تحدث العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض) في إحدى خطب الجمعة الدينية، بتاريخ 4 ربيع أول 1420هـ / ٢٥/٦/١٩٩٩ عن ذكرى المولد النبوي المبارك، وما تحمله هذه المناسبة من دلالات ومعان، داعياً إلى أن نكون المؤمنين المسؤولين أمام رسولنا الكريم، فنجدّد له بيعتنا على التزام الخطّ وحماية الرسالة، وأن تكون عقولنا عقولاً إسلاميّة وقلوبنا قلوباً إسلاميّة.
جاء في الخطبة:
"نعيش في هذه الأيّام ذكرى مولد الرّسول الأعظم محمد (ص)، فالمولد هو في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل، حسب المشهور عند إخواننا من أهل السنّة، كما ذهب إليه من علماء الشيعة الشيخ الكليني في كتابه "الكافي"، أو هو في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وهو المشهور عند علماء الشيعة.
ومهما يكن، فإنّ رسول الله (ص) بكله هو تاريخنا، ليس رسول الله محصوراً في زمن، بل له التاريخ كله، لأنه هو الذي صنع لنا التاريخ من خلال رسالته وجهاده وكل المعاناة التي عاناها في سبيل أن يبلّغ الرسالة، وأن يبعث الأمة ويعلّمها الكتاب والحكمة ويزكيها ويهديها الى الصراط المستقيم.
ونحن في ذكرى رسول الله (ص)، لا بدّ لنا أن نقف وقفة تأمل، لنفكر ما هي مسؤوليتنا أمام رسول الله (ص)، وكيف يمكن لنا أن نؤكد في حياتنا التزامنا به، باعتبار أن الله تعالى أرسله للناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، للناس الذين كانوا معه في مرحلته، وللناس الذين جاؤوا من بعده، فالرسول يموت ولكنه باق في رسالته، وعلى الذين يلتزمون رسالته أن يتابعوها فكراً يفكرون به، ودعوة يدعون إليها، وعملاً يعملون به.
ونحن نعيش في هذه المرحلة من الحياة كجيل جاء بعد أجيال متتابعة منذ عهد الرسالة الأول في ساحة تتصارع فيها الأفكار، وتختلف فيها الدّيانات، فهناك أكثر من ديانة تتحرّك في الساحة على مستوى التحدي للإسلام أو التبشير بغيره أو ما إلى ذلك، وهناك أكثر من تيّار علماني إلحادي في بعض مواقعه وغير إلحاديّ في مواقع أخرى، ولكنّه ينكر الشريعة والشّرع. وفي مقابل ذلك، علينا أن نحدّد هويتنا الإسلامية، بحيث يكون عقلنا عقلاً إسلامياً، فلا نُدخل فيه أيّ شيء من الكفر والانحراف، وأن تكون قلوبنا قلوباً إسلامية، فنحب من أحبه الله، ونبغض من أبغضه، وأن تكون حياتنا حياة إسلامية يعيشها كل واحد منا في نفسه، وفي بيته مع أهله، وفي المجتمع مع الناس الذين يرتبط بهم من خلال علاقة هنا وعلاقة هناك.. أن يكون الإسلام هو الأساس الذي ترتكز عليه الخطوات والعلاقات، بحيث إن على الرجل التفكير في ما هو الحكم الإسلامي في طريقة تصرفه مع زوجته، وكذلك الزوجة مع زوجها، وهكذا في مسألة الأولاد مع آبائهم وأمهاتهم وما إلى ذلك، ومع كل الناس، حتى إننا في معاملاتنا عندما نتعامل بيعاً أو شراءً أو إجارة، فإنّ علينا أن تكون عقودنا عقوداً إسلاميّة، تعتمد معيار الحكم الشرعي في صحة هذا العقد وفساده، وشرعيّة إقامة هذه العلاقة وعدم إقامتها، وذلك حتى تكون كلّ حياتنا خاضعة بكلّ مفرداتها لكلمة الله تعالى ولكلمة الرسول (ص).
وهذا ما ينبغي لنا أن نؤكّده، لأننا سوف نقف غداً بين يدي الله تعالى، وسوف نلتقي برسول الله (ص)، وسيسألنا رسول الله عن رسالته كيف حفظناها في أنفسنا وفي الناس من حولنا، وسوف يسألنا الله تعالى عن دينه كيف التزمناه ورعيناه في حياتنا وفي كلّ مواقعنا وعلاقاتنا، لأنّ الله تعالى سوف يحاسبنا فيثيبنا أو يعاقبنا على أساس الإسلام، لذا لا بدّ في ذكراه (ص) من الالتزام بكون الإسلام هو العنوان الذي يعيش في كلّ شخصياتنا، فيفحص كلّ واحد منا عقله هل هو عقل إسلامي أو عقل كافر، ويفحص قلبه هل هو قلب ينفتح على الإسلام أو ينفتح على الكفر.
وفي ظل الأجواء المباركة لولادته (ص)، تعالوا نقرأ كلمات الله تعالى التي نتعلم منها كيف تكون علاقتنا مع رسول الله (ص)، ليفحص كلّ واحد منا في ضوئها إسلامه ونفسه، هل هو مسلم كما يجب أن يكون، أم أنّ هناك بعض الأمراض في حياته تبعده عن الإسلام؟
يقول الله تعالى مخاطباً نبيّه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ – هل تحبون الله أم لا؟ ومن الطبيعي أن جميعنا نهتف بمحبة الله، لأنه هو الذي أوجدنا ورزقنا، وهو الذي يدبّر أمورنا، فإذا كنا نحبّ الله، فما هي علامة هذا الحبّ؟ – فَاتَّبِعُونِي – اعملوا برسالتي واتبعوني في الفكر والعاطفة وفي كلّ حركة الحياة – يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ – فإذا اتبعتموني، فإنّ الله سوف يبادلكم حباً بحبّ، لأنّ حبنا لله ليس مجرّد مشاعر وأحاسيس نعبّر عنها بالكلمات، ولكن هو الموقف الذي يجعلنا نتحرّك في خطّ رسالة رسول الله (ص) – وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ويقول تعالى في موقع آخر: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ – إن الرسول ليس مجرّد إنسان يرسله الله ليصفق له الناس ويهتفوا باسمه، ولكنّه أرسل برسالة الله وليُطاع بإذنه – وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا – فالله تعالى لا يُغلق رحمته ومغفرته عن التائبين – فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ – لا يستحقون صفة الإيمان حتى لو هتفوا بكلمة الإيمان – حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ – بحيث إذا تنازعوا في أيّة قضيّة تتّصل بالفكر أو العاطفة أو المعاملات أو العلاقات، فإنهم يرجعون إلى الرّسول ليحكّموه بشخصه حال حياته، أو ليحكّموا رسالته بعد غيابه عن الدّنيا، لتكون الحدّ الفاصل بين الرّفض والإثبات – ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
ويؤكد الله تعالى هذا المعنى في آية مباركة أخرى، فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، يعني لست حراً أيها المؤمن وأيتها المؤمنة إذا أصدر الله أو رسوله حكماً في أن تستقلّ برأيك وتنسجم مع مزاجك، لأنّك عبد لله وحرّ أمام العالم.. ويقول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فإن في اتباع النبيّ الهدى كلّ الهدى الذي يؤدّي بك إلى الجنة.
ثم يتحدّث الله تعالى عن طريقة بعض النّاس في معالجة اختلافاتهم حول أيّ أمر من الأمور، وما أكثر ما يختلف الناس في كثير من الشّؤون، فحين يدعو أحدهم الآخر للذّهاب إلى الشّرع ليحكم بينهما، لأنّ الحكم الذي لا بدّ لنا أن نخضع له هو حكم الإسلام، سرعان ما يذهب، ليسأل الحاكم الشرعي ويعرف مع من الحقّ، فإذا عرف أن الحق له يوافق على الذهاب إلى الشرع، أما إذا عرف أن الحقّ عليه، فلا يوافق ولا يعترف إلا بالقانون الوضعي كحكم بينهما، وهناك تعبير في القرآن يؤكّد أن كل حكم غير حكم الله، وكلّ نهج غير نهجه، يسمى "الطاغوت"، ويصوّر الله تعالى لنا حالة هؤلاء الناس فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ – الى غير حكم الله – وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ – لأن كل الأنبياء جاءوا بعبادة الله واجتناب الطاغوت – وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا – ثم إنّ الله تعالى يعبّر عن هؤلاء بأنهم منافقون، لأنهم يُظهرون الإسلام ويبطنون غيره عندما يتحرّكون مع الطاغوت في حكمه وسياسته وأوضاعه – وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}. ثم يؤكّد الله لنا أنّ {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظً}، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
أيها الأحبّة: إن احتفالنا بذكرى مولد رسول الله (ص) يفرض علينا أن نجدّد إسلامنا بين يديه، وأن نؤكد التزامنا بالإسلام أمامه، لنقول لرسول الله (ص) كما قال له المسلمون، رجالاً ونساءً، في بداية الدّعوة: إننا نبايعك على الإسلام كلّه، إننا نقف في هذه المناسبة لنؤكّد بيعتنا لرسول الله ولنقول له: يا رسول الله، إنّنا نبايعك على أساس الإيمان بالله وبرسالتك، وعلى أساس الالتزام بك وبرسالتك، لأنّ الله قال لنا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. إنّ الالتزام بالرسالة هو الذي يمثّل خطّ التقوى، والتقوى كما حدّثنا الله في القرآن، هي سبيل المسلمين إلى الجنّة، فإذا أردنا الجنّة، فعلينا أن نتزوَّد بالتقوى في الدنيا، والتقوى هي أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمَرَك".