. إلخ، تذكّرت
سؤالاً وجّهه إليّ أحد خطباء العراق قائلاً: لماذا تصبّ جام غضبك على المترفين في
كتاباتك ومؤلفاتك؟ فقلت له: ولماذا أنت تدافع عنهم؟ ألأنّك منهم، أو لأنهم أولياء
نعمتك؟ فتراجع عن سؤاله واعتذر. وهذا ما دعاني أن أعرض تفسير الآية على النحو
التالي:
1 - وردت كلمة المترفين ومشتقّاتها في القرآن بثماني آيات - كما في المرشد - وجاءت
في نهج البلاغة في العديد من الموارد. هذا عدا عن كلمة الغنى، وما يتفرّع منها، وما
ذكرت كلمة التّرف في كلام الله وأوليائه إلا مقرونة بالذّمّ.
2 - قال أهل اللّغة: ترف الرَّجل تنعّم، وأترفه المال أبطره وأفسده، واستترف بغى
وتغطرف. هذا هو تعريف المترفين في اللّغة، أمَّا صفاتهم، كما جاءت في كتاب الله
وغيره، فغفلة عن الله، وبغي على عباد الله، واستكبار على أمر الله، وحرب لأولياء
الله.. حديثهم التّكاثر والتفاخر، وطبعهم الجفاء والتّهاتر.. إلى كثير من ألقاب
الذمّ.. إلا من رحم الله، ورحم نفسه.
3 – {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء: 16].
المأمور به محذوف، أي أمرنا مترفيها بالعدل والطاعة، وذكر أهل التفاسير أربعة أقوال
في معنى هذه الآية، أرجحها أنّ الله سبحانه أطلق كلمة المترفين على جميع أهل
القرية، من باب استعمال الجزء في الكلّ، ومثل هذا الاستعمال كثير في كلام العرب إذا
كان الجزء عضواً رئيسياً في الكل، كالعين بالنّسبة إلى جسم الإنسان، فقد استعملوها
في طليعة الجيش، لأنّ للعين مزية على سائر أعضاء الجسم، ولما كان المترفون أقدر
وأسرع إلى الفسق، وأجرأ على المعصية من غيرهم، وهم في الوقت نفسه متبوعون تقلّدهم
العامّة فيما يفعلون، لما كان كذلك - صحّ إطلاق كلمة المترفين على جميع أهل القرية،
كما صح إطلاق كلمة العين على الإنسان.
وعلى هذا، يكون معنى الآية أنّ الله لا يهلك أهل قرية إلا إذا استحقّوا الهلاك
والدمار، وهم يستحقّون ذلك بعد أن تقوم عليهم الحجة بإرسال الرسل، يأمرونهم بالخير،
وينهونهم عن الشر، ويحذرونهم من المخالفة والعصيان، فإذا فسقوا وخرجوا عن الطاعة،
حقت عليهم كلمة العذاب، وأنزل الله بهم الهلاك والدمار.
ومع العلم بأنّ هذا المعنى يحتمه اللفظ، ولا يأباه العقل، فإننا نذهب في تفسير
الآية مذهباً آخر، وهو أن أي مجتمع يوجد فيه مترفون بالمعنى الذي ذكرناه فهو مجتمع
يعيش في ظلّ نظام فاسد جائر، لأنّ وجود المترفين فيه تماماً كوجود السرطان في
الجسم، والمسؤول الأول عن وجود الفاسدين في المجتمع هو المجتمع بالذات، حيث لم يقف
منهم موقف المقاوم، أو المستخفّ بشأنهم - على الأقلّ - بل أضفى عليهم ألقاب الشرف
والسيادة، وأحاطهم بالتكريم والتعظيم، ومنحهم ثقته أيّام الانتخاب، واختارهم لمنصب
الحكم والقيادة، وبهذا يكون المجتمع الذي عبَّر عنه سبحانه بالقرية - شريكاً
للمترفين الفاسقين في جميع جرائمهم وآثامهم، ومستحقّاً للهلاك والدمار تماماً
كالمترفين.. فقد جاء في الحديث الشريف: «الراضي بالظّلم كفاعله»، «السَّاكت عن
الحقِّ شيطان أخرس»، فكيف إذا كان مناصراً للباطل؟ وقال السيد الأفغاني: «أيها
الفلاح الذي تشقّ الأرض بمحراثك، لماذا لا تشقّ به قلب من يستعبدك؟».
انظر ما قلناه عند تفسير الآية 11 من سورة الرعد: {إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الهلاك على أنواع، فيكون بالطوفان أو الخسف والزّلازل
والصواعق، وأيضاً يكون بالإذلال وتسليط الأشرار، وهذا أوجع وأفظع. وقد عاقب الله به
أمّة محمّد (ص) لما تركوا الجهاد، وتغاضوا عن أهل الشّرّ والفساد، ورضوا لأنفسهم
المذلّة والهوان، قال الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّ في سلطان الإسلام عصمة
لأمركم، فأعطوه طاعتكم.. والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام، ثم لا
ينقله إليكم أبداً حتى يأرز - يرجع - الأمر إلى غيركم».
أي إذا أطعنا الإسلام، عشنا في حصن حصين من المناعة والكرامة، وإلا انتقل عنا الحكم
والسلطان إلى أعدائنا، ثم لا يرجع إلينا أبداً.. وما قرأت هذا الإنذار إلا اعترتني
رعدة هزتني من الأعماق.
*من كتاب "تفسير الكاشف"، ج 5.
حين بلغت بالتّفسير إلى قوله تعالى: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها...}.. إلخ، تذكّرت
سؤالاً وجّهه إليّ أحد خطباء العراق قائلاً: لماذا تصبّ جام غضبك على المترفين في
كتاباتك ومؤلفاتك؟ فقلت له: ولماذا أنت تدافع عنهم؟ ألأنّك منهم، أو لأنهم أولياء
نعمتك؟ فتراجع عن سؤاله واعتذر. وهذا ما دعاني أن أعرض تفسير الآية على النحو
التالي:
1 - وردت كلمة المترفين ومشتقّاتها في القرآن بثماني آيات - كما في المرشد - وجاءت
في نهج البلاغة في العديد من الموارد. هذا عدا عن كلمة الغنى، وما يتفرّع منها، وما
ذكرت كلمة التّرف في كلام الله وأوليائه إلا مقرونة بالذّمّ.
2 - قال أهل اللّغة: ترف الرَّجل تنعّم، وأترفه المال أبطره وأفسده، واستترف بغى
وتغطرف. هذا هو تعريف المترفين في اللّغة، أمَّا صفاتهم، كما جاءت في كتاب الله
وغيره، فغفلة عن الله، وبغي على عباد الله، واستكبار على أمر الله، وحرب لأولياء
الله.. حديثهم التّكاثر والتفاخر، وطبعهم الجفاء والتّهاتر.. إلى كثير من ألقاب
الذمّ.. إلا من رحم الله، ورحم نفسه.
3 – {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء: 16].
المأمور به محذوف، أي أمرنا مترفيها بالعدل والطاعة، وذكر أهل التفاسير أربعة أقوال
في معنى هذه الآية، أرجحها أنّ الله سبحانه أطلق كلمة المترفين على جميع أهل
القرية، من باب استعمال الجزء في الكلّ، ومثل هذا الاستعمال كثير في كلام العرب إذا
كان الجزء عضواً رئيسياً في الكل، كالعين بالنّسبة إلى جسم الإنسان، فقد استعملوها
في طليعة الجيش، لأنّ للعين مزية على سائر أعضاء الجسم، ولما كان المترفون أقدر
وأسرع إلى الفسق، وأجرأ على المعصية من غيرهم، وهم في الوقت نفسه متبوعون تقلّدهم
العامّة فيما يفعلون، لما كان كذلك - صحّ إطلاق كلمة المترفين على جميع أهل القرية،
كما صح إطلاق كلمة العين على الإنسان.
وعلى هذا، يكون معنى الآية أنّ الله لا يهلك أهل قرية إلا إذا استحقّوا الهلاك
والدمار، وهم يستحقّون ذلك بعد أن تقوم عليهم الحجة بإرسال الرسل، يأمرونهم بالخير،
وينهونهم عن الشر، ويحذرونهم من المخالفة والعصيان، فإذا فسقوا وخرجوا عن الطاعة،
حقت عليهم كلمة العذاب، وأنزل الله بهم الهلاك والدمار.
ومع العلم بأنّ هذا المعنى يحتمه اللفظ، ولا يأباه العقل، فإننا نذهب في تفسير
الآية مذهباً آخر، وهو أن أي مجتمع يوجد فيه مترفون بالمعنى الذي ذكرناه فهو مجتمع
يعيش في ظلّ نظام فاسد جائر، لأنّ وجود المترفين فيه تماماً كوجود السرطان في
الجسم، والمسؤول الأول عن وجود الفاسدين في المجتمع هو المجتمع بالذات، حيث لم يقف
منهم موقف المقاوم، أو المستخفّ بشأنهم - على الأقلّ - بل أضفى عليهم ألقاب الشرف
والسيادة، وأحاطهم بالتكريم والتعظيم، ومنحهم ثقته أيّام الانتخاب، واختارهم لمنصب
الحكم والقيادة، وبهذا يكون المجتمع الذي عبَّر عنه سبحانه بالقرية - شريكاً
للمترفين الفاسقين في جميع جرائمهم وآثامهم، ومستحقّاً للهلاك والدمار تماماً
كالمترفين.. فقد جاء في الحديث الشريف: «الراضي بالظّلم كفاعله»، «السَّاكت عن
الحقِّ شيطان أخرس»، فكيف إذا كان مناصراً للباطل؟ وقال السيد الأفغاني: «أيها
الفلاح الذي تشقّ الأرض بمحراثك، لماذا لا تشقّ به قلب من يستعبدك؟».
انظر ما قلناه عند تفسير الآية 11 من سورة الرعد: {إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الهلاك على أنواع، فيكون بالطوفان أو الخسف والزّلازل
والصواعق، وأيضاً يكون بالإذلال وتسليط الأشرار، وهذا أوجع وأفظع. وقد عاقب الله به
أمّة محمّد (ص) لما تركوا الجهاد، وتغاضوا عن أهل الشّرّ والفساد، ورضوا لأنفسهم
المذلّة والهوان، قال الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّ في سلطان الإسلام عصمة
لأمركم، فأعطوه طاعتكم.. والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام، ثم لا
ينقله إليكم أبداً حتى يأرز - يرجع - الأمر إلى غيركم».
أي إذا أطعنا الإسلام، عشنا في حصن حصين من المناعة والكرامة، وإلا انتقل عنا الحكم
والسلطان إلى أعدائنا، ثم لا يرجع إلينا أبداً.. وما قرأت هذا الإنذار إلا اعترتني
رعدة هزتني من الأعماق.
*من كتاب "تفسير الكاشف"، ج 5.